رواية (المحترم البربري)

الفصل الثالث
لاح الماضي بما فيه من مآسٍ حفرت في الذاكرة لم تمحَ يومًا مع مجرد ذكر اسمها الذي لم تنساه أبدًا، شعرت “نادية” أنها محاصرة داخل كابوس مرير تضمن معاناة لم تنتهي بعد، اهتز بدنها كليًا وارتجفت أطرافها فلم تستطع ساقاها حملها، ترنحت في وقفتها المرتبكة، فوقع قلب “معتصم” في قدميه لرؤيتها على تلك الحالة المقلقة، أسندها متسائلاً بخوفٍ كبير:
-ماما، حصلك إيه؟
تهدجت أنفاسها وارتفع صدرها علوًا وهبوطًا من فرط التوتر المرتعد، تبدل كل شيء في لحظة وتحول سكون حياتها المؤقت إلى عاصفة هوجاء ستطيح بالأخضر واليابس إن حدث ما تخشاه، تساءل “معتصم” بنفس النبرة المرتاعة:
-في إيه؟ ردي عليا أرجوكي!
أشارت له بيدها نحو الأريكة القريبة، فأومأ برأسه متفهمًا مقصدها على الفور، أخفض ذراعه ليتمكن من إحاطتها من خصرها، ساعدها على السير حتى بلغها ثم أجلسها بحذرٍ عليه، تضاعفت حبات عرقها وزاد لاهثها، توجس “معتصم” خيفة من إصابتها بنوبة مرضية، لكن صوتها الهامس الذي التقطته أذناه جعله يركز حواسه بالكامل على وجهها الشاحب، كررت همسها قائلة:
-“آسيا”
حملت نبرتها الغريبة شعورًا لم يرتح له، قست تعابيره معلنة عن شراسة وشيكة وهو يسألها بضيق لم يخفيه:
-إنتي تعرفيها؟
ردت عليه متسائلة بنبرة متلهفة:
-هي فين؟
انخفضت نظراته إلى قبضتيها المرتجفتين اللاتين قبضتا على كفيه وكأنها تستجديه في ضعف لم يحبه مطلقًا، عاود التحديق فيها متسائلاً بنبرة مرتابة:
-ماما، ريحيني، إنتي تعرفيها؟
هزت رأسها بإيماءات متتالية وهي تجيبه:
-أيوه..
صمتت لثوانٍ تعد على أصابع اليد قبل أن تتابع بأمومية غريزية نابعة منها:
-دي.. هي…
بدا الارتباك واضحًا عليها، ابتلعت ريقها مكملة بترددٍ:
-دي بنتي!
وكأنه قد تلقى فوق رأسه دلوًا مليئًا بمكعبات الثلج في شتاء بارد ليتصلب جسده بالكامل ويتجمد تفكيره مع تلك الكلمات المقتضبة، فغر شفتيه مدهوشًا ومذهولاً منها، شرد عقلها في مشاهد متداخلة من ماضيها؛ طاولة خضراء مستديرة يجلس حولها بعض الأشخاص، وكؤوس متراصة بجوارهم يتجرعون ما فيها في شرفة واحدة، أوراق تُلقى بإهمال من أجل كسب النقود، نقلها عقلها إلى مشهد شجار محتدم وصغيرة تبكي بخوف خلف الستائر ليزداد الأمر تعقدًا بصفقة عقدت مع رجل وقور، عادت “نادية” من شرودها الخانق لصدرها وهي تبكي، لم يستطع عقلها تحمل تلك الومضات الخاطفة، ترقرقت العبرات في عينيها تأثرًا بالكثير مما مرت به، سلطت أنظارها على “معتصم” الذي كان واجمًا بدرجة كبيرة، استعطفت قلبه هاتفة بصوتها الملتاع:
-وديني عند “آسيا”
للحظة عجز عن الرد عليها، فمشاعرها المتدفقة كأم تشتاق لابنتها تتناقض مع الشخصية العنيفة التي قابلها وتعهدت له بإذاقتها أقسى ألوان العذاب، انهمرت عبراتها دون إنذارٍ على وجنتيها لتزيد من حالة الذهول المسيطرة عليه، أضافت متسائلة بشوق يؤثر في النفوس، ويدمي الفؤاد المحترق شوقًا للقاء الأحبة:
-“معتصم”، قولي بنتي كانت هنا فعلاً؟
امتزجت عبراتها مع صوتها المتلهف وهي تكمل بصعوبةٍ:
-جت سألت عليا؟ طب شكلها عامل ازاي؟
تعقد لسانه وهربت الكلمات من عقله، نكس رأسه حرجًا منها، فكيف ببساطة يجيبها على أسئلتها ويفسر لها ما تنتوي تلك الشرسة فعله معها؟ خاف من إخبارها بالحقيقة لتنهار كليًا ويفسد عليها أمنياتها ويدمر أحلامها المتوسمة خيرًا في ابنة مشتاقة لحضن أمها وليس وحشًا كاسرًا يريد إحراق العالم من حوله، ارتخت يدي “نادية” المرتعشتين عن قبضتيه لتضع اليمنى على صدرها متحسسة نبضات قلبها المتسارعة، تنهدت قائلة بحرقةٍ ظهرت في نبرتها:
-بنتي بعدت غصب عني زمان، اتحرمت منها، هو خدها وهرب!
لم يفهم “معتصم” حديثها الغامض، كان متحفزًا للغاية ضد تلك المتوحشة المسماة ابنتها، لكن أزعجه كثيرًا حالة الوهن المتمكنة من “نادية”، جثا على ركبته أمامها قائلاً بهدوء رغم ما يعتريه من غضب مبرر:
-ماما، اهدي علشان صحتك، وكل اللي إنتي عاوزاه هايحصل
لم يكن مقتنعًا في قرارة نفسه بالوعد الأخير الذي قطعه لها، لكنه منحها متنفسًا لتثق به فلا تضغط على نفسها المرهقة لأجل من لا تستحق.
……………………..……………………....
لفت جسدها المبتل بالمنشفة بعد أن نهضت عن المغطس الذي مكثت فيه لبرهة من الزمن، أرادت أن تنسى تلك الصفعة التي ضاعفت من حقدها لأمها، وقفت “آسيا” أمام المرآة المشبعة ببخار الماء تزيح أثاره بأناملها، حدقت في تلك العلامات البارزة على جانب صدغها بأعين مشتعلة، كزت على أسنانها متمتمة بحنقٍ وهي تتلمس بشرتها:
-الضربة اللي ما بتموتش بتقوي، ده درس ليكي يا “آسيا”
بدت متفاخرة بما فعله ذلك القاسي معها لتتأكد أنها بدأت في أولى خطوات تنغيص حياة تلك العائلة المرفهة، لكن سريعًا أظلمت نظراتها وهي تتابع:
-إنتو لسه مش عارفين مين أنا
بدأت “آسيا” في تحفيز نفسها معنويًا كي لا تقف عند تلك الصفعة كثيرًا، ستتخذها حافزًا لمضاعفة كرهها نحو كل فرد في تلك العائلة، انتصبت في وقفتها لتزداد شموخًا وكبرياءً كتعبير عن قوتها الطاغية التي لا يمكن أن يردعها أحد، استدارت بجسدها متجهة نحو غرفة نومها ثم جلست على طرف الفراش لتعالج تلك الخدوش التي أصابت ركبتيها جراء سقطتها العنيفة، تسلل في مخيلتها وجه من ادعى أنه ابنها، زوت ما بين حاجبيها بعبوس حينما تحركت أعينها على خدوشه المحفورة في جانب ذراعها، قست تعبيراتها على الأخير، للحظة تشكل المشهد من جديد في عقلها؛ منزل فخم يحوي أثاثًا ثمينًا، عائلة مستقرة وسعيدة محاطة بكل سبل الراحة والنعيم، وابنًا بل وربما عدة أبناء يتنعمون بكل تلك الخيرات والرفاهية اللا محدودة، إذًا والدتها قد منحت غيرها الحب والحنان والمال والعاطفة وكل شيء افتقدته هي تاركة إياها قابعة في حياة فُرضت عليها بسبب اختيارها القديم، تحسست تلك الأثار بحذرٍ، ثم توعدت الجميع بشراسة:
-هتندموا كلكم!
انتبهت لصوت رنين هاتفها المحمول فأدارت رأسها في اتجاه الكومود الموضوع عليه، بتثاقل واضح عليها نهضت عن الفراش لتمسك به، نظرت إلى اسم المتصل فتحول وجهها للامتعاض، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة لتضغط بعدها على زر الإيجاب قائلة ببرود:
-ايوه يا بابا
أتاها صوتًا دافئًا عبر الطرف الأخر يسألها بهدوء:
-“آسيا”، إنتي وصلتي؟
ألقت بجسدها على طرف الفراش وهي تجيبه:
-بقالي يومين هنا
تنحنح قائلاً بحرجٍ:
-سوري، كنت مشغول عنك شوية
بدا وجهها خاليًا من التعبيرات وهي تمسك بالهاتف بيدها الأخرى، لوت ثغرها قائلة بفتور:
-ده العادي بتاعك
انفعلت نبرته صائحًا بحدة:
-مش ذنبي إن أمك عملت فينا كده، هي اللي وصلتني لده، لو كانت ……
انتصبت في جلستها المسترخية على الفراش مكورة قبضة يدها المحررة بقوة، تحول وجهها للاحمرار المنفعل في ثوانٍ معدودة وهي تقاطعه بصرامة وقد احتقنت نظراته بصورة مفاجئة:
-مش لازم تفكرني كل شوية!
رد بحذرٍ:
-طيب خلاص يا “آسيا”، هي أصلاً سيرتها تفور الدم!
صمت لثانية قبل أن يكمل بحنو مريب:
-أنا كنت محتاج منك خدمة
سألته بتجهمٍ وهي تهب واقفة عن الفراش بعد أن خمنت طبيعة طلبه:
-إيه هي؟
أجابها بارتباك استطاعت تبينه من نبرته:
-في ناس أنا مديون ليهم بشوية فلوس و….
قاطعته متسائلة دون انتظار لباقي جملته:
-أد إيه؟
أجابها بخزيٍ طفيف مستعطفًا قلبها:
-مش مبلغ كبير المرادي، بس أوعدك هاتكون أخر مرة يا حبيبتي
زفرت قائلة باستياءٍ وهي تحدق بشرود في الفراغ أمامها:
-مالوش لازمة، إنت كل مرة بتقول كده يا “شرف” بيه
للحظة تجسد أمام أنظارها طيفًا لطاولة القمار التي اعتاد والدها الجلوس عليها منذ نعومة أظافرها منفقًا بسخاءٍ على تلك العادة السيئة حتى يخسر كل ما بحوزته فيضطر حينها أسفًا أن ينسحب من اللعب متوعدًا لنفسه بالتعويض في المرة القادمة، لكن دون جدوى هو دومًا يخسر، لا ربح على الإطلاق، وتدريجيًا بات الأمر إدمانًا بالنسبة له، وبالطبع هي مُلزمة بسداد مديونياته أولاً بأول كي لا تتراكم عليه الديون فيصبح عاجزًا عن دفعها، وبالتالي سيزج به في السجن، أفاقت من شرودها على جملته القائلة:
-عمومًا هما خدوا مني العنوان وهيجولك
انزعجت كثيرًا من فعلته المتهورة تلك، نهرته قائلة بضيق بدا جليًا في نبرتها:
-إنت عرفتهم بيتي؟ كنت خد منهم رقم الحساب وأنا أحول الفلوس عليه زي كل مرة
رد والدها بأسفٍ:
-مرضاش صاحب الفلوس
أطلقت سبة خافتة من بين شفتيها قبل أن ترد عليه بجدية:
-طيب أنا هاتصرف
تابع “شرف” قائلاً بلطفٍ:
-شكرًا
ثم ادعى السعال قبل أن يضيف:
-خلي بالك من نفسك يا “آسيا”، وأنا هاجيلك قريب
هزت رأسها بإحباط وهي ترد:
-اوكي، باي!
أنهت معه المكالمة دون إضافة المزيد، فتصرفه الأخير أزعجها للغاية وأصابها بالتوتر، فربما دون قصد سيسبب لها مشكلات هي في غنى عنها حاليًا، خاصة أن تلك النوعية من الديَّانة ليست بالمحببة على الإطلاق، ألقت هاتفها على الفراش واتجهت صوب المرآة محدثة نفسها:
-مش هاخلص من الداء بتاعك ده يا بابا!
حدقت في العلامات الواضحة على جانب وجنتها متذكرة من جديد الصفعة التي تلقتها عليه، استشاطت نظراتها وتحول غضبها كليًا نحو شخصٍ بعينه، كزت على أسنانها قائلة وهي تتلمس تلك الأثار بيدها:
-إنتي السبب يا “نادية”، إنتي السبب، أي حاجة بتحصلي إنتي السبب فيها، وأنا مش هاسيبك ترتاحي أبدًا!
……………………..…………………
-“آسيا”
تلفظ “وحيد” باسمها وهو ينظر إلى ابنه بغرابةٍ مستشعرًا جدية الموقف بعد أن سرد له الأخير باختصار ما حدث مؤخرًا معه من جدال مهدد بوضع متأزم، وأثر معرفة والدته بقدومها وتدهور صحتها مما اضطره لاستدعاء الطبيب لتغفو بتعبٍ في الفراش آملة أن تراها ذات يومٍ، جلس والده بإرهاق على الأريكة في غرفة المكتبة وهو يفكر مليًا في كيفية التصرف في ذلك الشأن، فقد مضى وقتًا طويلاً منذ نسيان تلك الأحداث المشحونة، لاحظ “معتصم” شرود والده وتعبيراته الغامضة والتي أثارت ريبته بدرجة مقلقة، سأله مهتمًا:
-إيه حكايتها بالظبط؟
ابتلع “وحيد” ريقه مديرًا رأسه في اتجاهه، ثم أجابه بحذر:
-الموضوع يطول شرحه، وحصل فيه لخبطة كتير وقلق و…..
قاطعه غير مكترث رغم حدية نبرته:
-أنا مش فارق ده كله معايا
أصغى أباه إليه جيدًا وهو يكمل مشيرًا بسبابته وموضحًا خطورتها:
-بس البت دي عاوزة تأذي العيلة وتضيع سمعتنا كلنا، واحنا مش قليلين في البلد!
سأله “وحيد” بيأس رغم عدم اقتناعه باقتراحه ذلك:
-طيب ماينفعش نتفاهم معاها ونشوف عاوزة إيه؟ جايز طمعانة في قرشين!
هز رأسه نافيًا:
-معتقدش، دي ناوية على خراب!
ثم شبك “معتصم” قبضتي يده معًا ليتابع:
-اللي مخوفني أكتر هو حالة ماما، من ساعة ما عرفت إنها رجعت وهي زي ما إنت شايف يا بابا
هز والده رأسه موافقًا إياه وهو يرد:
-ايوه، صحتها على أدها ومش هاتستحمل أكتر من كده
-وأنا خايف أصدمها فيها
حذره “وحيد” بجديةٍ:
-حاول يا ابني تحل الموضوع ده ودي أو بالفلوس، شوف هايتعمل ازاي، وماتخليش “نادية” تعرف بده، مش عاوزينها تزعل وصحتها تتعب
ضم شفتيه معًا مانعًا نفسه من التفوه بالمزيد، لكن عكست نظراته نية جادة وحاسمة للتصدي لأي محاولات منها لإفساد صفو العائلة، تحركت حدقتاه نحو والده عندما سأله:
-أخبار الشغل إيه؟
تشكل على ثغره ابتسامة باهتة وهو يجيبه:
-كله تمام
عمد “وحيد” لإظهار الحماسة في نبرته كنوع من التشجيع لابنه قائلاً:
-سمعت إنك عاوز تفتح فرع تاني، الكلام ده حقيقي؟
أومأ “معتصم” برأسه إيجابًا وهو يرد:
-مظبوط، مكتب المقاولات سمعته كويسة، وأنا عاوز أستغل ده في أكتر من مكان
-ربنا يوفقك يا ابني، أنا عارف إن الضغط عليك أكتر من أي حد
-ما أنا معايا باقي العيلة، بيعملوا إيه
-فعلاً، أغلبكم مهندسين ومحاسبين، ربنا يخليكم لبعض
-يا رب
قالها “معتصم” وهو يجلس باسترخاء على مقعده لكن لم يهدأ تفكيره مطلقًا، فقد كُلف بمهمة أخرى تختلف عما اعتاد إنجازه لينأى بعائلته عن شرر مستطر متمثل في تلك الأنثى المسماة “آسيا” ………………. !!!
……………………..………..

يتبع >>>>>

error: