رواية غزلًا يوقده الرجال
سألتكَ حُبًّا، مذاقه
ألذ من الشهد..
سألتك همسةً ناعمة
كريشة طير تمرُّ
على الخدّ..
سألتكَ حبيبي، ولا زلتَ ذاك
المغوار المختال.. على الوعد..
تغرس كلماتك كالسيف
بقلبي.. بدل الورد..
سألتكَ أتسول عشقًا..
الا تحن وتشفق؟..
انتَ مناي وانتَ الوعد..———————–
دموعها متيبسة على خّديها كحجارةٍ قديمة صُنِعت منذ الاف السنوات.. وجهها احمر دموي وعلامات لأصابع غليظة مختومة عليه.. شعرها مبعثر كحال ثيابها.. كل خلية بجسدها تناجي الراحة.. تحترق.. تشتعل.. نار لم تحسّ بحرارتها ابدًا من قبل تكوي روحها.. وجدانها..
كانت ملقية بإهمال على إحدى الارائك في منزل جدّها قيس بينما هم يرغون ويزبدون.. لم تفهم ايّ كلمة مما يُقال.. كلّها تختنق.. كلّها تموت..
هاتفها بين يد والدها الذي يتفقد الرسائل والصور بعينين غاضبتين كالجمر ووالدتها بجانبه تقرأ الرسائل بصدمة وارتياع.. لا تدري أتقف بصف ابنتها ام تضربها هي الأخرى حتى يعود عقلها الى رأسها!
انكمشت على نفسها بخوف لا ارادي حينما اقترب منها عمها وهو يصرّخ بوجه والدها:
– كيف كنتَ غافلًا عن تصرفات ابنتك يا أمير؟ كيف سمحتَ لها بالخروج دون ان تتأكد اين تذهب؟ ولله حلال قتلها!
لم تنبس ببنت شفة حالما رفعها من يدها بعنف وهوت يده مرة اخرى على خدّها بقوة.. لم تبكي بل كانت ترتعش فقط..
دفعها عمها مرة اخرى على الأريكة بحدة لتضع يدها على فمها.. كان هو من امسكها وهي تتحدث مع هيرمان على الهاتف.. لا تدري كيف نست ان عمها يجيد اللغة الالمانية..
كانت تقرّ بعشقها لهيرمان وتتغزل به.. تتفق معه ان يلتقيا اليوم كما كل مرة.. تتحدث وتتحدث وهو ينصت بهدوء.. وقبل ان تغلق الهاتف كان هاتفها يُسرَق من يدها بخشونة وصفعة قاسية تُطبع على وجنتها..
عمها مروان ذو عقلية شرقية بحتة.. كان هائجًا اكثر من والدها وحتى جدها الصامت.. ودّت ان تدافع عن نفسها.. ان تحمي جسدها ووجهها من وكر جنونهم ولكنها لم تقدر.. كيف تقاومهم؟! عائلة والدها عرفت وماذا عن عائلة والدتها؟!
ابتلعت ريقها والدموع تهفو لتتكدّس في مقلتيها حينما وقف والدها قبالتها وهاتفها لا يزال بيده.. ثم دون سابق انذار كانت تصرخ موجوعة ووالدها يرمي الهاتف عليها ليستقر اخيرًا على الأريكة..
شهقت مها برعبٍ وهي تسمع امير يسألها:
– ستلتقين به؟ في الفندق الذي يقيم به هذه المرة؟!
هزت رأسها باكية وهمست بصعوبة:
– هو يريد ان يتزوجني.. لقد أسلمَ لأجلي.. ارجوك ابي!
– اخرسي! الله اعلم ما الذي كنتِ تفعلينه في المانيا!
صرّخ مروان وهو يصفعها بقوة لتصيح بانفعال باكٍ:
– انا اشرف منكم.. لم يمسني اي شخص!
هذه المرة كانت الصفعة التي نزلت على خدها من امير.. الى متى سيضربونها؟ وجهها تورّم من الصفعات!..
زمجر أمير بعصبية:
– صوتك لا يرتفع على عمك مرة اخرى.. اعتذري منه قبل ان اقطع لسانك.
– لماذا لا تريدون ان تفهموا؟ لم يحدث اي شيء بيني وبين هيرمان!
صاحت بقهر ليهدر امير باحتدام:
– مها اعتذري من عمك والا لن يخلّصك من يدي احد!
– أعتذر عمي.
همست مجبرة ثم قالت برجاء:
– ابي اقسم لك انه يريد ان يتزوجني.. سبب وجوده في فلسطين لأنه يريد الزواج بي.. منذ فترة يريد الحديث معك ليطلب يدي للزواج منكم.
ضرب مروان كفًّا بكف وهو يهتف:
– انظروا الى جنون هذه البنت! تريد الزواج برجل ألماني!
– هو انسان ومسلم ايضًا.
ردّت حياة بقوة ليصيح بها:
– أسلم لأجلك فاسلامه باطل.
ثم تطلع الى امير وقال بحدة:
– يجب ان تُزوجها يا امير وتجعلها تنسى هذه الفكرة نهائيًا.
– لن أتزوج غيره يا عمي.. وافعل ما شئتَ!
هدرت بعنفوان لتقترب منهم حياة وتوقفها قائلة:
– انا سأتكلم معها.
– ابتعدي يا حياة ولا تدعيني اخرج كل جنوني عليك لا على ابنتك.
صرخ امير وهو يمسك مها من مؤخرة رأسها فتتذكر حياة كيف تعرضت قبل سنوات طويلة لموقف لا يختلف عن موقف ابنتها بسبب غبائها..
اغمضت عينيها بألم وهي تسمع تأوه ابنتها ونحيبها.. على الرغم من كونها تقسو على ابنتها بعض الاحيان الا انها لا تقدر ان تراها تتألم.. حاولت ان تمنعه من اخذها خارج المنزل ولكنه صاح بغضب:
– حياة لا تدعيني اتهور عليكِ امام الجميع.
لم يقدر قيس على السكوت اكثر فسأل امير بغضب:
– الى اين ستأخذ البنت يا امير؟
– الى جهنم الحمراء ابي.
ردّ وهو يجذبها خلفه فيسرع قيس ليقف بوجهه:
– قسمًا بالله البنت لن تخرج من منزلي اليوم.. اتركها.
اغتاظ مروان بشدة فقال:
– ابي لا تتدخل ودعه يعيد تربية ابنته التي نسيت من هي!
– انت اخرس!
زجره قيس ثم اقترب من امير ليسحب مها التي تبكي ويضعها وراء ظهره:
– انا سأتفاهم مع البنت.. التعامل بالعنف لن يأتي بأي نتيجة.. ابنتك لا زالت طاهرة يا امير.
– ومن يعرف اذا كانت كذلك ام لا؟ الله يستر ما الذي تخفيه!
هتف مروان لتغمض مها عينيها بقهر بينما تسمع جدتها رؤى تؤنبه:
– اتقِ الله يا مروان.. انت تتكلم عن الشرف!
تأفف مروان بغضبٍ لترمقه مها بنظرات كارهة حاقدة ومقهورة.. تطلعت الى والدتها فوجدتها تبكي لتطمس ابتسامة ساخرة.. لو انها لم تفعل ما فعلته بحقها لكانت هي أول من يعلم عن علاقتها بهيرمان.. حتى لو العلاقة خاطئة كانت ستدعها تفهمها لا ان تؤول الى ما هي عليه الان.. مغتاظة منهم جميعًا وحاقدة على الرغم من خوفها..
بعد دقائق زفر أمير بسبب عناد والده وقال:
– اتصلي به ليأتي.
– لن أفعل.. لستُ مجنونة لأدعه يأتي الى الموت بقدميه.
ردّت بتحدي ليصرّخ أمير بنبرة افزعتها:
– مها اتصلي به ولا تعاندي.
– لن افعل.. حسابكم معي انا وليس معه.
همست بضيق ليقبل أمير عليها بوجه مكفهر فتلتصق بسترة جدها من الخلف.. تنهد قيس وقال بتحذير:
– قسمًا بربِ الكون ما دامت مها في منزلي لن تمسّها يد الا بالخير.
استمدت مها القوة من جدها لتدمدم باختناق:
– جدي الم يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم “لا فرق بين عربي ولا أعجمي الا بالتقوى”؟ هيرمان أسلَم وولله هو من يشجعني على الالتزام بالحجاب واقامة الصلاة.. هيرمان يريد ان يكون مسلمًا بحق.. ربما السبب الذي دفعه ليصبح مسلمًا هو انا ولكنه مسلم مثلنا.
لم يرد قيس عليها بل هتف:
– رؤى وحياة اصعدا بمها الى الاعلى.
طالع قيس إبنيه بجمود بعد ان صعدن النساء ثم قال بتهنيدة:
– لا تتصرفا بتهورٍ فتحثا البنت على التصرف دون تفكير.. تصرفكما هذا لن يقدم الأمور بل سيؤخرها ويعقدها.. يجب ان تريا الشاب وبعد ذلك تقرّران ولكن الأهم ان تحافظا على مها.. تفهمان قصدي.
– ان شاء الله ابي.
غمغم أمير ليتأفف مروان بغضب ويخرج من المنزل، صافعًا الباب خلفه بغيظ..
******************
منذ فترة طويلة وهو لا ينام كما يجب.. أفكار واسئلة تحوم في رأسه تفتك بهدوء أعصابه.. يا للسخرية حتى إنه لا يعرف منذ متى وهو في تركيا.. ربما طالت الفترة ولكنه لا يأبه.. عليه ان يفكر بعلاقته بجهاد أكثر.. كونها تخفي عنه الكثير من الامور يُوّلد الكثير من الشكوك في عقله..
سمع رنين هاتفه فزفر وجذب هاتفه الموضوع على المنضدة وردّ بابتسامة صادقة بعد ان عرف من المتصل:
– أهلًا بالعروس الصغيرة!
– هل عرفتَ؟
تساءلت قدر بخجل ليضحك سند:
– عرفت وسأعود غدًا لأرى المحظوظ الذي سيخطبك.
ابتسمت قدر بحزن ثم همست:
– هل تتكلم مع جهاد؟
– لا.
اجاب بجمود غلف ملامحه فجأة لتتبرطم قدر بحنق:
– سند اذا بقيتَ هكذا جهاد ستنفصل عنك!
تشدّق سند بسخرية:
– انا أريد ان انفصل عن جهاد! فاطمئني لن تنفصل هي عني.
– سند!
صاحت قدر بصدمة ثم هدرت بغضب:
– هل جننت؟ بعد ان اصبحت زوجتك تريد ان تنفصل عنها! كل العائلة ستجن و.. وجهاد تحبك!
ابتسم سند وهو يخفي انفعاله بصعوبة.. بعد ان يعود سيتواجه مع حمزة.. مزجرة ستُقام بينهما.. دمه يشتعل بنار الغضب والحقد..
هتف سند بهدوء يناقض افكاره:
– قدر علاقة دون ثقة لن تنجح.. افهمي هذه النقطة.
– وما الذي يجعلك لا تثق بجهاد؟
سألته قدر وهي تكاد تبكي.. لا تريد ان ينفصل سند عن جهاد.. الاثنين سيتدمران..
تنهد سند وقال:
– لن أُعكّر لك فرحتك الان.. بعد ان أعود سنرى ما الذي سيحدث.
******************
كانت ناي حانقة بعد ان عادوا من منزل الفتاة التي يريدها ريس.. تزم شفتيها والضيق يكتنف ملامحها.. لم تكن طموحها بفتاة كرغد لابنها ريس.. مع انها ميقنة ان ريس يستحق فتاة مغرورة كرغد ولكنها لم تحبها ابدًا ولن تفعل على ما يبدو..
رشقت ريس الذي لم ينتبه الى نظراتها المتجهمة بانفعال ثم هتفت بغيظ واضح:
– الفتاة لم تعجبني يا ريس.
– ولكنها تعجبني.
غمغم ريس ببرود فتأففت ناي ونظرت الى غيث وسألته بضيق:
– وهل أعجبتك انتَ؟ رغد تبدو مغرورة ووقحة.
تطلع غيث الى زوجته بهدوء ثم قال:
– اذا كان ابنك يريد ان يخطبها فهو حر.. خلال فترة الخطوبة سيعرف اذا كانت تناسبه أم لا.. حاليًا لن أتدخل بقراره وانتِ لا توجعي رأسك بجنون ابنك.
زفر ريس بغيظ ودمدم متشدقًا:
– صحيح أمي لا توجعي رأسك بجنوني.
ثم ضرب ركبتيه بكفيه واستقام واقفًا واستطرد:
– انا سأغادر.
– الى أين؟
سألته ناي بعصبية غير مبررة فيقول بضيق:
– أمي منذ متى تسألينني الى أين سأذهب؟ انا مغادر.. السلام عليكم.
وقبل ان يغادر استوقفه والده بصوته:
– انتظر.
أغمض ريس عينيه بضيق ثم استدار فيجد والده يقترب منه.. تطلع الى والده بجمود فقال غيث:
– انتبه لتصرفاتك جيدًا.. وقراراتك التي تأخذها التزم بها.
لم يفهم كلام والده المبطن وليست لديه القدرة ليخوض الجدالات فاومأ موافقًا ثم غادر، تاركًا والده يفكر به بتعمن وتركيز عميق..
******************
توسعت ابتسامته المتعجرفة وهو يتأمل طريقة سيرها.. لم تعد كحبة بطاطا.. نحفت بطريقة ملحوظة وصارت جذابة أكثر و.. ومثيرة كحبة فراولة طازجة!
آه لو تدري ما الذي فعله ليوفي بوعده لها.. متأكد ان فور معرفتها ستتصل به لتدعه يسمع صوتها الناعم الذي يصرّخ بشراسة..
أطلق قهقهة مستمتعة وهو يراها تصطدم بامرأة عجوز بينما هي شاردة.. عضّ على شفته السفلى كي لا يضحك بصوتٍ عالٍ على ملامح وجهها المذبهلة بسبب صراخ العجوز عليها..
كانت جهاد تعتذر لها بصدمة بسبب صراخها فترد عليها العجوز بانفعال:
– مجنونة.. لا ترين امامك.. كدتِ ان تكسري لي ظهري.. ممرضة غبية.
أحسّ بالشفقة عليها وهو يراها تزم شفتيها حتى لا ترد على العجوز، احترامًا لسنها الكبير.. اومأت لها جهاد ثم غادرت فتتبعها عيناه الى ان اختفت خلف باب احدى غرف المرضى..
عقد حاجبيه فجأة وهو يرى قدر أخت سند في المشفى تتطلع حولها وكأنها تبحث عن شخص ما.. وبالتأكيد لا تبحث الا عن جهاد..
سار حمزة نحوها واصطدم بها بحركة متعمدة وكأنه لم ينتبه لها فتعتذر منه قدر بلباقة ثم تهم ان تسترسل بسيرها فيوقفها بسؤاله:
– ألستِ شقيقة سند؟
تطلعت اليه قدر بحيرة ثم اومأت بهدوء:
– اجل انا شقيقته.. هل تعرفه؟
– سند صديقي!
غمغم بابتسامة مخادعة لتبتسم له قدر:
– تشرّفنا.
– الشرف لي.. وأوصلي سلامي لشقيقك.. أخبريه حمزة يسلّم عليك.
هتف حمزة بمكرٍ لتهمس قدر:
– ان شاء الله سيصل.. عن اذنك الان.
*******************
لم يصدق عمر مكر حمزة.. يتمنى ان يكون أمامه في هذه اللحظة ليخرج روحه من جسده.. الحقير قدّم شكوى ضده بسبب اعتقاله له دون ان يعرف ما هي تهمته.. وقدّم شريط فيديو يحوي المشهد الذي ضربه به واعتقاله قسرًا من الكراج.. حمزة يعرف كيف يلعب كالعقرب تمامًا!
خرج عمر من مكتب مديره غاضبًا مقهورًا.. كاد ان يخسر وظيفته بسبب حمزة الحقير! كل خلية في جسده ثائرة هائجة.. لو ان المدير لا يحبه ويقدر عمله لكان الان مطرودًا من عمله.. بصعوبة اقنع المدير واخبره سبب ما فعله مع حمزة.. لو انه لم يخبره القصة كاملة ويُدخل السبب الذي دفعه لاعتقاله والذي هو شقيقته جهاد لكان حمزة انتصر عليه وتم طرده من العمل..
صعد الى سيارته وضرب المقود بعنف.. لقد تم نقله الى قسمٍ اخر كعقوبة لما فعل وتجنبًا للمشاكل التي قد تلحق الضرر بوظيفته ومكانته.. بالاضافة الى التحذير الطويل الذي القاه المدير عليه..
– اللعنة عليك يا حقير.
صاح عمر باحتدام.. يود ان يشرب من دمه.. اخرج هاتفه وبعصبية شديدة كان يتصل بوالده ليث.. بعد عدة ثوان اتاه رده:
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام.. ابي سأفقد عقلي.. سأفقد عقلي بسبب الحقير حمزة!
جهر عمر بغضبٍ منفعل فسأله ليث بقلق:
– ماذا فعل لك؟
– لقد تم نقلي الى قسم اخر بسببه.. كدت ان أفقد وظيفتي! هل تفهم ماذا يعني كدت ان أفقد وظيفتي!
هدر عمر بعصبية مفرطة ليسأله ليث بحدة:
– اهدأ ودعني أفهم.
زفر عمر وهتف:
– حمزة قدّم شكوى ضدي على ما فعلته معه.
– النذل ابن النذل!
دمدم ليث بذهول غاضبٍ قبل ان يستأتف:
– عُد الى المنزل الان وستخبرني بوضوح ما حدث.
تمتم عمر بموافقته على مضض قبل ان ينهي المكالمة ويسير بسيارته، عائدًا الى منزله..
رنّ هاتفه فجأة فتأفف بعصبية ورد بحدة دون ان ينظر الى الهاتف ليعرف من المتصل:
– نعم؟
وفاه الهمس الناعم المرح ليعرف بسرعة من المتصل:
– عموري؟
– لونا؟ ماذا تريدين مني الان؟
سألها بانفعال لتزم شفتيها بتفاجؤ وتتمتم بغيظ:
– لماذا تصرّخ كالمجانين؟
– لانني مجنون.. ماذا تريدين؟
هدر بعنفوان فصاحت به بضيق:
– لا تصرّخ علي.. انا غبية لاني اتصل بك.. سأغلق ايها الاحمق.
– ماذا تريدين يا لونا؟ هذه المرة الاخيرة التي اسألك بها.. اجيبي باحترام كي لا اتي اليك وأخرج كل غضبي عليك.
هتف عمر وهو يلتقط انفاسه بصعوبة فتخصرت لونا وهي تتطلع الى احد الجنود الذين يعملون معه ثم قالت بغيظ:
– انا انتظرك في المخفر.. احضرت لك طعامًا لتأكل ولكنك لستَ موجودًا وايضًا غاضبًا.
– عودي من حيث أتيتِ.. لا املك الوقت لأتناول الطعام معكِ.. واياكِ ان تأتي مرة اخرى الى هذا المخفر.. وداعًا!
هتف بقسوة واغلق الخط لتترقرق دموعها بمقلتيها وتتمتم بحنق:
– حيوان.. غبي.. سأدعه يركض حول العالم لأغفر له.
رفعت رأسها وحدجت الجندي بنظرات غاضبة وزمجرت:
– قل للمسؤول عنك.. الضابط عمر انه غبي وحقير.
ثم ناولته ما في يدها بعنف وقالت:
– كُل انت الطعام.. شبعت قبل ان اتذوقه بسبب ضابطكم الهمجي الارعن!
*****************
كانت تسير وهي شاردة بافكارها الكثيرة.. ترغب بالبكاء بشدة.. وكأن كل من تحبهم اتفقوا ان يعانوا ليفاقموا من حدة أحزانها وأوجاعها.. مها وهيرمان.. جهاد وسند.. وقلبها الذي يعاني من العشق المكدوم..
لا تزال كلمات جهاد الشجية ترّن في اذنيها كتراتيل مؤلمة..
“سند يقسو عليّ يا قدر.. انا أعشقه ولكنه يكذبني.. تخيلي احساسي.. أرسل له الرسائل فيتجاهلني.. كلمة واحدة لم أسمع منه منذ ان سافر.. على الرغم من كوني اشتاقه بجنون الا انني موجوعة منه بطريقة لا يتصورها عقلك.. وأنا أعرف ان سفره هذا ليس الا ليفكر أكثر باستمرارية علاقتنا.. بتُّ أفهمه كما كان يفهمني ذات مرة!”
لم تعرف بماذا تواسيها.. هي محقة فسند في الفترة الأخيرة لم يعد يعامل جهاد بالطريقة التي اعتادوها جميعهم.. تنهدت قدر ثم ازدرمت غصّة تحرق قلبها وهي تفكر بمها التي لم تعد تعرف عنها أي شيء.. والأفظع انها لا تعرف رقم هيرمان لتطمئن عليه هو الاخر..
توقفت بجانب سيارتها المركونة في موقف السيارات التابع للجامعة ثم اتكأت بظهرها عليها.. تطلعت الى هاتفها الذي بيدها لوهلة ثم فتحته لترد على رسائل سامر الذي سيصبح خطيبها فتتفاجأ برسالة من ريس! عشقها المؤلم..
خفق قلبها بصخب.. وغامت عيناها بدموع غرامها له.. يا الله! توترت وتبعزقت أفكارها كلها..
لا.. لا..
هزّت رأسها بضعف تحاول ان تنفيه بعيدًا عنها.. ثم بأنامل مرتجفة فتحت رسالته وقرأتها بعينين ملهوفتين..
“لنلتقي يا عروس!”
يسخر منها كالعادة!. قضمت شفتها السفلى بألم ثم اتصلت به ولم يتأخر رده ابدًا..
– ماذا تريد؟
سألته قدر دون ان تلقي عليه تحية السلام فهتف ريس بهدوء:
– أريد أن نلتقي!
– لماذا؟ اذا كان لديك شيئًا هامًا اخبرني به الان.. لا اريد ان التقي بك.
غمغمت قدر بقوة ليتمتم ريس بغيظ:
– قدر لنلتقي.. لا تستفزيني.
– سوف اسأل خطيبي أولًا.
همست قدر باستفزاز تعمدته ليبتسم ريس بسخرية:
– لا بد أنك في الجامعة.. ابقي مكانك سأتي لأخذك.
– معي سيارة.
علّقت باعتراض فيهتف:
– لا يهم.. أساسًا انا في طريقي إليك.
أغلقت قدر الخط دون أن ترد أو تسمع المزيد.. تنفست بقوة عدة مرات لتدّب العناد والتحدي في أوصالها.. ستقاوم أي ذرة ضعف قد تظهر أمامه.. عليها ان تفعل.. همست لنفسها برجاء..
بعد عدة دقائق كان ريس يركن سيارته بجانب سيارتها.. وسيمٌ كالعادة وثيابه انيقة كما اعتادت منه.. سروال جينز اسود، بلوزة رياضية رمادية وحذاء رمادي..
طمست حسرتها بقلبها وهي تراه يدنو منها بملامح واثقة لن تناسب سواه.. غروره يليق به.. توقف أمامها ومدّ يده ليصافحها فترمق يده بحاجب مرفوع جعله يضحك ويجذب يدها ليصافحها..
ابتلعت قدر ريقها ودفء يده ينتقل اليها فيحرقها حرقًا.. حاولت ان تُحرّر يدها من اسر يده فيضغط عليها ببعض القوة ويهمس بينما يجذبها الى سيارته:
– هيا لنغادر.
في الطريق كانت قدر صامتة تنتظر المكان الذي سيأخذها اليه.. لا تستبعد ان يفعل كما فعل قبلًا عندما كانت ستخطب رسلان وقام بدعوتهما الى المطعم.. ولكن الفرق الان انها لن تسمح له بتكرار الشريط السينمائي الذي حدث..
وأخيرًا ركن ريس سيارته بجانب مقهى يقع على الجبل.. ترجلت من السيارة كما فعل وقالت ساخرة:
– هل دعوتَ سامر كما دعوت رسلان ذات مرة؟ اذا دعوته أفضل ان ننتظره لندخل معًا.
– لم أدعو غيرك فاطمئني.
تمتم بضيق لتهز رأسها ببرود وتسير بجانبه الى داخل المقهى الذي يبدو عتيقًا.. جلست على احد المقاعد امامه تمامًا وغمغمت:
– ماذا تريد مني يا ريس؟ لندخل في صلب الموضوع.
توسمت حدقتاه النظر بها لوهلة ثم هتف بنبرة استغربتها:
– سأخطب ولكن رغد لم تنال على اعجاب أمي.
– اذًا؟
تمتمت بوجع أخفته بصعوبة.. هل يريد ان يفاقم من جروحها بكلامه عن من يجب ان تكون هي بنفسها مكانها؟! كانت تتأمله بجمود وكأنها انثى اخرى غير قدر التي اعتادها ريس وآه لو يعرف كيف كانت تموت غيرةً من رغد وحسرة على فؤادها..
بادلها ريس نظراتخا وهمس بحيرة:
– لا اعرف!
– الله يوفقك يا ريس ويسعدك.
دمدمت قدر بهدوء ثم أضافت ببعض الجدية:
– انا اتمنى لك كل الخير ولكنني لا املك الوقت لأفكر لماذا من ستصبح خطيبتك لم ترضى والدتك.. فكما تعلم لقد تم تعيين موعد حفل خطوبتي!
– جيد.
هتف بقسوة مفاجأة وكأنه ذو شخصية منفصمة فابتسمت له قدر واردفت:
– بما انك عانيت واحضرتني بنفسك الى المقهى فلنطلب شيئًا ما ونغادر.. انا من ستدفع.
– لستُ نذلًا لأدعك تدفعين وانا موجود.
قال بغلاظة شديدة فردت قدر ببساطة تعمدتها:
– حينما لا تجمعنا اي علاقة لن تكون نذلًا اذا لم تدفع عني.. انتَ لستَ الا مجرد قريبي يا ريس.. لا يوجد علاقة بيني وبينك.
أغمض ريس عينيه محاولًا التحكم بنفسه ثم زمجر بخشونة:
– قدر لا تحاولي ان تستفزيني اكثر.. صدّقيني لن افكر بالمكان الذي نحن به وسأريك تصرفًا لن يعجبك ابدًا.
– لا تهددني.. لا تنسى انني اكبر منك!
هتفت قدر ببعض الحدة ليقهقه ريس بتهكم:
– منذ متى وانت تقولين لي انك اكبر مني! قوتك هذه لا تناسبك انسة قدر.
– شكرًا.. اذا ممكن اطلب لي عصير برتقال طبيعي.
غمغمت قدر باستفزاز فيرمقها ريس بنظرات حانقة غاضبة وينفذ لها ما ارادت..
ولا زال ريس غارقًا بين امواج لا يعرف الى اين ستجرفه وتضعه..
*****************
عرفت من سيلين انه عاد.. فاتصلت به متوقعة عدم رده عليها كما يفعل منذ ان تشاجرا وسافر.. ولكنه هذه المرة صدمها ورد عليها.. توترت وتشتت خلاياها.. صوته كان مرهقًا دافئًا.. صوته الحبيب الذي اشتاقته بجنون..
همست جهاد بشجن:
– كيف حالك سند؟
– الحمد لله.. وانتِ؟
– الحمدلله بخير.
غمغمت وصمتت.. فتنهد سند وسألها:
– اين انتِ؟
– في المنزل.
ردت ثم سألته بحنين وعتاب:
– ألم تشتاق لي يا سند؟ منذ فترة طويلة لم تسأل عني وكأن ما بيننا انتهى.
ابتلع سند ريقه ثم هتف بقسوة سببها غضبه منها الذي لم يهدأ بعد:
– لم أشتاق! لم أفعل جهاد!
تسلّلت دمعتها من بين رموشها وسالت على خدّها بمرارة.. لم ترد.. لم تعرف ماذا تقول له.. تخشى ان يؤذيها بكلامه الجارح اكثر.. دام الصمت طويلًا بينهما قبل ان يهتف سند:
– تعالي الى حفل خطوبة قدر.. سأتي بنفسي لأخذك وسنتكلم في الحفل.
– سأتي ولكن أخبرني اولًا.. هل انتهت علاقتنا؟ اجبني بصراحة ارجوك!
دمدمت جهاد فقال سند بخشونة:
– لم ينتهي اي شيء بيني وبينك.. لا تنسي انك زوجتي.. ولا يبعدك عني الى الان الا الزفاف.. ولكنه لن يتم الان.. نحن بحاجة الى التفكير.
– لا افهم!
همست جهاد بتخبط فيرد عليها بمنتهى الهدوء:
– ستفهمين قريبًا جهاد.. قريبًا جدًا!
*****************
لا يعرف لما هو غاضب.. احساسه في هذه اللحظة يختلف عن اي لحظة مضت.. تبدو ناعمة ورقيقة جدًا بفستانها الأحمر.. تبدو انثى كاملة الأوصاف.. ولكن كل هذا الجمال لرجل غيره.. من حسن حظه انه لم يكن موجودًا عندما تبادلت خاتم الخطوبة مع سامر والا الله وحده يعرف ماذا كان سيبذر منه.. وهو نفسه لا يفهم مشاعره!
تأمل ريس العقد الفضي الذي يطوّق عنها بغيظ شديد ثم اقترب منها ببطء، مستغلًا هذه اللحظة.. لحظة عدم وقوف اي شخص بجانبها..
انتبهت له قدر فرسّخت قدميها بالارض تحتها كي لا تضعف امام قساوة عينيه القويتين والفاتنتين..
توقف ريس امامها ثم حدجها بنظرات قاسية تكاد تفتك بها وهو يقول بسخرية لاذعة:
– مبارك لكِ يا عروس! اخيرًا تمت خطبتك.
ابتسمت قدر بقساوة هي الاخرى ثم غمغمت بنعومة:
– وان شاء الله سيتم زواجي قريبًا.. فليس من السهل ان تجد شريك حياتك الذي ستهبه قلبك وروحك وجسدك!
عقد حاجبيه ونار موجعة تضطرم في صدره تحثه على التصرف بجنون.. يختنق دون ان يعرف السبب.. غيظ يتفشى في اوبئة جسده يكتم انفاسه ويجعله يتمنى ان يسحبها من شعرها ببربرية من هذا المكان وسجنها في عرينه..
فكرة ان تكون لرجلٍ غيره.. ان لا تلاحقه كما اعتاد.. ان لا يتملكها كما يفعل دومًا تشعره بشعورٍ رهيب مُشبّع بالخوف والقهر.. لطالما كان احد اطباعه الانانية وحب الامتلاك ولكن مع هذه الانثى الواقفة قبالته تتحدث بثقة غريبة عليه يحس بمشاعر اقوى من الانانية وحب التملك…
اقترب منها بدرجة اخافتها حقًا.. خاصةً بعينيه الداكنتين بانفعالات مرعبة.. الناس تنظر اليهما.. الا يهتم؟!
تراجعت قدر خطوتين الى الخلف بينما يسألها بنبرة شرسة:
– تسلّمين وتعطين كل هذه الاشياء (قلبك، جسدك وروحك) له؟.. لسامر؟!
هزّت قدر رأسها بتوتر بان على ملامحها رغمًا عنها ليتشدق ريس باستهزاء ينافي غضبه وقهره:
– من يملك هذه الاشياء معروفًا يا قدر؟ انتِ…
قاطعته قدر بحدة:
– من يملك قلبي الان هو سامر.. وبعد الزواج سيملك جسدي ايضًا.. فلو سمحتَ ابتعد عني لان منظرنا صار مربكًا ولا اود ان ازعج خطيبي.
– قدر!
زمجر بخشونة لتهتف بعصبية:
– ألن تخطب قريبًا؟ اذًا ابتعد عن طريقي يا ريس ودعني أكمل حياتي دون ان تعكّرها بوجودك!
انها تهينه وتجرح قلبها بمسننات ضارسة.. تقسو عليه وعلى كل ذرة عشق تكنها له.. ولكنها مضطرة.. لقد قضى على كرامتها هذا العشق الملعون.. لم تأبه هذه المرة بنظراته التي قست وصارت عبارة عن حمم بركانية..
اعتدلت بوقفتها وشمخت برأسها بقوة انثوية استمدتها من والدتها ثم تفننت برسم الابتسامة الفاتنة حالما اقترب منها سامر ودمدم بنبرة دافئة:
– لم تعرّفيني على قريبك هذا يا قدر.
مالت قدر عليه بدلال مقصود وان كانت تلفظ انفاسها الاخيرة قهرًا وعشقًا وهمست:
– هذا ريس حبيبي! ريس يكون حفيد خالي أوس وهو يصغرني بأربع أشهر.
اومأ سامر بابتسامة ثم مدّ ذراعه ليحيط ظهرها وقال:
– تشرّفنا.
وتابع وهو يتطلع الى قدر بشغفٍ واضحٍ:
– تعالي لأعرّفك على بعض الأشخاص ودعي قريبك لوحده قليلًا.
هزت قدر رأسها بانصياع ثم همّت ان تستدير وذراع سامر لا تزال تحيط ظهرها بنعومة الا ان يد ريس منعتها وهي تجذبها اليه بخشونة جعلتها تشهق وتلفت الانتباه اليها..
ناظرته بذعر وهي ترجو الله ان لا يفضحها.. ارتفع صدرها وانخفض بتوتر شديد بينما تنتبه الى والدها ووالده غيث اللذان يقتربان منهم..
هتف سامر وهو يشاهد كيف ريس يمسك بيد قدر بقوة:
– اترك يدها.
– ما الذي يحدث؟
تساءل ادهم بحدة لترمقه قدر بنظرات فهم مغزاها جيدًا فدنى من ريس وامسك ابنته وهدر:
– اترك يد قدر يا ريس.
لم يأبه ريس بكلمات ادهم فزمجر غيث بغضب:
– ريس اسمع كلام ادهم واترك يدها.. لا تفضحنا امام الناس.. الجميع ينظر الينا.
لم يتحرك ريس قيد أنملة.. يتفرس النظر بعينين قدر الخائفتين دون ان يبالي بالمدعوين.. كانت يدها ترتجف بين قبضته.. افكار مجنونة تدور برأسه.. ربما تأثيرها عليه وتأثير هذه اللحظة عليه؟ لا يود ان يترك يدها.. لا يود..
اضطر ان يترها بعد ان تفاجأ بلكمة من سند ليتراجع الى الوراء وتصرّخ قدر.. كادت ان تبكي وهي تبصر كيف اخرج غيث ريس بخطوات سريعة غاضبة..
وضعت يدها على ثغرها تمنع خروج شهقاتها.. يحطّمها هذا الحب الذي يلتف كالقيد حول قلبها.. سمعت سؤال سامر ولم تهتم للاجابة عليه بل تركته وركضت وراء والدها وسند اللذان خرجا وراء ريس ووالده ليدركها سامر قبل ان تخرج ويهتف:
– قدر اريد ان افهم الان ما يحدث بوضوح تام!
ابعدت قدر سامر عنها بغضب:
– اتركني ولا تمسكني بهذه الطريقة مرة اخرى.
ثم ركضت الى الخارج فتشهق برعب وهي ترى شقيقها يريد الهجوم على ريس لو ان لم يمسكه بعض رجال العائلة الذين كانوا في الخارج بينما ريس حاله لم يكن اقل سوءًا منه.. تقدمت منهم وهي تسمع صراخ غيث:
– ماذا فعلت يا ريس؟ هل تريد ان تدع العريس يترك قدر بسببك!
– اجل.. اريده ان يتركها.
جهر ريس كليث بربري فيهدر ادهم بعصبية:
– ريس قسمًا بالله سأقضي عليك اذا حاولت ان تؤذي ابنتي وتقف في طريقها.. من انت لتحاول انهاء خطوبتها؟ من انت؟!
– قدر لن تتزوجه.. لن تتزوج الابله سامر!
صاح وهو يحاول ان يبعد ياسين الذي يمسكه بقوة عنه فيهدر سند بجنون:
– الى متى سيستمر بمضايقة قدر؟ لن اسمح لك يا ريس.. سأقتلك!
– كفى!
صرّخ أوس بغضب ثم تطلع الى ريس وسأله:
– ماذا تريد يا ريس؟ لماذا أمسكتَ يد قدر بهذه الطريقة؟!
– أريد ان اتزوج قدر! أنا!
هتف بانفعال فيعم الصمت للحظات.. لا احد يصدق ما سمعه.. حتى قدر لم تصدق! كانت أمنيتها طوال عمرها ان تسمع مثل هذه الكلمات ولكنها كرهتها الان.. لم ترضيها أو تسعدها ابدًا.. غمغمت قدر بصوتٍ عالٍ باك:
– وقدر ترفض الزواج بك.. انا سأتزوج سامر وانت ستتزوج رغد!
– مستحيل.. لن اسمح لك!
صاح باحتدام فيصرخ به أوس:
– ومن انت لتسمح لها؟ سمعت ردها يا ريس.. الجواب وصلك فغادر!
————————
يتبع..