رواية (المحترم البربري)

رواية المحترم البربري

الفصل الثالث والأربعون (الجزء الأول)
نفث دخــان سيجارته التي لازمته مؤخرًا وهو يصغي إلى الخادمة التي كانت تطمئنه على زوجته، فمنذ أن رأها “معتصم” على تلك الحالة المنكسرة وقد اضطربت أفكاره السوداوية عنها، اكتشف الجانب الآخر الخفي من شخصيتها الحقيقية في لحظة مصارحتها الصادقة، شعر بغصة في حلقه وهو يتذكر سردها عن معاناتها مع والدها الذي لم يكن نعم الأب لها، بل ربما يكون السبب الرئيسي فيما أسماه انحرافها، اعتدل في جلسته ليتمكن من إطفاء بقايا السيجارة في المنفضة الموضوعة أمامه ثم أمرها قائلاً:
-خدي بالك منها ولو في جديد كلميني
ردت عليه بانصياع:
-حاضر يا “معتصم” بيه
أنهى معها المكالمة ليزفر بصوت مسموع موسدًا ساعديه خلف رأسه، شعر بالانزعاج لكونه قد أهمل عن عمد في السؤال عنها أو حتى الاهتمام بها في تلك الظروف الحرجة، انساق خلف شكوكه وهواجسه فانحصرت فكرته عنها، وتناسى الأسباب التي ربما دفعتها إلى ذلك، أعماه غضبه وضلله عن رؤية الصواب، كما شعر بتأنيب الضمير لكونه تأخر كثيرًا عن مواساتها، فإن خسر هو من ربته خلال سنوات عمره، فقد خسرت أيضًا والدتها التي لم تنعم بحنانها من الأساس، بل لم ترَ عاطفتها الفياضة وتحظى بتربية سوية ترعاها فيها مثله، أخرج زفيرًا مطولاً من صدره محاولاً التفكير في أمرها بعقلانية، فقد وصل الوضع بينهما للمحك، والقادم سيحتاج إلى قرارات مصيرية، انتفض في جلسته المسترخية على صوت فتح باب مكتبه، تفاجأ بوجود والده به، وقف متسائلاً بتوترِ شبه ملحوظ:
-بابا! في حاجة حصلت؟ “آسيا” كويسة؟
ورغم استغراب “وحيد” من تلهفه للسؤال عنها إلا إنه استراح لكونها باتت الشخص الأول الذي طرأ على باله حينما استشعر الخطر نحوها، رد عليه بهدوءٍ وهو مثبت لنظراته الجادة عليه:
-حلو إنك بتسأل عليها
ثم جلس في مواجهة ابنه ليتابع بابتسامة صغيرة:
-كنت فقدت الأمل إنك تعمل كده
توترت تعابير “معتصم” معللاً سبب اهتمامه بها:
-هي الأيام دي مش في حالتها و….
قاطعه “وحيد” بنبرته الهادئة:
-إنت مش محتاج تبرر، من حقك تهتم بمراتك والطبيعي إنك تقف معاها في الوقت ده
تنحنح ابنه متسائلاً بترددٍ ليتجنب إثارة تلك الجزئية التي على ما يبدو كانت تربكه:
-أجيبلك إيه تشربه يا بابا؟
رد عليه نافيًا:
-أنا مش عاوز حاجة، أنا جاي النهاردة عشان أتكلم معاك لوحدنا
اشتدت قسماته قائلاً وقد انتبه له كليًا:
-اتفضل
سأله والده متفرسًا في نظراته وإيماءاته:
-إنت ناوي على إيه؟
أجابه بتساؤل حائر:
-في إيه؟
تنهد معلقًا بتمهلٍ:
-مع “آسيا”، في الفترة الجاية
ظهرت حيرته أكثر مع سؤاله الذي احتجزه في خانة اليك، زفر قائلاً باقتضابٍ:
-لسه مش عارف
استخدم “وحيد” سبابته في الإشارة ليحذره بجدية تامة:
-بلاش تظلمها معاك يا “معتصم”، هي مش مستحملة، كفاية أوي اللي شافته واللي عاشته، لو مش عاوز تكمل معاها طلقها، و…..
وكأن في كلمة الانفصــال دقات لناقوس الخطر، هرع مقاطعًا بتخوف وقد استشعر تسارع دقات قلبه:
-أطلقها؟!!!
استغرب والده من ردة فعله وتابع موضحًا:
-أيوه، أومال هتفضل تعاملها بالشكل ده؟ على الأقل ماتكونش إنت والزمن عليها، سيبها تعيش حياتها بعيد عن الضغوط والمشاكل
صمت ليشرد في حديثه الذي لم يكن مازحًا على الإطلاق، أزعجه أن يفاتحه والده في هذا الأمر، تبدلت تعابيره للضيق ونظراته للامتعاض، استأنف “وحيد” حديثه قائلاً:
-أنا ومامتك الله يرحمها فاهمين إنك ماحبتهاش، وإنك كنت مجبر على ده، فمافيش داعي تمثل إنك عاوزها و….
قاطعه للمرة الثانية متحججًا:
-مش كده يا بابا، أنا بس محتاج وقت عشان أفكر وأظبط أموري قبل ما أفاتحها
راقبه والده باهتمام فقد بدا اعتذاره واهيًا، وما أكد له ذلك هو نبرته المرتبكة حينما أكمل:
-يعني اللي أقصده إني مكونتش واخد بالي من حاجات تخصها، ده غير إنه هايبقى صعب أطلقها في الوقت ده، ما إنت بنفسك شايف وضعها يا بابا
أخفى “وحيد” ابتسامته تلوح على ثغره كتعبير عن رضائه بمحاولته لتأجيل ذلك الأمر، رد بهدوء وهو يحافظ على ثبات تعابير وجهه:
-كويس إنك مهتم بده
جاهد ابنه ليخفي ذلك الاضطراب الذي اعتراه أمامه، شعر بأمعائه تتقلص لمجرد التفكير فيها بشكل مختلف، حاول الالتهاء عن الحديث عنها مدعيًا اهتمامه بالتطورات التي شهدها عمله مؤخرًا، أصغى إليه والده باهتمام مكتفيًا بما حققه اليوم من تقدم شبه ملحوظ في تعزيز مشاعر ابنه نحو “آسيا”.
………………………………………………
انشغل “معتصم” لبعض الوقت في توضيح مستجدات العمل لأبيه لكن أزعجته تلك الضوضاء الموجودة بالخارج، لحظات وارتفع الضجيج من جديد لينتبه الاثنان إلى هذه الجلبة الغامضة بالخـــارج، بدا الأمر أشبه بوجود مشادة كلامية مع أحدهم والسكرتيرة، وقبل أن يشرع “معتصم” في السؤال عن أسبابها تفاجأ باقتحام “شرف الدين” لغرفة مكتبه بوقاحة منقطعة النظير، وقفت السكرتيرة خلفه تعنفه بلباقة:
-لو سمحت يا فندم مايصحش كده، المفروض تستأذن الأول، المكتب هنا ليه …
بترت عبارتها مجبرة حينما هدر “معتصم” بعبوس شديد مستنكرًا وقاحته:
-إنت إزاي تدخل عليا المكتب بالشكل ده؟
رد عليه “شرف الدين” ببرود يستثير الأعصاب:
-مكانش صعب أوصلك، مفكر هاسيب بنتي ليك؟
استشاط غضبًا من ادعائه لاهتمامه المفاجئ بها، فصاح معترضًا بشراسة:
-دلوقتي بتقول عليها بنتك؟
أشار “وحيد” بيده للسكرتيرة لتنصرف، فلا يجوز أن يتحدث ثلاثتهم عن شئونهم الخاصة أمامها، وباحترافية شديدة تفهمت الأخيرة أمره غير المنطوق وخرجت من غرفة المكتب مغلقة الباب خلفها، تحرك “شرف الدين” للأمام موزعًا نظراته بين “معتصم” ووالده ثم استطرد قائلاً بسماجة مزعجة:
-كنت حاسس إن وجود “نادية” معاها هيأثر عليها ويلعب في دماغها
أظهر ضيقه من ذلك بصراحة وهو يكمل:
-أل وأنا اللي بقالي سنين بكرهها فيها عشان تفضل تحت طوعي وتسمع كلامي، تجيب أمها تمسح كل ده بكام يوم قعدتهم معاها
غلت الدماء في عروق “معتصم” من فظاظته المهيجة للأعصاب، وقبل أن يرد كان والده الأسبق في الهجوم عليه، حيث وبخه صارخًا به:
-أنا ماشوفتش في حياتي أب زيك
بدا “شرف الدين” في حالة برود واضحة، لم يظهر تأثره بازدراء الأخرين له بسبب تصرفاته، رسم على فمه تلك الابتسامة السخيفة الباردة قبل أن يعلق ببساطةٍ:
-أنا ماليش في الدور ده، “آسيا” بالنسبالي كنز غالي من وهي صغيرة، ظبطتني في مصالح كتير، فصعب أستغنى عنها دلوقتي!
كز “وحيد” على أسنانه هاتفًا بغيظٍ:
-إنت ….
قاطعه “شرف الدين” مبديًا سخطه من تدخله فيما لا يعنيه:
-وبعدين إنت مالك، بنتي وأنا حر معاها، بتكلم ليه؟
ثم أرجع رأسه للخلف ليضيف بتهكم قاصدًا السخرية منه:
-أهلاً، مخدتش بالي منك يا “وحيد” بيه
حاول “معتصم” الحفاظ على هدوئه قدر المستطاع ليسبر أغوار تلك الشخصية الحقودة الواقفة أمامه، تفهم الآن بوضوح سبب عدائية “آسيا” للجميع ورغبتها في الانتقام من والدتها لكونها اعتقدت أنها تخلت عنها وتركتها لشخص دنيء مثله لا يكترث إلا لأمره فقط حتى لو على حساب الأقرب إليه، وبوجود أب مثله لا يكترث مطلقًا إلا بمصلحته كان عليها أن تتسلح بما يحميها وإن كلفها ذلك حياتها، استفزته جملته الأخيرة حينما قال بوقاحة:
-البقاء لله في المرحومة، مع إنها ماتستهلش، بس يالا
خرج عن شعوره ليسبه علنًا:
-اخرس يا كلب
اشتدت ملامح وجه “شرف الدين” من إهانة “معتصم” له، تمسك بعقلانيته قائلاً:
-من غير قلة أدب، ولا طولة لسان، أنا جاي النهاردة عندك وفي مكتب لمهمة محددة، عاوز “آسيا”
تحرك “معتصم” من خلف مكتبه ليقف في مواجهته، ثم رد عليه بنبرة صارمة وقد تحولت عيناه لجذوتين من النيران:
-وفكرك أنا هاسيبهالك؟
أردف قائلاً عن ثقة تامة:
-كده كده هاخدها منك وهترجعلي، فبلاش تتحمأ أوي، وشماعة وجود أمها معاها راحت خلاص، فخلينا نتفاهم بالذوق أحسن
انقض عليه “معتصم” ممسكًا به من تلابيبه، هزه بقوة صارخًا فيه:
-مش هايحصل
انتزع “شرف الدين” قبضتيه من على ياقته ليرد مؤكدًا:
-بالراحة على نفسك شوية، بلاش نرغي في كلام لا هيودي ولا هايجيب، أنا راجل عملي ومقدر بنتي أوي
هتف “وحيد” من خلف ابنه مبررًا سبب إصراره على استعادة “آسيا” من جديد:
-أه طبعًا، لازم ماتضيعش وقتك، ماهي اللي بتدفعلك ديون القمار، واحد زيك ميعرفش قيمة ولاده!!
آمال الأخير رأسه للجانب لينظر إليه بتأفف قبل أن يعلق عليه:
-والله دي مسائل عائلية تخصنا، محدش طلب رأيك فيها
اغتاظ “وحيد” من أسلوبه الفظ فرد بحنقٍ:
-يا جحودك يا أخي
هدر به “معتصم” وقد بلغ ذروة غضبه:
-مش هايحصل، “آسيا” هتفضل معايا
نظر له شزرًا قبل أن يسأله:
-ليه يعني؟
أجابه “معتصم” بغموض دون أن يرف له جفن:
-الكلام ده لما تكون “آسيا” حرة نفسها
قطب “شرف الدين” جبينه متسائلاً بحيرة:
-مش فاهم قصدك
أجابه “معتصم” بشبح ابتسامة مغترة لاحت على ثغره وكأنه متلذذ بقول تلك الجملة تحديدًا:
-“آسيا” تبقى مراتي
نزلت عليه المفاجأة كالصاعقة فشل تفكيره لثوانٍ قبل أن يعاود سؤاله بضيق كبير:
-نعم، وده حصل امتى؟
ربت “معتصم” على كتفه بقوة قاصدًا إيلامه وهو يجيبه بتهكمٍ:
-من زمان، واضح كده إن معلوماتك ناقصة
استنكر ذلك معتقدًا أنها كذبة حقيرة منه لتضليله فصاح بعصبية:
-الكلام ده مش حقيقي
التوى فمه بابتسامة أكثر اتساعًا ليؤكد له عن ثقة:
-والله تقدر تسأل وتتأكد بنفسك، بس “آسيا” هتفضل معايا
شعر “وحيد” بالفخر من ابنه الذي دافع عنها لأول مرة باستماتة ليخرج عن طور الكره المقيت، دعمه في موقفه مرددًا:
-أيوه، هي دلوقتي ليها عيلة واقفة في ضهرها تحميها، وإنت لسه مجربتنيش يا “شرف الدين”
زجره الأخير بتشنجٍ بعد أن أدرك فشل مسعاه في استعادتها:
-اسكت إنت يا جوز الست
أشعلت إهانته الوقحة لأبيه غضب “معتصم” فأطبق على عنقه يهدده بقوةٍ:
-احترم نفسك وإلا قسمًا بالله ماهتلحق تروح بيتك، وبمكالمة واحدة مني لأصغر ظابط في الداخلية هابلغ عنك وتقضي اللي باقي من حياتك تتعفن في السجن
بينما هدر به “وحيد” مكملاً:
-أنا بأحذرك تنسى إن ليك بنت اسمها “آسيا”، وإياك تقرب منها وإلا هاتشوف مني الوش التاني
دفعه “معتصم” بعنف للخلف ليرتد الأخير بقوةٍ حتى كاد أن يتعثر لولا أن تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة، اقترب منه “وحيد” ليقول بعدوانية صريحة:
-“آسيا” مابقتش لوحدها، احنا كلنا معاها، وأنا بنفسي هاقفلك يا “شرف الدين”
تقدم عليه ابنه مظهرًا عدائية أكثر في نظراته وتعابيره الحادة، بدا أكثر صلابة وثقة عما مضى وهو يضيف بلهجة شديدة:
-مش لوحدك يا بابا …………………………….. !!
…………………………………………………………..

يتبع >>>>>

error: