رواية (المحترم البربري)

المحترم البربري

الفصل الحادي والثلاثون (الجزء الثاني)

لم تكن بنكتة سخيفة ألقاها على مسامعه ليستفزه بصورة أو بأخرى، وإنما حديثًا جادًا للغاية ينم عن نية مُبيتة للارتباط بها، ظن “معتصم” أن “نبيل” يفعل ذلك عمدًا ليخرجه عن عجرفته الباردة، لكنه لم يكن بالشخص المازح، رمقه ابن عمه بنظرة صارمة للغاية قبل أن يضيف بنفس الإصرار:
-نتقابل ليلة فرحي يا “معتصم”، سلام!
انصرف دون أن يدع له الفرصة للرد أو التعبير، فغر الأخير شفتيه مصدومًا من تصريحه الذي تخطى ما فكر فيه يومًا، بقيت أنظاره معلقة بطيفه الذي رحل غير واعٍ لما عقد العزم عليه، ببساطةٍ نجح “نبيل” في إيقاظ مشاعر غريبة لم يعتقد “معتصم” يومًا أنها ستؤثر به، ورغم ذلك فسرها بصورة خاطئة بأنه أشعل بضراوة فيه غضبه نحو “آسيا”، كور قبضته ضاربًا سطح مكتبه بعنف، كز على أسنانه بقوة محدثًا نفسه بحنقٍ:
-مش هايحصل أبدًا!
قذف محتويات المكتب بعصبية على الأرضية، تهدجت أنفاسه والتف حول نفسه متحركًا بتوترٍ، اعتصر عقله محاولاً إيجاد الحل لتلك الأزمة التي اختلقها ابن عمه قائلاً لنفسه:
-مش هنولهالك يا “نبيل”!
………………………………………….
لاحقًا، تأخر في عودته إلى المنزل وتجاوز موعد حضوره وقت الغذاء بكثير، توهمت “نادية” بأن “معتصم” مشغول في أعماله، فلم تهاتفه وتناولت الطعام مع زوجها وابنتها، خيم الصمت على جلستهم الاعتيادية، فقط بعض الملحوظات المقتضبة من “وحيد” ليكسر حاجز الملل، ابتسمت “آسيا” بتكلف ثم استأذنت قائلة:
-أنا هاطلع أرتاح في أوضتي
قطبت “نادية” جبينها متسائلة باستغرابٍ:
-خليكي أعدة شوية، الأكل مش عاجبك ولا إيه؟
أشارت بيدها معتذرة:
-كله تمام، بس أنا تعبانة شوية
نظرت لها باهتمام وهي تسألها بتلهف:
-في حاجة تعباكي؟ أطلبلك الدكتور و….
قاطعتها “آسيا” بهدوءٍ:
-لا يا ماما، أنا محتاجة أنام وهابقى كويسة
فضلت أن تعود إلى غرفتها لتبقى معزولة عمن حولها، يكفيها ما عاشته وتعايشيه لتحمل غيرها همومها ومشاكلها التي لا تنتهي، انسحبت بهدوء تاركة أنظار والدتها معلقة بها، استندت “نادية” بيدها على وجنتها مرددة بضيقٍ:
-أنا مش عارفة أعملها إيه بس عشان أخرجها من الحالة اللي هي فيها دي
رد عليها زوجها بنبرة عقلانية:
-سبيها على راحتها يا “نادية”
تابعت قائلة بيأسٍ:
-دي مش بتخرج ولا بتقابل حد، ومعظم الوقت حابسة نفسها في الأوضة، وكذا مرة أقولها تعالي نروح النادي، نغير جو، نخرج شوية ترفض وتفضل أعدة فوق!
أخرج زفيرًا بطيئًا من صدره قبل أن يعقب بتريثٍ:
-ماتنسيش إن وضعها مختلف بعكس أي حد تاني، هي تعتبر في حكم المشاهير، وأي حاجة بتعملها محسوبة عليها
اعترضت بضيقٍ:
-مايسبوها في حالها بقى!
ادعى “وحيد” الابتسام ليخفف من حالة الانزعاج الظاهرة عليها، وضع يده على كتفها ضاغطًا عليه بلطفٍ، ثم طمأنها قائلاً:
-متقلقيش يا حبيبتي، طول ما كلنا معاها وحواليها هاتكون أحسن
تنهدت مضيفة:
-يا ريت والله!
عادت للتحديق بشرود أمامها لتفكر في حل يُريح ابنتها من معاناتها الصامتة، هي متفهمة لكل ما مرت به، لكنها إلى الآن لم تتخذ موقفًا جديًا يحول دون تعرضها للأذى، ولم تقدم لها ما يشعرها بالأمان والاحتواء، انعكست نظراتها الحزينة على وجهه، راقبها “وحيد” باهتمام فقد أزعجه هو الآخر أن يقف مكتوف الأيدي ولا يقدم أي مساعدة مجزية لـ “آسيا”.
…………………………………………….
تلكع في عودته إلى المنزل ليتجنب الالتقاء بها، فلا يمكن أن يضمن ردة فعله حينما يراها، هاجت الدماء في شرايين “معتصم” لمجرد تخيلها متأبطة ذراع ابن عمه الساذج الذي انطلت عليه خدعتها وتوهم أنه يحبها، بل ويسعى جاهدًا للتقدم لخطبتها والزواج منها رسميًا رغم الفضائح المشينة المحيطة بها، اختفى وجومه لتحل الدهشة كبديل عنه حينما وجده بالمنزل جالسًا بصحبتها في غرفة الصالون بأريحية واضحة، اتسعت حدقتاه في عدم تصديق، ثارت دمائه من جديد وتدفقت بداخل عروقه محفزة إياه على الاشتباك معهما، سيطر بصعوبة على نفسه واقترب منهما متسائلاً بغيظٍ وقد استشاطت عيناه:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
نظر له “نبيل” ببرود وهو يرد مبتسمًا:
-ازيك يا “معتصم”، مش ترحب بيا، ده أنا برضوه ضيفك
أدرك أنه يحاول استفزازه فالتفت نحو “آسيا”، كانت نظراته حانقة للغاية، أشار لها بسبابته متسائلاً بنفس الطريقة الهجومية:
-إنتي أعدة ليه معاه؟
رمقته بنظرة غير مكترثة قبل أن تحرجه بهدوءٍ:
-شيء ما يخصكش
تلون وجهه بحمرة غاضبة مغتاظًا بشراسة من ردها المستفز له، في حين أضاف “نبيل” بابتسامة سخيفة:
-ممكن تسيبنا لوحدنا شوية، ولو عوزناك هنبقى نناديلك يا “معتصم”
انفجر فيه الأخير خارجًا عن المألوف من أسلوب مرحب بالضيوف فهدر به:
-“نبيل” ماتنساش إنت هنا في بيتي
وكأنه موضوع في قالب من الثلج، حافظ “نبيل” على بسمته الباردة قائلاً له:
-عارف ده كويس، ومستأذن قبل ما أجي
وقبل أن يشتعل الوضع أكثر من هذا تدخلت “نادية” في الوقت المناسب لتحول دون اندلاعها قائلة بحذرٍ:
-تعالى معايا يا “معتصم” شوية
كان كالجبل الشامخ رافضًا التحرك من مكانه، اضطرت “نادية” لاستخدام كفيها لدفعه، سار بثقل متعصب مبتعدًا عنهما وهو يغمغم بسخط غاضب:
-ماما إنتي إزاي تسمحيلهم يقعدوا كده سوا لوحدهم؟!!!!
أجبرته على المشي معها لترد باستغراب:
-ودي فيها إيه؟ ابن عمك وجاي يزور بنتي يطمن عليها
صاح بتشنجٍ:
-فيها كتير، وخصوصًا لما يكون مكلمني على إنه عاوز يتجوزها
تجمدت تعبيرات وجهه مذهولة من جملته الأخيرة، رددت باندهاش أكبر:
-إيه؟ مش معقول!
………………………………………..
أسند كأس مشروبه البارد في الصينية بعد أن ارتشف القليل منه، اعتدل “نبيل” في جلسته ليتأملها مبتسمًا وقد امتلأت نظراته بالإشراق، تحرجت “آسيا” من طريقة تحديقه الناعمة بها وعمدت إلى النظر إلى أي شيء إلا وجهه، ناداها بنبرة رخيمة ليجذب انتباهها:
-“آسيا”.. تسمحيلي أفاتحك في حاجة، بس يا ريت متعتبريهاش تطفل مني
رفعت رأسها لتنظر نحوه وهي ترد بهدوء مقتضب:
-اتفضل
سحب نفسًا طويلاً ليشحذ به نفسه قبل أن يحرره مسترسلاً في الحديث وفي نفس الوقت مراقبًا عن كثب لردة فعلها:
-مابتفكريش في موضوع الارتباط؟
تفاجأت من سؤاله مرددة:
-ارتباط؟!
أوضح لها مقصده بعقلانية شديدة:
-قصدي تعارف أو خطوبة أو حتى جواز
تقوست شفتاها بابتسامة ساخرة مما يقوله، فمن سيرتضي بمثلها عروس لشاب ما من عائلة محترمة والأكاذيب التي نهشت من سمعتها تحاوطها من كل الاتجاهات؟ ردت بتنهيدة مليئة بالضيق:
-لأ
تشجع أكثر للمضي قدمًا في خطوته التالية ومفاتحتها فيما انتوى عليه، ابتلع ريقه قائلاً بجدية:
-“آسيا”، أنا مش عاوزك تفهميني غلط أو تتسرعي في رأيك، كل اللي عاوز أقوله ليكي إني ….
تردد للحظة في استكمال باقي جملته، حاز على انتباهها وبدت مترقبة باهتمام لما سيتفوه به بعد ذلك، أخرج كتلة من الهواء من صدره دفعة واحدة قبل أن يقول:
-أنا حاسس ناحيتك بانجذاب كبير، وجايز يكون أكتر من إعجاب!
توترت “آسيا” من مصارحته العلنية لها بما يكنه من مشاعر راقية، لم تتخيل ذلك، أن تكون محور اهتمام أحدهم، بل ويحمل نحوها أحاسيسًا من نوع مختلف، جف حلقها وارتبكت في جلستها، فركت أصابع يدها معًا لتخفف من اضطرابها، شعرت بعدم الارتياح لعدم قدرتها على الرد عليه بنفس الصراحة، اعترتها حيرة جلية، فهي حتمًا لن تمنحه ما لا تشعر به حتى وإن كانت تقدره وتكن له مشاعر الاحترام، لن تتحمل أن تراه أو ترى غيره مغلوبًا على أمره مع مشاكلها الدائمة، بحثت سريعًا عن طريقة لبقة لتخلصها من ذلك الموقف الحرج، رمشت بعينها قائلة بحيرة:
-أنا مقدرة مشاعرك دي وبأشكرك عليها
اعترض عليها قائلاً:
-بس أنا لسخ …
رفعت يدها لتقاطعه بجمود:
-أنا أسفة بس صدقني أنا فعلاً معنديش الرغبة إني ارتبط بحد خالص، باعتذرلك أنا لازم أطلع أوضتي، عن إذنك!
لم تنتظر رده بل نهضت من مكانها وفرت سريعًا من حصار عينيه، كانت متيقنة أنها أصابته بالإحباط وخيبة الأمل، لكن ذلك الأفضل من وجهة نظرها، لم ييأس “نبيل” من هروبها الغريب وانسحابها المفاجئ، توقع أن تصده مع أول محاولة جدية للتودد لها، لن يستسلم وسيعيد تكرار المحاولة ويحرك عواطفها المتجمدة لتشعر بقلبه، هي فقط بحاجة لاكتساب ثقته ومعرفة قيمة نفسها، ومجرد التفكير في مسألة الارتباط سيفرق معها كثيرًا ……………………………….. !!!
…………………………………………………………

يتبع >>>>

error: