رواية غزلًا يوقده الرجال
غادر، لم تعد تنفع صلاتك..
غادر، لم يعد يشفع ايمانك..
غادر، لم يعد يؤثر رجاءك..
غادر يا أثير واترك الليل يداوي..
دع الدموع تبلسم خدوش الأوتار..
ودع الكدمات تُحجّر الآهات..
ستشهد الشمس على حرقة الفؤاد..
وكهبة الليل ستحكي ظلمة الوجدان..
لقد ذاب القمر يا خليل..
اضمحل النور.. وانطفأت الشموع..
غادر مع الشعراء فقد غادروا..
غادر.. غادر..————————–
ابتسم أوس بفخرٍ.. ابنة شقيقته كلما تزداد قوةً وان كانت تقسو على نفسها بهذه القوة.. فيكفي انها لم تعد تلك الخانعة الضعيفة بنظر حفيده..
ملامح حفيده توحي بمدى غيظه منها.. لقد مرّ عليه الكثير ولكن مثل حفيده ريس لم يمرّ عليه.. حتى ليث لم يكن مثله!
امسكت قدر يد خالها ثم غمغمت بنعومة بعد ان اهدت ريس الرد الذي يناسبه:
– هيّا خالي.. لندخل حبيبي.
– اسبقيني حبيبتي.. سأتحدث مع ريس قليلًا وسأدخل.
ردّ أوس على قدر بابتسامة لتومئ وتسير الى الداخل، شامخة الرأس، تُداري وجعها من كل كلمة نطقتها او سمعتها.. ليخطب.. ليخطب ولتنكوي هي بمرارة العشق.. لتُدفن هي تحت تراب حبها له..
لم يعد ينفع هذا العشق فكلّه ذل والم.. لم يعد ينفع ابدًا ولم تعد جفونها تقدر على احتضان دموعها اكثر..
ستنساه وهناك من سيساعدها لتنساه..
نظر ريس الى جده، ينتظره ان يتكلم.. ليزفر أوس بحنق قبل ان يضع يده على كتف ريس ويهتف بينما يهز رأسه يمينًا ويسارًا:
– كلما زادت تصرفاتك غباءًا كلّما ستندم اكثر.. انتبه الى كلامك يا ريس فالنفس لها طاقة محدودة للتحمل.. واذا لم تعد تقدر على التحمل فانت من سيخسر افظع خسارة.
تطلع ريس اليه بجمود وان اثّر به كلامه.. ثم تساءل وكأنه لم يفهم سبب ما يقوله جده.. وكأنه!:
– ماذا تقصد بكلامك جدي؟
رمقه أوس بنظرة متمعنة ثم قال بتنهيدة:
– اقصد حول ما يدور بينك وبين قدر.. لا تخسرها وتجرحها.. ستندم يا ريس ولن يشفع لك ندمك!
– انا لا احبها.
هتف ليردف أوس بابتسامة حسرة:
– كلّا، انت لا تحبها.. من يحب لا تصرف مثلك.. ولكنك مهما حاولت ان تنكر انت تحسّ بشيء غريب تجاهها.. وانا اعرف ما هي مشاعرك.. عسى ان تكتشفها انت ايضًا قبل فوات الآوان يا ابن غيث.
– مشاعري تجاه قدر لا تتجاوز المشاعر العائلية.
قال ريس ليضحك أوس بتهكم ويرد:
– اجل، مشاعرك لا تتجاوز مشاعر العناد.. الانانية.. التملك.. لا تتجاوز هذه المشاعر التي سببها الغيرة.. اليس كذلك؟
– جدي!!
هدر ريس بغضب.. اكثر ما يكرهه ان يكون محاصرًا.. وجده الان لن يتركه لوحده قبل ان يستنزف صموده وقواه.. لماذا لا يفهم انه لا يحب قدر؟! اجل، هو يغار عليها ولكنه لا يحبها.. لا يعرف ماهية مشاعره تجاهها ولكنه ميقن انه لا يحبها..
ابتسم أوس ثم قال:
– لا تقلق يا ابن ابنتي.. في النهاية انت من ستتألم لا احد غيرك.. قاوم وقاوم واترك ابنة اختي تراك لاحقًا ذكرى من سراب.. افعل ما تشاء يا ريس.
استدار ريس ليغادر.. لم يعد يطيق صبرًا ولم يعد يتحمل كلمات جده.. يحسُّ بمراجل من النار تحرقه وتشعل فتيل غضبه.. فتح باب سيارته وغادر بغضب ليبتسم أوس على جنون حفيده الذي سيؤول به الى حافة الهاوية..
*****************
وضعت يدها على عينيها وهي تسند ظهرها على ظهر مقعدها.. لقد تشاجرت مع شقيقتها بسبب زوجها الذي خانها.. لأنها تدافع عنها بحق صارت متخلفة! تود ان تبكي.. لأول مرة تتمنى ان تبكي.. ولكنها لن تقدر فهي
تعرف نفسها جيدًا..
طُرِق باب مكتبها فأبعدت يدها عن عينيها سريعًا واعتدلت بجلستها ثم هتفت بنبرة مرهقة:
– تفضل.
عبست وهي ترى ياسين امامها.. يكفيها ما بها الان.. المشاكل العائلية القابعة فوق صدرها تكفيها.. بالكاد تتنفس من ضغطها النفسي والجسدي.. لم ترد على سلامه فتقدم منها وقعد قبالتها لتسأله بجمود:
– ماذا تريد؟
– ما خطب وجهك؟
رد عليها بسؤال وهو يتأمل خدّها المكدوم وطرف فمها المجروح لتغمغم بسخرية:
– لقد ضُربت!
تود ان تبجس كل مكنوناتها.. يحسّ بذلك.. حالتها لم تسمح له حتى بالعبث معها.. تبدو حزينة متألمة ومجروحة..
– لماذا؟ ومِمَن؟
– زوج اختي.
اجابت باستهزاء ليطالعها بحيرة.. يستقصي عن لمحة حزن في بحر مقلتيها.. عن الم بين جفونها.. ولكن ملامحها كانت راسخة بقساوتها.. عجيبة تلك الفتاة! من اي صخور نارية صُنعت؟! لو يغزو اسوارها ليعرف مدى هشاشتها في هذه اللحظة.. لو..
– كيف سمحتِ له؟
سألها يخفي انفعاله لتبتسم بسخرية وتقول:
– حكم القوي على الضعيف!
– نرمين!
هدر ياسين وقد بدأ استهزاءها يغضبه حقًا لتهتف ببؤس:
– لماذا حينما تهمك مصلحة شقيقك – فرضًا – يعتبرك عدوه؟! لماذا يقابلون الاحسان بالسوء؟! لماذا؟
مدّ يده بتردد ليضعها على يدها فتبعدها سريعًا وتصيح بعصبية:
– لا تلمسني!
– اهدأي.
تمتم بخشونة لتهتف بحنق:
– لا تلمسني وسوف اهدأ.
زفر ياسين ثم اردف:
– لا يحق لي ان اتدخل بمشاكلك العائلية.. ولكنني حقًا ارغب بمساعدتك.. اخبريني ما الذي حدث معك يا نرمين؟
– انا متعبة!
ردّدت بغصّة ليحس بالشفقة تجاهها ويقول:
– اذًا اخرجي من هذا الجو المكتئب.. وغادري عملك.
– لا استطيع!
ردت بعجز ليتساءل باستغراب:
– لماذا؟
– لقد وعدت شقيقي انني لن اذهب الى اي مكان غير العمل.
همست ليهتف بانفعال ساخر:
– واين كان شقيقك عندما ضربك زوج اختك؟
– لقد ضربه.. اخذ حقي منه.
غمغمت ليتنهد ياسين:
– اسرارك كثيرة.. كلما احاول ان اكتشف عنك شيئًا اجد نفسي بعيدًا عنكِ بأميال.. فمن انتِ؟
– ستتعذب كلما اقحمت نفسك في حياتي.. فابتعد عني وعن مشاكلي.
اردفت بجدية ليهز رأسه برفض:
– لا.. لن افعل.. لقد اقتربت منك واوغلت نفسي بهذه المعركة فلست انا من اخرج فارغ اليدين.
– ستتعب وتنسحب بنفسك.. اعدك.
همست بصوت واهٍ لا يناسبها ابدًا فهتف:
– لا يليق بكِ هذا الضعف.. ابقي قوية كما عهدتك فنرمين ليست الا امرأة قوية تأخذ حقها عاجلًا ام اجلًا.. تلك هي صاحبة الشخصية النادرة!
*****************
اغمضت عينيها تطالب نفسها بالصبر فعلى ما يبدو ان المدير لن يصمت ابدًا لأنها تأخرت على دوامها ساعتين بسبب سند.. تطلعت جهاد الى الارض بمللٍ وهي تصغي الى الكلمات التي يقولها بضيق شديد..
لا يعقل ان يزجرها في الممر الذي بين غرف المرضى!..
هزت جهاد رأسها مع كلمة يقولها، عسى ان يصمت قليلًا الا انه كان غاضبًا فهذه ليس المرة الاولى التي تتأخر على دوامها..
تأففت بحنق حينما هتف المدير مرة اخرى:
– اذا تأخرتِ مرة اخرى انسة جهاد سأضطر على اتخاذ اجراءات قانونية لن تعجبك.
كادت ان ترد ولكن الصوت الذي سمعته منعها حتى عن الحركة:
– ماذا فعلت جارتي لك؟!
رفعت رأسها اخيرًا لتحدج حمزة بنظرات مرعوبة مذهولة.. ما الذي يفعله هنا؟! ومن هذه جارته؟!
تراجعت خطوتين الى الوراء وهي تتذكر ما فعله عمر به.. بالتأكيد اتى لينتقم منها لانها اشتكته لعائلتها..
حاولت ان تقمع خوفها منه فشمخت برأسها بتحدي سافر له..
ابتسم حمزة على تعابير وجهها التي تبين بوضوح كل ما يحوم في داخلها.. سمع سؤال المدير المغتاظ وتجاهله وبقي يتأمل تضاريس وجه جهاد بابتسامة لعوب..
كرّر المدير سؤاله بعصبية:
– من انت لتتدخل؟
انتقلت عصبية المدير تلقائيًا اليه ليهتف:
– لا يخصك من انا.. ومرة اخرى تتكلم معها بهذه الطريقة ستجد نفسك او في القبر او في غرفة العمليات.
– وانت في السجن!
غمغمت جهاد باستفزاز ليرمقها حمزة بنظرة غاضبة.. كظم المدير خوفه بصعوبة بينما يقول لجهاد:
– بامكانك متابعة عملك انسة جهاد.
اومأت جهاد ثم سرعان ما كانت تفرّ هاربة من حمزة الذي وضع يده على كتف المدير وضغط عليه، هامسًا بسخرية:
– احسنتَ حبيبي.. احسنتَ!
ثم تركه وغادر وراء جهاد التي دلفت الى حمام النساء بتوتر..
صرّخت وهي تراه يدخل الى الحمام وراءها.. تطلعت حولها عسى ان تجد امرأة اخرى غيرها.. ولكنها كانت لوحدها فقط!
اوصد حمزة الباب جيدًا ثم دنى منها بخطوات ذئب ماكر لترفع اصبعها وتصرّخ بتهديد:
– ايّاك ان تقترب مني.. ايّاك! سأجمهر كل الاشخاص الذين في المشفى فوق رأسك!
التصق ظهرها بالجدار خلفها بينما يميل حمزة عليها، مغمغمًا بنبرة تنافي غضبه منها:
– جوجو يا جوجو.. بطاطتي.. كيف اهون عليكِ لتجعلي شقيقك يمسكني من اليد التي توجعني؟!
– انتَ تستحق اكثر من ذلك.. ولو انني لم اشفق على والدتك لكنتَ الان في احدى غرف المشفى نائمًا او في السجن بين قبضة عمر.
هدرت جهاد باحتدام ليقرص حمزة خدّها بقساوة ويهتف بخشونة:
– لا تدعي غضبي منك يستفحل لأنني حينها لن ارحمك ولن ارحم عائلتك التي تتباهين بها.. انا لسعتي اوجع من لسعة العقرب فإجتنبيها يا قمر!
حاولت ان تصرّخ الا انه كتم صراخها بيده.. ضربته بقبضتها ليمسكها ويتحسّسها بلمسات جعلت عينيها تجحظ بارتياع واشمئزاز..
مال حمزة عليها وانامله تضغط على يدها اكثر:
– لو ان والديك على قيد الحياة لكان سيحزنان على فعلتك هذه بابن جيرانهما!
تأوهت ليبتعد عنها فتتنفس الصعداء.. تحسّست خدّها بوجع ثم قالت بعصبية:
– حقير.. لا بد انك تكذب.
– هل نسيتِ كيف كنتِ تتجولين خارج منزلك دون ثياب؟ لا زلتُ اذكر صراخ والدتك عليك لترتدي ثيابك ولكن عبثًا.
هتف حمزة ضاحكًا لتزم شفتيها بسخط وتقول:
– لا اصدّق انك كنت تقطن بجانبي فيما سبق.
– لو ان ابي لم يطلّق امي لكنت لا ازال امكث بجانب منزل والديك.
غمغم بينما حدقتيه تتفرس النظر بها فتشيح جهاد بوجهها وتغمغم:
– لا يهمني الماضي.. لا يهمني غير حاضري مع عائلتي الحالية التي اعتنت بي وعاملتني كأنني ابنتها فعلًا.. غيرهم وغير سند لا اتمنى اي شيء اخر!
– حتى انا؟
سألها ويده ترتفع مرة اخرى لتتحسس خدها فترتعش للحظة وتبتعد عنه بسرعة ثم ترد بعنفوان:
– حتى انت.. ومن انت في الأساس؟
– انا ابن جيرانكم الذي كنت اجعلك ترتدين ثيابك رغمًا عند.. لولاي ما كنتِ سترتدين ثيابك وانتِ صغيرة.. بل كنتِ ستبقين عارية.
هتف بوقاحة لتزمجر بجنون:
– وبماذا يهمني كلامك هذا؟! هل اتيت الى هنا لتخبرني انني كنت اتجول عارية وانا طفلة؟! هل تجد نفسك منطقيًا؟!
– كلما حاولتِ ان تبعديني عنك، كلما سأقترب منك اكثر.. انا اعرفك اكثر من نفسك.. لا تدعيني اشوّه صورتك امام عائلتك!
غمغم حمزة بجدية لتسأله جهاد باحتدام:
– ماذا تريد مني يا حمزة؟ ما الذي تسعى وراءه؟
– لا اريد منك اي شيء.. ولكن ما فعله عمر الجايد بي لن يمرّ مرّ الكرام.. لستُ انا من اسكت عن حقي.
قال بغلاظة لتجهر كمجنونة هربت الان من مستشفى المجانين:
– لا تريد مني اي شي؟! لا تريد ابدًا؟ اذًا اخبرني يا مجنون لماذا تضايقني؟ لماذا تفقدني عقلي؟! لماذا؟
ضحك حمزة بصخب لترمقه بنظرات عاجزة.. نظرات مصدومة.. تمنت ان تكون نظراتها رصاصًا لعلّها تصيب رأسه فيخرّ صريعًا على الأرض..
هتف حمزة ضاحكًا:
– تبدين كالمجانين حقًا.. بدأت اخشى عليك من نفسك.
– غليظ.. يجب ان تتعالج.
هدرت جهاد ليبتسم ويرد، غامزًا بشقاوة:
– ان شاء الله انا وانت.. لهذا السبب أميل لك.. ما شاء الله وافق شن طبق.
لم ترد عليه الا بنظرة متهكمة ليقول:
– غادري يا جهاد.. فأنا سأظهر كثيرًا في حياتك بعد الان.. اما شقيقك سأخذ ديني منه قريبًا.
لم تفكر مرتين بل خرجت سريعًا ليتشدق باستهزاء ثم يخرج هو الاخر من حمام النساء..
***************
لقد اشتاق لها.. منذ فترة طويلة لم يراها.. لا يصدّق انه يشتاق لجنونها.. يشتاق ليشعّث شعرها الاحمر بيده.. يود ان يتهور ويذهب ليراها في عملها.. فغيابها عنه يثير قلقه عليها..
اغمض عينيه وهو يفكر اذا يذهب اليها ام لا..
زم شفتيه بضيق ثم بعزم غيّر مسار طريقه الى عملها..
كان يقود بتردد.. من ناحية يرغب بالاطمئنان عليه ومن ناحية اخرى لا يريد ان يبدو ملهوفًا عليها.. يعرف لونا جيدًا ذات التفكير الغبي والتصرفات المجنونة..
لا يعرف كيف انتبه لها بينما يقود.. اوقف سيارته بجانب الرصيف ثم نزل منها وهو ينادي بأسمها:
– لونا.. لونا..
تطلعت لونا حولها لتجد عمر يقترب منها.. تبرطمت بحنق وهي تزيد من ضغط يدها على يد ابن شقيقتها الصغير ثم هتفت بتبرم حينما توقف عمر قبالتها:
– ما الذي تفعله هنا؟ لا اريد ان اراك.
رفع عمر حاجبيه بتعجب.. اليست هذه من كانت تصدع له رأسه ليلًا ونهارًا؟! نظر الى الصغير الذي لم يحيد بعينيه عنه بل يتأمله بتفحص ونوع من الاعجاب..
تنحنح عمر قليلًا ثم قال بهدوء:
– اتيت لأراك.. لم اكن اعرف انك غاضبة مني.
– والان عرفت وتأكدت.. فغادر يا حضرة الضابط.
هتفت لونا وهي تضع يدها الحرة على خصرها فيغمض عمر عينيه لوهلة ثم يزفر ويسألها:
– من هذا الصغير؟
– هذا لؤي، ابن اختي، ولا يخصك من.
تمتمت ليبتسم بسخرية على غبائها الذي يحبه ثم رد:
– اسمه جميل.
– لوني.. من هذا الأشقر؟
سأل لؤي لونا لتكتم ضحكتها على تعابير وجه عمر الممتعضة ثم تقول يابتسامة:
– هذا متسول حبيبي لولو.. دائمًا ما يضايقني لأناوله بعض المال.
– من من المتسول؟!
هدر عمر بعصبية لترد لونا ببرود:
– لم اتحدث معك.. انا اتحدث مع لولو.
– لا تناديني لولو.
تمتم لؤي بحنق ليبتسم عمر باستهزاء:
– لديك اعاقة بلفظ الاسماء على ما يبدو.
تبرمت لونا بغيظ ثم قالت وهي تتأفف:
– ماذا تريد يا عمر؟
– كنت في طريقي الى عملك.. لقد اتيت لأراك.
غمغم مبتسمًا لتقضم شفتها السفلى بحركة لا ارادية ثم سألته بخجل:
– هل اشتقتَ اليّ؟
– اجل.. اقصد لا.
ردّ عمر لتضحك بشقاوة وتهتف:
– دعني اوصل ابن شقيقتي الى مدرسته وبعد ذلك سأتفاهم معك سيد اشقر.
اومأ عمر على مضض لتتوجه نحو مدرسة لؤي التي تبعد بعض خطوات عن موقعهما الحالي..
قهقه عمر وهو يسمع الصغير يقول بتحذير لها:
– لوني لا تقفي معه.. سيقبض عليكِ ويضعكِ في السجن.
هزت لونا رأسها وهي تبتسم.. اوصلته ثم عادت الى عمر الذي يطالعها بنظرات جعلت العبوس يحتل وجهها مجددًا.. توقفت قبالته ثم قالت ليدرك انها عادت الى شخصيتها المجنونة:
– سيد اشقر.. لن ارضى بما فعلته معي.. هل تعرف كم دمعة ذرفت بسببك؟
– كم؟
سألها عمر وهو يعقد ذراعيه امامه لتقهقه وتهمس:
– لا اعرف.. ولكن الكثير.
– اعتذر انسة لونا.
غمغم عمر بسخرية مبهمة لتهتف بتنهيدة:
– لقد اشتقت الى جدي ريس.. هل ستأخذني اليه؟
– اجل، ولكن ليس اليوم.. لا اريد ان تفهم والدتي خطأ وتظن ان هناك علاقة بيني وبينك.
قال عمر بهدوء لتتمتم باستهزاء:
– وكأنني اتمنى ان يكون بيننا علاقة ما.. انا في الأساس لن اتزوج عربيًا.
– بمن ستتزوجين اذًا؟
سألها عمر بغيظ لترد بغرور:
– سأتزوج فرنسيًا.. فانا احب الرجل الرومنسي.
رشقها عمر بنظرة استخفاف لترفع حاجبها بتغطرس وتهتف:
– ما الذي لا يعجبك؟ هل تعتقد انني سأتزوج همجيًا مثلك يجعلني ابكي بسبب عصبيته؟
– مليون فتاة تتمنى ان اتزوجها.
رد عمر بضيق لتقهقه لونا بتهكم وتتشدق:
– مليون فتاة! لا ارى اي فتاة تنظر اليك.. غبي ويتغابى!
– وكأنكِ اجمل؟ لا اريد ان اهينك واخبرك من تشبهين بهذا الشكل الملون.
هدر عمر لتضحك لونا وترد بثقة:
– سأتزوج قريبًا وبهذا الشكل.. وسوف ترى.
– متخلفة.
تمتم لتصرخ بصوتٍ عالٍ:
– مجنون.. احمق.
– لونا اصمتي.. فضحتينا.
هتف عمر بغضب لتبتسم لونا باحراج وتهمس:
– سأغادر الى عملي.. وداعًا.
ثم اضافت قبل ان تستدير:
– سأزورك اليوم لأصدع لك رأسك عموري.
****************
لا يفهم لما لم ترد على اتصالاته.. يكاد ان يجن حرفيًا.. لا يعقل ان تتجاهله وهو الذي اتى لأجلها فقط! يريد ان يعرف اين تقطن.. ولكنه لا يجيد التكلم بالعربية ليسأل عنها..
ارسل لها رسالة اخيرة تشي عن مدى غضبه لتقرأها مها بصعوبة لأنها جالسة بجانب والدتها التي تتطلع اليها كل دقيقة..
“مها اذا لم تردي على اتصالاتي او رسائلي عليكِ ان تعرفي ان كل ما بيننا انتهى.. حتى الصداقة!”
ارتبكت مها ولم تقدر الا ان ترسل كلمة واحدة، متأكدة انه سيفهم قصدها منها..
“أُمي!!”
عرف الى ما تشير اليه الا انه لم يبالي فقد عزم امره وقرّر ان يتفاهم معها ويراها شاءت ام ابت..
“اريد ان اراكِ اليوم.. اليوم يا مها.. واذا لا فأنا سأدخل الى منزلك.. سأتعقب هاتفك وانتِ تعرفين كيف انني بارع بهذه الأمور”
“ستراني اليوم”
ردت عليه ووضعت الهاتف جانبًا.. يجب ان يتفاهما وبعد ذلك ستخبر جدها ليقف بجانبها – كما تتمنى..
لا تعرف اي كذبة ستنسج لتخرج وتراه كما وعدته.. المشكلة ان علاقتها ببنات العائلة ليست وطيدة.. فكرت تأخذ قمر اخت ريس معها، ولكنها ذات لسان ثرثار وستفضحها.. ثم فكرت بصابرينا ولكن تلك الفتاة واجمة الملامح دائمًا.. فكيف ستمنحها سرّها؟ اما البقية فهي لم تحاول الاختلاط بهن اساسًا كجهاد التي بالكاد تراها وبنات خالها تيم..
فكرت فجأة بقدر، تلك الفتاة الخجول.. هذه هي من ستكتم سرها فقط.. هي ليست قريبتها فعلًا ولكن يوجد قرابة بعيدة بينهما.. ستأخذ رقمها من قمر..
نهضت ثم اقتربت من قمر الجالسة مع شقيقتها وقالت:
– قمر.. هل لديك رقم قدر؟
– اجل.. لماذا؟
سألتها قمر لترد بابتسامة متوترة:
– اريد ان اتحدث معها حول موضوع ما.
اومأت قمر لها:
– سأرسله لكِ حالًا.
عادت مها الى مكانها ثم ارسلت رسالة الى قدر..
“السلام عليكم.. انا مها.. هل يمكن ان نتقابل؟”
لم تتأخر قدر كثيرًا بالرد عليها..
“وعليكم السلام.. بالتأكيد حبيبتي”
ابتسمت مها ثم مالت على والدتها، هامسة:
– امي.. سأخرج مع قدر قريبة جدتي عدن.
همهمت حياة ثم وافقت على مضض..
بعد ساعة..
نزلت مها من سيارة خالها تيم بجانب الجامعة لتلتقي بقدر.. انتبهت لها وافقة برفقة شابًا لتدنو منها بتنهيدة..
هتفت بأسمها لتلتفت اليها قدر وتضمها بترحيب:
– اهلًا وسهلًا حبيبتي.
ثم تطلعت الى علي وقالت:
– اعرّفكِ على زميلي علي.. وعلي اعرّفكَ على مها.
ابتسمت مها له بفتور ثم غمغمت:
– هل نغادر؟
– بالتأكيد.. تعالي سنغادر بسيارتي.
همست قدر لتسألها مها بتفاجؤ:
– هل تملكين رخصة قيادة؟
– اجل.. ولكنني لا اقود كثيرًا لان سند يخاف عليّ من حوادث الطرق.
اجابت قدر بابتسامة ثم ودعت علي الذي غمز لها بابتسامة ذات مغزى لتزفر وتغادر..
في الطريق.. كان يبدو على مها التردد كثيرًا فهمست قدر بابتسامة تطمئنها:
– لا تقلقي مها.. واخبريني بوضوح ما خطبك.
– في الواقع.. انا احب رجلًا المانيًا.
هتفت بحزن ثم استأنفت:
– ولكنه أسلم.. وهو هنا.
– ماذا يفعل هنا؟
سألتها قدر بهدوء لترد باختناق:
– يريد ان يتزوجني.. هو يعشقني وسيفعل اي شيء لأجلي.. انا اعرف ان عائلتي لن توافق ابدًا.. ولكنني احبه بجنون!
احسّت قدر بالشفقة اليها.. فهناك مثلها من يعاني بالعشق وان اختلفت الأسباب.. ففي النهاية الوجع واحد! وعلى ما يبدو ان مها لا تثق بأي شخص لهذا فضّلت ان تكلّمها هي..
– هل تودين ان تقابليه؟
تساءلت قدر لتتطلع اليها مها سريعًا وترد بخجل:
– اجل.. منذ فترة وهو في فلسطين ولكنني لم اراه.
– اين يمكث الان؟
– في فندق.. نسيت اسمه.. ولكنني أحبذ ان اراه بمكان مفتوح وبذات الوقت غير عام.
اتصلت مها بهيرمان واخبرته انها سترسل له موقعها حينما تصل.. كانت متشوقة ومتوجسة لتلك اللحظة التي ستراه بها.. تحنُّ الى صوته الدافئ.. الى همساته الحانية.. الى كل ما يبذر من هذا الرجل المغرمة به حتى النخاع..
****************
تطلعت جهاد الى سند بضيق شديد.. كيف لا يبرّر لها وقوفه مع تلك المرأة التي تبدو معجبة به اشد اعجاب؟ ادارت وجهها وركّزت نظراتها على الطريق.. غصّة قاسية استحكمت حلقها لتهدر بغضب:
– اريد ان انزل من السيارة.
لم يبالي سند لما قالته بل استرسل بقيادته بكل سلاسة وكأنه لم يسمعها.. صمته يغيظها وسيجعلها تتصرف بتهور..
احتقن وجهها وضاق صدرها بسبب غيرتها وحنقها فصرّخت مرة اخرى:
– سند.. اوقف السيارة حالًا.
منذ متى يكون سند باردًا بهذه الطريقة؟ فكرت جهاد بانفعال حينما رفع صوت المسجل ببرود شديد..
سالت دمعتها وهي تحسّ بالعجز والذل.. لماذا يعاملها بهذا الأسلوب؟
كادت ان تفتح باب السيارة الا انه اوقف السيارة بجانب الطريق بحدة مباغتة لتشهق برعب وهي تضع يدها امام رأسها لتحميه من الاصطدام..
– لماذا تعاملني بهذا الأسلوب؟
سألته جهاد بحدة فيبتسم ويرد بهدوء مخيف:
– ماذا فعلتُ يا جوجو؟!
ازدرمت جهاد ريقها بتوتر وخوف.. لقد عرفت الان سبب تصرفاته الغريبة.. لا بد انه عرف بزيارة حمزة لها في المستشفى او شقيقها سيف اخبره بما فعله..
لم يمهلها سند وقتًا للتفكير ويده تحلّ حزامها بخشونة قبل ان تستولي قبضتيه على ذراعيها بقوة ويسألها بقهر:
– جهاد من انا؟ ماذا اكون لك؟ اخبريني.
حاولت ان تحرّر نفسها منه دون جدى.. كان غاضبًا حانقًا.. كل عرق في جسده يحثه على ضربها ببربرية..
حدقتيها الواسعتين الخائفتين لا تهدّئه البتّة.. مقاومتها الواهية ليفلت ذراعيها لا تزيده الا عنادًا وغضبًا..
لم تعطيه الجواب الذي ينتظره ليصرخ بأسمها مرة اخرى فتنتفض بين ذراعيه وتصيح:
– هل جننتَ يا سند؟! اتركني حالًا.
– من انا بالنسبة لكِ؟
كرّر سؤاله بخشونة زعزعت قلبها لترشقه بلظى نظراتها الهائجة وتهتف بعصبية:
– زوجي.. من انت يعني؟!
تدريجيًا خفّف من وطأة ضغطه على ذراعيها بينما يغمغم بتهكم:
– اي زوج هذا الذي لا يعرف عن زوجته شيئًا؟ اي زوج هذا الذي تخفي زوجته عنه العديد من الامور؟
استرّطت دموعها بصعوبة.. لا يجب ان تبكي بل يجب عليها ان توضح له ما حدث بالحرف الواحد وتبرّر موقفها وخوفها عليه..
همّت ان تفعل.. ان تبرّر له بأبجدية الرجاء الا انه رفع كفّه وقال بجمود:
– لن اسمعك.. اكثر صفتين اكرههما هما: الكذب والنفاق.. وانتِ تنافقين عليّ يا جهاد.. انا لم اعد اثق بكِ!
همست اسمه بذهول.. بألم.. بقهر.. ألم يعد يثق بها حقًا؟! هل هذا يعني انتهاء علاقتهما؟!
ترقرقت دموعها في مقلتيها السوداوين واختنقت بعلقم كلماته وهي تفكر انه سيتركها.. سيتركها بسبب حمزة! شتمت حمزة بداخلها.. رباه كم تكرهه!
مدّت يدها المرتعشة لتضعها على يده فيبعدها بخشونة ويردف:
– سأوصلك الى المنزل.
لم تأبه لما قاله بل صرّخت ببكاء وهي تتذكر المرأة التي كان يقف معها:
– انت تحب غيري، اليس كذلك؟ ولهذا السبب تخلق الأعذار لتتركني!
رمقها سند بنظرة ساخرة قاسية كحجر الصوان فأغمضت عينيها ودموعها تفيض على خدّيها.. لا تريده ان يتركها.. ليس بعد ان اضحت متيّمة به.. ليس بعد ان صار زوجها.. احسّت بروحها تنازع.. وجع رهيب يفتك بفؤادها..
همست جهاد وهي تهز رأسها ببكاء:
– لا تفعل.. لا تفعل يا سند! انا احبك وانت تحبني.. فلا تفعل!
– انا من أحبكِ فقط.. انا الأحمق لا انتِ!
هتف بآسى لتهز رأسها برفض قاطع:
– لا.. اقسم انني احبك.
ثم تطلعت اليه ومدّت يدها لتضعها على وجنته، مستطردة:
– انتَ غاضب.. وعندما تكون غاضبًا تتهور.. لذلك سأحاول ان اتجاهل كل ما قلته.
انزل يدها بينما يغمغم بهدوء:
– لستُ غاضبًا.. لن تعرفي شعوري وانا لن اوضح لك اكثر.. اخفاءك عني اكثر من مرة ما يفعله حمزة لا يدّل الا على شيء واحد…
– هو انني اخاف عليك.
اكملت بدلًا عنه ثم هتفت برجاء:
– سند حبيبي اعدك انني سأوضّح لك كل ما حدث.. لا اريد ان اخسرك.. ارجوك!
– لا يوجد ما يُقال!
علّق لتسأله:
– من اخبرك.. من الذي بالغ بالكذب؟
– مديرك وممرضة تعمل معكِ.
ردّ بسخرية تواري آلمه منها فقالت بانفعال باكٍ:
– لا تصدّقهما سند.. لا تكسر ظهري وتُحطِّم لي قلبي.. ارجوك اسمعني! يجب ان تعرف انني كنت خائفة عليك.
– لا اريد خوفك عليّ.. اللعنة على هذا الخوف الذي يجعلني كالأحمق! اللعنة عليّ وعلى سذاجتي.
هدر باحتدام وهو يضرب المقود بيده فتبتعد جهاد عنه بخوف وتهمس:
– انا آسفة.. اعتذر منك.
****************
اخيرًا اتت تلك اللحظة التي ستحقق بها حلمها.. ترّحب بعائلتها واصدقاءها الذين قدموا لأجلها لحضور معرض الكتاب بابتسامة صادقة.. والدتها تقف بجانبها وكل خلية في جسدها تحكي مدى فخرها بطفلتها.. لا زال كتابها ينال على الاعجابات المستمرة.. ونسبة كبيرة من الحاضرين يودون شراء كتابها..
– دمتِ فخرنا.
همس ادهم وهو يلثم جبينها لتبتسم قدر وتغمغم:
– ادامك الله لنا حبيبي.
ثم مالت عليه وسألته بخفوت:
– الن تأتي جهاد؟
– لا اعرف.. شقيقك كالأخرس لا يتكلم.. واذا احد سأله عن السبب الذي آل بهما الى هذا الحال يرد ببرود.
هتف ادهم بضيق لتتنهد قدر بحزن وتنظر الى شقيقها الذي يرّحب بالعائلة.. دومًا يعاونها ويدعمها.. مهما كانت ظروفه يقف بجانبها ويمدّ لها يد الدعم والاحتواء..
ابتسمت قدر حينما اقترب منها خالها وقال:
– تعالي رحبّي بغيث وناي.
اومأت ثم سارت بجانبه لتتفاجأ بوجود ريس.. منذ فترة طويلة لم تراه.. ارغمت عينيها على عدم النظر اليه.. يجب ان تتجاهله..
سلّمت على والديه وشقيقته قمر ثم آتى دوره.. حاولت ان تخفي توترها وتتصرف بهدوء بينما تسمعه يهتف:
– مبارك لكِ كتابك الاول.
– لم اتوقع حضورك.
غمغمت قدر بهدوء وهي تمد يدها لتصافح يد ريس الممدودة فيبتسم ريس لها ويقول بسخرية:
– كيف لا احضر المعرض وفيه كتابك؟! لقد احضرت المال لأشتريه واقرأ ما كتبت يداك.
– كنتُ سأعطيك اياه مجانًا.. لستَ بحاجة الى صرف اموالك لشراء كتابي الاول.
هتفت قدر بتهكم ليرد بذات نبرتها:
– لا احب ان اخذ الاغراض دون ان ادفع ثمنها.. خاصةً حينما يكون منك!
– لماذا؟
سألته قدر مبتسمة ليهز كتفيه بلا مبالاة، رادفًا:
– ربما لأنك لا تستطيعين ان تمنحي دون مقابل.. فأنتِ هي من تأخذ دومًا دون مقابل.. اليس كذلك؟
– بالطبع لا.. اذا كنتَ تقصد فستان عقد القرآن الذي اشتريته لي فأنا اعدك ان اعوّضك ثمنه واشتري لك بدلة حفل خطوبتك.. ولكن عليك ان تجد العروس اولًا واترك ما تبقى عليّ.
همست قدر بصلابة وقساوة.. ليس عليه وانما على قلبها المكلوم ذو النبضات الشجية.. فابتسم ريس ثم مال على اذنها وغمغم بهمس ناعم:
– العروس موجودة.. فقط اتركي الجامعة وابدأي العمل بشهادتك السابقة لتقدري على شراء بدلة خطوبتي.. فالمال يجب ان يكون مالك انتِ فقط.. من تعبك انتِ يا قدر!
– من عيوني.. ولكن لماذا اترك الجامعة؟
سألته بحيرة غير واضحة فيجيبها بجدية:
– لأنني تركت الجامعة!
رفعت قدر حاجبيها وتشدّقت:
– وهل تعتقد انني سأترك الجامعة لأنك تخرجتَ منها فقط؟ انا لن اترك الجامعة قبل ان اجد سببًا مقنعًا يجعلني اتركها.. واذا كنتَ تظن انني دخلت الجامعة لأجلك فأنت مخطئ سيد ريس.
ثم تطلعت حولها وقال بأسف مصطنع:
– اعتذر منك ولكن يجب ان اهتم بضيوفي.. وداعًا يا عريس المستقبل.
تركته قدر وسارت تجاه سند.. لم تكن هكذا! رباه ما الذي يفعله العشق بها؟! لم تعد تعرف نفسها.. كل مرة تطالع نفسها بالمرآة تحسُّ بقوتها تضعفها..
زفرت انفاسًا متحشرجة بوجعها منه قبل ان تقف قبالة سند وتغمغم بابتسامة عذبة:
– إتصل بجهاد.. لا يعقل ان لا تحضر هذا اليوم المميز لي.
– ستحضره.. انا واثق انها ستأتي.
اجابها بهدوء لتتأفف قدر وتهتف:
– لم تعد تعجبني يا سند.. اراكَ تتغير!
– كفّي عن التفكير بي ايتها الكاتبة الجميلة وركّزي بضيوفك.. كتابك يجذب الجميع وينال على اعجابهم.
غمغم سند بتأنيب لتومئ بعدم رضى قبل ان تنتقل من مكانها الى علي الذي يمسك كتابها ويقرأه بتركيز.. ضحكت قدر وهي تجذب الكتاب من يده بنعومة، قائلة:
– اذا بقيت تقرأ الكتاب لن تشتريه.. إقرأه لاحقًا.
تبرّم علي وغمغم:
– سأشتري ثلاثة منه.
– لماذا؟
سألته بتعجب فيقهقه ويرد:
– لأضع واحدًا في الجامعة وواحدًا في المنزل اما الآخر فهو سيبقى معي.. وهكذا سترى نسبة كبيرة كتابك وسيشترونه.
ضحكت قدر بمرح:
– تفكير ليس منطقيًا.
– بل هو كذلك.. كتابك يجب ان يحقق نجاحًا ساحقًا.
هتف بشقاوة لتبتسم بخجل وشكر في آنٍ واحدٍ.. علي صار صديقها فعلًا.. يدعمها بالكثير من الأمور.. تتمنى من كل قلبها ان ينساها ويقع في حب فتاة غيرها تستحقه..
انتبهت لريس الذي يقترب منهما فاعتذرت من علي وذهبت لتقف مع مها.. لا تود ان تصغي اليه ولا الى كلامه الحاد.. اليوم يوم هام لها ولا تريد ان تضع بصمة سيئة لريس به..
****************
ابتسمت بحب وهي تتأمله بافتتان.. بهيام.. لقد اسمرّ كثيرًا منذ ان جاء الى فلسطين وكما يبدو وسيمًا ساحرًا بهذه البشرة السمراء! في الفترة الاخيرة صارت تلتقي به سرًّا بمعاونة قدر..
تطلعت بامتنان الى قدر التي تراقب لهما الوضع.. تحرسهما كملاك من الحكايات والأساطير.. علاقتها بقدر توطدت وعرفت عنها الكثير هي الأخرى.. اعترفت لها قدر بحبها لريس وانشطر فؤادها لآجلها.. لا تدري وجع من اصعب.. وجعها ام وجع قدر؟!
اعادت نظرها الى هيرمان الذي امسك يدها بحنو.. ابتسمت له فرفع يدها وقبلها بحب.. ودّت ان تسحبها ولكنه ضغط عليها اكثر وهمس لها بتعب عاشق ظمآن يقتله البعد والشوق:
– الى متى؟ الى متى حبيبتي؟
تنهدت مها ثم مطت شفتيها بعجز.. لم تتجرأ وتخبر جدها.. خائفة بجنون.. تخشى من المواجهة.. وكما ان قدر نصحتها ان تؤجل حديثها مع جدها قليلًا.. لا تدري بأي بئر عميق القاها قلبها!..
همست مها بنبرة تُلهم ببؤسها:
– ليس الآن.. انتظر قليلًا بعد.
– اريدك يا مها.. اريد ان يعرف الجميع بعلاقتنا لا ان نتقابل هكذا سرًّا.
هدر بقهر وهو يجذبها الى صدره بخشونة لتتنشق مها رائحته الرجولية وتغمغم بغزل:
– اعشق عطرك هيرمان.
– مها!
زجرها هيرمان بحنق.. هو بماذا وهي بماذا؟.. ضحكت مها ثم رفعت رأسها لتتوسمه بحدقتين وامضتين تتغزل به دون كلمات فتنهد هيرمان وغمغم بضيق:
– لا تنظري اليّ بهذه الطريقة.. يكفيني ما بي بسبب جمالك وحلاوة روحك.
هزّت مها رأسها بشقاوة ليتبرطم هيرمان، متذمرًا:
– لا فائدة منكِ ايتها الأميرة المدلّلة.
رفرفت مها رموشها ببراءة ثم سألته وهي تحرّر نفسها من قيد حضنه الذي تتمنى البقاء به أسيرة طيلة عمرها:
– هيرمان هل ستقدر على تحمل كل المشاكل التي ستلحق بك بعد ان تعرف عائلتي؟
رسّخ هيرمان حدقتيه بعينيها المتوجستين ثم اجابها بصدق:
– مها سأتحمل الموت لآجلك.. انا احبك.. احبك بجنون!
– ماذا ستفعل اذا عائلتك لم توافق ايضًا؟
سألت مرة اخرى ودموعها تهرع لتتكدّس في مآقيها فيزمجر هيرمان بغضب:
– لا يهمني.. هذه حياتي وليست حياتهم.. وكفّي يا مها عن هذا التفكير السلبي.. سأتزوجك برضى الجميع او دونه!.. لا يهمني اي شيء سواك.. إفهمي يا فتاة!
وكأنه قال كلماته ليجعلها تبكي! عجز عن فهمها وهو يراها تبكي بصوتٍ عال جعل قدر تنظر اليهما بكدر فيتقطّع قلبها على حال مها..
حاول هيرمان ان يهدئ مها الا انها كانت تبكي بقوة وكأنها تخرج كل مخاوفها وتوترها الذي يلازمها منذ فترة طويلة بهذه اللحظة..
دنت قدر منهما باحراج ثم غمغمت بانجليزية سليمة:
– دعني اعتني بها.. انا سأهدّئها.
اومأ هيرمان لها لتُجلِس قدر مها على صخرة وتهمس لها:
– مها حبيبتي.. انظري اليّ.
تطلعت مها اليها فكوّرت وجنتيها بيديها وسألتها بنعومة:
– ما الذي حدث؟ كنتِ قبل قليل سعيدة.. ما الذي جعلك تبكين بهذه الطريقة؟
– انا خائفة.. قلبي يؤلمني.. اشعر ان شيءٌ سيئًا سيحدث.. انا خائفة يا قدر.
ردّت مها لتضمها قدر بينما ينتقل خوفها اليها كالعدوى فتقول:
– تعوّذي من الشيطان.. لا تكوني سلبية هكذا.. اذا كان هيرمان نصيبك فلن تقدر اي قوة في العالم على ابعادكما عن بعض.
هزت مها رأسها وهي تجفف دموعها لتغمغم قدر وهي تقبّل خدّها بحب:
– اهدأي فقط وعليك ان تعرفي انني سأدعمك دائمًا ايتها الأميرة العاشقة كما يقول حبيبك.
ضحكت مها رغمًا عنها ليهتف هيرمان بغيظ بلغته الالمانية:
– هذه الفتاة كالسحر جعلتك تسكتين اميرة مها.
ضحكت مها اكثر لتسألها قدر بفضول:
– ماذا قال؟
– يغار منكِ فقط!
همست مها وهي تضحك فتبتسم قدر وتهتف:
– يحقّ له ان يغار عليكِ من الجميع.
ثم اضافت وهي تتطلع الى ساعة يدها:
– هيا يجب ان نغادر حتى لا تقلق والدتك ووالدتي.
اومأت مها لتخبر هيرمان بما قالته قدر.. صعدوا جميعًا الى سيارة قدر الصغيرة.. جلست مها بجانب قدر بينما هيرمان في الخلف..
كانت مها مرتبكة طوال الطريقة.. خائفة ان يراهما احد ما.. دومًا تكون متوترة حينما تلتقي بهيرمان ولكن هذه المرة تحسّ نفسها متوترة اكثر..
لم تصدّق انهم اخيرًا وصلوا الى الفندق الذي يقيم به هيرمان.. نزل هيرمان من السيارة لتنزل مها ايضًا.. ولكنها سرعان ما عادت الى الداخل وهي ترى خالها تيم وزوجته حلم..
ارتعشت مها وهي تهتف لقدر برعب:
– خالي تيم وزوجته هنا.. ماذا افعل يا ربي؟
– اخبري هيرمان ان يدخل بسرعة.
قالت قدر بخوف هي الأخرى لتفعل مها ما قالته فيعاندها هيرمان:
– لن ادخل.. دعيه يعرف.
– هيرمان ارجوك لا تفضحني!
هدرت مها بذعر ليتأفف هيرمان ويهز رأسه على مضض.. القت مها نظرة على تيم فتجده يقترب منهم فدفعت هيرمان بقوة ثم اغلقت الباب وهمست لقدر بذعر:
– لنغادر ارجوكِ! كنت اشعر.. كنت اشعر يا الله…
****************
لقد اعطت موافقتها لوالدتها.. لا تدري اذا كان قرارها صائبًا ام لا ولكن الاهم انها فعلت ما فعلت لتقسو على قلبها، عسى ان يقسو هو الاخر فيحذف الأسم المكتوب عليه ويطلق جناحيها فتطير دون ان تحسّ بتلك الكماشة التي تخنق قلبها وتحرمه راحته..
كانوا متجمهرين في منزل خالها أوس ولا ينقص الا شخصين: شقيقها الذي سافر الى تركيا بسبب العمل بدلًا من والدها، وريس الذي لم تعد تراه الا نادرًا منذ ان بدأ يعمل..
امسكت قدر هاتفها لترسل لمها رسالة تخبرها بقرارها فتصدمها الاخرى برسالتها التي لم تنتبه لها سوى الان..
“انتهى كل شيء يا قدر.. لقد عرفوا!”
قرأتها قدر بعدم استيعاب.. حاولت ان تتصل بها ولكن هاتف مها كان مغلقًا.. مرّرت قدر يدها على شعرها وهي تحسّ نفسها قابعة فوق جمر يلهو بجسدها..
سمعت صوت ريس الذي دلف والقى سلامه عليهم جميعًا فتجاهلته وهي تحاول ان تتصل بمها مرة اخرى واخرى.. ولكن النتيجة كانت كما هي!
كانوا يتكلمون ولكن عقلها كان بعيدًا عنهم.. عقلها مع تلك البعيدة التي أمست وكأنها شقيقتها.. لم تصغي الى ايّ كلمة تُقال حولها..
نفضت رأسها لتحاول ان ترّكز بسؤال قمر:
– لماذا وجهك اصفر؟
– لا ادري.
ردّت قدر وهي تدعك جبينها فتغمغم قمر:
– اصعدي ونامي في غرفة جدي.
– لا اريد.. سأجلس معكم.
همست قدر قبل ان تتطلع الى ريس فتجده يتكلم مع والدها.. آه لو يدري.. فكرّت بآسى ثم تنهدت بترحٍ يتلقم من جزيئات قلبها.. يتمزق نيّاط فؤادها كلما تراه.. متى ستتحرّر من هذه اللعنة التي القاها عليها؟
عقدت حاجبيها حينما قال فجأة ودوت خفقاتها صاخبة تطرق بعنف:
– أمي.. باركِ لي.. اريد ان اخطب!
اخذ صدرها يعلو ويهبط وكأنها ستختنق.. ستموت.. نحرها عشقها له بكل كفاءة.. سمعت والدتها تسأله من العروس فيحمرّ وجهها بينما يلقي نظرة عليها ثم يرد بابتسامة:
– رغد.. تعمل معي!
ابتسمت سيلين بفرح وسط صمت الجميع وانتزاع روحها هي ثم قالت:
– الف مبروك حبيبي.. اخيرًا سنزوّجك ونزوّج قدر!
– هل وافقت قدر على العريس؟
تساءل أوس بذهول لترد قدر بدلًا عن والدتها بصوت جاهدت على اخراجه ثابتًا:
– اجل خالي.. الشاب محترم وانا معجبة به.
– سنقيم حفل خطوبتك انتِ وريس معًا.
غمغمت سيلين لتكتفي قدر بهزة بسيطة من رأسها.. قدرها حزين وعلى قلبها ان يتحمل هذا العذاب.. لعلّها بيومٍ من الايام تنسى ريس ويصبح ذكرى منسية..
اخفضت عينيها ودموعها تسيل رغمًا عنها.. امسكت هاتفها وحاولت ان تبدو مشغولة به.. ولكنها لم تكن.. بل كانت تحاول ان تلجم صراخ حنجرتها التي تطالبها بالصراخ والنحيب.. لقد ذبل الحب ومات الربيع وأُغلقت دفاتر العشق ليُفتح دفترًا جديدًا أسمه “لم اعشقك الا لأُقتَل.. انتهيتُ”..
————————-
يتبع..