رواية (المحترم البربري)
المحترم البربري
الفصل الثاني والثلاثون
تفهم بعقلانية رفضها اللبق لمسألة الارتباط به أو بغيره بسبب ما مرت به وما تمر به من مشكلات مختلفة، لن يضغط عليها ليحصل على ردٍ قاطع، بل سيعاود بتريثٍ تكرار المحاولة بعد برهة، جلس “نبيل” بهدوءٍ في مكانه مكملاً ارتشاف مشروبه، لمح “معتصم” وهو يندفع نحوه بوجه مليء بإشارات غاضبة، اعتدل في جلسته ليبدو أكثر استرخاءً عن ذي قبل، وقف ابن عمه في مواجهته يسأله بانفعالٍ:
-عملت اللي في دماغك وارتحت؟
رد مبتسمًا ببرود شديد واضعًا ساقه فوق الأخرى:
-أيوه
توهجت نظراته بحنق مضاعف، رفع سبابته أمامه يتوعده:
-متحلمش كتير يا “نبيل”، اللي بتطلبه عمره ما هيحصل!
أنزل “نبيل” ساقه ثم هب واقفًا ليرد محتجًا على كلماته الأخيرة:
-ليه إن شاء الله؟ إنت عندك مانع؟ ولا تكونش بتحبها وأنا معرفش؟
نظر له باستخفاف قبل أن يقول بسخطٍ حاقد:
-أنا مابكرهش في حياتي أدها
تيقن “نبيل” من كرهه الشديد لكل ما يخصها، تحداه بنظراته القوية متسائلاً:
-طيب زعلان ليه بقى؟ ما تكبر إنت دماغك منها
ثم غمز له بطرف عينه مكملاً بابتسامة مغترة:
-وليك عليا يا سيدي أريحك منها ومن مشاكلها كلها
وكأن ابن عمه لا يفعل شيئًا سوى استثارة أعصابه، انفعل عليه مرددًا:
-مش بالساهل يا “نبيل”
تمسك الأخير بهدوئه وضبط النفس لأقصى درجة خلال تعامله معه، رد بعنجهيةٍ وهو يشير بحاجبه:
-أنا عارف كويس أوي أنا بأعمل إيه معاها
ثم وضع يده على كتفه ليربت عليه متابعًا:
-وكفاية إنها تثق فيا الأول، وبعد كده يجي الحب والارتباط
نفض “معتصم” يده من عليه بعصبية قائلاً له من بين أسنانه المضغوطة:
-إنت …..
قاطعته “نادية” مرددة جديةٍ:
-“معتصم” ممكن تسيبني شوية مع “نبيل”
التفت ناحيتها يرمقها بنظراته المشتعلة، بادلته نظرات جادة فاضطر أن ينسحب من المجادلة قائلاً بامتعاض عابس:
-ماشي يا ماما
تابعه “نبيل” بعينيه مراقبًا بتفرس ردة فعله العنيفة، عاود الالتفات ناحية زوجة عمه حينما أشارت له بيدها وهي تقول:
-ارتاح يا حبيبي
جلس متحفزًا وهو يرد مجاملاً:
-شكرًا يا طنط
انتظرت للحظات حتى تصفو الأجواء لتقول بعدها:
-“معتصم” كان قالي إنك عاوز تتجوز “آسيا”، الكلام ده مظبوط؟
أجابها بجدية واضحة وهو مسلط عينيه عليها:
-أيوه، وأتمنى إنها توافق عليا
رمقته بنظرة مطولة حائرة، كانت متيقنة من صدق نواياه الجادة في الارتباط بابنتها، لكنها تخشى من تبعات قراره، خاصة أن والدته ذات شخصية مختلفة عنه، ناهيك عن خلافها الودي معها في الكثير من الأفكار والاتجاهات فتحولت علاقتهما إلى نوع من الجفاء والمقاطعة، وبالتالي طرح مسألة الزواج من ابنتها على الساحة قد يتسبب في حدوث الكثير من الجدال، ضغطت “نادية” قليلاً على شفتيها موضحة بحرجٍ ملحوظ:
-“نبيل” إنت عارف وضع بنتي كويس ومشاكلها، ده غير الـ …. يعني الحاجات القديمة والكلام اللي اتقال عنها و….
قاطعها “نبيل” هاتفًا بإصرار:
-كل ده ما يفرقش معايا، أنا عاوز أبدأ معها من أول وجديد، هي تستحق تاخد فرصة تانية، ليه أحرمها وأحرم نفسي من ده
لم تظن “نادية” أنه يملك من الصفات الجيدة ما قد يمنح أي فتاة زوجًا رائعًا، ابتسمت عفويًا وأشرقت نظراتها وهي ترد بعدم تصديق:
-أنا مش عارفة أقولك إيه، بس فرحانة أوي بيك، ويا ريت بنتي توافق عليك
تهللت أساريره بفرحة من موافقتها المبدئية عليه، سألها بتلهفٍ:
-يعني حضرتك مش ممانعة؟
ردت مؤكدة ببسمة أكثر سعادة:
-لأ طبعًا، إنت معزتك زي “معتصم” بالظبط، ومش هاقلق على بنتي لو مع واحد زيك في أخلاقك وذوقك!
………………………………………………
تمددت على فراشها لتحدق في السقفية بشرودٍ، ربما لو كان الوضع مختلفًا لباتت ترقص طربًا من السعادة لتقدم أحدهم لخطبتها، لكنها تعلم أنها أبعد ما يكون عن ذلك الشعور، فها هو هم آخر يجثم على صدرها، أغمضت “آسيا” عينيها لتسمح لتلك العبرات الحبيسة بالانسياب على وجنتيها أسفًا على حالها، انتبهت لصوت الدقات الثابتة على باب غرفتها، فتحت عينيها وكفكفت سريعًا عبراتها، مسحت ما تبقى من دمعاتها على وجنتيها بظهر كفها ثم تنفست بعمق لتبدو طبيعية، تنحنحت قائلة بنبرة غير صافية معتقدة أنها الخادمة:
-اتفضلي
تفاجأت بوجود “معتصم” فنظرت له مذهولة وهي تقول:
-إنت!
أغلق الباب من خلفه بعد أن ولج للداخل قائلاً لها بجمودٍ مقلق:
-عاوزك في كلمتين
ظنت أنه أتى لافتعال المشكلات معها واستفزازها فبادرت قائلة بحدةٍ:
-لو جاي تسأل على هديتك فأنا دوست عليها برجلي
رغم غيظه من تصرفها إلا أنه رد بنفس الجمود:
-مايهمنيش!
وقبل أن تحصل على فرصتها لسؤاله تابع بخشونة وهو يشير بسبابته في وجهه:
-إنتي تقدري تضحكي على أي حد وتبلفيه بألاعيبك، إلا أنا!
اتسعت حدقتاها في حنق مبرر من هجومه الدائم على شخصها، ردت باستنكار:
-نعم، قصدك إيه؟
ضيق نظراته نحوها وهو يرد بغموض:
-إنتي فاهمة كويس أنا بأتكلم عن إيه
صاحت فيه بانفعال وقد فاض الكيل بها من أسلوبه المبتز لمشاعرها المرهقة:
-ماتكلمنيش بالألغاز
تحرك نحوها لتتقلص المسافة بينهما، نظر في عينيها بغضب مقيت، ثم أردف موضحًا:
-“نبيل” طيب ومحترم، وإنتي عرفتي تضحكي عليه بطريقتك عشان يقع في حبك ويتجوزك
صدمت من مصارحته بما عرفته قبل قليل من نوايا ابن عمه في رغبته بالارتباط بها، ردت مدافعة عن نفسها بتعالٍ:
-أنا ما أجبرتوش على ده، وقولتله إني مش عاوزة
التوى ثغره بابتسامة متهكمة وهو يرد:
-حجة حلوة عشان يتمسك بيكي أكتر
لم تتحمل “آسيا” المزيد من هرائه فهدرت به بنفاذ صبرٍ:
-لو سمحت اطلع برا أوضتي!
أشار لها بذراعيه في الهواء بعد أن ترجع خطوة للوراء:
-إنتي ضيفة هنا عندنا في بيتنا، ماتنسيش ده!
كان محقًا في تلميحه الصريح، ابتلعت بقايا جرحه لكرامتها وتذكيره بأنها لا تنتمي إلى هنا لتقول بنبرة مهتزة:
-شكرًا إنك بتفكرني كل شوية
لوح بسبابته أمام وجهها متابعًا بعجرفة سخيفة:
-بلاش الوش ده معايا
كظمت ضيقها منه واكتفت بحدجه بنظرات شرسة تريد الفتك به، اقترب منها “معتصم” من جديد مهددًا:
-أنا هاقفلك فيها يا “آسيا”
امتلأ صدرها من تهديده المتواصل لها على أصغر الأمور، صرخت فيه منفعلة:
-إنت عاوز إيه مني؟
أجابها بقسوةٍ:
-أكشفك قصاد الكل
ردت بعصبية وقد احتقنت بشرتها وبرقت عيناها الفيروزيتان:
-وأنا مخبية إيه عشان تكشفه؟!
رمقها بنظرة جافة قبل أن يجيبها:
-الفيلم اللي إنتي عملاه ده كله، فاقدة الذاكرة ومش عارفة حد، لأ وطقم الحنية اللي هبط عليكي فجأة، وأخرها أبوكي اللي جه يعمل الحبتين بتوعه هنا
انفرجت شفتاها عن استنكار كبير، ابتلعت ريقها في حلقها لتسأله بصوتها المتشنج:
-وإيه كمان؟
رمقها بنظرة احتقارية وهو يقول:
-دور الضحية اللي عايشة فيه وإنتي واحدة رخيصة ملهاش تمن!
استشاطت على الأخير وفقدت قدرها على التحكم في أعصابها، رفعت كفها لتصفعه صارخة فيه:
-اخــــرس
صدم من تجرؤها عليه بوقاحة شديدة، لم يضبط انفعالاته وبادلها بصفعة قاسية تألمت من شدتها، وضعت “آسيا” يدها على وجنتها لتسبه بعدها بصوتٍ شبه مختنق:
-إنت حيوان!
تراجع عنها ليتوعدها بغضبٍ وهو يهدد بإصبعه:
-هنتحاسب قريب يا “آسيا”
حدجته بنظرات حادة من بين عبراتها التي ملأت مقلتيها، صاحت فيه ببكاءٍ:
-اطلع بـــرا
خرج “معتصم” من غرفتها صافقًا الباب خلفه بقوة، بينما انهارت “آسيا” على الفراش منخرطة في بكاء مؤلم على كرامتها التي تُضطهد يوميًا على يده.
………………………………………
حسمت أمرها بالرحيل، فهي ليست مضطرة لتحمل ما لا تطيق، جمعت “آسيا” ثيابها في حقيبة سفر، ثم خرجت من غرفتها متجهة نحو الدرج ساحبة إياها خلفها، نظرت لها “نادية” باندهاش، أخفضت عينيها لتتأمل حقيبتها متسائلة بقلب متوترٍ:
-“آسيا” رايحة فين؟
أجابتها بجمود وقد تحول وجهها للقساوة:
-أنا ماشية
أحست والدتها بأن قلبها يقتلع من بين ضلوعها بعد جملتها تلك، سألتها بأنفاس شله متهدجة:
-تمشي! ليه؟ في إيه اللي حصل؟
ردت بنبرة خالية من الحياة وهي تكمل سيرها نحو باب المنزل:
-ولا حاجة
حاولت “نادية” إيقافها وهي ترجوها:
-استني يا بنتي
توقفت “آسيا” عن السير لتنظر نحوها مطولاً، كادت أن تتأثر بعينين والدتها الدامعتين ونظراتها المذعورة نحوها، أخفت ببراعة مشاعرها المتألمة لتبدو أمامها متحجرة القلب، ردت بعزة نفسٍ:
-ده أحسن للكل
وضعت “نادية” قبضتيها على ذراعي ابنتها تسألها بقلبٍ منفطر:
-فهميني بس، في حد زعلك ولا عمل حاجة ضايقتك؟ طب أنا قصرت معاكي في حاجة؟
انزعجت لرؤية كل ذلك الفزع معكوسٍ على وجهها فردت بحذرٍ:
-إنتي أم عظيمة، وطيبة أوي
ثم صمتت للحظة قبل أن تكمل بصعوبة بائنة:
-بس .. ماتستهليش واحدة زيي تبقى بنتك، كفاية عليكي “معتصم”!
نهج صدرها جزعًا لمجرد رؤية ابنتها تستعد للرحيل، ألمها أن تهجرها وتتركها بعد أن استعادتها في أحضانها، تلفتت “نادية” حولها باحثة عمن تستنجد به، رأت زوجها يخرج من مكتبه فصرخت به باستعطافٍ:
-“وحيد” الحقني، “آسيا” عاوزة تمشي، أنا مش هاستحمل تبعد عني، اتصرف!
تفاجأ هو الآخر باستعدادها للذهاب من منزله، أسرع في خطاه يرجوها بلباقةٍ:
-“آسيا” استني لو سمحتي
نظرت نحوه بحزنٍ قبل أن تقول ممتنة:
-شكرًا على كل حاجة عملتوها عشاني، بس أنا لازم أمشي، أشوفكم على خير
اضطربت أنفاس “نادية” وتلاحقت دقات قلبها بشكل مخيف، وضعت يدها على صدرها لتضغط عليه وقد بدا على بشرتها الشحوب المفزع، همست بوهنٍ:
-بنتي .. آ….
خارت قواها وتخلى عقلها عن وعيه لينهار جسدها كليًا، صرخ “وحيد” مفزوعًا وهو يسرع بإسنادها من خصرها قبل أن ترتطم بالأرضية:
-“نادية” ……………………………………. !!!
………………………………………
يتبع >>>>>