رواية (المحترم البربري)

 

المحترم البربري

الفصل التاسع والثلاثون
حالة من الهرج والمرج سادت بداخل غرفة المدير المعزولة عمن حولها بالإضافة إلى التشابك بالأيدي والتراشق بالألفاظ بين “سامر” و”معتصم”، للحظة سكن الأخير ليستوعب تلك الجملة المميتة التي نطق بها واتهمت علنًا “آسيا” في شرفها، استغل “سامر” التهائه عنه ليشحذ قواه ضده، لكمه في فكه بشراسة فأوقعه على جانبه، مجرد لحظة مكنته من ترجيح كفة الميزان لصالحه، جثا فوقه ليسدد له ضربة أشد عنفًا حفزته على الكيل له بالمزيد، غطا “معتصم” وجهه ليتصدى لهجومه المباغت، ثم بدأ في الدفاع عن نفسه ومقاومته.
على الجانب الآخر، توترت “أية” بدرجة شديدة من فظاعة الموقف، شهقت فجأة صارخة حينما لم تجد أي استجابة من “آسيا”:
-شوفها يا “نبيل”، لأحسن تكون ماتت
فزع “نبيل” من قولها، ومد إصبعيه نحو عنقها ليتفقد النبضات في عرقها، تنفس الصعداء لوجوده، التفتت “أية” لتحدق في ابن عمها الآخر، انقبض قلبها بقوة مع قسوة ضربات “سامر”، صرخت من جديد فألبكت صرختها غير الطبيعية الأبدان وأثارت ضجة كبيرة بالمكان، لحظات وتجمع البعض من موظفي الفندق ليفصلوا سريعًا بين المتلاحمين خاصة حينما رأوا رب عملهم طرفًا فيها، شكلوا بأجسادهم حاجزًا يفصل طرفي المشاجرة عن بعضهما البعض، مسح “سامر” الدماء العالقة من على فمه ليقول بانتشاء مخيف وقد برقت نظراته:
-ما هي مش أول مرة لينا سوا
أن يتخيل “آسيا” في وضع غير ملائم تمارس فيه الفُحش برخصٍ جعله في أوج غضبه، هدر به “معتصم” بعصبية زائدة يتوعده:
-اخـــرس، هاموتك النهاردة
شعر “سامر” بلذة عجيبة وانتشاء مرضي في إحراق من حوله بأكاذيبه، بل ونجح ببساطة في بث سمومه في ألد خصامه ليدفعه بلا تفكير نحو انتقام أعمى ربما سيهلك “آسيا”، فتح ذراعيه مرحبًا بذلك وهو يرمقه بنظراته الخالية من الحياة، في حين رد عليه “نبيل” بعدائية متوعدًا إياه بغلظة:
-هتتحاسب على اللي عملته، البلد فيها قانون وهتشوف
اتسعت ابتسامة “سامر” الشيطانية المستفزة قائلاً بعدم اكتراث:
-يا ريت، بس مش جايز أنا متفق معاها وواخدها سكة عشان أجيب بنت عمكم المصونة لحد عندي وأروق عليها
تحولت الأنظار نحو “أية” التي بدت كمن صعق لتوه بتيار كهربائي فشُل تفكيرها، شخصت أبصارها من قسوة الموقف، فهي لم تكن كما توهمت المتيمة بحبيب هام بها عشقًا ويطمح في الزواج منها، بل كانت شابة مخدوعة تم استغلالها ببراعة للإساءة إليها وتلويث سمعتها النقية، نهج صدرها علوًا وهبوطًا من قوة الصدمة، فماذا لو حدث ما خشيت التفكير فيه وسقطت في بئر المحرمات وسلب منها شرفها رغمًا عنها؟ رفض عقلها تصديق تلك الأكذوبة الحقيرة، فصرخت ببكاء:
-إنت كـــداب
رد عليها بمكرٍ:
-عندك الهانم “آسيا”، ما هي عرفاني من زمان، بس إنتي عبيطة كلمتين وقعوكي فيا!
هزت رأسها بإيماءات متتالية نافيه وهي تهتف بصراخٍ باكٍ:
-لأ، “آسيا” متعملش كده!
زاد بكائها وهي تلوم نفسها:
-أنا ازاي حبيتك وصدقت كل كلمة قولتهالي؟!
أجابها “سامر” ببرود:
-عشانك هبلة، أنا مش بتاع حب ولا جواز
صرخت به باستنكار شديد:
-واطي!
أطلق ضحكة ماجنة مستفزة للجميع، فقد “معتصم” لأعصابه وحاول الاندفاع نحوه للانقضاض عليه، أمسك به موظفو الفندق جيدًا كي لا يفلت من أيديهم، توعده بشراسة وهو يدفعهم بجسده ليتخلص من قبضتهم ويصل إليه:
-هاقتلك النهاردة
أشار له “نبيل” بسبابته:
-هاتتسجن يا “سامر”، مش هانسيب حق “آسيا” ولا بنت عمي، الكل هايعرف إنت إيه بالظبط!
نظر له الأخير باستخفاف ثم رد بثقةٍ:
-وأنا هالبسكم الليلة كلها
حدق فيه “نبيل” بنظرات مغلولة، بينما أضاف “سامر” بنفس الثقة:
-إنتو جايين عندي تتعدوا عليا في مقر عملي، والشهود موجودين وكاميرات الفيديو سجلت كل ده، والأمن هيحذف اللي يخصني مع الهانم، يعني في تكة هاتكونوا في السجن، ده غير إن المدام المحترمة هتلبس قضية تسهيل دعارة وممارسة الرزيلة، ما أنا هاروق عليها برضوه، لازم ينوبها من الحب جانب!
ثم سأل “معتصم” بخبثٍ قاصدًا إحراق أعصابه واستنزاف ما تبقى من عقله:
-مش هي لسه المدام ولا …؟!
اهتاج “معتصم” من تلميحه البذيء، اندلع غضبه أضعافًا مضاعفة وهدر به:
-يا ابن الـ …… !!
رد عليه “نبيل” بتحدٍ:
-إنت …….، بتلف وتدور، واحنا مش هانسكت عن حقنا!
ضاقت عيني “سامر” قائلاً:
-وروني هاتعملوا إيه
وصل إلى غرفة المكتب مدير الأمن المسئول عن الفندق ليتولى بنفسه السيطرة على الوضع بعد أن تم استدعائه على عجالة لينقذ الموقف، ألقى نظرة سريعة وشاملة على المتواجدين، وقف كالعبد الطائع أمام رب عمله متسائلاً:
-أوامرك يا “سامر” باشا
رفع الأخير ذراعه للأعلى ليأمره مشيرًا بسبابته نحوهم:
-ارمي الكلاب دول بـــرا!
رد مدير الأمن بامتثالٍ:
-تمام يا باشا!
انفجر “معتصم” لاعنًا إياه بكلمات نابية مهينة، جرجره الموظفون بصعوبة إلى خارج المكتب غير قادرين على إسكاته، قاومهم قدر استطاعته طامعًا في النيل من “سامر”، لكنه لم ينل مراده، حذرهم “نبيل” هاتفًا بصوتٍ جهوري حينما حاولوا دفعه هو الآخر:
-محدش فيكم يقرب، أنا طالع، يالا يا “أية”
لف ذراعه حول خصرها ليجبرها على التحرك في اتجاه الباب وفي نفس الوقت يضمن عدم تلمس الغريب لها، لمح أحدهم وهو يدنو من “آسيا” ليحملها فصاح به بقوة:
-ماتلمسهاش
انحنى نحوها ليحملها بين ذراعيه برفق ثم سار إلى الخارج ومعه “أية” التي كانت في حالة انهيار واضحة، بالطبع لم يتم إخراجهم من المدخل الرئيسي للفندق بل من الأبواب الخلفية لتجنب إثارة فضول الضيوف المتواجدين به، تسارعت خطوات “نبيل” نحو السيارة ليضع “آسيا” بها، أجلس “أية” بجوار آمرًا إياها:
-خليكي جمبها
لم تكن شبه مدركة لما يحدث، فالصدمة كانت محطمة لفؤادها ومدمرة لكل آمالها، أغلق “نبيل” الباب لينظر إلى ابن عمه المهتاج، خشي من تهوره أثناء القيادة، فوضع يده على كتفه يطلب منه بحذرٍ:
-اركب يا “معتصم”، مافيش وقت نضيعه، لازم نطمن على “آسيا”
اتجهت أنظار ابن عمه نحو الغائبة عن الوعي والغارقة في دمائها، رمقها بكراهية زائدة، فقد نجح “سامر” في غرس بذرة شكوك جديدة لتضاف إلى ظنونه السابقة ليجعلها بسهولة في موضع شبهة، بقي متجمدًا في مكانه ونظراته الغريبة الغامضة مسلطة عليها، خاف “نبيل” من انحراف تفكيره وظنه السوء بها، هو فاهم لطبيعة تفكيره المتهورة، كان عليه أن يتصرف بتريث وحنكة ليجبره على فعل الصواب، وضع يده على كتفه ضاغطًا عليه:
-مش وقت تفكير يا “معتصم”، دي بني آدمة حياتها في خطر، ماينفعش نسيبها في الظروف دي
لم تتحرك قدماه فضغط عليه لدفعه:
-خليك واثق إن الكلب ده قاصد يولع الدنيا، مش هيرتاح إلا لما …..
قاطعه “معتصم” بغموض أقلقه:
-وأنا مش هاسيبه وهتأكد من اللي قاله بطريقتي!
ارتاب “نبيل” من طريقته في الحديث فسأله بتوجسٍ:
-هاتعمل إيه؟
لم يجبه وركب في السيارة ملتزمًا الصمت مما أربك “نبيل” كثيرًا، لم يكن هناك وقتًا متاحًا لإضاعته، أجبر عقله –مؤقتًا- على عدم التفكير في التفسيرات المزعجة التي تكمن خلف كلامه المريب واستقل السيارة لينطلق بها نحو أقرب مشفى.
…………………………………………….
وضعت يدها على قلبها تتحسس نبضاته المتلاحقة بعد أن هاتف “نبيل” عمه ليخبرهما بنقل “آسيا” إلى المشفى دون ذكرٍ للسبب الحقيقي، استشعرت “نادية” وجود كارثة خفية وراء إصابتها المقلقة، لم يجب أحد على تساؤلاتها الحائرة، بل ارتابت وخافت بدرجة أكبر من هيئة “معتصم” وكدماته الزرقاء التي تعلو وجهه، رفض الأخير معالجتها واكتفى بالبقاء في الزاوية ملتزمًا الصمت، حاول “وحيد” طمأنتها بأسلوبه الهادئ لكنها لم تشعر به، فقط جزعها على ابنتها كان الطاغي عليها، راقبت حركة الأطباء والممرضين بنظرات متوترة منتظرة بترقبٍ إبلاغها بالجديد عن حالتها، خافت من حدوث الأسوأ، قفز قلبها في قدميها رهبةً حينما رأت الطبيب يخرج من غرفة الطوارئ ليقول بروتينيةٍ:
-اطمنوا يا جماعة
سأله “نبيل” باهتمام:
-أخبارها إيه؟
أجابه بنفس النبرة العملية مشيرًا بيده:
-احنا عملنا اللازم مع المريضة، وهتتنقل للأشعة عشان نتأكد من حالة المخ، وبعد كده هننقلها على أوضة عادية
تنفست “نادية” بارتياح عقب أخباره المبشرة والمثلجة لصدرها، سألته بقلب أم متلهفٍ:
-هي فاقت يعني؟ كلمتك؟
أجابها بهدوءٍ:
-متقلقيش يا هانم، مؤشراتها الحيوية كويسة، وإن شاء الله مايكونش في مضاعفات، هانطمن من خلال الأشعة المقطعية وبعد كده تقدروا تشوفوها
رد عليه “وحيد” بامتنان وهو يحاوط زوجته من كتفيها:
-شكرًا يا دكتور
ثم التفت ناحيتها ليضيف:
-مش قولتلك يا “نادية” إنها هاتبقى كويسة
ردت بتنهيدة ارتياح:
-الحمدلله
اقترب “نبيل” من ابن عمه الواقف على حالته الجامدة ليتفقده متسائلاً:
-سمعت الدكتور قال إيه؟
أجابه “معتصم” باقتضاب:
-أيوه
سأله من جديد متفرسًا تعابير وجهه الجامدة والتي عززت فيه إحساس القلق:
-وناوي تعمل إيه؟ هاتشوف “آسيا” وتطمن عليها؟
حملق فيه مطولاً بنظرات غير مريحة ثم أجابه بنبرة جليدية:
-هاوصل بنت عمك لبيتها
رغم تفاجئه برده إلا أنه استدار عفويًا برأسه للخلف ليجد “أية” مجهشة بالبكاء، لم تتوقف إلا لثوانٍ لتنخرط من جديد في نوبة أخرى وكأنها تحفز خلاياها الدمعية على خلق المزيد من العبرات، عاد ليحدق فيه مضيفًا:
-الحمدلله إنها جت على أد كده، كان ممكن منلحقهاش وتحصل مصيبة
صمت “معتصم” وبادله بنفس النظرات المزعجة، استأنف “نبيل” وعيده:
-الكلب “سامر” ده مش هاسيبه، لازم أحاسبه على اللي عمله، وبالعقل كمان، إنت إيه رأيك؟
طال صمته المريب فتوجس من سكوته، سأله بتوترٍ وهو يهزه من ذراعه:
-“معتصم”، إنت ساكت ليه؟ قولي بس بتفكر في إيه؟
نفض يده ليقول باقتضابٍ:
-أنا ماشي
فغر شفتيه من ردة فعله الغامضة، ازدرد ريقه محدثًا نفسه:
-يا خوفي تصدق كلامه وتضيع “آسيا” بشكوكك!
……………………………………………..
انحنت للأمام قليلاً لتتمكن الممرضة من وضع الوسادة خلف ظهرها، تابعتها بأنظارها وهي تكمل عملها وتتأكد من ضبط ضمادتها قبل أن تعتدل في نومتها، طالعتها “آسيا” بنظرات مرتابة لتسألها بعدها بجدية:
-هو أنا هافضل هنا كتير؟
أجابتها الممرضة بابتسامة مصطنعة:
-وقت ما الدكتور يسمح بخروجك هتطلعي على طول، حمدلله على سلامتك
ردت باقتضاب:
-شكرًا
تلمست “آسيا” بيدها جبينها المغطى بالشاش الطبي، تأوهت بصوت خفيض من الألم الموجع، شعرت بوجود خطب ما بها، بخلل في تعاقب الأحداث في رأسها وتداخلها بشكل مزعج، صراعات عنيفة، وعود بالتهديد، ورغبة عارمة بالانتقام، بدت كمن عاد لتوه من رحلة سفر طويلة، رفعت عينيها للأعلى لتحدق في والدتها التي ولجت إلى غرفتها، رمقتها بغرابة وكأنها تتفحصها لأول مرة، تعجبت “نادية” من تطلعها نحوها بتلك الطريقة المريبة، تجاوزت عن هذا لتسألها بتلهفٍ حانٍ:
-عاملة إيه يا بنتي؟ إنتي كويسة دلوقتي؟
لم تجبها بل سألتها بعبوس وقد ضاقت نظراتها نحوها:
-مين جابني هنا؟
تذكرت “آسيا” آخر ما عايشته من صدام عنيف مع “سامر” كاد يودي بها إلى الهلاك الحتمي، هاجت الدماء في عروقها وهي تتساءل:
-الحقير الواطي “سامر” فين؟ عمل فيا إيه؟
نظرت لها والدتها باندهاش قبل أن تسألها بتوجسٍ كبير:
-ده مين يا “آسيا”؟
توعدته بعدوانية:
-أنا مش هاسيبه، هاعرفه مين هي “آسيا شرف الدين”!
ابتلعت “نادية” ريقها بتوترٍ وهي شبه متيقنة من أن ابنتها ربما تكون قد استعادت ذاكرتها، فحديثها بذلك الأسلوب الهجومي يتناقض تمامًا مع الهدوء الذي كانت تتحدث به في الأونة الأخيرة، جزعت حينما تابعت ضاغطة على كل كلمة تتفوه بها:
-“آسيا” بتاعة زمان رجعت من تاني!
ارتجفت نبرتها وهي تسألها:
-إنتي افتكرتي كل حاجة؟
كانت ملامح وجهها إلى حد ما جامدة ومنذرة بشرٍ خفي، ردت بهدوءٍ مربك:
-أيوه
حركت “آسيا” رأسها للجانب قليلاً لتحدق في وجه “وحيد” الذي دخل إلى غرفتها قائلاً:
-أنا حطيت مبلغ في الحسابات يا “نادية” و……
توقف عن إكمال جملته مع رؤيته لـ “آسيا” في كامل وعيها، دنا منها مهللاً:
-حمدلله على سلامتك يا بنتي، أنا أسف مخدتش بالك إنك فايقة
ضاقت حدقتاها مرددة باقتضاب:
-الله يسلمك
أضاف بحماسٍ طفيف:
-إن شاء الله رقدتك ماتطولش هنا
ردت عليه:
-أنا عاوزة أرجع بيتي!
ابتسم قائلاً:
-حاضر، على بكرة بالكتير هاتطلعي، الدكتور لسه مقابلني وقايلي ده
مدت “نادية” يدها لتضعها على كف ابنتها، مسحت عليه بلينٍ وهي تقول لها:
-البيت وحش من غيرك يا حبيبتي، أنا هافضل معاكي لحد ما نرجع سوا
التفتت نحوها “آسيا” لتقول بجمودٍ:
-أنا بأتكلم عن شقتي مش بيتك إنتي!
شعرت والدتها بانقباضة مخيفة تعتصر قلبها من الخوف، طالعتها بعينين قلقتين وهي تسألها:
-هو إنتي مش هاترجعي معايا؟
أجابتها بحسمٍ:
-لأ، مالوش لازمة!
استشعر “وحيد” حالة الارتياب الخائف التي انتابت زوجته، خشي من تأثرها بقرار “آسيا” الصادم وانعكاسه على وضعها الصحي، استطرد قائلاً بنزق ليقطع عليها أفكارها:
-مش هاينفع تعملي ده إلا بموافقة جوزك، ولا نسيتي يا “آسيا” ده!
احتدت نظراتها مرددة بجدية واضحة لتؤكد له وعيها بكل ما مرت به خلال الفترة الأخيرة:
-“معتصم” مالوش كلمة عليا، واللي حصل بينا غلطة وهاتتصلح قريب ………………………………….. !!!!
……………………………………………………………

يتبع >>>>>

error: