رواية (المحترم البربري)

المحترم البربري

الفصل السابع والعشرون
دار في خلده أنها تفعل ذلك عمدًا لتستحوذ على اهتمام من حولها مدعية البراءة والضعف، خاصة “نادية” تلك التي وهبته السعادة والدفء والحنان وعوضته عن فقدان الأم، علم في نفسه أنها ترتدي قناعًا لا يليق بها من خلال عبوسها الزائف، خوفها المبرر منه يؤكد له شكوكه نحوها، حسنًا سيشعرها أنها كالأميرة المدللة فقط ليكشف ملعوبها، دفع “معتصم” مقعد “آسيا” المتحرك بتريث نحو المدخل، كانت منكمشة على نفسها وهي لا تزال مصدومة من حديث والدتها الأخير عنه، إنها ابنها الآخر، ربما البكري، لكن لماذا ذلك الجفاف والنظرات غير المريحة في المعاملة؟ ازدردت ريقها وفضلت التركيز حاليًا فيما هي مقبلة عليه، أحست بألفة عجيبة تربطها بذلك المكان، ورغم هذا استشعرت وجود خطب ما، لم تكن مسرورة لتواجدها به، بل شعرت بالانقباضة والضيق، وكأن جدرانه تحمل ذكرى مؤلمة أو حادثة مخيبة للآمال، ولجت إلى داخل المصعد بصحبته، تخشب جسدها عندما قالت “نادية”
-اطلعوا إنتو واحنا هنحصلكم
ردت عليها “آسيا” متسائلة بنبرة مهتزة قليلاً:
-هو إنتي مش جاية معانا؟
أجابتها والدتها ببسمة صافية:
-هنطلع وراكم على طول
وقبل أن تسألها مرة أخرى كانت يد “معتصم” تسبقه في الضغط على زر الطابق المنشود فانغلق المصعد وبقيا الاثنان سويًا، لوهلة شعرت برجفة تعتريها من تواجدها معه، ضغطت على أصابع يدها كمحاولة لتخفيف حدة توترها، ظلت أنظار “معتصم” مسلطة عليها بقوة، لم ينبس بكلمة مكتفيًا بالتحديق الغامض بها، تحرجت من طريقة تطلعه لها، رغبت في صرف انتباهه عنها فسألته بارتباك:
-إنت بتبصلي كده ليه؟
أجابها بجمود وهو يدس يده في جيب بنطاله:
-عادي
لم تكن أن فضولها كان يحثها على الاستفسار عن صلة القرابة بينهما، فجملة والدتها الأخيرة قد صدمتها كثيرًا، سألته بحذرٍ وهي ترمش بعينيها:
-ليه مقولتش إنك ابن ماما؟
بدا وجهه غير مقروء وهو يجيبها بنفس البرود:
-لأني فعلاً مش كده
اعترتها دهشة عجيبة من جوابه، كيف لا يكون شقيقها من طرف الأم وقد صرحت والدتها بذلك، ضيقت نظراتها نحوه وقد ازدادت حيرتها، أرادت أن تستفسر عن المزيد منه لكن توقف المصعد، ابتسم لها قائلاً بهدوء يلبكها:
-وصلنا!
دفعها من جديد إلى الخارج متوقفًا بها أمام باب منزله، رفعت “آسيا” وجهها للأعلى لتحدق بنظرات ضيقة في اللافتة، انتابها إحساسًا عميقًا بأنها قد قرأته من قبل، وربما قد جاءت إلى هنا، ومضات متلاحقة ومتداخلة ضربت رأسها متضمنة صفعة مؤلمة على وجهها، وشراسة منقطعة النظير على ذراعها، وجدال عنيف انتهى بوعيد وسباب، جفلت شاهقة حينما انتشلها “معتصم” من عاصفة الذكريات المبهمة قائلاً:
-ده البيت!
حدقت فيه بشحوب فرفع حاجبه للأعلى متعجبًا من ذلك الوجه الذي تطالعه به، سألها باستغراب:
-في إيه؟
سألته بصوتٍ شبه لاهث:
-هو أنا جيت هنا قبل كده؟
رمقها بنظرات غريبة لكنها كانت تبعث شحنة غاضبة، ابتلعت ريقها من جديد وهي تراه ينحني عليها ليستند بكفيه على مرفقي مقعدها المتحرك، سلط أنظاره عليها هامسًا لها بصوتٍ جعل الخوف يخترقها:
-تفتكري إيه؟
أغمضت عينيها مبعدة وجهها عن أنفاسه التي لطمت بشرتها، شعرت أن وراء سؤاله المقتضب شيئًا سيئًا، ضاعف من حيرتها وتخبطها بذلك الأسلوب الغامض في الحوار، أكمل همسه قائلاً:
-أنا أكتر واحد فاهمك يا “آسيا”!
فتحت عينيها مصدومة من جملته، رأته يرمقها بنظرات تحوي كرهًا خفيًا، توترت أنفاسها، وتحرك بؤبؤاها بحركات عصبية، التفتت برأسها للجانب عندما سمعت صوت توقف المصعد، تبعه خروج والدتها منه وبصحبتها “وحيد”، تساءلت “نادية” باستغراب وقد رأتهما واقفين عند عتبة المنزل:
-إنتو لسه هنا؟ ده أنا افتكرتكم دخلتوا الشقة
اعتدل “معتصم” في وقفته قائلاً بابتسامة سخيفة:
-كنا مستنينكم!
أضاف “وحيد” بحماسٍ:
-هتنوري البيت يا “آسيا”
ابتسمت له مجاملة، ثم استدارت برأسها نحو باب المنزل ساحبة شهيقًا عميقًا تشحذ به نفسها قبل أن تلج إلى الداخل، تلك المرة قامت والدتها بدفعها بحماس متمنية أن يكون القادم أفضل لها، تأملت “آسيا” الصالة بنظرات شاملة، لم تشعر بالغرابة لتواجدها فيها، بدت إلى حد ما مألوفًا لها، أنبئها حدسها أنها قد تواجدت هنا من قبل، ومع ذلك لم تشعر بأنها أحد قاطني المنزل، حالة من التناقض المريب سيطرت عليها، كذلك تغلغل فيها إحساس الغربة مع زيادة تأملها له، شعرت أن ذكرياتها خاوية هنا، مالت عليها “نادية” لتقول لها بودٍ:
-ده بيتك يا حبيبتي
مررت “آسيا” أنظارها على كل شبر فيه باحثة عما يطمئنها، تجمدت حدقتاها على تلك الصورة الفوتوغرافية، أمعنت النظر على من فيها، تجهمت ملامحها بدرجة كبيرة، لم تكن ضمن المتواجدين بها، إذًا فما شعرت به كان حقيقيًا، هذا ليس منزلها كما ادعت والدتها، بل هي مجرد ضيفة مؤقتة فيه، عبست تعابيرها عفويًا مع إدراكها لحقيقية جديدة في ماضيها الغامض، تابعت “نادية” قائلة بسعادة:
-أوضتك فوق يا “آسيا”، معلش هتعبك شوية، بس هنا الريسبشن والصالون
خرج صوتها مهزومًا محبطًا وهي ترد:
-مافيش مشكلة
لن تتذمر بشأن أي شيء حاليًا، فوجودها هنا لفترة معينة ريثما تتعافى وتستعيد ذاكرتها، حركت “نادية” مقعدها نحو الدرج الداخلي مكملة حديثها الودود:
-نفسك تاكلي إيه على الغدا؟ أنا بنفسي هاطبخلك النهاردة، وكمان هايكون الخدامين تحت أمرك يعملولك كل اللي إنتي عاوزاه
ردت “آسيا” بفتور وهي تعلق أنظارها للأعلى:
-أي حاجة!
-أظنك محتاجة مساعدة
انتفضت “آسيا” في جلستها لتخفض عينيها نحو “معتصم” الذي وقف إلى جوارها من جديد، امتقع وجهها متسائلة بعدم فهم:
-في إيه؟
أجابها ببساطة وهو يومئ بحاجبيه:
-علشان تطلعي فوق
أشارت له بكفها معترضة:
-لأ، شكرًا، أنا ….
قاطعها وهو ينحني نحوها ليحملها من جديد دون رغبتها:
-عارف، مش عاوزة مساعدة من حد
شهقت مصدومة وهي تطوق عنقه بذراعيها كي لا تسقط، طالعها عن قرب بنظراته غير المريحة هامسًا لها:
-أتمنى قعدتك هنا ماتطولش، الكل بيجاملك وبس!
كان وقحًا في قوله الأخير، وكأنه يطردها دون أي مقدمات، انفرجت شفتاها بحرج كبير وشعرت بنغصة قوية تؤلم صدرها وكأنها شخص منبوذ وجودها مفروض على أصحاب ذلك المنزل، أشاح بوجهه بعيدًا عنها متعمدًا تجاهلها ليزيد من إحساسها بالمهانة والوحدة، أكمل صعوده بها إلى الطابق العلوي حيث تتواجد غرفتها، أو غرفة الضيوف سابقًا، فقد تم إعدادها لتكون غرفتها في الوقت الحالي، أنزلها على ساقيها دون أن يحرر خصرها من ذراعه، انزعجت من إمساكه بها قائلة:
-شكرًا، أنا بأعرف أقف
نظر لها بجمود وهو يرد متهكمًا:
-ماظنش!
تعمد استفزازها بطريقته الجافة في التعامل معها، وقبل أن ترد عليه كان والده قد تولى إحضار مقعدها لها، استخدمت “آسيا” كفيها في إبعاد “معتصم” عنها لتتجه نحو المقعد، جلست عليه وقام “وحيد” بدفعها للأمام، لحقت بهم “نادية” وهي تثرثر بسعادة عما تريد فعله من أجل الترحيب بابنتها، لم تكترث الأخيرة بكل ذلك، فشاغلها الأكبر هو الشوكة المسماة بـ “معتصم”.
…………………………………………..
أجهدت عقلها في إجباره على تذكر ماضيها المنسي، كانت بحاجة لأي شيء يساعدها على ذلك لترحل سريعًا من هنا، فشلت “آسيا” في تذكر أي شيء حتى لو كان بسيطًا، فقط بعض الومضات المتداخلة التي لا تكفي لتعطيها الصورة كاملة، ولم يمنحها قاطني المنزل ما قد يمكنها من ذلك، بدت كمن يحارب بمفرده في معركة خاسرة، تملكها الإحباط الشديد، خاصة أنها تعلم بعدم رغبة من بالمنزل بها، وأن تلك المعاملة اللطيفة ماهي إلا وضع مؤقت سيتذمرون منه بعد فترة، وستغدو ضيفة ثقيلة بأي حال من الأحوال، مكثت معظم الوقت بغرفتها تتناول الطعام بها، وتتحجج بحاجتها للراحة، لم تكن تتجول إلا في الشرفة الملحقة بها مستخدمة المقعد المتحرك، حاولت ألا تجعل حضورها مزعجًا كي لا تلجأ لمساعدة أحد وحتى لا تشعرهم بأن طلباتها مرهقة لهم، تعجبت “نادية” من عزوفها عنهم، وسألتها بضيق:
-مالك يا بنتي؟ دايمًا كده أعدة لوحدك وقليل لما بتخرجي من الأوضة
أجابتها مبتسمة:
-عادي يعني، المنظر هنا حلو
نظرت والدتها إلى المنظر الطبيعي المطلة عليها الشرفة، وافقتها في الرأي وهي ترد:
-فعلاً، بس ده مايمنعش إنك تنزلي تحت، الدكتور قال إن الحركة مفيدة ليكي الفترة دي
هزت رأسها قائلة:
-أوكي، هابقى اعمل كده
انتبهت كلتاهما إلى صوت الدقات الخافتة على باب الغرفة ثم تبعها ظهور “أية” وهي تطل برأسها منه، تهللت أساريرها هاتفة بلطفٍ:
-هاي ممكن أدخل
أشارت لها “نادية” مرددة بترحاب كبير:
-تعالي يا “أية”
أقبلت على زوجة عمها حاملة في يدها باقة من الزهور، ثم قبلتها من وجنتيها لتقول بابتسامتها المرحة:
-يا رب مكونش معطلاكم عن حاجة
ردت عليها “نادية” بودٍ:
-احنا أصلاً قاعدين مش بنعمل حاجة، ده كويس إنك جيتي!
التفتت “أية” نحو “آسيا” ثم انحنت عليها لتقبلها برقة وهي تقول:
-هاي، إنتي فكراني، أنا “أية” جيت زورتك في المستشفى كذا مرة
ابتسمت لها الأخيرة قائلة:
-أيوه، عارفاكي
سألتها “أية” باهتمام:
-إنتي عاملة إيه دلوقتي؟
أجابتها بنفس البسمة المتكلفة:
-تمام الحمدلله
ناولتها باقة الزهور قائلة:
-اتفضلي، الورد ده علشانك
أخذتها “آسيا” منها وهي تشكرها:
-ميرسي على ذوقك
أضافت “أية” بنفس الحماس المرح:
-وفي شيكولاته كمان، احنا كبنات بنحب اللي يهادينا بيها
-أها
وزعت “نادية” أنظارها بينهما بسعادة، لاحظت الانسجام الواضح بينهما فتمنت في نفسها أن تعقد ابنتها صداقة معها، فكرت في ترك مساحة لهما من الحرية لتثرثرا في حديث الفتيات المعتاد، لذا أردفت قائلة:
-طيب هاسيبكم يا بنات مع بعض وهانزل أعملكم أحلى نسكافيه، وخدوا راحتكم
عضت “أية” على شفتيها قائلة:
-اوكي يا أنطي
تابعت “آسيا” والدتها بعينيها وهي تنصرف من الغرفة ثم عاودت التحديق أمامها حتى سألتها ضيفتها:
-مبسوطة هنا؟
التفتت نحوها لتجيبها باقتضاب:
-يعني
تنهدت “أية” مضيفة بمرحٍ لطيف:
-على فكرة إنتي طلعتي لذيذة مش زي ما كنت فكراكي قبل كده
زوت “آسيا” ما بين حاجبيها باستغراب جاد، فقد تضمنت جملتها غموضًا أثار فضولها، للحظة فكرت في استدراجها في الحديث لتعرف منها ما يخبئه الجميع عنها، لذا سألتها مدعية البراءة:
-ليه هو أنا كنت غلسة معاكي
هزت “أية” رأسها نافية:
-لأ طبعًا، احنا مكوناش نعرف بعض شخصيًا، بس الكلام كتير كان عليكي
زاد فضولها مع ما تتفوه به من كلمات موحية، اعتدلت في جلستها على المقعد لتطالعها بنظرات قوية وهي تسألها:
-كلام إيه؟
خشيت “أية” أن تكون قد تفوهت بحماقات فعضت على شفتها السفلى هامسة بحرجٍ:
-أوبس شكلي عكيت في الكلام
لم تكن “آسيا” لتضيع تلك الفرصة الثمينة دون أن تغتنمها، انحنت للأمام قليلاً لتتمكن من مد ذراعها نحو ضيفتها، وضعت كفها على فخذها لتضغط عليه وهي ترجوها بحزنٍ زائف:
-“أية”، إنتي تعرفي عني حاجة، بليز ساعديني، أنا عاوزة أفتكر ومش عارفة
توترت الأخيرة من الموقف الحرج الذي وضعت فيه، اعترضت قائلة بارتباك:
-بس …
قاطعها “آسيا” قائلة بجدية:
-صدقيني، إنتي كده بتخدميني
صمتت “أية” لتفكر مليًا فيما ستتفوه به، كانت في حيرة من أمرها، لكنها ضعفت أمام توسلات “آسيا” ورجائها اللطيف، ظنت أنها بذلك ستمد يد العون لها وتساعدها على تجاوز أزمتها والشفاء مما هي فيه، أخرجت زفيرًا بطيئًا من صدرها لتقول بعدها باستسلام:
-بصي أنا معرفكيش شخصيًا، بس إنتي كل أخبارك كانت على النت
تعقدت ملامح “آسيا” وهي تردد:
-على النت؟!
أومأت “أية” برأسها مؤكدة:
-أيوه، إنتي موديل مشهورة أوي
أرجعت “آسيا” ظهرها للخلف لتستند بإرهاق على مقعدها، انفصلت ذهنيًا عن ضيفتها، وشردت أمامها بنظرات فارغة تفكر فيما أخبرتها به، هي فتحت لها بابًا من العدم، وأوجدت لها وسيلة ستساعدها كثيرًا، إذًا كل ما يخصها متاح على صفحات الانترنت، وما عليها إلا الولوج فقط إلى أحد تلك المواقع لتعرف ما يخبئه عنها الأخرون، شعرت بالحماس الممزوج بالتوتر، ومع ذلك ليس كل ما يجهله الفرد محمودًا …………………………… !!
………………………………………………………

يتبع >>>>

error: