رواية (المحترم البربري)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
المحترم البربريالفصل الرابع والعشرون
ركز أنظاره القلقة على وجهها المتوتر في انفعالاته الطبيعية، فليس من السهل على أي أم أن تتلقى خبر مرض فلذة كبدها ودخولها للعناية الفائقة، وما حدث مع ابنتها ليس بالأمر الهين، فالحادث على ما يبدو مروعًا للغاية، نظرت له “نادية” مطولاً عاقدة العزم على عدم التراجع عما قررته، استطردت مضيفة بنبرة تحمل الندم:
-كفاية إني كنت مقصرة في حقها السنين اللي فاتت
رد عليها “معتصم” بحذرٍ:
-ماشي بس ….
-سيبها على راحتها
قالها “وحيد” بلهجة هادئة لكنها صارمة قطعت على ابنه أي مجال للنقاش أو المجادلة، لم يكن أمام الأخير بدًا من الاعتراض، تنفس بعمق ورسم ابتسامة باهتة على ثغره قائلاً:
-حاضر
ثم ربت على كتفي “نادية” بحنوٍ مكتفيًا بالتزام الصمت، اقترب “نبيل” منهم مضيفًا بجدية:
-إن شاء الله نطمن عليها
ردت عليه “نادية بنبرة راجية وقد لمعت أعينها:
-يا رب
استخدم الطبيب “مصطفى” يديه في الإشارة قائلاً:
-هستأذن حضراتكم تقعدوا في الكافيتريا اللي تحت لحد ما يتم السماح بالزيارة
تطلع إليه الجميع بنظرات متنوعة كان السائد فيها الرفض من قبل “نادية”، فأكمل موضحًا بهدوء جاد:
-صعب كلكم تفضلوا متواجدين هنا في الطرقة، ده لراحتكم ولراحة المرضى كمان
ردت “نادية” معترضة:
-وبنتي؟
وقف قبالتها قائلاً:
-اطمني، أنا بنفسي هابلغ حضرتك، لكن صدقيني وقفتك هنا مش هاتقدم ولا هتأخر، وماتنسيش حضرتك لسه قايمة من تعب شديد
دعم “وحيد” موقفه مضيفًا:
-د. “مصطفى” عنده حق يا “نادية”، تعالي نشرب حاجة وهنيجي عندها، احنا مش رايحين في حتة!
اضطرت أن تستسلم –مؤقتًا- أمام إصرارهما الجاد بالتواجد في الكافيتريا الملحقة بالمشفى لبعض الوقت، لكنها لن ترحل أبدًا عن ابنتها.
…………………….. …………………….. …
ظل صدى كلمات “نبيل” يتردد في عقله ليضاعف من إحساسه بالذنب وتأنيب ضميره، فكر مليًا بأنها حتمًا مخطئة في اختيار ذلك النمط السيء من الحياة لتسلكه، لكنه كان مجحفًا في معاملتها بتلك القسوة والخشونة لمجرد رغبتها في الانتقام –كما تزعم- ممن سلوبها استقرار حياتها، فبالرغم من تهديداتها المتواصلة إلا أنها فعليًا لم تفعل ما يسيء للعائلة، بل على العكس كانت سمعتها شخصيًا هي المستهدفة، ولم تعلن في أي موقف عن وجود صلات أو روابط أسرية بينها وبين زوجة أبيه، احتار “معتصم” في تلك التركيبة العجيبة من شخصيتها، ورغم ذلك لم يرفق بها، كان يفضل تحميلها الذنب كاملاً على أن يشعر بالندم نحوها، هي لا تستحق أن تنال جزءًا من تفكيره، فاختياراها نابعة من عقلها وليس نيابة عنها، إذًا هي الملامة الوحيدة على ما وصلت إليه أمورها، اتخذ سيارته الملاذ ليهرب ممن حوله وخاصة نظرات زوجة أبيه التي تلومه صراحة على ما حدث، أثر الابتعاد والانزواء مع نفسه ليستعيد ثباته، ويسيطر على ارتباك وتخبط مشاعره وأفكاره، لكن تعكر صفو سكونه مع تجسد طيف “آسيا” على الزجاج الأمامي لسيارته، كان وجهها كما رأه آخر مرة، ملطخًا بالدماء، وعينيها الفيروزيتين تفيضان بالدمع الغزير، انتفضت حواسه وتسارعت دقات قلبه مع تلك الهيئة التي تخيلها، كانت نظراتها إليه مليئة بالعتاب، اخترقته وأشعرته بشيء ما، ابتلع ريقه بتوتر، وحاول أن يضبط اضطراب أنفاسه، تمتم مع نفسه محاولاً إبعادها عن ذهنه:
-إنتي السبب مش أنا
احتقن وجهه وبرزت عروقه متابعًا:
-ماتجيش تحملي حد ذنوبك، إنتي اللي اختارتي طريقك وجيتي علشان تخربي حياتنا!
حاول إيجاد المبررات الواهية لنفسه ليريح عقله المنزعج من كثرة التفكير، أشار لطيفها بسبابته مكملاً صياحه بها:
-مش ذنبي إن مامتك اتجوزت بابا، أنا ماخترتهاش تكون أمي، بس هي اختارت تقوم بالدور ده، وحقها عليا أحميها من شرك بعد كل اللي عملته علشاني!
بحث عن أسباب تدفعه لكرهها أكثر كي لا يلين قلبه نحوه، تابع مضيفًا بعدائية:
-من أول لحظة اتواجهنا فيها سوا قولتي ده بنفسك، إنك جاية للخراب وبس، جاية تدمري، تحرقي، تهدمي، فاستحالة كنت أسيبك تعملي ده
وكأنه وجد المنفذ لتنفيس أحاسيسه المكبوتة فانفجر معبرًا:
-إنتي اللي وصلتي لحالتك دي بنفسك، إنتي اللي شوهتي سمعتك، ناس كتير ظروفها كانت أصعب وعاشوا شرفا، لكن إنتي استسهلتي تبيعي نفسك وجاية دلوقتي عاوزانا نتعاطف معاكي، إنتي بتحلمي
انخفضت نبرته مضيفًا بلهجة قاتمة:
-أنا عمري ما هانسى إنتي إيه!
ردد تلك الجملة لنفسه مرارًا وتكرارًا حتى تلاشى طيفها تدريجيًا، أغمض عينيه ساحبًا نفسًا عميقًا حبسه في صدره ثم لفظه ببطء كي يهدأ من ثورته الداخلية، حرك رأسه للجانب حينما سمع هاتفه المحمول يرن، التقطه واضعًا إياه على أذنه بعد أن قرأ اسم “نبيل” مضيئًا على شاشته ليقول بوجوم:
-أيوه
أتاه صوته مرددًا:
-إنت فين يا “معتصم”؟ الدكتور سمح بزيارة 5 دقايق، طنط “نادية” دلوقتي عند “آسيا” و…
قاطعه بفتورٍ:
-والمطلوب مني إيه؟
سأله متعجبًا:
-مش ناوي تشوفها
صمت للحظة قبل أن يجيبه برد قاطع:
-لأ
لم يتوقع ابن عمه ذلك الرد منه، فقد ظن في ابتعاده فرصة لترتيب أفكاره وتوضيح الصورة كاملة في عقله، لكنه ظل على عناده، ارتفعت حدة نبرته قائلاً:
-“معتصم”، إنت …..
قاطعه مرددًا بجمود قاس:
-وجودي مالوش لازمة، أنا مش من بقية أهلها!
تفاجأ من رده الفظ لكن تابع “معتصم” بنفس اللهجة الجافة:
-ويا ريت ماتحسبنيش عن حاجة أنا ماليش يد فيها، حادثة حصلت زي أي حادثة بتحصل لأي حد ماشي في الشارع
رد عليه “نبيل” بانفعال شبه ملحوظ:
-براحتك، واضح إن كلامي معاك زي قلته، سلام!
أنهى معه “معتصم” المكالمة ملقيًا هاتفه إلى جواره على المقعد مخرجًا زفيرًا مهمومًا من صدره، شعر بأن الأجواء قد باتت خانقة وباعثة على الانقباض فقرر أن ينصرف فورًا، فلا حاجة له للبقاء في مكان يبث له مشاعر الكراهية والعداء.
…………………….. …………………….. …
كانت الأشياء ساكنة من حولها إلا صوت جهاز قياس نبضات القلب المعلن عن بقائها على قيد الحياة، بقي رنينه الثابت هو الإشارة المقروءة لوجود “آسيا” في عالم الأحياء، نظرت لها “نادية” بأعين مليئة بالعبرات الملتاعة لرؤيتها راقدة في سكون مخيف، جزع قلبها مع تأملها لتلك الكدمات الزرقاء التي غطت جانب وجهها الأيسر رغم تخبئته خلف قناع الأكسجين، زاد شعورها بالخوف عندما أخفضت نظراتها لترى باقي الإصابات المتفرقة في أنحاء جسدها، كتمت شهقاتها المتحسرة على حالها، لم تستطع الوقوف، فأحضرت لها الممرضة مقعدًا لتجلس بجوار فراشها، نعم قدماها لم تسعفاها أمام مُصاب ابنتها الخطير، مدت يدها لتتلمس كفها البارد فارتعشت من مجرد تحسس جلدها، همست لها بنحيبٍ:
-“آسيا”، أنا هنا جمبك
مسحت عبراتها بظهر كفها، وتابع قائلة:
-أنا أسفة عن كل لحظة كنتي فيها بعيدة عني، حقك عليا لأني سبتك لوحدك وكملت حياتي من غير ما أدور عليكي أكتر، أنا فعلاً قصرت في حقك!
غص صدرها ببكاءٍ أشد مرارة حينما سألتها:
-ردي عليا يا بنتي، خليني أسمع صوتك
انقبض قلبها أكثر لعدم استجابتها لها، وتضاعفت رجفتها مع تلك اللمسة الخفيفة على كتفها، التفتت برأسها للجانب لتجد زوجها إلى جوارها يؤازرها، احتضنها من كتفيها قائلاً بصوت خفيض:
-اهدي يا “نادية”، إن شاء الله هاتبقى كويسة
بكت قائلة بحزنٍ جلي:
-أنا خايفة يا “وحيد”، شايف شكلها عامل إزاي؟
ألقى نظرة خاطفة على “آسيا” وتفهم سبب خوفها من احتمالية خسارتها، حاول تلطيف الأجواء باعثًا الأمل في نفسها فرد قائلاً:
-خليكي مؤمنة بالله، اللي هي فيه ده ابتلاء، وإن شاء الله تقوم منه وتبقى أحسن، ساعات ربنا بيحطنا في اختبارات علشان يشوف هنعمل إيه
كانت كلماته كالبلسم الشافي لأوجاعها، ورغم إحساس الطمأنينة الذي بثه لها إلا أنها ظلت خائفة من تطور وضعها للأسوأ، وضعت “نادية” يدها على صدرها هامسة بتوجسٍ وقد توترت نظراتها:
-“وحيد”، قلبي مقبوض، هو “آسيا” ممكن … تـ … تموت؟
قاطعها بهدوء:
-ماتقوليش كده، الأعمار بيد الله، إنتي بس ادعيلها وربنا عليه الاستجابة!
رفعت نظرها للسماء قائلة ببكاءٍ متوسل:
-يا رب اشفيها وزيح عنها يا كريم!
…………………….. …………………….. ..
مرت عدة أيــام وحالة “آسيا” الصحية في استقرار غير مقلق رغم عدم استعادتها للوعي بعد، لكن بعث ذلك بريق أمل في تجاوزها لمرحلة الخطر، نقلت بعد ذلك إلى غرفة عادية مع وجود رعاية تمريضية مكثفة لتتابعها على مدار الساعة بناءً على تعليمات الطبيب “مصطفى”، كذلك تم إخفاء هويتها والتشديد على وجودها بالمشفى لتجنب الملاحقة الصحفية لها، وشكل ذلك نوعًا من الراحة لـ “معتصم” الذي لم يزرها مطلقًا متحججًا بانهماكه في أعماله المؤجلة، ورغم قوة حججه إلا أن والده عاتبه لتجاهله لها، ومع ذلك لم يعر الأمر أي اهتمام، فيكفيه ما تكبده منها على مدار الفترة الماضية، حزنت “نادية” لعدم اكتراثه، واحتفظت بضيقها الحالي منه في نفسها، فشاغلها الأكبر كان ابنتها فقط، لازمتها في أزمتها ولم تتركها للحظة، ومكثت معها بنفس الغرفة حينما سُمح لها بذلك، ورغم صعوبة رؤيتها على تلك الحالة إلا أنها عاشت معها أجمل اللحظات، فهي انفردت بها كأم مع ابنتها، كانت تدعو لها يوميًا طالبة الشفاء لها من المولى، أيقنت أن دعواتها استجيبت حينما حركت “آسيا” رأسها وهي تئن بهمس ضعيف، أسرعت نحوها لتجلس على طرف الفراش بجوارها، احتضنت كفيها بين راحتي يدها قائلة بسعادة:
-“آسيا”
تشوقت لرؤيتها تفتح عينيها وتبادلها الحديث حتى لو كان معاتبًا قاسيًا، المهم أن تعود للحياة ولا تبقى حبيسة رقدتها بالفراش، دلكت كفها متابعة بنفس الحماسة الفرحة:
-أنا معاكي يا بنتي وماسبتكيش للحظة
فتحت “آسيا” جفنيها بتثاقل، تجهمت تعابير وجهها وتشنجت مع محاولتها الاعتياد على الإضاءة القوية، اتضح الخيال المشوش قليلاً، دققت النظر في ملامح صاحبة الوجه الضاحك الذي تطالعها بنظرات غريبة، همست متسائلة باندهاشٍ:
-إنتي مين؟
ردت عليها “نادية” باستنكار قلق:
-إنتي مش عارفاني ولا إيه؟
أغمضت “آسيا” عينيها من جديد ساحبة كفها بوهن من بين راحتي والدتها، ثم ردت بضعفٍ:
-لأ
هوى قلبها في قدميها فزعًا من تلك الكلمة المقتضبة التي بدت كالخنجر المسموم الذي طعنها بغتة، جف حلقها وتهدجت أنفاسها وهي تسألها بتلعثم:
-“آسيا”، أنا مامتك، إنتي مش فكراني؟
نظرت لها بنصف عين ثم أشاحت بوجهها بعيدًا عنها لترد بغموض مخيف:
-مين “آسيا”؟
ردت عفويًا وبتلقائية شديدة:
-إنتي!
بدت “آسيا” كمن يجد صعوبة في الحديث، حركت يدها لتفرك جبينها برفق ثم همست بتعبٍ وهي تعاود إغماض جفنيها:
-أنا مش فاكرة حاجة …………………….. ………… !!
…………………….. …………………….. …………….
المحترم البربريالفصل الرابع والعشرون
ركز أنظاره القلقة على وجهها المتوتر في انفعالاته الطبيعية، فليس من السهل على أي أم أن تتلقى خبر مرض فلذة كبدها ودخولها للعناية الفائقة، وما حدث مع ابنتها ليس بالأمر الهين، فالحادث على ما يبدو مروعًا للغاية، نظرت له “نادية” مطولاً عاقدة العزم على عدم التراجع عما قررته، استطردت مضيفة بنبرة تحمل الندم:
-كفاية إني كنت مقصرة في حقها السنين اللي فاتت
رد عليها “معتصم” بحذرٍ:
-ماشي بس ….
-سيبها على راحتها
قالها “وحيد” بلهجة هادئة لكنها صارمة قطعت على ابنه أي مجال للنقاش أو المجادلة، لم يكن أمام الأخير بدًا من الاعتراض، تنفس بعمق ورسم ابتسامة باهتة على ثغره قائلاً:
-حاضر
ثم ربت على كتفي “نادية” بحنوٍ مكتفيًا بالتزام الصمت، اقترب “نبيل” منهم مضيفًا بجدية:
-إن شاء الله نطمن عليها
ردت عليه “نادية بنبرة راجية وقد لمعت أعينها:
-يا رب
استخدم الطبيب “مصطفى” يديه في الإشارة قائلاً:
-هستأذن حضراتكم تقعدوا في الكافيتريا اللي تحت لحد ما يتم السماح بالزيارة
تطلع إليه الجميع بنظرات متنوعة كان السائد فيها الرفض من قبل “نادية”، فأكمل موضحًا بهدوء جاد:
-صعب كلكم تفضلوا متواجدين هنا في الطرقة، ده لراحتكم ولراحة المرضى كمان
ردت “نادية” معترضة:
-وبنتي؟
وقف قبالتها قائلاً:
-اطمني، أنا بنفسي هابلغ حضرتك، لكن صدقيني وقفتك هنا مش هاتقدم ولا هتأخر، وماتنسيش حضرتك لسه قايمة من تعب شديد
دعم “وحيد” موقفه مضيفًا:
-د. “مصطفى” عنده حق يا “نادية”، تعالي نشرب حاجة وهنيجي عندها، احنا مش رايحين في حتة!
اضطرت أن تستسلم –مؤقتًا- أمام إصرارهما الجاد بالتواجد في الكافيتريا الملحقة بالمشفى لبعض الوقت، لكنها لن ترحل أبدًا عن ابنتها.
……………………..
ظل صدى كلمات “نبيل” يتردد في عقله ليضاعف من إحساسه بالذنب وتأنيب ضميره، فكر مليًا بأنها حتمًا مخطئة في اختيار ذلك النمط السيء من الحياة لتسلكه، لكنه كان مجحفًا في معاملتها بتلك القسوة والخشونة لمجرد رغبتها في الانتقام –كما تزعم- ممن سلوبها استقرار حياتها، فبالرغم من تهديداتها المتواصلة إلا أنها فعليًا لم تفعل ما يسيء للعائلة، بل على العكس كانت سمعتها شخصيًا هي المستهدفة، ولم تعلن في أي موقف عن وجود صلات أو روابط أسرية بينها وبين زوجة أبيه، احتار “معتصم” في تلك التركيبة العجيبة من شخصيتها، ورغم ذلك لم يرفق بها، كان يفضل تحميلها الذنب كاملاً على أن يشعر بالندم نحوها، هي لا تستحق أن تنال جزءًا من تفكيره، فاختياراها نابعة من عقلها وليس نيابة عنها، إذًا هي الملامة الوحيدة على ما وصلت إليه أمورها، اتخذ سيارته الملاذ ليهرب ممن حوله وخاصة نظرات زوجة أبيه التي تلومه صراحة على ما حدث، أثر الابتعاد والانزواء مع نفسه ليستعيد ثباته، ويسيطر على ارتباك وتخبط مشاعره وأفكاره، لكن تعكر صفو سكونه مع تجسد طيف “آسيا” على الزجاج الأمامي لسيارته، كان وجهها كما رأه آخر مرة، ملطخًا بالدماء، وعينيها الفيروزيتين تفيضان بالدمع الغزير، انتفضت حواسه وتسارعت دقات قلبه مع تلك الهيئة التي تخيلها، كانت نظراتها إليه مليئة بالعتاب، اخترقته وأشعرته بشيء ما، ابتلع ريقه بتوتر، وحاول أن يضبط اضطراب أنفاسه، تمتم مع نفسه محاولاً إبعادها عن ذهنه:
-إنتي السبب مش أنا
احتقن وجهه وبرزت عروقه متابعًا:
-ماتجيش تحملي حد ذنوبك، إنتي اللي اختارتي طريقك وجيتي علشان تخربي حياتنا!
حاول إيجاد المبررات الواهية لنفسه ليريح عقله المنزعج من كثرة التفكير، أشار لطيفها بسبابته مكملاً صياحه بها:
-مش ذنبي إن مامتك اتجوزت بابا، أنا ماخترتهاش تكون أمي، بس هي اختارت تقوم بالدور ده، وحقها عليا أحميها من شرك بعد كل اللي عملته علشاني!
بحث عن أسباب تدفعه لكرهها أكثر كي لا يلين قلبه نحوه، تابع مضيفًا بعدائية:
-من أول لحظة اتواجهنا فيها سوا قولتي ده بنفسك، إنك جاية للخراب وبس، جاية تدمري، تحرقي، تهدمي، فاستحالة كنت أسيبك تعملي ده
وكأنه وجد المنفذ لتنفيس أحاسيسه المكبوتة فانفجر معبرًا:
-إنتي اللي وصلتي لحالتك دي بنفسك، إنتي اللي شوهتي سمعتك، ناس كتير ظروفها كانت أصعب وعاشوا شرفا، لكن إنتي استسهلتي تبيعي نفسك وجاية دلوقتي عاوزانا نتعاطف معاكي، إنتي بتحلمي
انخفضت نبرته مضيفًا بلهجة قاتمة:
-أنا عمري ما هانسى إنتي إيه!
ردد تلك الجملة لنفسه مرارًا وتكرارًا حتى تلاشى طيفها تدريجيًا، أغمض عينيه ساحبًا نفسًا عميقًا حبسه في صدره ثم لفظه ببطء كي يهدأ من ثورته الداخلية، حرك رأسه للجانب حينما سمع هاتفه المحمول يرن، التقطه واضعًا إياه على أذنه بعد أن قرأ اسم “نبيل” مضيئًا على شاشته ليقول بوجوم:
-أيوه
أتاه صوته مرددًا:
-إنت فين يا “معتصم”؟ الدكتور سمح بزيارة 5 دقايق، طنط “نادية” دلوقتي عند “آسيا” و…
قاطعه بفتورٍ:
-والمطلوب مني إيه؟
سأله متعجبًا:
-مش ناوي تشوفها
صمت للحظة قبل أن يجيبه برد قاطع:
-لأ
لم يتوقع ابن عمه ذلك الرد منه، فقد ظن في ابتعاده فرصة لترتيب أفكاره وتوضيح الصورة كاملة في عقله، لكنه ظل على عناده، ارتفعت حدة نبرته قائلاً:
-“معتصم”، إنت …..
قاطعه مرددًا بجمود قاس:
-وجودي مالوش لازمة، أنا مش من بقية أهلها!
تفاجأ من رده الفظ لكن تابع “معتصم” بنفس اللهجة الجافة:
-ويا ريت ماتحسبنيش عن حاجة أنا ماليش يد فيها، حادثة حصلت زي أي حادثة بتحصل لأي حد ماشي في الشارع
رد عليه “نبيل” بانفعال شبه ملحوظ:
-براحتك، واضح إن كلامي معاك زي قلته، سلام!
أنهى معه “معتصم” المكالمة ملقيًا هاتفه إلى جواره على المقعد مخرجًا زفيرًا مهمومًا من صدره، شعر بأن الأجواء قد باتت خانقة وباعثة على الانقباض فقرر أن ينصرف فورًا، فلا حاجة له للبقاء في مكان يبث له مشاعر الكراهية والعداء.
……………………..
كانت الأشياء ساكنة من حولها إلا صوت جهاز قياس نبضات القلب المعلن عن بقائها على قيد الحياة، بقي رنينه الثابت هو الإشارة المقروءة لوجود “آسيا” في عالم الأحياء، نظرت لها “نادية” بأعين مليئة بالعبرات الملتاعة لرؤيتها راقدة في سكون مخيف، جزع قلبها مع تأملها لتلك الكدمات الزرقاء التي غطت جانب وجهها الأيسر رغم تخبئته خلف قناع الأكسجين، زاد شعورها بالخوف عندما أخفضت نظراتها لترى باقي الإصابات المتفرقة في أنحاء جسدها، كتمت شهقاتها المتحسرة على حالها، لم تستطع الوقوف، فأحضرت لها الممرضة مقعدًا لتجلس بجوار فراشها، نعم قدماها لم تسعفاها أمام مُصاب ابنتها الخطير، مدت يدها لتتلمس كفها البارد فارتعشت من مجرد تحسس جلدها، همست لها بنحيبٍ:
-“آسيا”، أنا هنا جمبك
مسحت عبراتها بظهر كفها، وتابع قائلة:
-أنا أسفة عن كل لحظة كنتي فيها بعيدة عني، حقك عليا لأني سبتك لوحدك وكملت حياتي من غير ما أدور عليكي أكتر، أنا فعلاً قصرت في حقك!
غص صدرها ببكاءٍ أشد مرارة حينما سألتها:
-ردي عليا يا بنتي، خليني أسمع صوتك
انقبض قلبها أكثر لعدم استجابتها لها، وتضاعفت رجفتها مع تلك اللمسة الخفيفة على كتفها، التفتت برأسها للجانب لتجد زوجها إلى جوارها يؤازرها، احتضنها من كتفيها قائلاً بصوت خفيض:
-اهدي يا “نادية”، إن شاء الله هاتبقى كويسة
بكت قائلة بحزنٍ جلي:
-أنا خايفة يا “وحيد”، شايف شكلها عامل إزاي؟
ألقى نظرة خاطفة على “آسيا” وتفهم سبب خوفها من احتمالية خسارتها، حاول تلطيف الأجواء باعثًا الأمل في نفسها فرد قائلاً:
-خليكي مؤمنة بالله، اللي هي فيه ده ابتلاء، وإن شاء الله تقوم منه وتبقى أحسن، ساعات ربنا بيحطنا في اختبارات علشان يشوف هنعمل إيه
كانت كلماته كالبلسم الشافي لأوجاعها، ورغم إحساس الطمأنينة الذي بثه لها إلا أنها ظلت خائفة من تطور وضعها للأسوأ، وضعت “نادية” يدها على صدرها هامسة بتوجسٍ وقد توترت نظراتها:
-“وحيد”، قلبي مقبوض، هو “آسيا” ممكن … تـ … تموت؟
قاطعها بهدوء:
-ماتقوليش كده، الأعمار بيد الله، إنتي بس ادعيلها وربنا عليه الاستجابة!
رفعت نظرها للسماء قائلة ببكاءٍ متوسل:
-يا رب اشفيها وزيح عنها يا كريم!
……………………..
مرت عدة أيــام وحالة “آسيا” الصحية في استقرار غير مقلق رغم عدم استعادتها للوعي بعد، لكن بعث ذلك بريق أمل في تجاوزها لمرحلة الخطر، نقلت بعد ذلك إلى غرفة عادية مع وجود رعاية تمريضية مكثفة لتتابعها على مدار الساعة بناءً على تعليمات الطبيب “مصطفى”، كذلك تم إخفاء هويتها والتشديد على وجودها بالمشفى لتجنب الملاحقة الصحفية لها، وشكل ذلك نوعًا من الراحة لـ “معتصم” الذي لم يزرها مطلقًا متحججًا بانهماكه في أعماله المؤجلة، ورغم قوة حججه إلا أن والده عاتبه لتجاهله لها، ومع ذلك لم يعر الأمر أي اهتمام، فيكفيه ما تكبده منها على مدار الفترة الماضية، حزنت “نادية” لعدم اكتراثه، واحتفظت بضيقها الحالي منه في نفسها، فشاغلها الأكبر كان ابنتها فقط، لازمتها في أزمتها ولم تتركها للحظة، ومكثت معها بنفس الغرفة حينما سُمح لها بذلك، ورغم صعوبة رؤيتها على تلك الحالة إلا أنها عاشت معها أجمل اللحظات، فهي انفردت بها كأم مع ابنتها، كانت تدعو لها يوميًا طالبة الشفاء لها من المولى، أيقنت أن دعواتها استجيبت حينما حركت “آسيا” رأسها وهي تئن بهمس ضعيف، أسرعت نحوها لتجلس على طرف الفراش بجوارها، احتضنت كفيها بين راحتي يدها قائلة بسعادة:
-“آسيا”
تشوقت لرؤيتها تفتح عينيها وتبادلها الحديث حتى لو كان معاتبًا قاسيًا، المهم أن تعود للحياة ولا تبقى حبيسة رقدتها بالفراش، دلكت كفها متابعة بنفس الحماسة الفرحة:
-أنا معاكي يا بنتي وماسبتكيش للحظة
فتحت “آسيا” جفنيها بتثاقل، تجهمت تعابير وجهها وتشنجت مع محاولتها الاعتياد على الإضاءة القوية، اتضح الخيال المشوش قليلاً، دققت النظر في ملامح صاحبة الوجه الضاحك الذي تطالعها بنظرات غريبة، همست متسائلة باندهاشٍ:
-إنتي مين؟
ردت عليها “نادية” باستنكار قلق:
-إنتي مش عارفاني ولا إيه؟
أغمضت “آسيا” عينيها من جديد ساحبة كفها بوهن من بين راحتي والدتها، ثم ردت بضعفٍ:
-لأ
هوى قلبها في قدميها فزعًا من تلك الكلمة المقتضبة التي بدت كالخنجر المسموم الذي طعنها بغتة، جف حلقها وتهدجت أنفاسها وهي تسألها بتلعثم:
-“آسيا”، أنا مامتك، إنتي مش فكراني؟
نظرت لها بنصف عين ثم أشاحت بوجهها بعيدًا عنها لترد بغموض مخيف:
-مين “آسيا”؟
ردت عفويًا وبتلقائية شديدة:
-إنتي!
بدت “آسيا” كمن يجد صعوبة في الحديث، حركت يدها لتفرك جبينها برفق ثم همست بتعبٍ وهي تعاود إغماض جفنيها:
-أنا مش فاكرة حاجة ……………………..
……………………..
يتبع >>>>>>