رواية (المحترم البربري)
الفصل الخامس والأربعون (الأخير – الجزء الثاني)
تجمد في مكانه ليفكر برويةٍ وعمق فيما انتوى على فعله، وبخطا ثابتة وحذرة غيَّر “معتصم” وجهته ليسير في اتجاه غرفته، ولج إلى الداخل ثم برفق شديد مدد “آسيا” على فراشه، عاد إلى الباب ليوصده بالمفتاح والتفت ليرمقها بنظرات مطولة، خلع سترته وأسندها بإهمال على المقعد، ثم انتزع رابطة عنقه وحل أزرار قميصه بالكامل، زفر بصوت مسموع ليهدئ من الحماس المشتعل بداخله، اقترب منها ثم جلس على طرف الفراش ممررًا أنظاره بتمعنٍ شديد على تفاصيل وجهها، رفع يده ليتلمس جبينها برفق ناعم، همس لها بصوتٍ عذبٍ اخترقها:
-“آسيا”!
تنبهت لصوته ففتحت عينيها على الفور لتجده يطالعها من ذلك القرب المُربك، زحفت بعيدًا عن حصاره المريب وهي تردد بتوترٍ:
-إنت!
ألقت نظرة خاطفة على تفاصيل المكان من حولها لتتأكد أنها ليست بغرفتها، زاد اضطرابها دقات وجهها وارتسم على ملامحها شبه المذعورة علامات القلق، سألته بنبرة مهتزة:
-أنا إيه اللي جابني هنا؟
أشار لها بيده محاولاً تهدئتها قبل أن تثير جلبة من لا شيء:
-“آسيا”، اسمعيني لو سمحتي
تحفزت حواسها لما سيحدث لاحقًا، استشعرت نية مبيتة لفعل ما تخشى التفكير في إمكانية حدوثه، رمقته بنظرات قلقة وهي تسأله:
-عاوز تقول إيه؟
دنا منها بحذرٍ، فهبت واقفة من على الفراش لتترك مسافة آمنة بينهما، توقف عن التقدم ليبث لها إحساس الثقة، منحها نظرات دافئة مليئة بالشغف ثم تابع موضحًا بخفوت:
-متخافيش مني يا “آسيا”، أنا غير أي حد
رفعت سبابتها نحو باب غرفته تأمره رغم ارتجاف صوتها:
-عاوزة أطلع من هنا
هز رأسه بالنفي وهو يرد عليها بهدوءٍ:
-مش هاينفع
شعرت بجفاف كبير يجتاح حلقها، فنظرات “معتصم” الغريبة نحوها تؤكد لها عزمه على تصعيد الأمور في علاقتهما، خفق قلبها بقوة حينما تابع:
-أنا عاوز أقرب أكتر منك، تعرفيني بجد وتفهميني
ردت محتجة بجمود زائف علها تنجح في التخلص منه:
-وده ماينفعش إلا في أوضتك؟
التوى ثغره قائلاً بابتسامة صغيرة:
-احنا متجوزين يا “آسيا”، طبيعي يبقى في أمور ومشاعر خاصة بينا
زاد يقينها بأنه سيتودد إليها بصورة حميمية، فمنذ ومتى وتلك المعاملة الرقيقة الراقية منه معها؟ حاولت المناص منه لتقول باعتراض واضح:
-بس بالشكل ده
حسمت أمرها بالرحيل فورًا من غرفته، فبقائها يعني استدراجها لما تخشاه، تحفزت واندفعت في اتجاه الباب بأقصى سرعتها، توقفت كليًا فجأة حينما سد عليها “معتصم” الطريق بذراعيه، أجبرها بذلك على التراجع خطوتين للخلف بعيدًا عنه، عبس وجهه وهو يتوسلها بحذرٍ:
-“آسيا”، استني من فضلك
صاحت فيه بنبرة أقرب للصراخ:
-عاوزة أطلع من هنا
أشار لها بكفيه يرجوها بعقلانية:
-اسمعيني بس للآخر
نظرت له بعينين حادتين فأكمل بتمهلٍ:
-أنا والله غير الشخص اللي اتعاملتي معاه خالص، أنا شخصية مختلفة
ردت بنفاذ صبر:
-أوكي، ماشي طلعني من هنا!
تقدم نحوها فتراجعت لا إراديًا للخلف، ابتسم مضيفًا بتنهيدة فهمتها على الفور:
-مش قبل ما تعرفي باللي حاسه ناحيتك!
ارتفع حاجباها للأعلى في اندهاش كبير، ردت بعدم تصديق:
-نعم
زفر بعمق قبل أن يستأنف حديثه المتيم:
-مهما حاولت أنكر ده في الأول بس فعلاً جوايا ليكي ….
قاطعته بحدة رافضة منحه أي فرصة للتعبير عن مشاعر لن تصدقها حاليًا:
-“معتصم” لو سمحت
أزعجه رفضها السماح له بالتقرب منها واسترقاق قلبها عله يتمكن من استمالة عقلها وإزالة تلك الغشاوة التي تعوق كلاهما عن رؤية مشاعرهما الحقيقية، اقترب منها هامسًا باسمها:
-“آسيا”
ظلت تتراجع للخلف حتى اصطدم جسدها بخزانة الثياب، باتت محاصرة منه، تقوست شفتاه بابتسامة ساحرة، رفع يده ليتلمس وجنتها بحنو وهو يسألها:
-بتبعدي ليه مني وأنا عاوز أقرب منك؟
توترت نظراتها وتحرك بؤبؤاها بعصبية ملحوظة، رجته بأنفاس متهدجة:
-سيبني أمشي من هنا
رد نافيًا بكلمة واحدة:
-صعب!
اتسعت حدقتاها الفيروزيتان أكثر، تورد وجهها بدموية مغرية ومحببة إليه، اقشعر بدنها من لمسة يده الأخرى على جانب عنقها، أغمضت “آسيا” عينيها مقاومة ذلك الإحساس المغري الذي عصف بأوصالها وهو يفرك بشرتها برقة مؤججة للمشاعر، ارتجفت خلاياها من لمساته، مال عليها “معتصم” برأسه ليطبع قبلة حسية عميقة على شفتيها أراد أن يعزز بها توقه لها، استمر في محاوطة وجهها بأصابعه مدعمًا قبلته بالمزيد من المشاعر الأكثر عمقًا ليدفعها للاندماج معه وجدانيًا، تراجع عنها هامسًا لها بتنهيدة حارة ألهبت وجهها المشتعل مسبقًا:
-شكلي وقعت في حبك يا “آسيا” وأنا مش دريان!
ورغم التخبط الهائل في أحاسيسها إلا أن كلماته كانت محسوسة بشكل غامض ومثير، تابع همسه العاشق مرددًا:
-خلينا نعيش اللحظة دي وننسى كل اللي فات
تلاحقت دقات قلبها مع همساته الملامسة لأوتارها، داعب طرف أذنها بأنفاسه مؤكدًا لها:
-إنتي مراتي ومشاعري من حقك زي ما مشاعرك من حقي أنا وبس!
انحنى عليها مجددًا ليمنحها قبلة أخرى أذابت ما بينهما من حواجز وهمية ومهدت الطريق لأمور أشد تأثيرًا، أدركت “آسيا” عند تلك النقطة أنه لا بديل عن الاستسلام له، فربما تلك هي طريقته للتأكد من عفتها حتى لو ادعى حبه لها، فقط تمتاز بكونها صورة إنسانية راقية بعيدة عن الحيوانية الغرائزية التي قرأتها في أعين من التقت بهم من أشباه الرجال، فإن اعترضت عليه وقاومته سيعاملها بخشونة وقسوة وفي الأخير سينال غرضه منها وستعاني من ذكرياتها، إذًا لتجعلها لحظة مميزة ومختلفة، لتمنحه ما يطمح إليه لتكون آخر ذكرى تجمعهما سويًا، بادلته بعد حسم مصيرها معه مشاعرها الحسية، فتضاعفت رغبته فيها مع تجاوبها المثير الذي شوقه للمزيد، وحدث ما تمناه.
………………………………………….
-جاهز؟
تساءل “شرف الدين” بتلك الكلمة المقتضبة موجهًا حديثه إلى غريمه الجالس في مواجهته وهو ينظر بخلسةٍ إلى أوراقه الرابحة، بدا الأخير مزعوجًا من خسارته المتلاحقة خلال ليلته المشؤومة، وضع ما تبقى معه من نقود في المنتصف ليرد بتأفف:
-أيوه
ثم أظهر أوراقه متوقعًا أن يقف القدر في صفه ويربح، خابت توقعاته مع إبراز “شرف الدين” لأوراقه الرابحة ليحقق فوزًا كبيرًا عليه، فرد ذراعيه ليضم النقود إليه لكن تجمد في مكانه مصدومًا حينما سمع الصوت الآمر بغلاظةٍ:
-ولا حركة!
ثبت أنظاره على الرجل المهيب الذي اقتحم المكان برجاله من ذوي الوجوه الصارمة، خمن سريعًا أنها مداهمة من قبل السلطات الأمنية على ذلك المكان السري الذي يمارس فيه رواده لعبة القمار، ادعى تماسكه متسائلاً ببلاهةٍ:
-إنتو مين؟
أجابه الضابط بابتسامة منتصرة:
-بوليس يا حضرت، وطبعًا مش محتاج أقولك احنا هنا ليه
ثم أدار رأسه للجانب ليأمر رجاله بصرامةٍ:
-هاتوهم وحرزوا الحاجات دي كلها!
هاج “شرف الدين” لتبخر حلم الفوز في ثانية، هدر محتجًا على إلقاء القبض عليه، قاوم رجال الشرطة صارخًا بتشنجٍ:
-سيبوني، أنا هوديكم في داهية، إنتو مش عارفين مين ورايا
نظر له الضابط شزرًا وهو يعلق عليه باستهزاءٍ:
-ابقى عرفنا في القسم، يالا على البوكس
ساقه رجال الشرطة إلى خارج المكان متلبسًا بالجرم المنشود لتنتهي فعليًا بالنسبة له حياة الترف والرفاهية.
…………………………………………..
انقضى ما يزيد عن ساعتين منذ لحظة تلاحم جسديهما معًا لكنها ظلت متيقظة الحواس واعية لكل شيء، فكرت مليًا في تبعات علاقتهما، وتخيلت الكثير من النهايات المأساوية لزيجتهما، حركت “آسيا” رأسها للجانب لتنظر إلى “معتصم” الذي غرق في سبات عميق، عاتبت نفسها بقسوة لضعفها، لخذلانها، لاستسلامها، ولرضوخها بسهولة لفيض المشاعر الناعمة التي نقلتها لعالم وردي سكنت فيه آلامها وجعلتها تحلق عاليًا متناسية كل ما مرت به في حياتها الماضية، أوهمت نفسها بأنها قد عايشت حلمًا جميلاً ستفيق منه على حقيقة مريرة حينما منحته في تمناه ورغب فيه بدون عناء، لحظة واحدة أشعرتها بالخوف من مستقبلها معه، حتمًا سيطفو ماضيها على السطح ليخلق المشاكل بينهما، قررت دون تفكير هجر “معتصم” والاختفاء من حياته قبل أن يذيقها ما لن تتحمله متسلحًا برغباته الانتقامية التي لن تخمد بين ليلة وضحاها، ستحيا بعيدًا عنه وبمساعدة نفسها فقط، ستتلاشى من حياته نهائيًا، تحركت بحذرٍ شديد من على الفراش كي لا توقظه، ثم تسللت على أطراف أصابعها لتخرج من غرفته.
عادت “آسيا” إلى غرفتها مهرولة، وبدون أي تأخير جمعت ما استطاعت أن تطاله يدها من متعلقات تخصها في حقيبة صغيرة، التقطت الصورة الفوتوغرافية التي جمعتها بوالدتها الراحلة نظرت لها بحزنٍ، مسحت عليها بيدها قائلة بندمٍ:
-مش هاينفع أكمل معاه، هو محبنيش من الأول!
دستها على عجالة وسط ثيابها، قررت أن تترك هاتفها على الكومود، ليست بحاجة إليه، سترحل بلا عودة وبدون أن يقتني أحدهم أثرها، وبتأنٍ حريص خرجت من الغرفة، أضاء عقلها بفكرة جهنمية، ستجبر “معتصم” على تذكر نبذها له دومًا، لذا دونت على ورقة صغيرة جملة حملت الكثير (طلقني، أنا بأكرهك)، أسندت حقيبتها بجوار باب غرفته وتسللت إلى الداخل لتضع الورقة على الوسادة بجواره، تخشب جسدها مع تلك الغمغمة البهمة التي صدرت منه، خشيت أن يكتشف أمرها ويفسد مخططها، حبست أنفاسها بترقب، وما إن تأكدت من استغراقه في النوم حتى عادت من حيث أتت لتهرول على الدرج ومنه إلى الطابق السفلي ثم إلى خارج المنزل، كان الوقت مبكرًا فخدمها ذلك الهدوء السائد في المنطقة إلى حد ما، سارت بخطوات أقرب للركض متجهة للطريق الرئيسي لتستقل سيارة أجرة، أمرت السائق بصوتها اللاهث:
-اطلع على موقف الباصات!
…………………………………………………
تنعم بمشاعر مشوقة مليئة بالآنات والأهات المستمتعة وهو يقدم باستفاضة حبه الجارف لها، تململ “معتصم” في الفراش مستعيدًا في عقله لحظاته الخاصة مع “آسيا”، وما زاده سعادة هو تأكده من نقائها فانهارت شكوكه وتبددت كليًا، شعر بالرضا والانتشاء الممتع مع اختباره لمشاعرها الأنثوية التي قدمتها له بكرمٍ كبير، تثاءب وهو يتقلب على جانبه آملاً أن يكون وجهها الساحر هو أول ما يراه في نهاره، فتحت عينيه ليتفاجأ بخلو الفراش منها، تحسس مكانها فوجده باردًا، انتفض من نومته متلفتًا حوله بقلق، هتف مناديًا بصوته الناعس:
-“آسيا”!
تنحنح بخشونة قبل أن يزيح الغطاء عنه ليتجه إلى الحمام، اعتقد أنها بداخله فدق الباب متابعًا ندائه عليها:
-“آسيا”، إنتي جوا؟
لم يحصل على جواب يشبع فضوله فاستأذن قائلاً:
-أنا هادخل لو مردتيش عليا
وبدون تردد أدار المقبض لينفتح الباب فظهر المكان خاليًا منها، انقبض قلبه بخوفٍ وأسرع بارتداء قميصه التحتي، تجمدت نظراته على تلك الورقة الملقاة بجوار الفراش، انحنى ليلتقطها ثم قرأ ما فيها لتتحول تعابيره للتجهم الشديد، خرج “معتصم” من غرفته متجهًا إلى غرفتها صائحًا بنبرة عالية:
-“آسيـــا”
اقتحم غرفتها فوجدها شاغرة، استشاطت نظراته من فعلتها غير المبررة، طوى الورقة بعصبية ثم مشى مهرولاً نحو الدرج وهو يتساءل بحنقٍ:
-ليه كده يا “آسيا”؟ بتبوظي حياتنا قبل ما تبدأ ليه؟
خرج والده من غرفته على صوته المرتفع متسائلاً:
-في إيه “معتصم”
التفت نحوه ليجيبه وشرارات الغضب تطاير من عينيه:
-“آسيا” سابت البيت يا بابا
احتل الاندهاش قسماته فردد مصدومًا:
-بتقول إيه؟ وإزاي ده حصل؟ وعشان إيه؟!!!
أجابه من بين أسنانه المضغوطة:
-معرفش حاجة!
اقترب منه “وحيد” بخطاه المتعجلة يسأله بعبوس يعلو وجهه:
-اوعى تكون ضايقتها بأسلوبك؟ مش أنا موصيك عليها
هدر منفعلاً:
-أنا معملتهاش حاجة، بالعكس احنا كنا مبسوطين أوي امبارح حتى بعد ما باباها ….
قاطعه أباه متسائلاً باستغرابٍ:
-قصدك “شرف الدين”؟ إنتو شوفتوه فين؟
توهجت نظرات “معتصم” بغضب مفهوم، تمتم بغيظٍ:
-أكيد الجبان ده كلمها وهددها وهي خافت منه، أنا مش هاسيبه لو عملها حاجة
أمسك به “وحيد” من كتفيه ليهزه وهو يسأله بحيرة انعكست في نظراته المتوترة نحوه:
-فهمني يا “معتصم” إيه اللي حصل؟
أجابه بغموض:
-نوصل بس لـ “آسيا” وهاحكيلك كل حاجة
أرخى والده قبضتيه عنه ليتابع بجدية:
-أنا هاكلم اللوا “موافي” جايز يقدر يفيدني بحاجة عن أبوها وممكن نوصلها عن طريقه
أومأ برأسه موافقًا:
-تمام، وأنا هاغير هدومي وأروح شقتها القديمة، احتمال تكون رجعت هناك
رد عليه والده بقلق كبير:
-ماشي، وخليك على اتصال معايا وبلغني بأي جديد يا “معتصم”
-حاضر
قالها ابنه وهو يعاود أدراجه إلى غرفته ليبدل ثيابه ويبدأ رحلة البحث عن حبيبته الهاربة “آسيا”.
……………………………………………………
مرت ليالٍ عليه وقد خاب مسعاه في العثور عليها في كل الأماكن التي من المحتمل أن تلجأ إليها، أهمل متابعة عمله وانشغل بها هي فقط، عاد “معتصم” خائب الرجاء وخالي الوفاض إلى منزله متحسرًا مهمومًا، ألقى بجسده المتعب من المجهود الزائد على الأريكة وهو يعتصر عقله محاولاً الوصول إلى شيء ما قد يمكنه من إيجادها، كز على أسنانه مغمغمًا بضيق حانق:
-روحتي بس فين؟
سأله “وحيد” الذي اقترب منه ليتفقده:
-برضوه ملقتهاش؟
خرج صوته متشنجًا وهو يجيبه:
-زي ما تكون فص ملح وداب
أرجع رأسه للخلف متسائلاً بغضبٍ لم يخمد للحظة:
-اللي هايجنني هي عملت كده ليه؟ اقسم بالله أنا عملتها كويس جدًا، كنت مستعد أخليها تعيش ملكة معايا
جلس والده بجواره ماسحًا على كتفه بحنو أبوي، تنهد معلقًا:
-جايز محتاجة فترة تعيد حساباتها فيها
نظر له بغل وهو يرد:
-هي لعبتها صح وانتقمت مني
اعترض والده على ظنونه السيئة قائلاً بصوته المتصلب:
-هترجع لشكوكك دي تاني؟ ما هو ممكن ده اللي خلاها تبعد عنك!
برر له اعتقاده قائلاً:
-طب تفسرلي بإيه اللي عملته يا بابا؟ أنا واحد صحيت من النوم لاقيت مراتي سيباله ورقة مكتوب فيها طلقني وهربانة من البيت
كان إلى حد ما محقًا في هاجسه ورغم ذلك علل “وحيد” تصرفها موضحًا:
-ممكن تكون أعدة مع واحدة من أصحابها
هز رأسه بالنفي قائلاً:
-معتقدش، ماشوفتلهاش واحدة خالص
أضاف والده باهتمام جاد:
-طب مسألتش “أية”؟ هي كانت قريبة منها الفترة اللي فاتت، احتمال تكون قالتلها على مكانها أو …
قاطعه “معتصم” بيأسٍ:
-برضوه متعرفش عنها حاجة
ربت والده على كتفه ليهون عليه قليلاً، ثم علق بهدوءٍ:
-إن شاء الله هنوصلها، متقلقش
استنكر حدوث ذلك متسائلاً:
-إزاي؟
تابع “وحيد” حديثه:
-اللوا “موافي” كلمني وقالي إنها مخرجتش برا مصر، ودي حاجة كويسة أوي، يعني هي لسه هنا!
دفن “معتصم” رأسه بين راحتيه لثوانٍ قبل أن يبعدهما ليزفر قائلاً بإحباطٍ جلي:
-أنا عامل زي اللي بيدور على إبرة وسط كوم قش!
……………………………………………………
ناولتها كوب النسكافيه الساخن لتحتسيه بعد أن اعتدل في جلستها على الفراش، ابتسمت “آسيا” لرفيقتها “جميلة” بامتنان كبير لحسن ضيافتها لها، فقد استقبلتها الأخيرة في منزلها حديث الطراز بتلك المدينة السياحية المواجهة لشواطئ البحر الأحمر لتمكث معها بعد أن فرت من “معتصم”، أشفقت عليها صديقتها معتقدة –مثلما أخبرتها- بأن زوجها قد عاملها بقسوة وعنف قبل أن يطرد من منزله لتقاسي بمفردها في الطرقات محتفظة لنفسها بهويته الشخصية، رفعت “آسيا” عينيها الذابلتين نحوها قائلة:
-تعبتك معايا
ردت بعبوس زائف:
-هو أنا عملت حاجة، المهم إنتي بقيتي كويسة دلوقتي؟
هزت “آسيا” رأسها بالإيجاب لترد بحرجٍ:
-الحمدلله، معلش هتقل عليكي كمان كام يوم لحد ما أظبط أموري و…
انزعجت “جميلة” مما قالته ووبختها قائلة برقة:
-ماتقوليش كده، والله أزعل منك
ثم رسمت بسمة ناعمة على شفتيها لتضيف بحماس:
-ده أنا مصدقت ألاقي حد أعرفه يقعد معايا هنا في المنفى ده
مالت “جميلة” على “آسيا” لتضمها بذراعيها من كتفيها، شعرت الأخيرة بالاحتواء من ضمتها الصغيرة، أضافت رفيقتها بامتنان واضح:
-وبعدين أنا مش ناسية اللي عملتيه معايا لما كنا في “دبي”
تذكرت “آسيا” لجوء صديقتها إليها لتطلب منها مساعدتها لإبعاد ذلك البغيض الذي حاول الاعتداء عليها أثناء مشاركتها في إحدى عروض الأزياء، لم يتركها ذلك الدنيء وشأنها، بل لحق بها إلى غرفة تبديل الثياب، وحينما حاولت اتهامه بالتحرش بها، اتهمها بسرقته، أنقذها فقط التسجيل المصور الذي التقطته له وهو في حالة شبه مغيبة لتنقلب الطاولة على رأسه، وتنتهي الأمور لصالح “جميلة” وحينها قررت العودة إلى وطنها لتستقل بعملٍ بعيد عن ذلك الوسط الذي لا يلائمها، عادت “آسيا” من شرودها السريع لتربت على يد رفيقتها مرددة بابتسامة مجاملة:
-حبيبتي، تسلميلي، احنا مش بس أصحاب لأ اخوات من زمان أوي
تحولت تعابير وجه “جميلة” للجدية لتعلق بتبرمٍ وهي تسلط أنظارها عليها:
-بس كان المفروض تبلغي البوليس يا “آسيا” عن الهمجي ده، إزاي تسيبه يضربك ويرميكي في الشارع من غير ما يتحاسب على وحشيته؟
ارتبكت “آسيا” لوهلة من جملتها المباغتة تلك، فإن صارحتها بالحقيقة لربما رفضت حينئذ مساعدتها، لذا كان عليها الادعاء بكونها ضحية اضطهاد لتتمكن من مساعدتها دون تردد، همست قائلة بصوت شبه مهتز:
-أنا مش عاوزة مشاكل مع حد، كفاية اللي شوفته
وافقتها الرأي هامسة بأسفٍ:
-أه يا حبيبتي، ما أنا كنت متابعة أخبارك، بجد أنا مش مصدقة الناس اللي بتنشر أخبار كدب عن غيرهم
تنهدت “آسيا” بزفير حزين مستعيدة مشاهدًا مجمعة مما لاقته في الأشهر الماضية، لاحظت “جميلة” شرودها العابس فندمت على زلة لسانها، عضت على شفتها السفلى بحرجٍ ثم حاولت مواساتها قائلة:
-كله بيعدي وبيتنسى
ردت عليها بتنهيدة موجوعة:
-ايوه
-أما تفوقي بقى نفكر سوا هنعمل إيه
-حاضر
تابعت بحماسٍ ظاهر:
-أنا عندي أفكار كتير حلوة ممكن تفيدك، المكان هنا تحفة بصراحة مع إنه بعيد وموسمي، زي ما إنتي فاهمة مش بيتزحم إلا في الأجازات ومواسم الصيف والأعياد، بس مع الوقت هتتعودي عليه، ده غير إن الناس طيبين أوي ومحترمين
حملقت “آسيا” فيها معلقة بفتورٍ:
-وأنا مش عاوزة إلا كده، مكان محدش يعرفني فيه
حركت “جميلة” رأسها بإيماءات رقيقة وهي تكمل:
-اوكي نتكلم في التفاصيل بعدين
أمسكت بها “آسيا” من رسغها لتضغط برفق عليها وهي تقول بنبرة شبه مختنقة وقد لمعت عيناها بعبرات خفيفة:
-شكرًا يا “جميلة” على وقفتك دي، إنتي اسم على مسمى فعلاً
زمت صديقتها شفتيها لتقول بحزنٍ مصطنع:
-بليز، بلاش كده، هتخليني أعيط وأنا دمعتي قريبة!
احتضنت الاثنتان بعضهما البعض لبعض الوقت كتعبير عن تقديرهما لتلك الصداقة العميقة التي نشأت بينهما في الماضي واستمرت حتى الآن رغم الانقطاع الكبير في تواصلهما معًا، ومع ذلك التزمت “جميلة” بالحفاظ على الوفاء بوعدها برد الجميل حينما يحين الوقت لهذا ……………………………………. !!
…………………………………………………..
يتبع >>>>>>>>>