رواية (المحترم البربري)

الفصل الثامن
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛

لم تكتفِ بنزع فتيل القنبلة في مكتب المقاولات والإنشاءات التابع لخصمها اللدود مسببة انفجارًا مدويًا في الأوساط المحيطة به بل أرادت إحراق أعصابه أضعافًا مضاعفة، سارت “آسيا” بخيلاء وسط العيون التي تلتهمها بشراهة، تعمدت رسم تلك الابتسامة المغترة على شفتيها لتؤكد للجميع مقولة “احذر غضب النساء ومكائدهن”، خرجت من المبنى متلفتة حولها، ظل عقلها يفكر بطريقة شيطانية واضعًا لها الكثير من الأفكار الجهنمية للانتقام من “معتصم”، طرأ بخلدها فكرة إتلاف سيارته، نعم قذلك الأمر حتمًا سيصيبه بالجنون، لم يكلفها الأمر سوى بضعة ابتسامات رقيقة وكلمات معسولة ألقتها على موظف الأمن لتتمكن من الإيقاع به في شباكها لتعرف بالضبط مكان سيارته المصفوفة ونوعيتها، اتجهت بعد ذلك إلى سيارتها لتستقلها وانتظرت بداخلها لبعض الوقت مترقبة اللحظة المناسبة لتنفيذ خطتها، وحينما هدأت الأجواء قليلاً وأصبحت الحركة قليلة نسبية شرعت في القيام بها، وبحسبة عقلية بسيطة استطاعت أن تقدر المسافات بين السيارتين لتتمكن من الاصطدام بها وإحداث بعض الخسائر في صندوقها الخلفي، انتفض جسدها بعنف وهي ترتطم بها، لكن ضاعف ذلك من حماسها، كركرت عاليًا قائلة لنفسها بتفاخرٍ:
-تستاهل
ركض أحد موظفي الأمن ناحيتها متسائلاً بفزعٍ وقد رأي ما فعلته:
-يا مدام، إيه اللي بتعمليه ده
تجاهلته مرددة لنفسها:
-كانت نفسي أشوف شكلك وإنت شايفها متبهدلة كده!
لم تتوقف عن الضحك الساخر وهي تستدير برأسها للخلف لتبتعد بالسيارة عن الموقف، حاول موظف الأمن اللحاق بها لكنه فشل مما اضطره لاستخدام اللاسلكي الخاص به للإبلاغ عنها لمسئوليه الأعلى رتبة منه، تذكرت “آسيا” أنها لم تضع له شيئًا يستفزه ويعلمه بهويتها، أوقفت السيارة فجأة، ثم بحثت بداخل حقيبتها عن ورقة فارغة، لم تجد إلا إيصال شراء بعض المواد الاستهلاكية من السوبر ماركت فقررت الكتابة في الخلفية الفارغة مستخدمة أحمر الشفاه، عضت على شفتها السفلى باستمتاع مغتر وهي تكتب (أنا قاصدة، آسيا)، أدارت السيارة في اتجاهه متعمدة صدمها من جديد، ارتد جسدها بقوة لكنها لم تكترث للرضوض التي أصابتها مثلما فعلت في المرة الأولى وسط ذهول الموظف الأمني، ألقت بالإيصال من النافذة ليسقط بجوار الإطار ثم تابعت بعدها قيادة السيارة وهي تدندن بسعادة واضحة عليها.
……………………..………………..
هرول خــارج مكتبه بعد أن تلقى ذلك الخبر الصادم عن محاولة إحداهن صدم سيارته عمدًا ولوذها بالفرار، حاول موظف الأمن أن يفسر له الأمر على حسب ما رأه، لكن كان “معتصم” شاردًا عنه وغير منتبه لما يقول، وقف خلف سيارته متأملاً ما أحدثه من خسائر جمة في مؤخرتها، وضع كلتا يديه على رأسه محاولاً استيعاب ما فعلته بجرأة لم يعهدها في النساء من قبل، لحق به ابن عمه مدققًا هو الأخر النظر في التلفيات الموجودة بها، تساءل باندهاش:
-مين عملت كده؟
أخفض ذراعيه ملتفتًا نحوه ومتخذًا الصمت ردًا عليه مما دفعه لسؤاله من جديد:
-طب وليه أصلاً؟ هو إنت تعرفها؟
ركز “معتصم” أنظاره عليه كاظمًا ما يشعر به حاليًا من براكين ثائرة بداخله، بينما عكس وجهه الاحتقان المسيطر عليه، أدار “نبيل” وجهه للجانب فلمح بطرف عينه الورقة المطوية بجوار الإطار، انحنى ليلتقطها متسائلاً باستغراب:
-دي إيه دي؟
فتحها ليقرأ ما دون فيها قائلاً بنبرة عالية:
-أنا قاصدة، “آسيا”!
تحفزت حواس “معتصم” كليًا مع ذكر اسمها وتحولت تعابيره للشراسة، تمتم من بين أسنانه المضغوطة:
-“آسيا”، شكلك عاوزاني أموتك!
كور يده ضاربًا صندوق السيارة بعنف، بدا مغلولاً للغاية مما تفعله به من استثارة دائمة لأعصابه، من إشعالها دومًا لفتيل غضبه حتى يفقد السيطرة على نفسه ويتصرف بجموح معها، انتبه لصوت ابن عمه المتسائل باهتمام:
-إنت كويس؟
أومأ برأسه مضطرًا كي يخفي ما يشعر به، عاود “نبيل” سؤاله بفضول:
-هي نفس البنت اللي جت النهاردة، صح؟
ورغم احتفاظه بالجواب داخله إلا أن ملامحه كانت كفيلة بالإجابة عنه، تساءل موظف الأمن بتوتر:
-“معتصم” بيه تحب نبلغ البوليس؟
قست تعابيره وهو يرد بنفي قاطع ومشيرًا بيده:
-لأ، الموضوع عندي
اعترض الموظف بحرجٍ:
-بس يا فندم …..
قاطعه بصيغة آمرة:
-اتفضل شوف شغلك، أنا هاتصرف
امتثل لأمره قائلاً بارتباك:
-تمام
سأله “نبيل” بقلق:
-هاتعمل إيه؟
سحب “معتصم” نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة وهو يرد باقتضاب مريب:
-الرد هايكون بعدين، مش دلوقتي!
توجس ابن عمه خيفة من خروج الأمور عن السيطرة وربما تورطه في أفعال طائشة قد تأتي نتائجها عكسيًا، حاول أن يمنعه قائلاً:
-أنا رأيي تبلغ عنها، مافيش داعي للمشاكل مع واحدة زي دي، شكلها مش سهل ولا ….
قاطعه بإصرار ألبكه:
-أنا هاعرف أتعامل معاها ازاي، متقلقش!
……………………..……………………..………..
عاد إلى منزله مستقلاً سيارة ابن عمه بعد أن أرسل خاصته إلى التوكيل لإصلاح الأضرار الموجودة بها، كان مضطرًا لإلغاء كافة ارتباطاته بعد أن أفسدت عليه يومه، رسم “معتصم” على وجهه المتشنج تعابيرًا هادئة آملاً أن ينطلي ذلك على عائلته، درب نفسه جيدًا على التعامل بهدوء حذر مع أسرته كي لا يشعر من حوله بجم الكوارث التي تُلقى على كتفيه منذ أن وطأته “آسيا”، وخصوصًا من أفنت عمرها في تربيته ويعدها والدته؛ “نادية” تلك المرأة الحنون التي تملك بين يديها مفاتيح الأمان والحنان والأمومة الفائضة، عكف على الرد على أسئلتها المشتاقة عن ابنتها بحيادية وبدبلوماسية مانحًا إياها الأمل الزائف في العثور عليها، كان منزعجًا من كذبه المستمر وادعائه لجهله بمكان تواجدها، استنكر استخدام ذلك الأسلوب المضلل معها، لكنه كان يخشى من تبعات لقاء محكوم عليه بمواجهة شرسة ستخلف ضحايًا، خشي أن ينفضح أمره تلك المرة، فقد اكتفى من أفعالها وبلغ الذروة من تعامله معه، سار بخطوات متعبة نحو صورة العائلة ليتوقف أمامها، شرد متأملاً تفاصيلها مستعيدًا أسعد لحظات العائلة، انتفض في وقفته الشاردة حينما وضع والده يده على كتفه، ابتسم له قائلاً:
-بابا
قطب “وحيد” جبينه متسائلاً باستغراب:
-مالك يا “معتصم”، أحوالك مش زي تملي!
أخرج زفيرًا ثقيلاً مهمومًا من صدره وهو يجيبه:
-شوية مشاكل معقدة
أخفض والده نبرته متسائلاً بفضول جاد:
-ليها علاقة بـ “آسيا”، مظبوط؟
انقبض قلبه بقوة مع كلماته الأخيرة، شعر أنه كالكتاب المقروء أمامه، أخفى ارتباكه البائن عليه متسائلاً بتلعثم:
-وإيه اللي يخليك تقول كده بس؟
رد “وحيد” مؤكدًا وهو يومئ له بعينيه:
-علشان أنا عارف ابني كويس! كمان عرفت من مصادري مين هي “آسيا شرف الدين”!
زفر “معتصم” مجددًا وهو يشكوه:
-بجد أنا محتار معاها، مش عارف أعمل ايه في موضوعها
ربت والده على ظهره ثم تحرك معه إلى الأريكة الواسعة ليجلس بجواره عليها، استطرد “معتصم” حديثه قائلاً باستياء:
-ماما ماتعرفش حاجة عن حقيقتها، مفكرة إنها جاية تسأل عنها وترجع لحضنها زي ما تكون لسه العيلة بتاعة زمان
اكتست تعابيره بالحزن وهو يكمل بضيق:
-وهي جاية علشان تدمرنا وتضيع كل حاجة عملناها السنين اللي فاتت وتعبنا فيها
وضع “وحيد” يده على كتف ابنه ضاغطًا عليه ومضيفًا بنبرة ذات مغزى:
-ظهورها في التوقيت ده أكيد وراه حاجة، خد بالك أبوها مش سهل
سأله “معتصم” دون تفكير وقد دب الذعر في نفسه:
-إنت تعرفه؟
أجابه بنبرة ضاعفت من شكوكه:
-كنت أسمع عنه زمان
انقبضت عضلاته بسبب التوتر الزائد من طريقته في الحديث عنه، سأله بتلهفٍ:
-معلش يا بابا، ممكن تفهمني بالظبط اللي حصل؟
أشار له والده بسبابته محذرًا:
-الكلام ده بيني وبينك، يا ريت مامتك ماتعرفش بإني حكيتلك حاجة
هز رأسه بالإيجاب مؤكدًا:
-اطمن، أنا بس عاوز أفهم أنا بأتعامل مع مين
-ماشي
اعتدل “وحيد” في جلسته مطالعًا ابنه بنظرات جامدة ليكمل بعدها بهدوءٍ:
-قبل ما أتقدم لـ “نادية” كانت مامتك طالبة مني أتجوز عليها يعني كانت حاسة إنها في أخر أيامها، ولو تفتكر يا “معتصم” كانت تعبانة وصحتها على أدها
ركز ابنه كافة حواسه معه وتأثر لحظيًا باستعادة ذكرى رحيل والدته التي شهدها بنفسه، منع عبراته من الانحباس في حدقتيه وأبعدهم بأنامله متابعًا باهتمام كبير باقي حديثه، أضاف “وحيد” بأسفٍ:
-لما ماتت كنت محتار أعمل إيه معاك، إنت وقتها كنت لسه صغير وأنا بأسافر كتير ومعنديش حد أئتمنه عليك، ساعتها ظهرت “نادية” في حياتي، كانت عندها مشكلة كبيرة مع جوزها، أو نقول طليقها
كز “معتصم” على أسنانه مفضلاً اللجوء إلى الصمت ريثما ينتهي والده من الحديث، ارتشف “وحيد” القليل من كوب الماء المسنود على الطاولة ليبلل جوفه المرير، ثم تابع:
-كان مدمن لعب القمار، ضيّع كل حاجة بسبب هوسه ده، وكانت أخر ضحاياه “نادية”، اتخدعت فيه للأسف وافتكرته بني آدم محترم
ارتسمت علامات الاندهاش على محيا ابنه فأوضح “وحيد” مبتسمًا باستخفاف:
-ماتستغربش، “شرف الدين” كان صاحب شركات استيراد وتصدير، رجل أعمال زي أي حد، بس مدمن قمار!
أخرج من صدره زفيرًا ثقيلاً أكمل بعده:
-طلع راسم عليها علشان يبتذها وياخد فلوسها، رسم نفسه صح على أبوها، واتجوزتها وهي حملت منه وخلفت بنتها الوحيدة، “نادية” استحملت منه كتير علشان خاطر تفضل جمبها، كان بيهددها بيها، وهي كانت بتخاف منه، وبتدفع أي حاجة يطلبها، بمعنى ادق بتسحب من رصيدها في البنوك لحد ما خلص عليه
تضاعف حنقه بداخله من كم الحقائق الصادمة التي عرفها، ردد بحدة وقد غلت الدماء في عروقه:
-إيه البني آدم ده؟
رد عليه والده بتأفف:
-إنت مش متخيل القذارة اللي كان فيها، عاوز أقولك ده وصلها لحالة معدتش قادرة تستحمل فيها، فلجأت للطلاق، وساومها على ده، لكن اللي حصل إنه كان بيضحك عليها، بيضيع وقت لحد ما يجهز لحاجة تانية بعيدة عن تفكيرها
سأله دون تأخير:
-عمل إيه؟
أجابه على مضض:
-فهمها إنها هتاخد بنتها لو دفعت تمنها
شخصت أبصاره صائحًا بعدم تصديق:
-نعم؟
أشار له والده لكي يهدأ، فهو لا يريد لفت الأنظار إلى حديثهما الخاص، تمالك “معتصم” أعصابه معتذرًا، فاستأنف “وحيد” حديثه:
-لو عاوزة الطلاق وبنتها تدفع تمنهم، بالنسباله كل حاجة تجارة، حتى بنته!
ضغط “معتصم” على أسنانه هامسًا بغيظ من ذلك الرجل الذي انعدمت رجولته:
-ده إنسان ………….. !!!!
ورغم حدة الكلمات النابية التي ألقاها بلا حرج إلا أن والده لم يكن معترضًا على ذلك، بل على العكس أيده قائلاً:
-وأكتر من كده كمان، “نادية” كانت مستعدة تعمل أي حاجة علشان بس تخلص منه، وتبعد بنتها عنه، وهو استغل ده كويس، نصب عليها وخد الفلوس والبنت وهرب برا مصر
انفرجت شفتاه هاتفًا بصدمة:
-مش معقول
أضاف والده قائلاً بامتعاض:
-“نادية” انهارت ومعرفتش تعمل ايه، فضلت فترة تتعالج نفسيًا، وأنا كنت أعرف والدها، يعني بحكم الشغل وكده، وصاني عليها، وبصراحة أنا لما شوفتها اتشديت ليها، كنت مش بس شايف فيها الزوجة، كمان الأم اللي هاتعوضك عن كل حاجة وهتحبك
-طيب ليه محولتوش توصلوا للبني آدم ده؟
-عملت كل اتصالاتي علشان أعرف هو فين، بس أخباره انقطعت عننا، ومقدرتش أوصله، و”نادية” تعايشت مع أمل إن بنتها لما تكبر هتظهر في يوم وهتعرف منها الحقيقة
لوى “معتصم” ثغره للجانب قائلاً بتهكم:
-ماهو واضح
ابتلع “وحيد” ريقه قائلاً بتحذير:
-خد بالك يا “معتصم”، البنت دي تربية أقذر واحد ممكن تقابله في حياتك، أوعى تخليها تدمر مستقبلك
هز رأسه بإيماءات متتالية وهو يقول:
-اطمن
ثم سأله بجدية:
-طب وماما؟
رد بتنهيدة حزينة تحمل في طياتها قلة الحيلة:
-أهو أنا زيك مش عارف أعمل ايه معاها، هي من حقها تشوف بنتها، بس خايف ماتستحملش الصدمة!
وضع “معتصم” يده على كف والده المجعد قائلاً بتأكيد:
-ماتشلش هم، أنا هاعمل كل اللي أقدر عليه علشان أمنعها تأذي ماما
رد عليه مبتسمًا بحنو أبوي رابتًا بيده الأخرى على يده:
-أنا مطمن بوجودك يا “معتصم”
بادله ابتسامة باهتة وهو ينظر له بغموض، كان في قرارة نفسه على يقين تام بأن المعركة معها ليست بتلك البساطة، بل ستتضمن أشرس المواجهات وأعنفها على الإطلاق، وها قد ذاق منها القليل فقط ……………………..…….. !!
……………………..…………………..

error: