رواية (المحترم البربري)

رواية المحترم البربري

الفصل السادس والعشرون
لن تنكر أن كلماته الواثقة أصابتها بنوع من الخوف والارتباك، ابتلعت ريقها بتوتر وقد تجمدت نظراته القريبة والحادة عليها، نأت “آسيا” بوجهها بعيدًا عن قربه الملبك لها، لم يكن “معتصم” بحاجة إلى فطنة ليفهم رغبتها في الابتعاد عنه، اكتفى هو بإيصال رسالته الضمنية لها وإن كان غير متأكد من صدق ادعائها بفقدان الذاكرة، اعتدل من جديد في وقفته واضعًا كفي في جيبي بنطاله، انتصب في وقفته محدقًا فيها بنظرات أكثر غموضًا، ثم استطرد قائلاً بهدوء وابتسامة سخيفة تلوح على ثغره:
-فرصة سعيدة يا “آسيا”
أومأ برأسه متعمدًا زيادة ابتسامته اتساعًا، أزعجها طريقته في التلفظ باسمها، بقيت أعينها مسلطة عليه وهو يدير جسده متجهًا نحو باب الغرفة، توترت نظراتها مع تلك النظرة الغامضة التي منحها لها قبل أن يختفي كليًا، شعرت بالتخبط والحيرة، بالقلق والضيق رغم انصرافه، زوت ما بين حاجبيها متسائلة بحيرة:
-مين ده؟ وليه بيتكلم كده؟!
أرخت رأسها على الوسادة بعد أن تسلل الإجهاد لها، أغمضت عينيها لتعيد في مخيلتها مشهد لقائها مع ذلك الغامض الذي لم تعرف هويته بعد، أجبرت عقلها وأنهكته في محاولة التذكر حتى استسلمت ليأسها وقررت أن تأخذ قسطًا من الراحة لتعاود بعدها التفكير فيه.
………………………………………
قرر الاحتفاظ بمسألة زيارتها خلسة لنفسه لتجنب الكثير من النقاشات غير المجدية بالنسبة له مع زوجة أبيه، استقل “معتصم” سيارته عائدًا إلى المنزل بعد برهة من التجول في الطرقات بلا وجهة محددة، لم تكن لديه الرغبة في الذهاب إلى مكتبه ومتابعة أعماله، فباله مازال مشغولاً بمعذبته “آسيا”، ورغم ذلك تخلله إحساسًا غريبًا بصدقها، خشي من فكرة تصديقها فينساق كالبقية في مكيدتها الشيطانية ويفيق في الأخير على كارثة ستطيح به وبعائلته، أخرج زفيرًا مهمومًا من صدره وهو يترجل من السيارة، ببرود غير معتاد منه لم يعر أي من جيرانه الاهتمام وهم يلقون عليه التحية، ولج إلى داخل المنزل ليجد والده في انتظاره، نظر له “معتصم” باستغراب وهو يسأله:
-إنت قاعد هنا ليه يا بابا؟
أجابه “وحيد” بضيق ملحوظ:
-مستنيك
سأله متلهفًا وقد اعترى القلق تعابيره:
-في حاجة حصلت؟ ماما كويسة؟
رد عليه بعد زفير طويل:
-هي بخير، بس المشكلة فيك إنت!
عقد “معتصم” ما بين حاجبيه متسائلاً:
-أنا؟
هز رأسه بالإيجاب قائلاً:
-أيوه
ثم تنفس بعمق قبل أن يتابع متسائلاً بحدة:
-ممكن تفهمني ليه إنت لحد دلوقتي ما روحتش تزور “آسيا”
أجابه “معتصم” ببرود:
-أظن دي حرية شخصية، مش معقول هازورها بالعافية!
استاء “وحيد” من طريقة ابنه في الحديث فعاتبه قائلاً:
-محدش بيجبرك على ده، بس الست اللي تعبت وربتك من حقها على الأقل تبين إنك مهتم بحالة بنتها
لم يحب ذلك الأسلوب في الضغط عليه وتوبيخه بتذكرته دومًا بما قدمته زوجة أبيه لأجله من حب وحنان وعطف مضاعف لترعاه طوال السنوات الماضية، كان يعلم جيدًا أن الضغط على ذلك الوتر الحساس سيزيد من تعقيد الأمور، حاول تجنب الحديث في هذه المسألة قائلاً:
-بعدين هاشوف موضوعها!
لم يكن ذلك الرد المتوقع منه، انزعج “وحيد” كثيرًا من فظاظته فعنفه صائحًا:
-“معتصم” إنت إيه اللي مغيرك كده؟ طول عمرك بتهتم بالجنس اللطيف وبتعامل البنات كويس، ده أنا اللي اسمي أبوك مكونتش بلاحق على البنات اللي عمالين يسألوا عليك عشان ذوقك واحترامك وأسلوبك الكويس في معاملتهم، اشمعنى هي؟
ركز ابنه أعينه المحتقنة على وجه والده ليرد بتذمرٍ:
-نسيت يا بابا هي مين وعاوزة إيه؟
أجابه والده بوجه مكفهر ومشيرًا بيده:
-لأ مش ناسي، بس الظروف اتغيرت ووضعها كمان بقى صعب
تحدث “معتصم” من زاوية فمه قائلاً بتهكم وهو يوليه:
-كل ده علشان الهانم فقدت الذاكرة
التفت والده ناحيته ليقول له بجدية:
-مش جايز تكون دي فرصة ليها علشان تبدأ من الأول
صحح له عبارته موضحًا بسبابته:
-أو خطة لئيمة منها علشان تضيعنا
استنكر أباه محدودية تفكيره فنهره قائلاً:
-بلاش نظرية المؤامرة اللي مسيطرة عليك دي
رد عليه بحدةٍ:
-بكرة أثبتلكم إن كان عندي حق
-ولحد ده ما يحصل من فضلك عامل “آسيا” كويس، مش علشاني بس علشان خاطر “نادية”
-ربنا يسهل
-روح زورها من فضلك
رد عليه بنرفزة واضحة:
-خلاص يا بابا، هابقها أخدلها بوكيه ورد وأزورها، في حاجة تانية؟
أجابه “وحيد” باقتضاب:
-لأ، شكرًا
تابع مضيفًا بنفس العبوس:
-هادخل ارتاح في أوضتي، عند اذنك!
رد عليه بوجه ممتعض:
-اتفضل
ظلت أنظار “وحيد” معلقة على ابنه، هز رأسه بإيماءات مستنكرة محدثًا نفسه:
-ربنا يهديك يا “معتصم”!
…………………………………….
كان ضيف أحلامها طوال الليل يتصارع معها ويحاول النيل منها، قاومته قدر استطاعتها لكنه كان يتمكن منها في كل مرة ويخنقها بأصابعه الغليظة، خافت من نظراته النارية، كانت ترى حدقتيه كجمرتين من نيران مستعرة تتراقص ألسنة اللهب فيهما، شعرت بحشرجة أنفاسها وبتمكنه منها، استيقظت “آسيا” من نومها مذعورة وهي تشعر بالاختناق، تحسست عنقها لتتأكد من كونها بخير، تلفتت حولها بخوف لتتأكد من عدم وجوده، كانت الغرفة خالية وساكنة، تنفست الصعداء وببطء لتضبط نفسها ثم استرخت من جديد في نومها، تعلقت أنظارها بسقفية الغرفة وهي تسأل نفسها:
-هو عاوز يموتني ليه؟ هو أنا أذيته؟
حركت “آسيا” ذراعها بتمهل لتضعه على جبينها، التفتت برأسها للجانب عندما سمعت خطوات قادمة من الخارج إليها، رأت الممرضة تبتسم لها قائلة:
-صباح الخير، ازيك النهاردة؟
ابتلعت “آسيا” ريقها في حلقها الجاف وهي تجيبها:
-الحمدلله
تابعت قائلة بتفاؤلٍ وهي تضع صينية الإفطار على الطاولة الملتصقة بفراشها:
-الدكتور هايجي كمان شوية وهيطمنك، حضرتك اتحسنتي كتير عن أول مرة جيتي فيها
-أها
-يا ريت تاكلي حاجة قبل ما تاخدي الدوا
-ماليش نفس
ناولتها عبوة مغلفة بالبلاستيك الشفاف مرددة بجدية:
-الأكل صحي ومفيد جدًا، وصدقيني طعمه حلو
اعترضت عليها بوهنٍ:
-بس …
قاطعها “مصطفى” قائلاً بهدوء:
-هي معاها حق، لازم تاكلي يا “آسيا”
حركت “آسيا” رأسها نحو الطبيب الذي أمسك باللوح المعدني ليقرأ الملحوظات الأخيرة التي تخص حالتها، تابع مضيفًا:
-المؤشرات كلها كويسة، وقريب إن شاء الله هتخرجي من هنا
وقفت الممرضة إلى جواره فهمس لها ببعض العبارات، فردت عليه باقتضاب:
-تمام يا دكتور
ثم تركته وانصرفت لتكمل عملها بالخارج، أردفت “آسيا” قائلة بضيق وهو يفحصها:
-أنا مش فاكرة حاجة خالص يا دكتور وده تاعبني أوي
رد عليه مبتسمًا:
-مع الوقت والعلاج الذاكرة هتنشط، وطبعًا لازم يكون في دكتور متخصص علشان حالتك، أنا أعرف كام حد شاطر هابلغ العيلة بأسمائهم بحيث يتواصلوا معاهم
بدت “آسيا” مترددة بعض الشيء في الاستفسار عن أمر ما، لكنها كانت واثقة أنه سيمنحها الجواب المناسب، عضت على شفتيها متسائلة:
-دكتور ممكن أسأل عن حاجة
رفع وجهه ناحيتها ليقول:
-اتفضلي
أكملت موضحة بارتباك طفيف:
-هي مالهاش علاقة بحالتي، بس تخص اللي بيزوروني، أنا معرفهومش، ممكن تقولي هما مين
اتسعت ابتسامته قائلاً:
-لحسن حظك أنا عارفهم بصفة شخصية
تحمست لكونه على معرفة جيدة بهم، سيختصر ذلك عليها الكثير، طلبت منه بلباقةٍ:
-طب كلمني عنهم لو مكانش يضايقك أو هاعطلك عن حاجة
سحب “مصطفى” المقعد ليجلس بجوار فراشها ثم استأنف حديثه بعدها:
-أنا معاكي، والدتك “نادية” هانم إنسانة محترمة بمعنى الكلمة، سيدة مجتمع من بتوع زمان، حاجة تفتخري بيها، وطبعًا إنتي شوفتي اهتمامها بيكي ازاي
هزت رأسها بتفهم وهي تقول:
-كمل يا دكتور
كان متحرجًا من إخبارها بكافة التفاصيل التي يعرفها عن والدتها فأثر الاقتضاب في الحديث، بدا وجهه هادئًا في تعابيره حينما أكمل بتريث:
-هي متجوزة من راجل محترم بيحبها جدًا اسمه “وحيد المصري”
ردت عليه مبتسمة:
-اللي شكله رياضي مع إنه كبير في السن، عرفته
تابع قائلاً بمرح:
-بالظبط، عمو “وحيد” واخد باله من نفسه أوي، ماشي بمقولة الشباب شباب القلب
ردت مبتسمة:
-تمام
خشي من سؤالها عن “معتصم”، فما سيقوله ربما سيكون مزعجًا لها، تحجج بانشغاله مرددًا:
-طيب هستأذنك دلوقتي في حالات مستنية ونكمل حديثنا وقت تاني
ثم نهض من جلسته معيدًا المقعد للخلف، وقبل أن يتركها هتفت بجدية:
-دكتور معلش حاجة أخيرة
انتابه شعورًا خفيًا بأنها ستسأل عنه، حافظ على هدوئه قائلاً:
-اتفضلي
ضاقت نظراتها نحوه وهي تسترسل قائلة:
-في واحد جه زارني امبارح وكان باين عليه إنه عارفني بس أنا لأ، ممكن تعرفلي هو مين
سألها بحذرٍ رغم إحساسه بالعكس:
-مش جايز يكون “نبيل”؟
هزت رأسها بالنفي وهي ترد:
-لأ، مش هو، دي أول مرة يجيلي فيها هنا وأشوفه!
زوى ما بين حاجبيه متسائلاً:
-مين ده؟
ردت عليه بجدية:
-أنا بسألك فيا ريت لو تقدر تفدني في الموضوع ده، أنا عاوزة أعرف هو مين، يعني أنا هاقولك شكله تقريبًا عامل ازاي، جايز يكون من العيلة!
حاول التملص منها قبل أن يكشف لها عن هوية “معتصم” دون أن يتأكد من قيامه بتلك الزيارة، لذا تنحنح قائلاً:
-هو طنط “نادية” معارفها كتار، والكل أكيد حابب يطمن عليكي باعتبارك بنتها، فجايز يكون ده حد منهم
شردت تفكر فيما قاله رغم عدم اقتناعها، فأسلوبه الغامض في الحديث معها بالأمس أخافها وأربكها، تعجب “مصطفى” من صمتها، ساورته الشكوك قليلاً حول كونها تسأل عن “معتصم” تحديدًا، فمن غيره يمكن أن يزورها؟ ادعى الابتسام قائلاً:
-عمومًا أنا هاحاول أسالك مين، ولو عرفت هاقولك
رسمت على ثغرها بسمة صغيرة وهي ترد بامتنان:
-ميرسي يا دكتور، تعبتك!
-ولا يهمك، عن إذنك!
تركها بمفردها في الغرفة متابعًا حديث نفسه وهو يفرك مقدمة رأسه:
-أنا حاسس إنه “معتصم”، بس غريبة، ما هو كان رافض يشوفها، يبقى إزاي جه زارها ومن غير ما يقول لحد؟ في حاجة مش مفهومة!
حك طرف ذقنه مكملاً بنبرة عازمة:
-وليه أحير نفسي ما أنا أسأله أحسن!
…………………………………………..
-وهازورها ليه؟ إذا كنت أنا مش طايقها
قالها “معتصم” بعصبية واضحة عليه وهو ينظر إلى رفيقه “مصطفى” الذي بدا غير مقتنع بما قاله، تفرس الأخير في ملامحه قاصدًا سبر أغوار عقله ليعرف فيما يفكر وفيما يخطط، قرر زيارته في مكتبه لينفرد معه في الحديث، لكنه لم يستفد منه بشيء، أضاف بجدية وهو يشير بيده:
-بس شكلها كان بيسأل عليك إنت بالذات
سأله “معتصم” بحذرٍ وقد اشتدت قسماته نسبيًا:
-هي قالتلك حاجة؟
أجابه نافيًا:
-لأ، بس بتقول إن حد غريب زارها وكان واضح إن الكلام كله عليك
شعر “معتصم” بالانزعاج لإصراره على التحقيق معه فهتف مستنكرًا:
-يا ابني هو أي مصيبة تحصل للهانم “آسيا” يبقالي يد فيها
رد عليه “مصطفى” بنبرته الهادئة:
-أنا قولتلك على اللي حصل وخلاص، وإنت حر
أومأ برأسه هاتفًا ببرود:
-تسلم يا دكتور
أضاف “مصطفى” قائلاً وهو يستعد للذهاب:
-ماشي مش هاعطلك، أنا قولت أشوفك وأسأل عليك
ابتسم مجاملاً:
-شكرًا على تعبك
تأكد “مصطفى” من متابعته له ليضيف بجدية ومتعمدًا التحديق فيه:
-بالمناسبة هي هتخرج على أول الأسبوع الجاي، قعدتها في المستشفى معدتش ليها لازمة، ممكن تكمل علاج في البيت
رد “معتصم” باقتضاب:
-كويس
تابع مستفهمًا بغموض:
-سألت طنط “نادية” هتعمل إيه؟
لم يفهم “معتصم” سؤاله جيدًا فتساءل:
-في إيه؟
أجابه ببساطة ودون أن يرتد له طرف:
-في “آسيا”
زفر قائلاً بضيق:
-معرفش، دي حاجة تخصها
لم يكن رفيقه على علم بالاتفاقات التي يتم الترتيب لها بشأن “آسيا” لذلك أوضح له بابتسامة عابثة:
-تمام، بس حط في بالك إنها احتمال تيجي تعيش معاكو في البيت
تبدلت تعابيره مائة وثمانون درجة، من الارتخاء للحدة، ومن الهدوء الممتعض للانفعال، هدر قائلاً بصدمة:
-نعم، بتقول إيه؟!!!
رد ببرود احترافي:
-ده احتمال وارد، ماظنش إن طنط “نادية” هاتسيب بنتها في الظروف دي لوحدها
اتسعت ابتسامته مكملاً بتسلية وهو يلوح بيده مودعًا:
-ويا ريت تخليك كول مع ضيفتك، سلام يا صاحبي!
كظم “معتصم” حنقه لثوانٍ في نفسه حتى انصرف صديقه من غرفته، قذف محتويات سطح مكتبه بعنف دفعة واحدة ليردد بعدها بتشنج:
-بنت اللذينة لعبتها صح، تعمل فيها فاقدة للذاكرة وتيجي تعيش في بيتنا علشان تخربه!
فسر عقله ادعائها للمرض بتلك الطريقة، استشاط غضبًا وتوهجت نظراته بحمرة ملتهبة، ضرب بيده المطوقة بعنف على السطح الزجاجي قائلاً بوعيد وهو يكز على أسنانه:
-هي اللي جابته لنفسها!
…………………………………………..
تحملت الألم وهي تحاول النهوض من على الفراش مستعينة باثنتين من الممرضات لتجلساها على المقعد المتحرك، لم تشفَ ساقها بعد، لكن تماثلت كدماتها وأغلب جروحها للشفاء بعد فترة لا بأس بها من العلاج المكثف، استندت “آسيا” بمرفقيها على مسندي المقعد، والتفتت برأسها للجانب لتسأل والدتها:
-احنا هنروح فين؟
أجابتها “نادية” بحماس وقد أشرق وجهها:
-على بيتك
ردت “آسيا” متسائلة باستغراب:
-هو إنتي عارفة مكانه؟
أومأت برأسها قائلة بحنو كبير:
-أه طبعًا، من النهاردة بيتي هو بيتك يا بنتي
شعرت “آسيا” بالغرابة من حديثها رغم بساطته، تملكها إحساسًا قويًا بالخوف والارتباك، شعرت في قرارة نفسها بأنها لا تنتمي إلى أفراد تلك الأسرة، وما يفعله من حولها هو نوع من الإشفاق والرفق بحالتها، تمنت لو عرفت الكثير عن حقيقتها، ما يخصها حقًا وليس ما تردده الألسن لها، انتبهت إلى صوت “وحيد” القائل بحماسٍ وهو ينحني ليحمل حقيبة ثيابها الصغيرة:
-مامتك مستنية اليوم ده بفارغ الصبر يا “آسيا”
ابتسمت مجاملة له، قامت والدتها بدفع مقعدها وهي تثرثر عما ستفعله معها،ودعت طبيبها وكذلك الممرضات اللاتي أشرفن على حالتها، ثم لزمت الصمت بعد ذلك لمعظم الوقت حتى أثناء ركوبها للسيارة، وإن اضطرت للرد تكتفي بالكلمات المقتضبة.
…………………………………………………….
توقفت السيارة أمام إحدى البنايات بداخل أحد المجمعات السكنية الفاخرة، تأملت “آسيا” المكان بنظرات دقيقة متفحصة له، شعرت بأنها رأته وجاءت إلى هنا من قبل، أخرج “وحيد” مقعدها المتحرك من السيارة ثم أسنده بجوار بابها، استعدت “آسيا” للترجل بحذرٍ والجلوس عليه، ارتجفت كليًا حينما التقطت أنظارها صاحب الوجه الغريب الذي قد جاء لزيارتها في وقت سابق، اختل توازنها من الصدمة ولم تمسك جيدًا بمسند المقعد فانفلتت يدها وسقطت بجواره، هتفت “نادية” بتلهفٍ فزعٍ:
-“آسيا”
أضاف “وحيد” بخوف وهو يزيح المقعد للجانب ليتمكن من الوصول إليها:
-خدي بالك!
ردت بصوت شبه متألم:
-أنا كويسة، اطمنوا
مد يده نحوها ليعاونها على الوقوف قائلاً:
-هاتي إيدك
أشارت له بكفها وهي ترد بعبوس:
-شكرًا، أنا هاعرف أقوم لوحدي، ماتكسحتش لسه!
ردت عليها والدتها بحزنٍ:
-يا بنتي بلاش مكابرة، إنتي لسه تعبانة ودي مافيهاش حاجة
كانت “آسيا” مخطئة حينما ظنت أنه التهى عنها وابتعد، وجدته واقفًا قبالتها حاجبًا عنها بجسده أشعة الشمس، رفعت أعينها الفيروزية نحوه لتحدق فيه بذهول، طالعها بنظراتٍ غير مريحة وهو يقول:
-إزيك يا “آسيا”
انفرجت شفتاها على الأخير كتعبير عن صدمتها لترحيبه بها بتلك الألفة أمام والدتها وزوجها، وما زاد من دهشتها هو حديث “نادية” له وهي تربت على كتفه بمحبة:
-“معتصم”، ابني!
بقيت على وضعيتها المصدومة وهي محدقة فيه باندهاش، أحنى نفسه عليها ليحملها عنوة بين ذراعيه قائلاً:
-مايصحش ضيفتنا تفضل على الرصيف كتير!
شهقت بخوف وقد تسارعت دقات قلبها بقوة داخل صدرها حتى كادت تصم أذنيها من فرط التوتر الممزوج بالاضطراب، التقت أعينه الغامضة بنظراتها الذاهلة، أحست بعدم الارتياح من كل ما يحدث حولها، رفضت حمله لها قائلة بتلعثم:
-مش عاوزة مساعدة، لو سمحت نزلني، الكرسي موجود
التوى ثغره للجانب بابتسامة متهكمة، ثم همس لها ساخرًا:
-“آسيا” بتقول لو سمحت! أنا مش مصدق نفسي!
تجهمت تعابيرها من سخريته الغير مبررة منها، تيقنت أنه على معرفة جيدة بها، لكنها تجهله، أجلسها “معتصم” على المقعد وهو يطالعها بنفس النظرات الغامضة التي تثير فيها الارتباك، أبعد خصلة من شعرها كانت قد التصقت بجبينها قائلاً بهدوء مريب:
-هتنوري بيتنا من تاني يا “آسيا” ………………………………….. !!
……………………………………………………….

يتبع >>>>>

error: