رواية (المحترم البربري)
الفصل الخامس والأربعون (الأخير – الجزء الأول)
اندفعت واقفة من مقعدها لتراقب المشهد بتوترٍ بعد أن فسدت الأجواء الرومانسية في المطعم الراقي ليعود كل شيء إلى ما اعتادت عليه من عنف ونزاعٍ لا ينتهي مسببة فضيحة لها ولمن حولها، تحركت “آسيا” بتعجل لتقف خلف “معتصم”، انحنت عليه لتجذبه من ذراعيه بكل ما أوتيت من قوة بعيدًا عن والدها وهي تصيح به:
-ابعد عنه، سيبه يمشي
رمقه “شرف الدين” بنظرة متهكمة قاصدًا إيصاله لأقصى درجات الانفعال متسائلاً باستفزاز:
-هاتسمع كلامها؟
ثم هز رأسه بقوة متحديًا بسماجة:
-اضرب ووريني هاتعمل إيه
ردت عليه “آسيا” برجاء علها تستعطفه وقد تضاعف خوفها من حالة الهرج التي سادت في المكان:
-بلاش يا “معتصم”، سيبك منه!
ورغم احتقانه الداخلي إلا أن توسلات “آسيا” من خلفه جعلته متصلبًا في مكانه وكاظمًا بصعوبة ردة فعله الهوجائية تجاهه، تراجع عنه “معتصم” هادرًا به بنبرة شرسة دون أن يرف له جفن:
-مش هاسمحلك تخربلها حياتها، سامعني!
تشبثت “آسيا” بذراعه دافعة إياه للخلف وهي تهمس له بصوتٍ أقرب للبكاء:
-عشان خاطري، كفاية كده!
التوى ثغر “شرف الدين” بابتسامته اللئيمة التي تثير نزعة الغضب في أي شخص عقلاني، اعتدل من رقدته الإجبارية قائلاً بنبرة ذات مغزى:
-برافو عليكي يا “آسيا”، المرادي وقعتي واقفة!
تأكدت من كلماته المهلكة أنه يريد تدمير حياتها مهما حاولت الخلاص مما أثير حول سمعتها في السابق، لن يتركها لشأنها، سيظل كالشوكة في ظهرها ينغص عليها صفو حياتها، أجفل بدنها ونظرت إلى “معتصم” بتوجسٍ، الآن ستعبث شياطين رأسه بعقله ويتجسد له من جديد طيفها السيء، ارتخت قبضتيها عن ذراعه متراجعة للخلف وهي متوقعة الأسوأ، انحبست دمعاتها في حدقتيها ولمعتا بشدة وهي تصرخ بعصبية في وجهه:
-كفاية بقى، حياتي ضاعت بسببك
مد “معتصم” يده ليمسك بها فتشنجت صارخة به:
-متلمسنيش، مش عاوزة حد يقرب مني، سبوني في حالي!
هرولت هاربة من المكان وهي تبكي بحرقة مريرة على فساد كل لحظة سلام هادئة تقاتل للاحتفاظ بها، غلت الدماء في شرايين “معتصم” وهو يشعر بالألم الذي يعتريها حاليًا، كان متيقنًا أنها تصارع أزمة نفسية جديدة بسبب ظهور والدها، دس سريعًا يده في جيبه ليخرج ثمن الطعام ثم ألقاه على الطاولة، التفت نحو “شرف الدين” يتوعده:
-حسابك قرب، و”آسيا” هتفضل معايا مهما قولت!
ثم اندفع في إثرها ليلحق بها، تبتعهما أنظار “شرف الدين” الغاضبة، لملم شتات نفسه لينهض على قدميه، جلس على نفس طاولة الطعام التي جلس عليها الاثنين مشيرًا بيده للنادل:
-المنيو لو سمحت
مرر أنظاره على رواد المطعم المحدقين به باستنكار ليعلق بنبرة عالية ووجهه يعلوه ابتسامة سخيفة باردة:
-مشاكل عائلية، ماتخدوش في بالكم
حافظ على جمود تعابيره ليثير حفيظة من حوله أكثر، وضع ساقه فوق الأخرى ثم أشعل سيجارة أخرجها من علبة السجائر الموضوعة في جيب سترته، نفث دخانها في الهواء مرددًا لنفسه بثقة تامة:
-ملكيش إلا أنا يا “آسيا”، إنتي نسخة مني، لازم تصدقي ده!
…………………………………………………
مسحت بيدها دمعاتها الساخنة التي انهمرت بغزارة على وجنتيها، تلاحقت أنفاسها المختنقة مع تأوهاتها الموجوعة وهي تبحث بغير هدى عن طريق للهروب، ففي الوقت الذي تأمل فيه أن تنعم بحياة هادئة يظهر والدها ليمحو ببراعة محاولاتها لهذا، للحظة فقدت “آسيا” تركيزها وتوقفت في مكانها لتستعيد سيطرتها على نفسها، تنفست بعمق وقد شعرت بضعفها ووحدتها، انتبهت لصوت “معتصم” الأتي من خلفها المنادي باسمها:
-“آسيــا”!
التفتت عفويًا لتجده مسرعًا في خطواته نحوها، همَّت بالركض لكنه وصل إليها، أمسك بها من ذراعها ليوقفها ثم جذبها إليه متسائلاً بتلهفٍ:
-بتهربي مني ليه؟
دفعته بقبضتيها بقوةٍ في صدره صائحة بنبرتها الباكية:
-ابعد عني!
رفض التخلي عنها وتشبث أكثر بها، ضيق نظراته ليتأمل حالتها الفوضوية وهو يكاد يحترق لعجزه عن إيقاف إيلام الأخرين لها، همس لها برجاءٍ:
-“آسيا”، بصيلي
لم ترغب في مطالعة عينيه ليرى ذلك الانكسار جليًا فيهما، احتضن “معتصم” وجهها براحتيه مجبرًا إياها على النظر في حدقتيه، كز على أسنانه مؤكدًا بوعد قاطع:
-أنا مش هاسيبك
رفضت تصديق ما يقوله وصرخت معترضة:
-ليه؟ ها رد عليا؟
بكت أكثر وهي تجيب عنه:
-قولتلك أنا منفعكش، أنا غلطة في حياتك، ليه مش عاوز تفهم ده؟ سيبني بقى!
شدد من تمسكه بها وضغط بأصابعه على وجهها لتشعر بقوة لمساته عليها وليعزز ما يقول، همس مرددًا بتبرمٍ:
-فكرك أنا مصدق اللي باباكي قاله جوا؟ البني آدم ده كداب ومايتعشرش، ده غير إنه ….
قاطعته وهي تزيح يديه بعيدًا عنها:
-مش عاوزة أسمع حاجة
أشارت له بكفها متابعة بعصبيةٍ:
-كفاية مبررات، أنا تعبت من كل حاجة، ارحموني وسيبوني أعيش حياتي بعيد عنكم
أولته ظهرها لتركض لكنه استوقفها مجددًا باعتراض طريقها بجسده، نظر لها قائلاً بإصرار:
-لأ يا “آسيا”، إنتي مكانك معايا
ثم أمسك بها من رسغها متعمدًا إحكام قبضته عليها لتعجز عن الإفلات منه، أمرها بجدية:
-تعالي
شحنت ما تبقى من قواها لتتخلص من أصابعه الغليظة صائحة بانفعال:
-سيبني!
اتجه بها نحو السيارة رافضًا تركها وهو يرد بخشونة ظهرت في لهجته:
-هنتكلم في البيت ونتفاهم هناك!
أجبرها على السير معه نحو سيارته المصفوفة بجوار المطعم، أجلسها فيها عنوة مثبطًا أي محاولة منها للمناص منه، التف حول السيارة ليجلس خلف عجلة القيادة، وليتأكد من عدم إقدامها على فعل متهور أثناء تحركه بها أغلق القفل الالكتروني لجميع الأبواب فباتت حبيسته مؤقتًا.
………………………………………
لم يعد بها مباشرة إلى المنزل، بل ظل يجوب الطرقات لساعات بالسيارة ملتزمًا الصمت وتاركًا لها الحرية لتبكي حتى ضعفت قواها واستسلمت للنوم لتهرب لبعض الوقت مما تعانيه، أوقف “معتصم” السيارة في منطقة هادئة شبه نائية مرخيًا رابطة عنقه عن باقته وفاتحًا لأول أزرار قميصه، ثم بحذرٍ شديد مال نحو “آسيا” ليحرك مقعدها للخلف لتغفو بأريحية، أحزنه رؤية عبوسها جليًا على ملامحها المستكينة قسرًا، وبعناية واضحة مسح بقايا عبراتها من على بشرتها ليحس بتلك الرجفة الخفيفة التي اعترتها، تراجع قبل أن تفيق ونظر لها بترقبٍ، تنفس بارتياح لكونها لا تزال مستغرقة في غفلتها، هز ساقه بعصبية راغبًا بشراسة في العودة للمطعم وتلقين من يحمل لقب والدها خطئًا درسًا قاسيًا، كور أصابعه بقوة وظل يزفر ببطء ليتحكم في أعصابه المتحفزة، استدار نحوها كالملسوع حينما هلوست بهمسٍ:
-ابعدوا عني، كفاية!
هاجت دمائه من جديد، ثم كز على أسنانه معنفًا نفسه بغلظة:
-أنا زيي زيه يا “آسيا”، مارحمتكيش!
أدرك أيضًا أنه أحد أطراف معاناتها، فإن كان والدها له السبق في هذا، فبالطبع أكمل هو عمله بالضغط المستمر عليها ليخرج أسوأ ما فيها، ولن تصدق بسهولة أنه ليس كما ادعى معها الفظ البربري، أرجع رأسه للخلف ضاربًا بها مؤخرة مقعده لعدة مرات وهو يردد بندمٍ:
-غبي، مفرقتش عنه في حاجة!
سمع تلك الآنة الخافتة منها فالتفت نحوها يتأملها باهتمام شديد، وبدون أي حذرٍ مد يده ليمسح على بشرتها برفقٍ قائلاً لها:
-أنا أسف!
أعاد تشغيل المحرك لينطلق بالسيارة عائدًا بها إلى المنزل.
……………………………………………………
ليلة مشحونة بدأت بتطلعات لساعات رومانسية حالمة وانتهت بصورة مأساوية مخربة لأي ذكرى طيبة، أفاقت “آسيا” من نومتها المزعجة لتجد نفسها لا تزال في السيارة، نظرت بعينين متورمتين إلى “معتصم” الذي أوشك على الوصول إلى طريق المنزل، سألته بصوتها المبحوح وهي تحدق باستغراب في الشفق الذي اعتلى السماء:
-إنت مرجعني هنا ليه؟
أجابها دون أن ينظر نحوها:
-ده بيتك
ردت نافية:
-لأ، أنا ماليش مكان هنا
أحست بوجود فارق زمني بين توقيت ذهابهما للمطعم وعودتهما للمنزل، سألته بارتياب:
-هي الساعة كام دلوقتي؟
نفخ قائلاً بثقلٍ:
-النهار قرب يطلع
سألته بانزعاج واضح:
-هو احنا كل ده كنا برا؟
أجابها باقتضاب:
-أيوه
خشيت أن يكون قد ارتكب حماقة ما أثناء غفوتها فرددت بتوجسٍ:
-إنت عملت إيه؟ رجعت المطعم تاني و….
قاطعها بصوتٍ متصلب وهو ينظر تلك المرة إليها:
-متخافيش، أنا مقربتش منه مع إنه يستاهل الـ ….
بتر عبارته كي لا يثير حنقها وهو بالكاد يحاول إعادتها لهدوئها الطبيعي، ابتلع ريقه ليتابع بحذرٍ:
-إنتي كنتي محتاجة ترتاحي وأنا كنت مخنوق ففضلت ألف بالعربية شوية، ودلوقتي احنا راجعين البيت
كانت “آسيا” مرهقة للغاية، يكاد الصداع يفتك ببقايا خلاياها المتيقظة، بدت غير قادرة على الجدال والاعتراض، أسندت رأسها على المقعد لتريح عقلها مؤقتًا من التفكير، أغمضت عينيها الملتهبتين لبرهة، كانت بحاجة لأحضان والدتها وكلماتها المطمئنة التي تبث لها الأمان، افتقدتها في تلك اللحظة كثيرًا، غرقت في تفكيرها عنها ولم تشعر بـ “معتصم” وهو يوقف السيارة وكأنها سرحت تلقائيًا في ملكوت يجمعها بها، استغرب من صمتها، لم يزعجها وتركها على حالتها تلك لدقائقٍ، اعتقد أنها ذهبت في سبات جديد فترجل من السيارة ليتجه إليها، فتح الباب الملاصق بها ثم انحنى ليحملها بين ذراعيه، في تلك اللحظة فتحت “آسيا” عينيها مدهوشة من فعلته، تذمرت عليه قائلة بضيقٍ وهي تركل بساقيها الهواء:
-سيبني يا “معتصم”!
رفض تركها قائلاً بجمود جاد:
-إنتي تعبانة، مش هاتقدري تمشي
ثم أغلق بيده الباب ليكمل سيره نحو المدخل، زوت ما بين حاجبيها بقوة وهي ترد بامتعاضٍ متجهمٍ:
-أنا ….
رمقها “معتصم” بنظرة صارمة قبل أن يقاطعها بلهجته الجادة رغم خفوت نبرته:
-شششش، بطلي تقاوميني، احنا خلاص وصلنا بيتنا!
حدقت أمامها لتتأكد مما قاله، وبعفويةٍ غير معتادة منها أسندت رأسها على كتفه لتتخلى عن جدالها العقيم معه، فمهما أبدت من تذمر ومشاكسة محتجة لن يصغِ لها، وهي بالفعل مرهقة وبحاجة ماسة للراحة والنوم، شعر “معتصم” بأنفاسها المنتظمة والساخنة تضرب عنقه وتلهب خلاياه، بل إنها أشعلت الرغبة في التودد لها بحميمية، أسبل عينيه ليتأملها بشغفٍ لم يقاومه، تمنى فقط لو تشعر بما يختلجه الآن من مشاعر حقيقية أنكرها في البداية، دق قلبه بقوة مع زيادة حماسه، ترك مشاعره الذكورية تتدفق في جسده لتغذي كل ذرة فيه بتوقه المتحمس لها.
كانت كالمطيعة لأوامره وهي شبه غافلة في أحضانه، مستسلمة لما قد يفعله بها، استحوذ على تفكيره أفكارًا حالمة ودَّ باشتياقٍ لو شاركته إياها وجدانيًا وحسيًا، سحب “معتصم” شهيقًا عميقًا حبسه لثوانٍ معدودة في صدره ليخمد به تلك الثورة المندلعة بداخله قبل أن يحرره بحرارة، أحنى رأسه طابعًا قبلة سريعة على رأس “آسيا” ثم خرج من المصعد متجهًا إلى باب المنزل واضعًا المفتاح في قفله، ولج إلى الداخل مغلقًا الباب بهدوءٍ حذر، صعد بعدها الدرج ليصل الطابق العلوي، وأكمل سيره حتى وصل بها إلى غرفتها، تردد في الدخول، وإذ به يقرر الإقدام على فكرة متهورة، لما لا يجعلها تعايش تجربة رومانسية تنسيها ما فات …………………………….؟!
……………………………………………………..
يتبع >>>>>>>>>