رواية (المحترم البربري)
المحترم البربري
الفصل الثالث والثلاثون:
نقلتها سيارة الإسعاف إلى المشفى الخاص ليتم وضعها فورًا بالعناية الفائقة بعد ذلك التدهور الحرج في حالتها الصحية، هاتف “وحيد” ابنه ليهرع الأخير على عجالة إلى المشفى ليطمئن عليها، ألقى نظرة سريعة على “آسيا” الجالسة في الزاوية في صمت حزين، ثم تجاهلها متجهًا إلى والده ليسأله مستفهمًا:
-إيه اللي حصل؟
أجابه “وحيد” بتجهم وقد اكتست تعابيره بعلامات اليأس:
-مامتك تعبت جامد بعد ما عرفت إن “آسيا” عاوزة تمشي
التفت عفويًا نحوها ليردد بترددٍ:
-هاه، هي كانت هتمشي
تساءلت “وحيد” مع نفسه بحيرة واضحة عليه:
-أنا مش فاهم بس إيه اللي خلاها تصمم على ده؟ ما كانت كل حاجة كويسة!
ضاقت نظراته نحو ابنه مخمنًا أن يكون له ضلع خفي في ذلك التصرف المفاجئ منها، سأله بحدةٍ رغم خفوت نبرته:
-إنت عملت في “آسيا” ايه؟
تنحنح قائلاً بحذرٍ وهو يتحاشى النظر نحوه:
-ولا حاجة
انضم إليهما “نبيل” الذي أتى هو الآخر فور أن علم بتعبها الشديد، حاول في البداية طمأنة “آسيا” وشد أزرها ثم تركها واتجه إلى عمه، تبادل معه حديثًا سريعًا قبل أن يوجه كلامه إلى “معتصم” قائلاً بلهجة شبه حادة:
-عاوزك في كلمتين على جمب
سار معه بعيدًا عن والده ليتمكن ابن عمه من الاستفسار عما حدث، سأله بجدية وهو يرمقه بنظراته الملتهبة:
-إنت ليك يد في اللي حصل لطنط؟
نظر له “معتصم” شزرًا قبل أن يرد ببرود:
-لأ طبعًا، ما أنا كنت معاك في الشغل
احتدت نظرات “نبيل” نحوه وهو يتابع بصوته الخافت لكنه كان جادًا للغاية:
-“معتصم” أنا مش هاسمحلك تجرح “آسيا” بكلمة، عمو قالي على اللي حصل في التليفون
حك طرف ذقنه مضيفًا بجفاء:
-ماليش فيه، هي حرة
أومأ برأسه محذرًا بجدية:
-ماشي، كويس إنك عارف إنها حرة، عشان هي هتبقى مراتي
رفع “معتصم” سبابته مصححًا:
-لحد دلوقتي لسه، لما يحصل يبقالك الكلام
رد عليه مؤكدًا:
-قريب إن شاء الله، وهاتشوف
ثم تركه واتجه إلى “آسيا” ليجلس بجوارها على المقعد، تبعته نظرات “معتصم” المغتاظة والمراقبة لتصرفاتهما سويًا، بدا كمن يجلس على موقد مشتعل من طريقة تودده إليها، صرف أنظاره بعيدًا عنهما لينشغل بالحديث مع أبيه، ورغم هذا بقي عقله يفكر فيها.
…………………………………….
لاحقًا، سمح الطبيب بزيارة المريضة بعد أن تجاوبت مع العلاج واستعادت قدرًا بسيطًا من عافيتها، كانت “آسيا” أول من ولجت إلى غرفتها لتطمئن عليها، ابتسمت لها “نادية” ابتسامة باهتة لرؤية ابنتها واقفة على مقربة منها، مدت “آسيا” يدها لتمسك بكفها ثم رفعته إلى وجنتها لتمسح به على بشرتها هامسة بصوتٍ مقهورٍ:
-غصب عني أمشي يا ماما
ردت عليه والدتها بنبرتها الواهنة:
-ماتعمليش كده
أغمضت “آسيا” عينيها تاركة لعبراتها العنان وهي تكمل بصعوبة:
-بس ده أحسن للكل، وجودي بيأذي اللي حواليا و….
قاطعتها “نادية” بحزنٍ وقد أدمعت عيناها بقوةٍ:
-ماتبعديش يا بنتي، أنا مصدقت ألاقيكي، ليه بتحرميني منك دلوقتي
ألمها حديثها الموجع، سحبت شهيقًا عميقًا لتهدئ به من هياج صدرها الملتاع من قسوة ما تجابهه، فتحت جفنيها لترد بابتسامة باهتة:
-حاولي ترتاحي يا ماما، الكلام بيتعبك
هزت “نادية” رأسها بالنفي وهي تقول:
-مش هاشوف طعم الراحة لو إنتي بتفكري تسيبني وتمشي
تنهدت “آسيا” قائلة باستسلام:
-حاضر، هافضل جمبك
ابتسمت لها والدتها بامتنان، وظلت تمسح بضعفٍ على بشرتها لتستشعر معها “آسيا” حنوها الغريزي.
………………………………………
لم يكن الظرف مناسبًا للقيام بأي زيارات عائلية في الفترة الحالية، لكن تحتم عليه حسم الأمر مبكرًا وإنهائه قبل أن يأخذ منحنًا جديًا يصعب السيطرة عليه، قرر “معتصم” زيارة زوجة عمه المعروف عنها بتمسكها بالأصول والتقاليد القديمة وتشددها في بعض المسائل بعد عودة “نادية” إلى المنزل واطمئنان الجميع على صحتها، تعجبت “مها” من زيارته الغريبة لها لكنها رحبت به واستقبلته بترحاب ودود، تناول الحلوى التي أعدتها له مادحًا:
-تسلم إيدك يا مرات عمي، طول عمرك أستاذة
ردت عليه بعتاب رقيق:
-بالهنا والشفا يا حبيبي، عاش من شافك يا “معتصم”، كده متسألش فيا، ولا “نادية” موصيالك متعديش علينا
فهم المغزى من وراء جملتها الأخيرة، فزوجة عمه تختلف في الطباع والصفات عن “نادية”، إن لم تكن الاثنتان على وفاق في الكثير من الأمور، رد موضحًا:
-لا والله، بس فعلاً أنا مشغول، وبعدين أنا ببعتلك السلام مع “نبيل” كل يوم
عبست بوجهها قائلة:
-ده مش كفاية
حافظ على ابتسامته المتكلفة وهو يكمل بغموضٍ ليثير ريبتها:
-عاتبيني براحتك بس أنا كنت عاوز أقولك على حاجة مهمة جدًا
زوت ما بين حاجبيها لتسأله باهتمام:
-خير يا “معتصم”
أخفى ابتسامة عابثة لكونه قد نجح في جذب انتباهها، زفر قائلاً بهدوء مدروس:
-“نبيل” ناوي يخطب
على عكس ما توقع تهللت أسارير “مها” وهي ترد بسعادة:
-والله، أخيرًا فكر في الارتباط، ده أنا غلبت معاه وجبتله بنات كتير كويسين وولاد ناس محترمة
حافظ على جمود تعابيره مكملاً:
-مش دي المشكلة يا طنط “مها”
توجست قليلاً من أسلوبه الغامض في الحديث وسألته باقتضاب:
-أومال؟
أجابها بتمهلٍ مراقبًا ردة فعلها:
-“نبيل” عاوز يتجوز “آسيا”
اتسعت مقلتاها بصدمة واضحة، هتفت باستنكارٍ:
-“آسيا” مين؟ اوعى تكون بنت “نادية”؟
حرك رأسه بالإيجاب مؤكدًا صحة شكوكها:
-أيوه هي
حدث ما تمناه “معتصم”، تبدلت تعابير وجهها الرائقة إلى التجهم والامتعاض، احتدت نظراتها صارخة:
-اتجنن ده ولا إيه؟ على آخر الزمن هايرتبط بواحدة زي دي
لم ينبس الأخير بكلمة وطالعها بوجهٍ غير مقروء التعبيرات، جمدت “مها” أنظارها المستشاطة على وجهه لتقول بغلظةٍ:
-أنا أسفة يا “معتصم”، عارفة إن وضعك محرج، وإنها بنت الست اللي ربتك
تنحنح قائلاً بحرجٍ مصطنع:
-فاهمك يا مرات عمي
تابعت قائلة بعدائية وكره كبير:
-بس زي ما إنت عارف، دي واحدة سمعتها على كل لسان، والكلام الغلط كتير عليها، وفضايحها مالية الدنيا، يعني بالمختصر ماتشرفش أي حد، كمان أنا واحدة حابة البنت اللي يتجوزها ابني تكون شبهي في كل حاجة، بنت أصول ومن عيلة، دي ماتنفعش “نبيل” خالص
ارتدى قناع الضيق وهو يرد:
-أنا فاهم ده كويس، وعشان كده جيت النهاردة أعرفك بده قبل ما “نبيل” يفاتحك فيه عشان يكون عندك خلفية باللي ناوي يعمله
شكرته رغم وجهها الممتقع:
-كتر خيرك يا “معتصم”، أنا مقدرة ده أوي
هز رأسه بإيماءة صغيرة دون أن ينطق فأضافت قائلة:
-وأرجوك متزعلش من كلامي عن بنت “نادية”، بس مقدرش أتقبل واحدة زيها تدخل عيلتي، لأ وتخلف ولاد من ابني يكونوا شبهها، ده جايز يستعروا منها لما يكبروا ويعرفوا ماضيها، غير الفضايح اللي مش هاتسيب ابني
أخرج زفيرًا ثقيلاً من جوفه ليرد بعدها باستياء:
-عارف ده كله يا طنط، وفي النهاية أنا غرضي مصلحة “نبيل”
ابتسمت له نصف ابتسامة وهي تقول:
-طبعًا، محدش هيخاف عليه زيك، ده إنت أخوه
-أيوه
-ربنا يخليكوا لبعض
التوى ثغر “معتصم” ببسمة انتصار صغيرة حملت من المكر واللؤم ما قد يعكر صفو المياه الرائقة، رد بهدوء ملاكٍ بريء:
-تسلمي يا طنط!
……………………………………..
تحفزت وتأهبت للقتال من أجل إبعاد من تسول لها نفسها للاقتراب من ابنها الوحيد الذي أفنت عمرها كله في تربيته، لم تكن لتسمح لامرأة عابثة بالظفر بابنها في الأخير، اتجهت “مها” لمنزل عائلة “المصري” لتضع النقاط فوق الحروف، تفاجأت “نادية” من قدومها الغريب إلى منزلها بعد سنوات من المقاطعة والجفاء رغم لقائها المحدود بها في بعض المناسبات العائلية، جلست الاثنتان بغرفة الصالون، بادرت “نادية” متسائلة باهتمام رغم نظراتها الغريبة نحوها:
-بقالنا كتير ماتشرفناش بالزيارة دي يا “مها”
أجابتها “مها” بعبوس ووجه مكفهر:
-اللي جابني الشديد الأوي
توترت “نادية” من طريقتها المريبة في الحديث، سألتها بجدية:
-خير؟
ركزت عليها أنظارها لترد بتساؤل مختصر وبنبرة شديدة اللهجة:
-فين بنتك؟
حركت “نادية” شفتيها مرددة:
-“آسيا”
هزت رأسها بالإيجاب متابعة:
-أيوه، عايزة أتكلم معاها شوية
لم تشعر بالارتياح من غموضها الملبك، فسألتها مستفهمة:
-خير في حاجة؟
لم تمنحها السكينة وردت باختصارٍ:
-هتعرفي دلوقتي
أرسلت “نادية” الخادمة في طلبها، وانتظرت بترقب حضورها لتكشف عن السبب الحقيقي لتلك الزيارة الغامضة، تألقت “آسيا” في ثوب رقيق يغطي جسدها بالكامل فيما عدا كتفيها وذراعيها، استطردت والدتها قائلة:
-تعالي يا “آسيا”، سلمي على طنط “مها”، مامت “نبيل”
اقتربت الأخيرة من الضيفة لترحب بها وهي تمد يدها بالمصافحة لتقول بنعومة:
-أهلاً وسهلاً بحضرتك
نظرت لها “مها” بازدراء رافضة مصافحتها لتهينها بوقاحة:
-إنتي بقى اللي واكلة عقل الرجالة
هربت الدماء من بشرتها وتوترت نظراتها من هجومها الفظ عليها، ردت بصدمةٍ جلية:
-افندم؟
استنكرت “نادية” أسلوبها العدائي فوبختها بحدةٍ:
-إيه الكلام اللي بتقوليه ده يا “مها”؟ إنتي هتغلطي في بنتي قصادي
تجاهلت مضيفتها لتكمل بنفس الفظاظة وهي تهددها:
-ابعدي عن ابني أحسنلك، شوفي أي حد تاني واتجوزيه، لكن “نبيل” لأ!
بدت “آسيا” في حالة صدمة من شراستها معها، لم تتوقع ذلك، كانت معتقدة أن “نبيل” نسخة مصغرة عن والدته، لكنها اكتشفت أنه على النقيض معها، دافعت “نادية” عن ابنتها مرددة بقوة:
-هو ده الموضوع، لعلمك ابنك اللي مصمم عليها
استدارت نحوها “مها” لتبرر ميله نحو ابنتها:
-مش عارف مصلحته، السكينة سرقاه
ضغطت “آسيا” على أصابعها بقوةٍ لتكظم غيظها، ثم ردت بكبرياءٍ:
-أنا بلغت “نبيل” برفضي فيا ريت تطمني
عاودت التحديق فيها ورمقتها بنظرة دونية قبل أن تتابع بلهجتها المتعالية:
-مش كفاية، أنا عاوزاكي تشيليه من حساباتك خالص، هو ماينفعكيش، ولا إنتي تنفعيه، واحدة زيك ليها رجالة معينة
فهمت “نادية” تلميحها المسيء إلى ابنتها فصاحت بها:
-“مها”! أنا بأحذرك متغلطيش في بنتي
ردت عليها بنفس القوة المهددة دون أن تبعد نظراتها عن “آسيا”
-وأنا بأنبه عليها ماتقربش من ابني، وده آخر ما عندي
تأملت “نادية” وجه ابنتها المشدود وعينيها المشتعلتين، خشيت من انعكاس ما حدث بالسلب على نفسيتها المتعبة، لذا هتفت بنزقٍ وكأنها تتعمد طرد ضيفتها:
-شرفتي يا “مها”
تقوس فمها بابتسامة ساخطة وهي تكمل:
-الحمدلله إن عنده ابن عم زي “معتصم” خايف على مصلحته
لم تفهم “نادية” مقصدها من ذكر اسمه فسألتها مستفهمة:
-“معتصم”، وإيه دخله في الموضوع؟
استشفت “آسيا” سريعًا ما ترمي إليه، بدا الأمر واضحًا لها وضوح الشمس في كبد النهار، تدخل “معتصم” بصورة أو بأخرى لإفساد المسألة كما توعدها من قبل، أفاقت من شرودها السريع على صوت “مها” القائل:
-أنا قولت اللي عندي، سلام!
لم تودعها “نادية” ورمقتها بنظراتها الحانقة الغاضبة من فجاجتها المستفزة، اعتصر قلبها ألمًا حينما استمعت إلى ابنتها وهي تقول بقهرٍ:
-هو في إيه؟ الكل بيكرهني ليه؟ للدرجادي وجودي تاعب كل الناس؟
احتضنتها سريعًا لتحتوي ذلك الألم الموجع بالنبذ والكراهية، ربتت على ظهرها بكفها وهي تحاول تهدئتها:
-متقوليش كده يا “آسيا”، هي طول عمرها كده أسلوبها ناشف ومحدش بيحب يتعامل معاها بسبب طريقتها دي، إنتي بنتي وغالية عندي، وملعون أي حد يضايقك!
أجهشت “آسيا” بالبكاء فرجتها والدتها بصوتٍ شبه مختنق:
-ماتفكريش في اللي حصل، ارميه ورا ضهرك
ثم تراجعت لتنظر إلى وجهها الباكي، احتضنته بكفيها ومسحت عبراتها عنها متابعة:
-أنا بصراحة مكونتش هابقى مطمنة لو هي بقت حماتك
لم تعلق عليها “آسيا”، تكلمت عبراتها عنها، حاولت “نادية” الابتسام لتهون عليها الأمر وهي تقول:
-اضحكي يا حبيبتي، محدش واخد منها حاجة، وكفاية إنك معايا ومنورة حياتي، ربنا يخليكي ليا يا بنتي
عجزت عن التعبير عما يجيش في صدرها من كره تجاه حياتها السابقة، هي تسعى للمضي قدمًا ونسيان الماضي، لكن لا يكف الجميع عن تذكيرها بما كانت عليه، بل ودفعها بقسوة لتعود إلى حياة العبث واللهو والانتقام الأعمى، ومن بين دمعاتها الملتهبة لمع اسم “معتصم” في عقلها، هو يقف وراء ذلك، هو يجتهد لتدميرها رغم كونه قد استمتع بحياته مع والدتها بدلاً منها، حاز على حبها وحنانها وعطفها وكل شيء، وحُرمت هي من أبسط حقوقها، والآن وكل نفسه جلادًا ليحاسبها على ما ارتكبت رغمًا عنها مانحًا لنفسه سلطة مطلقة لا تخصه، امتلأ صدرها حقدًا منه، وقررت ألا تمرر الأمر هكذا، ستتواجه معه وتضع الأمور في نصابها الصحيح.
………………………………………………
ذرعت غرفتها جيئة وذهابًا وهي تكاد تحترق من كثرة الانتظار، عضت على أصابعها بتوتر، حولت “آسيا” ضعفها إلى وسيلة لتشحن به غضبها تجاه “معتصم” لتحاسبه على ما اقترف في حقها غيبًا، لن تتسلح بضعفها وتستسلم للضغوطات المهلكة، أو حتى تقف باكية على الأطلال، هي تعلم أنها سلكت طريقًا محفوفًا بالكثير من الشائعات المغرضة والمشكلات المشينة، ورغم ذلك لم تسيء إلا لنفسها بإيهام الجميع أنها فتاة عابثة، لكن أن يُروج هو عنها الأكاذيب ويفسد ما تحاول إصلاحه فهي لن تسمح له بذلك، ليس من حقه أن يتحدث بالسوء عنها حتى وإن كانت مجرمة، انتظرته في الشرفة على أحر من الجمر، وما إن رأته يدخل البناية حتى تأهبت لمواجهته، لن يمنعها عنه شيء، سترد له الصاع صاعين، خاصة أن والدتها قد ذهبت بصحبة زوجها للكشف الأسبوعي عند طبيبها المعالج، فأصبحت الفرصة سانحة لها.
انتظرت لدقائق في غرفتها لتتأكد من تواجده بغرفته، ثم اندفعت مشحونة بغضبها نحوه، لم تعبأ بكونها ترتدي قميص نومها المنزلي –ذو اللون الرمادي- والذي يصل تقريبًا إلى ركبتيها رغم كونه طويل الأكمام، التهت عن ارتداء المناسب مما قد يظهر فيها لمحة إغراء مثيرة، طرقت الباب منتظرة السماح لها بالدخول، وقفت عند عتبته ترمقه بنظراتها الساخطة، وبدون أي مقدمات هدرت فيه:
-إنت عاوز مني إيه؟!
نظر لها “معتصم” بعدم اكتراث، تأمل سريعًا قميصها المنزلي مخفيًا نظرة إعجاب كادت تفضحه، دس يديه في جيبي بنطاله بعد أن أرخى رابطة عنقه ليرد ببرود:
-جاية ليه؟
صاحت فيه بنبرة متشنجة وقد ولجت للداخل:
-عملت اللي في دماغك وارتحت، نفسيتك هديت لما بوظت موضوع الخطوبة
التفت نحوها مظهرًا ابتسامة متشفية مستفزة قائلاً لها:
-أنا يدوب بس عرفت طنط “مها” بحقيقة خطيبة ابنها المستقبلية
بلغت ذروة احتقانها منه في لحظة، صرخت فيه بانفعال وهي تلوح بذراعها في الهواء:
-طب ليه كل ده؟ خدت منك إيه عشان تعمل فيا كده؟
أشار لها بإصبعه أمام وجهها مرددًا بخشونة:
-أنا مانستش للحظة اللي قولتيه أول يوم جيتي فيه هنا
نظرت له بازدراء ثم كتفت ساعديها أمام صدرها لتسأله بسخطٍ:
-ويا ترى عملت منه حاجة؟
كان وجهه قاسيًا للغاية وهو يرد محذرًا:
-أنا مش هاسمحلك، وهافضل كده وراكي لحد ما أكشفك
صرخت فيه بنفاذ صبر:
-تكشف إيه بالظبط؟
أجابها دون تردد:
-حقيقتك!
اضطربت أنفاسها وهي تكمل بنفس الصراخ المتعصب:
-ما الكل عارفها، في إيه تاني عاوز تكشفه
وقف قبالتها يرمقها بنظراته الكارهة قبل أن يكمل:
-كدبك وخطتك الدنيئة عشان تضحكي على الكل هنا
فغرت شفتيها مشدوهة بما يدعيه عليها، هي حقًا لا تذكر سوى لمحات متداخلة من العديد من المشاهد التي مرت بها في حياتها، لكنها لا تذكر كافة التفاصيل بحذافيرها، ردت عليه باستنكار:
-إنت مصدق اللي بتقوله؟
هز رأسه مؤكدًا بنفس الحنق الظاهر عليه:
-أيوه
أيقنت أنها مهما حاولت إثبات العكس لن يصدقها مطلقًا، سيحاربها بكافة الوسائل حتى تسقط في القاع، رفعت وجهها في إباء وتعالٍ ثم وضعت يدها على منتصف خصرها لتقول بهدوء متنافٍ مع الحرب المشتعلة بداخلها:
-ماشي يا “معتصم”، لو ده هيريحك فأنا أه بأكدب، مثلت عليكم الدور ده كله، عملت عيانة عشان أجي هنا وأخرب حياتكم، كده إنت مبسوط؟
حدجها بنظرات نارية فتابعت بنفس البرود متعمدة استثارة أعصابه مشيرة بيدها الأخرى:
-واللي جاي بقى إني هافضل هنا ومش هامشي، ولو بتعمل كل ده عشان تطفشني، فأنسى
انتصبت “آسيا” في وقفتها أكثر لتكمل بتهديدٍ واثق:
-وبأحذرك أنا ممكن أعمل اللي عمرك ما تتخيله، ومش بعيد تلاقي نفسك إنت اللي برا مش أنا!
اشتعلت عيناه على الأخير وصاح بها هادرًا:
-إنتي اتجننتي
ابتسمت له بعبث وهي ترد بتحدٍ:
-مش ده اللي حابب تسمعه وتصدقه؟
رد “معتصم” صارخًا بقوة وقد برزت عروقه:
-مش هاسمحلك
رمقته “آسيا” بنظرة احتقارية مستخفة به قبل أن ترد باستهزاءٍ:
-إنت مين أصلاً عشان تسمحلي، ولا لأ؟
كادت الحرب أن تندلع بينهما، أشعلت فيه بكلماتها الغاضبة نيران ثورته الحانقة، نظرت له بشجاعة جريئة وهي تكمل:
-زي ما ليك حق هنا فأنا برضوه ليا لي، وقريب أوي خد حقي كله
ألقت عليه نظرة احتقارية أخرى ضاعفت من غضبه المستعر، التفتت دون أن تعبأ بوجهه الملتهب لتكمل بثباتٍ:
-اشبع بقى بغلك اللي بياكلك من جواك
أخرجته عن شعوره فاندفع نحوها ليمسك بها من شعرها الأسود، جذبها منه بشراسة متعمدًا إهانتها:
-أه يا بنت الـ …..
لكزته في صدره بعنفٍ فألمته، حرر خصلاتها بعد أن أدارها نحوه ليمنح وجهها صفعة قاسية ألهبت وجنتها، نظرت له بعينين مغلولتين وهي تهتف من بين أسنانها المضغوطة:
-إنت بتمد إيدك عليا
تلفتت حولها بغضبٍ باحثة عما تؤذيه به، لن تسكت تلك المرة، ستقتص لنفسها، لمحت الكوب الزجاجي الموضوع على الكومود بجوار الفراش فأسرعت في خطاها نحوه، لم يفهم ما الذي تفعله، اعتقد أنها ستلقي في وجهه شيء ما، فتحفز لها، التقطت “آسيا” الكوب بيدها وضربته بعنف في الحافة لتحطمه، نظر لها باستغراب، توهم “معتصم” أنها ستحاول الانتحار عندما أمسكت بقطعة زجاجية حادة لتتحول في يدها إلى سلاح خطير، دنت منه ثم في لحظة مباغتة مدت يدها لتجرح ذراعه بعمقٍ، صرخ متألمًا وهو يكاد لا يصدق ما فعلته به، ألقت بالقطعة التي حملت دمائه على الأرضية متوعدة إياه:
-أنا هاوريك يا “معتصم” ………………………………….. !!
………………………………………………………..
يتبع >>>>>>