رواية (المحترم البربري)
الفصل السادس
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
تنفس بعمق وهو يلج إلى غرفتها بحذرٍ متوقعًا أن تكون قد استعادت وعيها، ألقى “معتصم” نظرة خاطفة عليها فوجدها مازالت غافية، ضمد الطبيب “مصطفى” جرح رأسها بعد أن عالجه، لم تكن بالإصابة الخطيرة، وستتعافى منها مع الوقت، خطا نحو الداخل ملقيًا تلك المرة نظرات متأملة لغرفتها، كان الأثاث حديثًا وبالطبع اللمسة الأنثوية جلية فيه، اقترب من المرآة ممررًا أنظاره على ما عليها من مساحيق تجميل وعطور مميزة، أمسك بقنينة عطر مستنشقًا عبيرها، بدا تأثير الرائحة قويًا على أنفه الذي زكم بها، أعاد وضعها ثم التفت بجسده نحو “آسيا” متسائلاً بفضول واضح عليه:
-يا ترى حكايتك إيه؟
سحب ذلك المقعد الموضوع أمام التسريحة ليضعه بجوار الفراش مراقبًا إياها في صمت إجباري، استند بصدغه على إصبعيه مركزًا بصره على وجهها الهادئ والذي يخفي خلفه الكثير من الغموض المهلك، هي حقًا بارعة في استفزاز الأخرين، وكان هو أحد ضحاياها، بل وأجبرته على إخراج الشخص البربري الموجود بداخله ليتصدى لشراستها، رفع أعينه للأعلى حيث المحلول الموصول بكفها، زفر ببطءٍ وهو يدس يده في جيبه ليخرج هاتفه المحمول، تفقد سريعًا البريد الإلكتروني الخاص به متابعًا أعماله العالقة ثم نقل هاتفه على وضعية الصامت ليبقى مستعدًا للحظة إفاقتها، شعر بالملل من انتظاره الذي طال، أرخى رابطة عنقه ونزع عنه سترته ليبقى حر الحركة، رسم في رأسه عشرات السيناريوهات للحظة المواجهة الحتمية معها، بالطبع كانت النهايات غير مبشرة على الإطلاق، انتبهت حواسه مع تلك التأويهة المتألمة التي خرجت من بين شفتيها، اعتدل “معتصم” في جلسته، وانتظر بتوترٍ استعادة وعيها، لم تمضِ سوى بضعة ثوانٍ قبل أن تفتح جفنيها وهي تصدر أنين خافت، وضعت “آسيا” يدها على جبينها تتحسسه محركة رأسها للجانبين، شعرت بتلك الوخزة في جلدها فهمست بنبرة موجوعة:
-آه، دماغي!
تحفزت حواسها مع سماعها لذلك الصوت الذي يقول بهدوءٍ:
-حمدلله على السلامة
حركت عينيها في اتجاه مصدره لتجد غريمها جالسًا على المقعد يطالعها بنظرات جامدة، انتفضت معتدلة في نومتها وهي تحاول إيجاد تفسير منطقي لوجوده معها في غرفتها، سألته بحدية وقد ارتسم الغضب على وجهها المليء بعلامات الإعياء:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
رد ببرود متعمدًا تلك المرة أن يستفزها:
-ده بدل ما تقولي شكرًا يا “معتصم” بيه على مساعدتك ليا، عيب عليكي!
عبس وجهها كليًا وهي تسأله مصدومة:
-مساعدة؟!
التوى ثغره بابتسامة متهكمة موضحًا بغرور:
-مش معقول مش فاكرة اللي حصلك، عمومًا أنا عملت اللي عليا واطمنت عليكي
تذكرت سريعًا ما مرت به من لحظات وهن نتيجة عدم اهتمامها بصحتها الغذائية فأفقدتها وعيها، وبالطبع الباقي ليس بحاجة إلى تخمين، استشاطت نظراتها وبدت تعبيراتها مشدودة للغاية، قامت “آسيا” بنزع الإبرة الطبية عن كفها غير مكترثة بالألم القوي الذي أصابها جراء تلك الشدة العنيفة، تفاجأ “معتصم” بما تفعله فهب واقفًا من مكانه متجهًا نحوها وهو يسألها مدهوشًا من تصرفاتها اللا عقلانية والطائشة:
-بتعملي إيه يا مجنونة؟
نزعت الضمادة أيضًا عن رأسها صارخة فيه بجنون وهي تلقيها نحوه:
-اطلع برا بيتي
اندفع نحوها قابضًا على رسغيها بأصابعه، أبعدهما خلف رأسها قائلاً بخشونة:
-اهدي
تلوت بشراسة محاولة الإفلات منه، لكن فارق القوى الذكورية كان لصالحه، ثبتها جيدًا، ثم تابع بصرامة وهو ينظر مباشرة في عينيها:
-أنا أصلاً ماشي
ردت بوقاحة متجاهلة عن عمدٍ معروفه معها وغير مكترثة بتبعات ما ستتفوه به:
-يالا في داهية!
احتقنت دمائه في شرايينه على الفور من إهانتها المستفزة، شدد من ضغطه على معصميها مهددًا بانفعال ملحوظ:
-لمي لسانك بدل ما تندمي!
ردت بتحدٍ دون أن يرف لها جفن:
-عاوزة أشوف الندم ده
غمز لها قائلاً ببرود ليخمد ثورتها المتلهفة لإندلاعها:
-مش النهاردة
ثم أحنى رأسه على وجهها مقلصًا المسافات ليضيف بغموضٍ:
-بس هايجي يوم إنتي بنفسك هاتشكريني على الخدمة اللي عملتهالك!
ارتابت من جملته التي تحمل الثقة والغرور في نفس الآن، لكنها حافظت على تجلدها وصلابتها أمامه لترد بقوة:
-ده في أحلامك وبس
ثم اقتربت بوجهها منه قاصدة إرباكه بسلاحها الأنثوي الذي تجيد استخدامه بحرفية، استخدام شفتيها، ونظراتها الآسرة، شعر “معتصم” بأنفاسها تحرق وجهه الملتهب مسبقًا، لكن في تلك اللحظة امتزج الغضب مع نظرات مغرية وتهديدات أخرى خفية وموحية لا يستطيع أي رجل مقاومتها أو الصمود امامها كثيرًا، أدرك أنه سيقع تحت تأثير سحرها الفتاك إن تخلى عن دفاعه، أراد أن يوصل لها رسالة صريحة أن ذلك الموقف لن ينم سوى عن كره شديد متبادل بين قطبين لن يتراجعا عن إذاقة بعضهما البعض ألوانًا من القسوة والعناد، نظر لها بحقد ملويًا ثغره بازدراء وهو يقول:
-وأنا موافق!
أراد إشعارها من نظرته أنها لن ترقى إلى تطلعاته، بينما استلذت “آسيا” بالتأكد من كراهيته لها، أرخى “معتصم” قبضتيه عنها مبتعدًا للخلف ليعتدل في وقفته، زحفت بجسدها على الفراش للخلف لتبدو أكثر استعدادًا وتحفزًا للاقتتال معه إن تطلب الأمر ذلك، رمقها بنظرة أخيرة غير مريحة وهو يرد بألفة تناقض حدية الأجواء:
-سلام يا “آسيا”
التفتت برأسها باحثة عما يمكن أن تقذفه به فلم تجد سوى الكوب الزجاجي، ألقته دون تفكير فارتطم بظهره محدثًا ألمًا قويًا به، استدار نحوها يحدجها بنظراته النارية، شعر بذلك الألم يضربه، فرك بيده ما استطاع أن يصل إليه متحكمًا بصعوبة في أعصابه التي تتوق للفتك بها قائلاً بابتسامة جليدية:
-مقبولة منك
ردت مبتسمة بقسوة وهي تشير بحاجبها:
-لسه الوجع جاي
فتح ذراعيه في الهواء قائلاً بغرور:
-وأنا مستنيه!
ثم أسرع في خطاه قبل أن تنال منه مجددًا بضربات غير متوقعة، انتظرت للحظات حتى سمعت صفق الباب بالخارج لتقول معنفة نفسها:
-دي غلطتي من الأول، كان لازم أخد احتياطاتي وماسبش نفسي أوصل للحالة دي قصاده!
كزت على أسنانه قائلة بغلٍ:
-مش هاتحصل تاني، وده يعلمني إني ماديش فرصة لحد يمسك عليا غلطة، وخصوصًا عيلة “المصري”
أخفضت نظراتها لتحدق في أثر الإبرة في كفها قائلة بوعيدٍ شرس:
-اللي عملته معايا ماتجيش نقطة من اللي شوفته يا “معتصم”!
……………………..
بدا غير مهندم وهو يخرج من مدخل البناية متجهًا نحو سيارته ليستقلها بعد معركة قصيرة مع تلك الشرسة المسماة “آسيا”، أغلق “معتصم” الباب خلفه متأملاً ما أحدثته فيه من إرهاق ذهني ومجهود بدني كبير، ناهيك عن إتلاف أعصابه المعتاد معها، ضبط طرفي ياقة قميصه وهو يتأمل وجهه في المرآة، لم تكن تعابيره طبيعية، ضرب بقبضته المقود محدثًا نفسه:
-بني آدمة صعب، مش ممكن!
أسند على المقعد المجاور له سترته التي نزعها بعد أن ابتلت بالمياه، ثم وضع يده على فقرات ظهره يدلكها برفق متابعًا حديث نفسه بضيق:
-لو كنت فضلت 5 دقايق كمان كان واحد فينا خلص على التاني!
ورغم ذلك لم يمنعه كرهه لما تفعله من التفكير بفضول في طبيعة الأشخاص الذين تتعامل معهم، وفي طبيعة مهنتها كعارضة أزياء تهواها صحف الفضائح وتلاحقها لتنشر المزيد عما يخصها من تجاوزات مثيرة، شعر بالانزعاج الممزوج بالغضب لمجرد تخيلها تمارس دلالها بتلك الطريقة التي تشير إليها الأخبار –متعمدة استفزاز القراء والتلميح بفساد أخلاقي- لتوقع الرجال عند أقدامها، بل وربما يتخطى الأمر حدود ذلك بكثير، مما لا يجوز نشره علنًا، شعر بحالة من الفوران تعتري جسده، برغبة ملحة تدفعه للترجل من السيارة والصعود إليها من جديد، وربما التهور وقتلها قبل أن تقرأ والدتها عنها وتصدم فيها مثل صُدم هو الأخر، أطلق سبتة خافتة من بين أسنانه مديرًا محرك السيارة لينصرف من المكان مقاومًا بمجهود مضاعف ما يملأ رأسه من أفكار جامحة، حاول إفراغ شحنته المتعصبة في الضغط على المقود وهو ممسك به أثناء قيادته لها، لكنه فشل، ظل طيفها يتراقص في مخيلته ليزيد من استفزازه ويجعله يقود بتهور، أوقف السيارة فجأة ضاغطًا على المكابح ليصيح غاضبًا:
-كفاية بقى!
ثم عاود قيادتها من جديد ليصفها بعيدًا عن الطريق الرئيسي بعد أن صدحت أصوات الأبواق من حوله، أغمض “معتصم” جفنيه للحظات ليجبر نفسه الهائجة على الهدوء قسرًا، فحالته العصبية كادت تسبب له حوادث سير جمة إن لم يكن حذرًا في قيادته، أرجع ظهره للخلف متسائلاً بتنهيدة عميقة وهو يسند مرفقه على النافذة:
-بتعذبيني معاكي ليه يا “آسيا”
وكأن حديث نفسه بوابة للتنفيس عما يجيش في صدره من هموم اضطر أن يكتمها فيه، لاح في عقله صورة “نادية”، تلك السيدة التي أفنت عمرها في تربيته بعد أن تزوجت من والده ليصبح هو محور اهتمامها بالكامل، فنال حبها وعطفها وحنانها وعوضته عن غياب أمه الراحلة، وشعر معها بالأمان الأسري، وجد “معتصم” هاتفه الصامت يهتز في جيبه، أخرجه منه مدققًا النظر في اسمها الذي ملأ الشاشة، كان يشعر بما يعتري صدرها من رغبة عامرة في الالتقاء بابنتها بعد أن عرفت الطريق إليها، لكنها ليست مثلما تخيلت، هي النقيض في كل شيء، عبست تعابيره وتجهمت نظراته وهو يردد لنفسه باستياء:
-إنتي ماتستهليش واحدة زيها يا أمي!
تجاهل اتصالها مضطرًا كي لا تفضحه نبرته ويعجز عن إخفاء ما يشعر به، ألقى الهاتف بجواره ثم أعاد تشغيل المحرك ليقود السيارة إلى مقر عمله ……………………..
……………………..