رواية غزلًا يوقده الرجال

رواية غزلًا يوقده الرجال

جميع الحقوق محفوظة للكاتبة أسيل الباش

(((الجزء الثالث من سلسلة هوس العشق))) حينما يتأجج العشق.. وتدوي صرخات القلب بصمت.. نعشق بصمت.. نتألم بصمت.. ولكن نغار بضراوة ونصرخ بأعلى صوت.. حينما تزقزق طيور القلب بكل وجل.. تُصم الاذان وتنهار الاحزاب.. تكون الارادة كغيوم المساء في شمس الظهيرة.. لا ارادة.. لا قوة.. لا عزيمة قد تمنعنا ان نعشق.. نعشق ونطير ونُرّتل انشودة غزلًا، لا يوقده الا الرجال..

الفصل الاول
احببتك حبًا كالجليد بالكاد يذوب..
عشقك عشقًا اتقصى فيه عن ذكريات محموم..
في كتاب غرامك،
سرّحت كلمات عاشقة من فم عذوب..
محورها انتَ، كما بدايتها ونهايتها تمامًا..
وبتجاهلك بنيت سورًا على قلبٍ مغموم..
لأحاول ان افرّ هاربة من عشق كالسم المكروب..
ويغلبني عشقك مرارًا وتستمر الهزيمة دائمًا..

———————–
تكدّست الغصّة المريرة في حلقها، كاتمة انفاسها من الانبجاس كما يجب وهي تراه يضحك مع فتيات الجامعة الجامعة اللواتي يدرسن نفس موضوعهما.. ادارت وجهها بشكل فوري حينما القى نظره عليها.. ثم بخطوات سريعة ابتعدت وكأنها تهرب من صدى صوت ضحكاتهم..

زفرت عدة مرات فور ان توقفت بجانب صفها، تجاهد بقواها الواهنة وعظامها الخائرة ان تلملم ندوبها على بعضهم فيصبحون كتلة كبيرة، تجعل قلبها يقسو ولو قليلًا فيرحم جسدها وعقلها..
لهثت انفاسًا مكدومة من عشقٍ مؤلم.. رباه كم هي غبية! لمَ لم تكتفي بشهادتها وتعمل بها؟ لمَ سمحت لذاتها بالخوض في حرب نفسية قاسية وهي تقرر بكل غباء ان تدرس موضوعه فتعمل معه، متخلية عن حلمها؟

“وهل هناك حلمًا غيره؟”
همست بمرارة قبل ان تجفل ما ان احسّت بيد لا تعرف من صاحبها تُوضع على كتفها.. ازدرمت ريقها وهي تتطلع الى ابن صفها الوسيم قبل ان تتراجع عدة خطوات الى الوراء..

– ما خطبك؟ هل انتِ بخير؟
سألها علي لترد بألم دسّته في ثنايا حلقها قسرًا كي لا يفضحها:
– انا بخير.. شكرًا لك.

– لحظة قدر.
هتف وهو يراها تلتفت لتغادر وكأنها تهرب من شيء ما.. فاستدارت اليه لتطالعه وهي لا تزال تلعن نفسها على تصرفاتها الغبية التي تجعلها تبدو وكأنها محمومة عشقًا.. وهي كذلك!

– بعد نصف ساعة ستبدأ المحاضرة.. دعينا نتكلم.
غمغم بابتسامة لتزفر ثم تنفذ طلبه، متمنية ان يراها ريس فيهتم قليلًا بها لا اكثر..
لم ترغب ان تبدو ضعيفة اكثر مما هي عليه فقالت:
– دعنا نجلس في مكان ما.

اومأ موافقًا وقبل ان تستأنف بطريقها سمعت صوتًا يناديها.. وكم تهوى هذا الصوت!:
– قدر.

ابتسمت وهي تلاحظ تأفف علي قبل ان تستدير وتواجه ريس الذي تساءل والوجوم يبدو واضحًا على وجهه:
– الى اين؟

– سنجلس في مكان ما ونعود.. بعد نصف ساعة ستبدأ محاضرتنا.
اجابت بعفوية ليتمتم علي بغيظ:
– هل نذهب الان؟

– قدر لنتحدث لدقيقة.
قال ريس ليهتف علي:
– قدر لا يوجد الكثير من الوقت.

– تعالي قدر لدقيقة.
همس ريس بصوت منخفض واعصابه تكاد تنفلت بسبب المعتوه الذي امامه.. ولكن قدر لم تنسى المنظر الذي رآته لذا بكل فخر بنفسها على ما ستفعله غمغمت بابتسامة:
– بعد ان تنتهي محاضرتي سأرى ماذا تريد.. الان يجب ان افي بوعدي لعلي.

– بوعدك؟
تشدق ريس وهو يقترب منها لتحس بنفسها مقيّدة فقط بنظراته الغاضبة.. تمنت من جسدها ان يعاونها هذه المرة لتنقشع عن وجهه.. ولكن ساقيها كانت وكأنها مكبّلة بالارض التي تدوس عليها..

احمرّ وجهها بشكل تلقائي وهدر فؤادها بخفقات موجوعة بينما اصابعه تلتف بخشونة حول معصمها ليحرر قيد ساقيها المُتيبستين دون ان يحرر قلبها وذراعها من وكره.. جذبها بقوة وراءه بينما تسمع صوت علي الغاضب يناديها..

شهقت بوجع فور ان دفعها امامه حتى كادت ان تبكي.. ثم تطلعت اليه بألم ليزمجر بوجهها:
– هل انتقلتِ الى تخصصي كي تمرحين مع الشبّان ام كي تتعلمين؟

– وما شأنك؟
تساءلت ودموعها تهددها بالانهمار لتتوسع عينيه بعصبية مخيفة ويصرخ بينما لدغته بحرف الراء هذه المرة تظهر بوضوح:
– قدر لا تثيري جنوني.. والدتك وكلتني بحمايتك بما انك لن تستطيعي ان تحمي نفسك.. انتِ هنا ليس للتعرف على الشبان او للمرح، انتِ هنا فقط بسبب واحد، والسبب الاخر انا اعرفه جيدًا والا كنتِ ستكتفين بعملك.

استدارت لتغادر ودموعها تنزلق على خديها كالجمر فتكويهما بنار غرامها له التافه.. لم تعد تستطيع التنفس بسبب المسننات التي تنغرس في صدرها مع كل كلمة نطقها.. وما ان سارت عدة خطوات الى الامام كانت يداه تقبض على كتفيها لتديرها اليه بعنف.. فصاحت بألم ليطلق شتيمة من بين شفتيه ويهتف بتهديد:
– ما حدث اليوم سأخبره لوالدك ولشقيقك.

– افعل ما شئتَ.. انا لم اقترف اي خطأ.
غمغمت بنبرة منخفضة بسبب بكاءها ليقهقه بعصبية ساخرة ويقول:
– ابدًا.. فقط تخرجين مع هذا وهذا.

– وانت تخرج مع الفتيات.. هل انا اعاتبك، او اهددك بوالديك؟
صاحت كقطة برّية صغيرة ليهتف بحدة:
– انا شاب وانتِ فتاة!

– جاهل متخلف.
صاحت بوجهه وهي تدفعه حتى تهرب منه الا انه ثبّتها اكثر وهو يوطد من وطأة ضغطه على كتفيها فصاحت هذه المرة بألم شديد ودموعها وشهقاتها الذين انبجسوا هذه المرة كالبركان يحكون مدى وجعها بكل صدق..

دفعها بخشونة وهو يطلق سراح كتفيها لتئن وهي تنظر اليه بعينين شجيتين تثيران الشفقة.. ثم ليفاقم من حدة اوجاعها وكأنه لم يكتفي بما فعله قال بقسوة:
– الحمد لله ان هذا هو عامي الاخير وسأتخرج لأرتاح من هم الاعتناء بك.

اصاب الهدف وبامتياز.. فهي نفسها الان كرهت ذاتها وشخصيتها.. وكرهت كل خلية تنبض بأسمه في جسدها الضعيف.. اغمضت عينيها بعد ان استدار ليغادر ثم بأنامل مرتجفة وضعت اناملها على قلبها تتحسس نبضاته الواهنة.. جلست على الارض وهي تشكر الله ان لا احد من طلاب الجامعة هنا فيرون ما يفعله بها الحب..

ضعيفة الشخصية؟.. لماذا هو وسند الوحيدان اللذان يعتقدان انها ضعيفة، بالاضافة الى والدتها؟ هي ليست كذلك.. ليست ضعيفة.. هي قوية.. لماذا يتصرفون معها بهذه الطريقة وكأنهم يرسخون هذه الفكرة في مفكرة عقلها فيزيدون من الجرح الذي لا يزال يهرق بغزارة في روحها منذ سنوات طويلة..

*****************
هل من الطبيعي ان تتوتر كلما تراه؟ هذا الرجل يوترها بنظراته.. غريب وعجيب.. وكأنه لغز سينمائي ستعرف اسراره بحلقات متواصلة..
ساعدت والدته بالدخول الى المرحاض بينما هو خلفها، يراقب كل خطوة وحركة تصدر منها بعينين ضيقتين..

تنهدت ما ان فتحت الباب لتُخرج والدته.. فوقف قبالتها ثم هتف بخشونة:
– ابتعدي، سأحملها.

ابتعدت ليحمل والدته المرهقة ويضعها على السرير.. كبرت والدته في عز شبابها.. الاحزان والهموم انهكت جسدها حتى صارت بقايا لجروح غائرة لا زالت تهرق في اعماقها..
تنحنحت ليستدير اليها بوجه جامد فغمغمت:
– انا سأخرج لاتابع عملي.. اذا احتجتني بامكانك ان تنادي عليّ.

وما ان كادت تستدير لتخرج حتى سمعته يهتف باسمها.. طالعته باستغراب فقال ببرود:
– لا زلت احتاجك.

عقدت حاجبيها بضيق بسبب تصرفاته الاستفزازية ثم بابتسامة رسمية تساءلت:
– بماذا تحتاجني سيد حمزة؟

– اريد ان تعود والدتي الى المنزل.. واريدك ان تلازميها في المنزل.
هتف بجدية وهو يدنو منها لتتوسع حدقتيها بعدم استيعاب لمعنى طلبه.. تطلعت اليه بعبوس وتفكير ثم غمغمت بهدوء:
– انا عملي في المستشفى لا المنازل.. وانت تعرف ذلك جيدًا.

– سادفع لك اي مبلغ تريدينه.
تمتم وهو بجلس على مقعد يجاور سرير والدته النائمة.. فزفرت قبل ان ترد:
– الموضوع لا يتعلق بالمال.. والدي لن يسمح ابدًا.

– والدك ام خطيبك؟
سألها بنبرة مستفزة فابتسمت بسخرية:
– لا يخصك.

– لا اريد ان تبقى امي في المشفى.. اريدها ان تخرج غدًا وانت يجب ان تكوني الممرضة المسؤولة عنها.
هتف وهو ينهض لتطالعه بوجوم وتقول:
– وانا اخبرتك انني لا استطيع.. لن اعمل في اي منزل.. لا ابي سيوافق ولا خطيبي مثلما قلت!

– ستوافقين في النهاية انسة جهاد.. ستوافقين دون اي ضغط مني اعدك.
دمدم بغلاظة ثم اعطاها ظهره واضاف بلا مبالاة:
– واخرجي الان مثلما دخلتِ.

خرجت تكبت انفعالاتها.. لو انه لا يقرب لشقيق جدها لتكلمت معه بما يناسبه تمامًا.. متأكدة ان سبب تدهور صحة والدته النفسية والجسدية تصرفاته وعجرفته.. لا احد يسلم من استفزازه.. اغلبية الممرضات يكرهن التعامل مع والدته بسببه.. وهي فقط شفقة على والدته تتحمله..

نادت عليها احدى الممرضات تخبرها بوجود خطيبها.. فجاهدت على رسم الابتسامة على شفتيها لتقابله كما يستحق ان يُستقبَل.. رآته يقف بعيدًا مع واحدة من الممرضات اللاتي تبغضهن فزفرت بحنق واقتربت منه..

– سند.
همست تناديه بصوت ناعم فابتسم لها بحب ودنى منها وذراعه تلقائيًا تمتد لتحاوط ظهرها.. ابتسمت بصلافة للممرضة الاخرى وقالت بدلال قصدته:
– لماذا لم تخبرني انك ستزورني حبيبي؟

– لانني لم اكن اعرف انني سأزورك.. فبعد ان اوصلت قدر الى جامعتها ادركت كم اشتاقك.
غمغم بابتسامة لتسحبه متجاهلة الممرضة التي بدت كالبلهاء بينهما.. اخبرت احدى الممرضات انها ستأخذ استراحة لمدة نصف ساعة ثم بعزم شبكت اصابعها الناعمة باصابعه الدافئة..
انتظرت المصعد وهو بجانبها وهي ترجو الله ان لا يلتقي خطيبها بالرجل الغليظ الذي تبغض التعامل معه اكثر من اي شيء في الدنيا.. اقشعرت بدنها الرياح القوية وزمهرير الشتاء.. فتأبطت ذراعه بقوة تدفن وجهها بظهره لتحمي وجهها من الرياح الشديدة والاهم عينيها الحساستين لأي غبار قد تطئهما..

ضحكت بصوت عالٍ وهو يركض بينما ذراعه التي تحيط بظهرها تحثها لتركض معه.. بلّلت حجابها الاحمر زخّات المطر كما بلّلت شعره المصفوف بعناية واهتمام..
تلكأت بسيرها ريثما وصلا الى المقهى الذي تهوى الجلوس به.. لهثت بقوة وهي تسحب احد المقاعد لتجلس عليه بينما يقف سند يتأملها بابسامة ناعمة تتمناها اي انثى برجلها..

– ماذا تريدين ان تشربي؟
سألها سند لتهمهم بتفكير قبل ان تقول وعيناها تومض بجمال لا يناسب الا وجهها الفاتن:
– شوكولاطة ساخنة مع الكريما.. وضِع لي الكثير من السكر.

هزّ رأسه بموافقة يكتم ابتسامته رغم قلقه عليها من حبها لتناول الحلويات.. فرغم جمال وجهها الا ان جسدها لم يكن نحيفًا او رشيقًا بل ممتلئًا بعض الشيء.. وهذا كله يعود لافراطها بتناول ما قد يسبب لها في يوم من الايام مرض السكرّي..
عاد لها بعد دقائق ليجلس قبالتها فتحرر عقدة ذراعيها وتلتقط الكوب الذي ناولها اياه بابتسامة شاكرة..
كان انفها احمرًا بسبب برودة الطقس، واثار البرد تظهر بحركاتها.. تضم الكوب الساخن اليها وكأنها ستُدفئ نفسها به.. لم ينتبه الا الان انها خرجت من المشفى دون سترة.. تنهد وخلع سترته السوداء ليناولها اياها فتلقفتها بامتنان ثم همست بتساؤل:
– الن تذهب الى العمل اليوم؟

– لا.. يجب ان اخرج مع قدر خارج المدينة وربما نسافر لعدة ايام.
رد بهدوء لتسأل باستغراب:
– اين ستذهبان؟

– لن اخبرك.
هتف ليغيظها فضحكت وهزت كتفيها دون مبالاة وتمتمت:
– ساسأل قدر.. لا داعي لان تخبرني.

تناولت حبة من الشوكولاطة المحشية بالفستق ليضرب يدها بخفة ويهمس:
– احضرتهم لي وليس لك.

– سند!
هدرت جهاد بذهول ليقهقه بينما يسمعها تضيف بحنق:
– لا تكن مثل امي تمنعني عن كل هذه الاشياء وكأنني طفلة صغيرة لا تبلغ الستة وعشرون عامًا!

تطلع اليها لثوانٍ بتردد ثم زفر وغمغم بصراحة:
– جهاد خالتي سيلا محقة.. انا لا انكر اعجابي بكل ما يتعلق بك.. حتى جسدك الممتلئ قليلًا ولكن…

– اعرف.
غمغمت بامتعاض ليزفر ويبرّر مدافعًا عن نفسه:
– جهاد انت لا تعيبك شائبة.. ولو انني لست قلقًا على صحتك لما تكلمت اساسًا.. انت تعرفين سبب اصرار والدتك لتقلعي عن كل هذه الاشياء.. بكل تأكيد ليس لتبدي اجمل مما انتِ عليه حاليًا بل لاجل صحتك والتي هي اهم.

اومأت بصمت ثم استطردت دون تفكير:
– اتعرف حمزة الحجازي؟

– صاحب السمعة السيئة.. ما خطبه؟
تساءل بخشونة لم يعرف انها تخلّلت حروف كلماته الا حينما انتبه الى التردد البادي على وجهها وكأنها تفكر اذ تخبره ام لا..

– ما خطبه؟ ماذا فعل؟
سألها مرة اخرى لتهز كتفيها وترد بعدم اهتمام:
– لا شيء.. امه احدى المرضى في قسمي.

– لا تحتكي به جهاد.. انا لا اطيقه.
هتف لتزدرد ريقها وتهز رأسها موافقة.. ماذا سيفعل اذا اخبرته بعرضه بل بأمره الغير مهذب لتكون ممرضة والدته الشخصية.. واين؟ في منزله!.. زفرت انفاسًا قلقة من عصبية سند اذا عرف بما يفعله المدعو بحمزة.. وهي تعرف عصبية سند جيدًا وتخشاها، فخلف هذا الوجه الهادئ الحنون شراسة وعنفوان وحش مضمور بقوة.. ولم ترى هذا الوحش الا قبل عدة اشهر عندما كاد ان يقتل رجلًا لانه ابكى اخته..

*****************
عبثت يداها في الملفات بعصبية بعد ان عرفت من ابنها ان زوجها عاد الى عمله.. رمت الملفات بغضب وهي تحاول جاهدة ان تتحكم بنفسها كي لا تثور على زوجها الذي لا يتغير ولن يتغير ابدًا..
جذبت المقعد الخشبي لتصعد عليه حتى تبحث بين الرفوف على ملفٍ تعرفه جيدًا.. ولكنها سرعان ما صرخت وزوجها يحرّك المقعد كي تقع..

– نذل.
صاحت بغضب وهي تقع بين ذراعيه بينما تصغي الى ضحكته المستمتعة بحنق شديد:
– ماذا تفعلين في مكتبي سيدة سيلا؟

– هذا مكتبي انا.
اجابت بغرور وهي تلّف ذراعيها حول عنقه فيهمهم قبل ان يضعها بغلاظة على طاولة مكتبه:
– المكتب مكتبك.. الشركة شركتك.. ابناءنا ابناءك.. والمنزل منزلك.. ماذا تبقى لي؟

ضحكت باستمتاع وهي تجيب بحب:
– انا فقط.

– اذًا كل هذه الاشياء لي بما انك لي.
غمغم بخبث لترد بعنفوان يعشقه:
– لا كل ما قلته لي انا.. ان ادعك تتصرف بهذه الاشياء.

– هكذا اذًا؟
همس وشفتاه تزلف من وجهها بعبث لتدفعه سريعًا ما ان فتح ابنهما سيف الباب دون ان يطرقه..
رمقهما بنظرات متجهمة ثم هتف:
– اقفلا الباب قبل ان تفعلا هذه الاشياء.

احمرّ وجه سيلا باحراج من ابنها فصاح به ليث بحنق:
– اطرق الباب قبل ان تدخل وتعطينا محاضراتك هذه.

– اريد امي فاتركها لعدة دقائق.
قال سيف بجمود ليبتعد ليث عن سيلا ويقترب منه ويقف قبالته، مزمجرًا بحدة اضحكت سيلا:
– هل تتكلم مع والدك بهذه الطريقة وكأن امك زوجتك لا زوجتي؟

امتعضت ملامح سيف بضيق شديد وهو يرد:
– سأشكو لها عنك.. وانقل اليها اخر اخبارك.

– وماذا فعلت انا؟
تشدق ليث ساخرًا ليصيح سيف بغضب:
– رأيتك صباح اليوم مع امرأة.

توسعت عينا سيلا قبل ان تقترب منهما بخطوات سريعة وتهدر بعصبية:
– ماذا قلت؟ مع من كان؟

– انا؟!
صاح ليث بذهول ليرد سيف بحدة:
– اجل انت.

– هذه المرأة تعمل معي.
تمتم ليث، مدافعًا عن نفسه فسألته سيلا بحنق:
– بماذا تعمل معك تلك الشمطاء؟

– في عملي الخاص.
اجاب سريعًا لتومئ سيلا برأسها وتقول:
– كشفتك اخيرًا وانت تعترف بكل غباء.

– تبًا لأبنك.
دمدم ليث بحنق ليبتسم سيف وهو يقبل رأس والدته بحنو.. فضحكت سيلا بحب بعد ابتعاد ابنها عنها ورؤيتها لزوجها المتبرطم.. ثم رفعت اصبعها بتهديد وقالت:
– لاحقًا حسابك.

******************
ازدردت ريقها بصعوبة ما ان سمعت طرقات والدتها على باب غرفتها.. وانبسطت عيناها بخوف وهي تهتف لهيرمان الذي تتحدث معه على الهاتف:
– هيرمان امي تطرق الباب.. سأتصل بك بعد ان تغادر.

تمتم بموافقته وهو يضحك قبل ان يغلق الهاتف لتنهض وتفتح الباب لوالدتها التي رفعت حاجبها الايسر بسخرية وغمغمت:
– افتحي لي الباب غدًا.. ما رأيك؟

– اين ابي؟
سألت مها أمها بوجوم لتمتعض ملامح حياة بشكل فوري وهي تدفعها من امامها لتدخل الى غرفتها، قائلة بغيظ شديد:
– الله وحده يعلم مع اي المانية يجلس الان.

تبرطمت مها وهي تسأل والدتها بضيق:
– لماذا لا تثقين بأبي وهو يثق بك؟

– لا ادري.. اشعر انه يحب المانية ويخونني معها.. ولله سأقتله اذا فعل.
هدرت حياة بعصبية وهي تلتقط هاتف ابنتها لتتصل بزوجها ولكن ردعها صرخة مها المذعورة وهي تسحب هاتفها من يد امها:
– اتصلي به من هاتفك.. اتركي هاتفي.

– هل تخفين عني شيئًا يا ابنة أمير؟
سألتها حياة وهي تقترب منها بينما تعابير وجهها كافية لتثير خوف ابنتها.. فأجابت مها والابتسامة المتوترة تشق سبيلها الى شفتيها:
– لا أمي.. هل اقدر ان اخفي عنك شيئًا؟

– لا ولكن انتِ تعرفين ماذا سيحدث اذ فكرتِ يومًا باخفاء حتى لو أمر بسيط عني.
غمغمت حياة بتهديد مبطّن لتزدرم مها ريقها قبل ان تزفر براحة ما ان سمعت صوت والدها الذي ينادي بأسم والدتها..

– ها قد اتى.
دمدمت حياة بغيظ وهي تسير الى الخارج فتزفر مها قبل ان توصد الباب وتتصل بهيرمان الذي اجابها ضاحكًا:
– هل خرجت؟

– اجل، خرجت.
همست براحة ليسألها بتعجب:
– لماذا تتحدثين معي بالسر ونحن لا نفعل اي شيء خطأ؟

– امي تخاف ان اقع بحب رجل الماني.. هي تريد ان اتزوج فقط من رجل عربي.
ردت بضيق وهي تقعد على سريرها فيتساءل بتوجس:
– الن تسمح لك بالزواج من رجل الماني؟

– لا.. مستحيل.

– ولكن وفقًا لما فهمته منك ان والدك الماني.
غمغم بحيرة لتهتف باستهزاء:
– أمي تقول انه وُلد في المانيا ولكنه عربي لهذا هي تزوجته.. وفي النهاية هي تود ان تعود الى فلسطين ولكن بسبب عمل ابي والجامعة نحن الى الان هنا.

– لا تعودي.. لا استطيع التخيّل انك تقبعين في دولة اخرى الى الابد.. سأجن!
هتف هيرمان بصوت اجش لتومض مقلتيها بدموع شجية متخفرة.. اطلقت آهة مقهورة ودون ارادة منها خفق قلبها لكلامه الذي يمس الوتر الحسّاس في روحها..
هو يدري وهي تدري انهما يحبان بعضهما ولكن النهاية معروفة لكلاهما كيف ستكون.. يخشى ان يعترف لها كما تخشى تمامًا ان تعيش هذه اللحظة لانها محال ان تكون معه وتفكير والدتها صعب ان يتغير.. كما وان والدها ابدًا لن يقدر على مساعدتها ما دام يؤيد والدتها بكل كلمة تقولها..

*****************
استغرب قدوم المحامية التي تُدعى نرمين الى مكتبه.. رحّب بها وهو يحدق بها بذهول، فنفورها منه كان واضحًا وهي تعبر من جانبه وكأنها تخشى ان يحتك جسدها بجسده ولو لثانية..
قعدت امام مكتبه ثم هتفت ببرود:
– بامكانك ان تجلس لنتحدث فلدي العديد من الاعمال.

رفع حاجبيه بتهكم مبهوت.. تتعامل معه وكأنه هو الضيف عندها لا هي!
قعد على مقعده قبالتها بينما يسمعها تتحدث بصيغة عملية:
– انت تعلم انني المسؤولة عن قضية الفتاة التي تريد الطلاق من زوجها وهو يرفض.

– اعرف.
اجاب بحنق لتحدجه بنظرة استصغار هاجت بسببها نار الغضب في صدره ليستطرد بعصبية:
– لا تنظري اليّ بهذه الطريقة مرة اخرى.

ضحكت بتهكم ثم وثبت عن مقعدها وهدرت بتهديد:
– تكلّم معي بأسلوب لبق والا انت تعرف جيدًا ما اقدر على فعله.. فالرجال الذين بسببي الان في السجن عددهم ليس قليلًا اطلاقًا.

– ماذا تريدين انسة نرمين؟
تساءل ياسين بغيظ وهو ينهض ليواجهها فتتطلع اليه ببرود وتقول:
– اخبره ان يكف عن ارسال التهديدات لزوجته التي ستصبح قريبًا طليقته.. واخبره انني لا احذّر الا مرة واحدة والا سأجد عليه تهمة لا تخرجه من السجن طيلة حياته.. انقل اليه بالحرف الواحد ما اخبرتك به بما انك المحامي الذي وكّله.

– هل اعتبر كلامك تهديدًا لي ايضًا؟
سألها ياسين وهو يميل برأسه ليواجهها فتحدجه باكثر نظرة يكرهها وهي ترد بكل برود:
– اعتبره ما تشاء سيد ياسين.. الجايد.

قهقه باعجاب وهو يصفق لها قبل ان يسألها بخبث:
– هل طلب رجل منك يومًا ما الزواج؟

بادلته الابتسامة ببرود شديد ثم همست:
– من امثالك طلب الكثير.. ولكن رفضي لطالما كان الرد.. فانت تعرف كيف هي نظرتي لفئة الحيوانات.

– ماذا فعل بك حتى اصبحتِ بسببه تكرهين الرجال؟
سألها ياسين وهو يضحك باستمتاع لتغمغم باستفزاز:
– لست مجنونة لأسمح لأي كان ان يفعل بي شيئًا.. فصدقني انا كافية لأفعل بكم ما اشاء.. لذلك انتبه جيدًا على مهنتك مني.

*****************
لا يزال صدى كلماته يتردد في روحها، ابيًا ان يسعف الجمر الذي يكوي احشائها دون هوادة.. لم تتمكن من التركيز داخل المحاضرة ودموعها تنهمر خلسةً فتزيلها بأنامل مرتجفة وتكتم شهقاتها كي لا يلاحظها احد وخاصةً علي الذي يبدو عليه الغضب بسبب ما فعله ريس..

لم تصدق ان اخيرًا اعلن المُحاضِر انتهاء الدرس لتهرول خارجة من القاعة.. لملمت اغراضها بأقل من دقيقة ثم خرجت، تاركة وراءها شخص يود اللحاق بها ويعرف ما خطبها ولكن نداء احد الطلاب له منعه..

توقفت بجانب مدخل الجامعة، تنتظر شقيقها الذي قال لها انه سيأتي ليأخذها.. ثم اغمضت عينيها وهي تردع آهة من الانبثاق من اعماق قلبها عندما سمعت صوته.. لم تقدر ان تستدير لتواجهه فحاولت تجاهله ليهتف بهدوء وهو يتقدم ليقف قبالتها:
– قدر تعالي معي لأوصلك الى منزلك.. لا يجب ان تقفي لوحدك هنا.

– شكرًا ولكن لا اريد.
اجابت دون ان ترفع عينيها وتناظره فتوجعها تعابير وجهه الساخرة.. شهقت ما ان شعرت بيده تقبض على ذراعها ليجرها امامه وكأن ردّها لا يهمه البتة.. احسّت بالشعور بالاهانة والذل يتفشى في اوبئة جسدها لتصفعه على ظهره وتهدر بحدة:
– اتركني ريس.

توقف قبل ان يفلتها ويهتف وهو يصرّ على اسنانه:
– سأوصلك الى المنزل فقط.

– اخبرتك اني لا اريد.
غمغمت وهي تضم يدها الى صدرها فزفر بعصبية:
– لا تبالغي قدر.. لن ادعك تقفين هنا لوحدك.

– لا تقلق، لن اخرج مع الرجال سيد ريس.
قالت وهي ترفع عينين بنيتين بهما القليل من العسل الذي لا يراه الا من يدنو منها.. فإبتسم رغم الصدمة التي داهمته بردّها الذي لم يتوقعه البتّة.. ثم زلف منها لتتراجع تلقائيًا الى الوراء وترفع كفها تمنعه من الاقتراب منها.. فرفع حاجبه الايسر وهو يمسك يدها بخشونة ليقترب منها..

تشعشعت الرعشة في سائر انحاء جسدها توترًا من قربه وخوفًا من نظرات طلاب الجامعة الذين يخرجون ويدخلون الا انه لم يأبه بنظراتها التي توحي بهشاشة روحها وهو يقرّبها منه اكثر.. ثم دون اي تردّد امتدت ذراعه لتحيط ظهرها كي يحثها على السير بجانبه..

لم تفهم سبب تصرفه وصدمتها بما فعله تردع عقلها ان يفكر كما يجب وكمان فؤادها تعزف بصخب الى ان تكاد تنقطع اوتارها.. ولكنه كان يعرف جيدًا ما فعله وفي قرارة نفسه يدرك ان ما فعله ليس لأجلها او لأنه يكّن لها مشاعر الحب والود بل ليثبت لعلي الذي لم تراه قدر انها تخصه وعليه الابتعاد عنها..
تخصه هو فقط من ناحية لا احد يدري ماهيتها غيره.. فأبدًا لم تكن قدر الانسانة التي يحلم بها..

أوصلها الى موقف السيارات والابتسامة الساخرة ابية ان تبرح ثغره فتبتعد قدر عنه بحدة وتنصدم بتعابير وجهه المستهزئة..
ويا ليته صفعها ولا ترى هذه النظرة بعينيه! لهثت انفاسها بصعوبة ومقلتيها تتوسع بقهر ليس له حد بينما تسمعه يهتف:
– فعلت ذلك فقط ليبتعد عنك علي.. وليس لأجلك بل لأجل خالتي سيلين لأنني اعرف ما يريده علي منك وانتِ بكل غباء وسذاجة تتباهين بما يفعله!

لم ترد.. اي كلمة قادرة على جرحه وهو لا يجرح فقط بل يقتل؟! رمقته بنظرات اشعرته بالذنب لوهلة فكاد ان يقترب منها ويطبطب بكلماته على جروحها النازفة عسى ان تشفى قليلًا ولكن صوت سند الغاضب اوقفه ليتطلع اليه ببرود ويغمغم:
– جيد انك اتيت.. خذ اختك واذهب، ولا تنسى ان تنتبه جيدًا على تصرفاتها.

– قدر.
همس سند بقلق وهو ينزل من سيارته لتتطلع اليه بنظرات نزلت مثل السوط على قلبه.. اقترب منها ليحيط وجهها بيديه الاثنتين فيتشدق ريس:
– دعها تبني شخصيتها قليلًا وعلّمها كيف تتصرف بدلًا من حمايتك المستمرة لها.. فضعفها يثير القرف بي.

لم يتحمل سند ما تفوه به ريس فابتعد عن اخته ليدفعه على سيارته ويزمجر بعصبية:
– انتبه جيدًا لكلامك ريس.. لو انك لست ابن المرأة التي اعتبرها أمي الثانية لقتلتك منذ زمن وانت تعرف اني لا اهدد فقط.

ابعده ريس عنه بغيظ قبل ان يردف:
– انتبه اذًا مع من اختك تخرج في الجامعة.. لا اريد ان اضخم الموضوع ولكن لتنتبه جيدًا الى شرفها كي لا اؤذيها.

شهقت قدر بذعر ودموعها تتصبب على وجنتيها بألم شديد قبل ان تفتح باب سيارة شقيقها وتجلس بها دون ان تأبه بما بحدث في الخارج..
“يكفي.. يكفي”
همست لذاتها ببكاء.. لماذا يستمتع باهانتها بهذه الطريقة؟ لماذا كل مرة يتصرف معها بأسلوب؟ مرة يدعها تعشقه ومرة يدعها تكرهه وتكره ذاتها.. تارةً يكون جيدًا فتتمنى ان تغوص بين ذراعيه لترتشف ولو القليل من دفئه.. وتارةً اخرى يكون قاسيًا فتتمنى ان تهرب منه وتختفي من امامه فلا ترى عينيه القاسيتين..

وفي الخارج بعد الذي قاله ريس دون ادنى تفكير الى ما سيؤول اليه كلامه لكمه سند بعصبية شديدة وصاح بغضب:
– ولله اقتلك يا ريس.. اياك ان تتكلم عن اختي بهذه الطريقة.. قدر اشرف واطهر منها لا يوجد.. فدع قذارتك لنفسك.

ثم بغضب شديد دفعه مرة اخرى قبل ان يصعد الى سيارته ويغادر تاركًا ريس يبتسم بتهكم سرعان ما تحوّل الى الشعور بالذنب.. فربما سند يؤذي شقيقته بعصبيته المخيفة ولم يكن هذا هدفه البتّة..

error: