رواية (المحترم البربري)

المحترم البربري
،،،،،،،،،،
الفصل الخامس والعشرون

لحظات مرت عليها كالدهر وهي تطالعها باندهاش تام بعد أن قالت عبارتها الأخيرة، أحست “نادية” بألم يعتصر قلبها حزنًا على وحيدتها التي تعاني من بوادر شيء خطير تخشى الاعتقاد في إصابتها به، رسمت بسمة مصطنعة على شفتيها المرتعشتين وهي تسألها بتردد:
-يعني .. ده بجد؟ إنتي مش فاكرة حاجة خالص؟
نظرت لها “آسيا” بنصف عين قبل أن تجيبها بنفاذ صبرٍ:
-ايوه
ثم خرجت منها تأويهة موجوعة وهي تحاول تحريك جسدها لتفكه من حالة التيبس المسيطرة عليه، وجدت صعوبة في فعل ذلك بسبب ساقها المكسورة، والأربطة الطبية المحاوطة لمنطقة الخصر، تنهدت هامسة بضعفٍ:
-أنا تعبانة
أدركت “نادية” أنها إلى الآن لم تستدعِ الطبيب ليقوم بفحص حالتها بعد استعادتها لوعيها، انتفضت من جلستها لتقول بتلهفٍ:
-أنا هناديلك الدكتور يشوفك، معلش يا بنتي سامحيني فرحتي بإنك فايقة وبتكلميني نستني ده
ردت عليها “آسيا” بعبوس رغم خفوت صوتها وهي تحجب عينيها:
-أنا عاوزاكي تطفي النور أو تضلمي الأوضة، عاوزة أنام، تعبانة مش قادرة خالص
وصدر عنها أنات أخرى تشير إلى تألمها، أحنت “نادية” رأسها على جبين ابنتها لتقبله بحنوٍ، اعتدلت في وقفتها قائلة لها بودٍ كبير:
-حاضر، أنا هاعمل كل اللي إنتي عاوزاه
ورغم إحساس الفرحة الذي غمرها لكونها قد عادت إلى واقعهم الملموس إلا أن قلبها لا يزال قلقًا على حالتها العقلية، خرجت من الغرفة وهي تكاد تتماسك في خطواتها، رأها “وحيد” على ذلك الوضع المربك فسألها بجدية:
-“نادية”، في إيه؟
أجابته بتلهفٍ:
-“آسيا” فاقت!
اتسعت ابتسامته المتضامنة مع ذلك الخبر الفرح قائلاً:
-الحمدلله، مش قولتلك
ردت عليه بغموض وهي تتعلق في ذراعه:
-لازم نناديلها الدكتور حالاً، في مشكلة كبيرة أنا خايفة منها
قطب جبينه متسائلاً:
-مشكلة إيه دي؟
……………………..……………..
-إنت مصدق التخاريف دي؟
قالها “معتصم” بعصبية واضحة لابن عمه الذي هاتفه ليخبره بآخر المستجدات المتعلقة بـ “آسيا”، دفع مقعد مكتبه للخلف وانتصب في وقفته ليحدق أمامه بنظرات مظلمة، لم يصدق حرفًا واحدًا من حديثه، واحتج بشراسة على كل ما تفوه به، تجول في غرفة مكتبه محاولاً ضبط أعصابه المنفلتة ليستمع إلى باقي مكالمته، في حين تابع “نبيل” مستنكرًا:
-وهو الكلام ده في هزار؟
أجابه مؤكدًا وقد توهجت نظراته بحمرة ملتهبة:
-أيوه، مع البني آدمة دي كل حاجة ممكنة، تلاقيها بتمثل عليكم، عاملة فيلم علشان تلمكم حواليها
سأله مستفهمًا:
-وهتستفاد إيه من ده كله؟
رد عليه بزفير ثقيل:
-الله أعلم!
ثم ضاقت أعينه متابعًا بنبرة شبه متيقنة:
-بس اللي أنا واثق فيه إن “آسيا” مش سهلة، وهتعمل أي حاجة علشان تاخد حقها وتنتقم من العيلة
رد عليه “نبيل” بهدوء:
-والله محدش يقدر يلومها بصراحة، إنت في نظرها خدت كل حاجة منها
استشاط “معتصم” غضبًا من طريقته في تبرير تصرفاتها، فصاح منفعلاً:
-أنا ملاحظ إنك واقف في صفها، بتدافع عنها زي ما تكون …..
قاطعه “نبيل” موضحًا قبل أن يتجاوز في الحديث معه:
-مافيش داعي تكمل، أنا بأقول الكلام اللي المفروض تسمعه، طنط “نادية” تبقى مامتها، وهي حرة معاها، الاتنين يتعاتبوا يتخانقوا، يبقوا في مشاكل سوا، محدش فينا ليه يتدخل، لأن لو ده كان حاصل معاك إنت مكونتش هاتقبل إن الغريب ياخد مكانك ويستولى على حقك
رد عليه بنبرة محتقنة:
-مش أنا اللي حرمتها منها
أضاف “نبيل” بصوته الهادئ محاولاً امتصاص انفعالاته:
-تمام إنت معاك حق في ده، وهي دلوقتي رجعتلها، فالأحسن إنك تكون على الحياد يا “معتصم”، كفاية أوي اللي “آسيا” شافته وبقت فيه
-قصدك إيه؟
سمع صوته زفيره قبل أن يجيبه:
-سيب الاتنين مع بعض يتفاهموا على طريقتهم
التوى ثغره قائلاً بسخرية:
-لولا إني عارفك كويس، كنت قولت إنك بدأت تحبها وعلشان كده عمال تخلقلها في أعذار
انزعج “نبيل” من تلميحه فنهره قائلاً:
-اتكلم جد يا “معتصم”، أنا بأدافع عن الحق!
رد مستهزئًا:
-ماشي يا عم الحقاني
ثم صمت للحظة قبل أن يتابع بغموض مريب:
-وأنا أوعدك هافضل ساكت، هاتفرج على اللي بيحصل، بس مش لكتير!
……………………..……………….
فركت كفيها معًا وهي تنتظر بترقب خروج الطبيب من الداخل ليخبرها بما آلت إليه الأمور في وضع ابنتها الصحي، رفضت “نادية” الابتعاد وظلت ماكثة بجوار غرفتها تدعو الله أن يهون عليها آلامها، راقبها “وحيد” بنظرات مشفقة، فهي مستمرة على قلقها لعدة أيام حتى أنها أهملت في متابعة صحتها، فقط لتبقى على مقربة من ابنتها، تنهد بعمق ثم تحرك ليقف إلى جوارها، وضع يده برفق على كتفها ليربت عليه كمحاولة طيبة منه لبث الطمأنينة في نفسها القلقة، استطرد حديثه قائلاً:
-الدكتور هايطلع دلوقتي ويطمنك
ردت عليه بتوترٍ:
-خايفة أوي يا “وحيد”، دي معرفتنيش وبتتوجع جامد
مسح على ظهرها برفق قائلاً لها:
-معلش، هي بقالها فترة في الغيبوبة، طبيعي يكون ده رد فعلها
-استر يا رب
قالتها برجاءٍ وهي تنظر للسماء آملة أن يستجيب المولى لدعائها المتواصل، أخفضت أعينها من جديد لتحدق في باب الغرفة، شعرت بوخزة في قلبها لمجرد رؤية الطبيب أمامها، هبت واقفة وهي تسأله بتلهفٍ:
-ها يا دكتور؟
أجابها الأخير بنبرة رسمية وقد بدت الجدية واضحة على تعابيره:
-وضعها الصحي في تحسن، أما مشكلة فقدان الذاكرة فده محتاج لمتابعة
سأله وحيد مستفهمًا:
-يعني هي فعلاً مش فاكرة حاجة من اللي حصلتلها؟
أجابه بعمليةٍ:
-وارد إن ده يحصل كرد فعل طبيعي للحوادث العنيفة، في جزء من المخ بيتعطل عن العمل وبيتأثر بالصدمات القوية، ومن الواضح إن الخبطة أثرت على مراكز الذاكرة عندها
نظرت “نادية” لزوجها بشرود وبدأت تفكر في وضع ابنتها لاحقًا إن ظلت على تلك الحالة، سألته بقلق أكبر:
-يعني هي مش هتفتكرنا خالص؟
أجابها الطبيب بهدوء:
-مقدرش أفيدك، ده راجع لتشخيص حالتها مع دكتور متخصص هو اللي يقدر يحدد درجة فقدان الذاكرة وطرق العلاج
سأله “وحيد” بجدية:
-يعني لو عملنا ده كله معاها هي هتقدر تخف وترجع تفتكر كل حاجة؟
أجابه ببساطة مسهبًا في الحديث:
-مش مستبعد، ولازم تحطوا في الاعتبار استعداد المريض للاستجابة للعلاج، لأن في بعض الأحيان المريض بيكون جواه رغبة شديدة إنه ينسى فترة معينة من حياته وده لو تزامن مع حادث عنيف فخلايا المخ بتعمل زي حجب مؤقت عن كل الذكريات أو الأحداث اللي مش عاوز يفتكرها
مد “وحيد” يده ليصافحه قائلاً:
-تمام يا دكتور، شكرًا ليك
سألته “نادية” بقلبٍ ملتاع:
-طب دلوقتي أقدر أدخل أشوف بنتي؟
ابتسم قائلاً:
-اه مافيش مانع، هي خدت حقنة مسكنة، بس يا ريت حضرتك ماتطوليش جوا، المريضة محتاجة ترتاح
-حاضر، هابص عليها واطمن
وما إن سمح لها الطبيب برؤيتها حتى ولجت إلى داخل الغرفة لتمكث بجوارها، جلست “نادية” على طرف الفراش تتأملها بعينين دامعتين، شعرت بالحزن يتملكها لعجزها عن تقديم أي مساعدة لها، رغمًا عنها بكت متأثرة لسكونها المخيف، مررت أنظارها على أجزاء جسدها الملتفة بالشاش الطبي والجبس، زاد بكائها وامتزج مع نحيبها الخافت، لم تمسح عبراتها ومدت يدها نحو كفها المسنود بجوار جسدها، مسحت عليه بنعومة هامسة لها بندمٍ:
-حقك عليا إن كنت في يوم قصرت في حقك ومعرفتش أوصلك، أنا هنا جمبك يا بنتي!
……………………..……………………...
انتظر خلو غرفتها من الزوار ليتمكن من الذهاب إليها دون أن يعترض أحد على سبب وجوده أو يمنعه عن المواجهة التي رتب لها في ذهنه كثيرًا، تحجج “معتصم” بالكثير من الأعذار ليتجنب رؤيتها مع العائلة رغم مرور عدة أيام على معرفته بمسألة استعادتها لوعيها وادعائها لفقدان الذاكرة، أراد الانفراد بها ليتأكد من شكوكه، ووجوده وسط الجميع ربما سيعوقه من معرفة نواياها، كان يتقصى أخبارها أولاً بأول، وانزعج كثيرًا من الاهتمام المبالغ فيه من أفراد عائلته بها، خاصة “نبيل” الذي داوم على زيارتها يوميًا، حتى ابنة عمه “أية” أتت لزيارتها والتعرف إليها كنوع من المجاملة لـ “نادية”، أيقن في نفسه أن “آسيا” تستغل تلك الفرص الذهبية للسيطرة على عقولهم بطريقتها الماكرة في الإيقاع بهم.
وحينما حانت اللحظة المناسبة أقدم على ما انتوى فعله، ظل “معتصم” متواريًا عن الأنظار حتى تأكد من ابتعاد والدتها عن غرفتها وذهابها بصحبة أبيه لتناول الطعام، أدرك أن الوقت قد بات مناسبًا لرؤيتها، لذا أسرع في خطواته متلفتًا حوله بحذرٍ، أدار مقبض الغرفة ببطء وحرص ثم تسلل إلى الداخل موصدًا إياه خلفه، اقترب من فراش “آسيا” ليطالعها بنظراته المغلولة، كانت شبه نائمة، مستكينة في رقدتها، لم تشعر بوجوده معها في الغرفة، حافظ “معتصم” على هدوئه تاركًا لأعينه الفرصة لتأمل سحرها الشيطاني الخداع الذي ينطلي علي الجميع إلا هو، تمتم مع نفسه قائلاً بتجهمٍ:
-تقدري تضحكي على أي حد إلا أنا يا “آسيا”!
دنا منها أكثر ليتأملها عن قرب، بقيت حدقتاه مثبتة على وجهها الهادئ دون أن يرف له جفن، أخفض رأسه نحوها لتضرب أنفاسه وجنتها وهو يقول لها بهمسٍ:
-أنا عارف إنها تمثيلية رخيصة منك علشان تقدري تعملي اللي في دماغك، بس ده مش هايحصل، أنا هاقفلك
في تلك الأثناء، شعرت “آسيا” بسخونة طفيفة تداعب بشرتها فأصابتها بالقشعريرة، لكن ذلك الهمس البعيد الذي اخترق أحلامها جعلها تستفيق إجباريًا، فتحت عينيها ببطء غير متوقعة ذلك القرب المريب لأحدهم منها، فزعت من رؤية تلك الأعين المحدقة بها بغرابة أجفلت بدنها، أبعدت وجهها عن أنفاسه وحدقت فيه بعينيها المتسعتين، سألته بصوت شبه متحشرج وخفيض:
-إنت مين؟
ظل “معتصم” على قربه المهدد لسكونها لثوانٍ متأملاً حركة بؤبؤيها القلقين، كانت نظراتها نحوه تشير إلى خوفها منه، تلك النظرات التي لم يعتدها منها، اعتدل في وقفته ليقول لها ببرود:
-أنا جاي اطمن عليكي
حاولت “آسيا” أن تدقق النظر في تفاصيل وجهه المألوف نوعًا ما، لم يكن غريبًا عنها، شعرت أنها التقت به من قبل في مكان ما، أو أنه مرتبط معها بذكرى معينة لكنها لم تستطع التخمين، أرهقها التفكير في الأمر فسألته من جديد:
-هو أنا أعرفك؟
أجابها مبتسمًا بابتسامة بذل فيها جهدًا ليخفي ما يشعر به نحوها من كره شديد:
-لأ، بس أنا عارفك كويس يا “آسيا شرف الدين”
عبست ملامحها وهي تردد باستغراب ملحوظ:
-إنت عارف اسمي
دس يديه في جيبي بنطاله قائلاً:
-أنا أعرف كل حاجة عنك
حاولت الاعتدال في نومتها الغير مريحة لتحدق فيه بفضول، بدا حديثه غامضًا ويحمل الكثير من المفاجآت، شعرت من طريقته في الحديث معها أنه ربما يحمل أسرارها، لذلك سألته باهتمام انعكس على تعبيراتها:
-زي إيه؟
سيطر “معتصم” على ضحكة متهكمة ساخرة من الموقف برمته، فشابة مثلها تجيد التلاعب بالعقول والأبدان تدعي البراءة هكذا كالحملان، استشعر سخافة الموقف ودناءتها، بل إنه أشاد في نفسه ببراعتها في التمثيل، لم يصدق ما تتلفظ به، ورمقها بنظرات غريبة تحمل الاستنكار، ومع ذلك حاول الحفاظ على ثباته أمامها ليكشف نواياها الحقيقية، أخرج زفيرًا مطولاً من صدره قبل أن يقول لها:
-كل حاجة هتعرفيها في وقتها
زادت حيرتها مع رفضه منحها إجابات وافية عنها، فسألته بانفعال قليل:
-وليه مش دلوقت؟
أحنى جسده عليها مجددًا ليقلص المسافات بينهما، ركزت “آسيا” أعينها مع حدقتيه الغامضتين، ازدردت ريقها وهي ترى انعكاس وجهها فيهما، استشعرت خطرًا ما خفيًا، لكنها لم تستطع البوح بما يختلجها من مشاعر مقلقة، رمشت بعينها بتوتر حينما رد عليها:
-ماتستعجليش، احنا لسه في أول المشوار، بس المهم نشوف مين هايكشف .. قصدي هيعرف التاني الأول ……………………..…. !!!
……………………..……………………..…….

يتبع >>>>>>

error: