رواية (المحترم البربري)

الفصل الثاني والعشرون

تخشب جسدها وتصلبت تعابير وجهها حينما رأته بغضبه المشحون يطالعها بنظراته النارية، شعرت “آسيا” بجفاف شديد يجتاح حلقها، وبتسارع دقات قلبها، توترت نظراتها من تحديقه العدائي لها، شل تفكيرها مما يمكن أن يفعله بها، رأى “نبيل” حالة الخوف القلق التي انتابتها وتأكدت هواجسه حينما وجد “معتصم” أمامه لا ينتوي أي خير مطلقًا، صرخ الأخير بصوت متشنجٍ وهو يلوح بذراعه:
-بتعملي إيه هنا؟
رد عليه “نبيل” وهو يتجه نحوه ليمنعه من الاقتراب منها:
-أنا اللي قولتلها تيجي
سد عليه الطريق بجسده ومع ذلك ظل “معتصم” يندفع بقوة نحو السيارة محاولاً الوصول إليها وهو يهدر بغضب جم:
-إزاي تسمح لواحدة زي دي تفضل هنا
حاول “نبيل” امتصاص ثورة انفعاله قائلاً بنبرة عقلانية عله يرتدع:
-لو سمحت يا “معتصم”
لكزه بقسوة في جانبه ليتمكن من المرور، لم يتمكن “نبيل” من منعه، فقد كان ابن عمه كالأعمى، يحركه غضبه الشديد، فتح “معتصم” باب السيارة، صرخت “آسيا” عفويًا لمجرد وجوده، انكمشت على نفسها وحاولت الزود بنفسها بعيدًا عنه لكنه مد ذراعه ليقبض على رسغها، اعتصره بأصابعه وهو يجذبها بشراسة إلى خارج السيارة صارخًا بها:
-بــــرا
بكت بحرقة وهي تقاومه بوهنٍ:
-سيبني
فشلت في تحرير يدها من قبضته، وكذلك في منعه من إخراجها من سيارته، قبض “معتصم” على ذراعيه ليهزها بعنف مكملاً صراخه المهتاج بها:
-عاوزة إيه تاني مننا؟ خربتيها وارتحتي، ابعدي عننا!
تأوهت حقًا من شدة الألم، لم تكن باستطاعتها تحمل الأوجاع، زاد بكائها المرير وهي ترد مدافعة عن نفسها:
-أنا معملتش حاجة
اتسعت حدقتاه غضبًا وهو يهدر بها:
-كنت عاوزة تموتي أمك واهوو حصل
ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة جلية، هتفت بلا تصديقٍ:
-قصدك إيه؟
أجابها بقسوة متعمدًا هزها بشراسة:
-قصدي إنها بتموت في المستشفى، ارتاحي بقى وحلي عن سمانا
ارتجفت شفتاها قائلة بصدمة:
-أنا ….
قاطعها صارخًا بجنون:
-إنتي كارثة على أي حد يعرفك، ارجعي مطرح ما جيتي، اللي نفسك فيه حصل، شوهتي كل حاجة، إنتي لعنة!
فقدت أعصابها من كثرة ضغطه عليها وتحملها ما لا يطيق من اتهاماته وافتراءاته، لم يعد بمقدورها تقبل ذلك، انهارت صارخة وقد شحذت قواها المستهلكة نافضة قبضتيه عنها:
-كفاية بقى!
ظن أنها تستكمل ألعوبتها بادعاء دور الضحية، نظر لها شزرًا ثم وضع يده على فمها كاتمًا إياه وهو يرد بعدائية شديدة:
-اخرسي
أبعدت يده متراجعة خطوة للخلف مرددة:
-لأ إنت اللي تخرس وتسمعني!
استشاط لمجرد استعادتها لقوتها رغم أنها لم تكن كذلك، كان ما يحركها هو قوة المقهور الذي لا يجد ما يخسره، صاح بها منفعلاً:
-إنتي اتجننتي
ردت ببكاء مضاعف وقد تهدجت أنفاسها:
-ايوه اتجننت! أنا خدت منك إيه علشان تكون محروق أوي كده؟!
نظر لها “معتصم” مصدومًا من سؤالها الغريب، وقبل أن يجيبها واصلت “آسيا” استرسالها بقلب مفطور:
-أنا اتحرمت من كلمة ماما، ماشوفتهاش أصلاً، ماحستش ناحيتها غير بالكره والحقد، كنت لوحدي طول عمري
ظل محدقًا بها متعجبًا من أسلوبها الجديد في إظهار ضعفها لتحرك مشاعره ويشفق عليها، بينما كانت هي في أصدق حالاتها مصارحة مع نفسها، تابعت مضيف بانكسار:
-تخيل؟ رغم كل البشر اللي حواليا واللي يتمنوا رضايا، بس أنا لا كان عندي أب ولا أم، اتجبرت على حاجات مكونتش عاوزاها، واتعرضت لحاجات مش عاوزة افتكرها أصلاً!
بدا “نبيل” متأثرًا بكل ما تقول، شعر أن خلف تلك المتسلطة القاسية مدعية جحود القلب أنثى ضعيفة عصفت بها ظروف الحياة وتحتاج لمن يحتوي أحزانها ويخفف عنها آلامها، اتسعت أعينها الفيروزية الباكية بدرجة ملحوظة وهي تكمل:
-أه أنا كنت جاية أخرب حياة “نادية” هانم، بس معملتش حاجة فعلاً، مقدرتش حتى …..
انخفضت نبرتها لاختناقها بالعبرات، فقد غص صدرها ببكاء يدمي القلوب، رفض عقل “معتصم” تصديق ما تبوح به، ظن أنها تلجأ لتلك الحيلة لتؤثر عليه بطريقة أخرى غير تلك التي اعتادها منها، صاح بخشونة:
-بطلي كدب
فغرت شفتيها وقلبها يعتصر ألمًا من قسوته الغير مبررة، استأنف صياحه الآمر هادرًا:
-اللي زيك يستاهل يموت
ثم انقض عليها ماسكًا إياها من ذراعها، صرخت متألمة لكنه لم يكترث بها، دفعها بعنف للخلف وهو يردد:
-امشي من هنا، اعتبريها ماتت علشان ترتاحي
تأهب “نبيل” للتدخل فورًا للحول بينهما هاتفًا:
-“معتصم”، ابعد عنها
ردت “آسيا” مدافعة عن نفسها:
-إنت غلطان، أنا …..
قاطعها “معتصم” صائحًا بصوته المنفعل:
-يالا من هنا
ثم استمر في دفعه لها بعيدًا عن السيارة رغم محاولات ابن عمه التدخل وإفلات قبضته من عليها، هتف به “نبيل” بحنق:
-“معتصم”
كان الأخير مغيبًا لا يسمع إلا صوت عقله المتحجر التفكير الذي أصدر حكمه وتعامل مع “آسيا” على كونها مجرمة مدانة ارتكبت الأفعال المشينة، رفض الإصغاء لرجائه حتى ألقى بها بعيدًا عنه لتطرح أرضًا وهي تصرخ متأوهة من الألم، التقت نظراتها المنكسرة قهرًا بأعينه المظلمة، فقدت مع معاملته الجافة لها قوتها، شعرت أنها عاجزة حتى عن النهوض، بأنها جسد ممزق يوشك على مفارقة الحياة، حاول “نبيل” مساعدتها لكن جذبه “معتصم” رغمًا عنه للخلف لتغدو بمفردها وهو يهتف به بجفاء منقطع النظير:
-ولا كلمة، تعالى معايا
قاومه “نبيل” بغضبٍ:
-سيبني يا “معتصم”، إنت مش شايف حالتها
رد عليه بتهكم وهو يرمقها بنظراته الاحتقارية:
-دي تمثيلية بتضحك فيها على الهبل
حدجه بنظرات حادة مستنكرة إجحافه عليها وهو يقول بعدم اكتراث:
-أنا راضي إني أكون أهبل بس مش هاسيبها
أمسك به “معتصم” من ذراعه قائلاً:
-أنا هامنعك!
رد “نبيل” بتحدٍ:
-مش هاتقدر
ثم سأله مستفهمًا وقد أوشك على الخروج عن وقاره معه:
-حرام عليك، إنت بتعاملها كده ليه؟
أجابه بلا تردد بنبرة تحمل الكراهية:
-لأنها تستاهل، إنت متعرفهاش زيي
رد متسائلاً بنبرة ذات مغزى:
-وإنت تعرف إيه عنها زيادة عني؟
للحظة شل تفكيره وأصيب بالحيرة من سؤاله الغريب، فقد ابن عمه محقًا في جزئية بعينها، أنه بالفعل لا يعرف عنها شيئًا سوى ما تنشره الصحف الإخبارية عنها من شائعات ربما تكون صحيحة أو لا، ظن أن ذلك عبثًا ليفكر بمنطقية لذا استجمع نفسه ليجيبه:
-إنت مابتقراش أخبارها على النت، ده هي ……
قاطعه “نبيل” موبخًا إياه على محدودية تفكيره:
-يعني كل اللي تعرفه من على النت، يعني الله أعلم إن كان صح ولا غلط، إنت صدقت زي أي حد بيقرى، فرقت إيه عن الغريب اللي حكم عليها بدون حتى ما يسمعها؟ جربت إنت تكلم معاها؟!
استغرب “معتصم” كثيرًا من تأثره بـ “آسيا” بتلك الطريقة العجيبة، وكأنها ألقت عليه تعويذة سحر تخصها ليصبح تحت تأثيرها، نظر له بعدم مبالاة قائلاً:
-مش محتاج، وبعدين أنا الوحيد اللي فاهم كويس دماغها فيها إيه وناوية على إيه!
انزعج “نبيل” كثيرًا من سوء نواياه نحوها فرد مدافعًا عنها:
-“معتصم” إنت غلطان، “آسيا” مش كده
رد ساخرًا:
-الظاهر إنها شغلتك المحامي بتاعها!
برر موقفه معها قائلاً بقوة وبمنطقية واضحة:
-لأ، أنا بأقول كلمة حق، تفتكر واحدة هتخاطر بسمعتها وهي مشهورة وتعمل فضيحة علشان بس تغيظك ولا تدمر سمعة العيلة ومحدش أصلاً يعرف الصلة دي غيركم؟!
صمت ابن عمه ليفكر للحظة في حديثه الأخير، بينما تابع “نبيل” موضحًا بنفس الجدية:
-يا “معتصم” فكر بالعقل وشوف مين ورا الليلة دي كلها، استحالة بعد الفضايح دي كلها يطلع الموضوع فشنك، في حد تقيل وراه، بس مش “آسيا”!
……………………..……………………..………
في نفس الأثناء، كانت “آسيا” ترتجف في رقدتها المهينة على الأرضية الإسفلتية، أصيبت ساقيها بخدوش وسجحات سطحية من قسوة الارتطام بها، لم يشعر أحد بألمها الداخلي والخارجي، هي بمفردها مهما امتلكت من أموال وامتيازات كثيرة أهمها جمالها الفطري، ترسخ بداخلها إحساسًا أنها نقمة على من يعرفها، أنها لعنة على نفسها قبل غيرها، كذلك تيقنت أن انتقامها من والدتها كان زائفًا، لم تكن لتؤذيها حتى لو اتيحت لها الفرصة، هي أضعف مما تتخيل، وأجبن من تلك الشجاعة الزائفة التي تدعيها، استندت بيديها محاولة الوقوف، استغرقت عدة لحظات لتتمكن من النهوض، راقبت مشادة “نبيل” و”معتصم” الكلامية بخوف، كانت تخشى هجوم الأخير عليها إن أفلت من يد قريبه، أثرت أن تهرب قبل أن يستدير نحوها، ترنحت في سيرها وهي تدير رأسها من آن لآخر لتتأكد أنه لا يتبعها، لكنها لم تنتبه للموتور القادم من الخلف، ضغط قائده على البوق عدة مرات علها تأخذ حذرها، ورغم ذلك كانت كمن فصل عمن حوله فلم تسمع شيئًا، وجدت “آسيا” فجأة ضوءًا قويًا يكاد يعمي أبصارها فصرخت لا إراديًا وهي تراه يقترب منها، شعرت بعد ذلك بألم عنيف يضرب الجزء السفلي من جسدها قبل أن تُقذف للخلف عدة أمتار ليسقط جسدها غارقًا في دمائه ويسكن معه صوتها.
استدار كلاً من “نبيل” و”معتصم” في اتجاه صوت الصراخ الفزع ليتجسد المشهد الدامي نصب أعينهما، لم يتمكن قائد الموتور من مفاداة “آسيا” التي ظهرت أمامه فجأة هكذا، حاول إخفاض سرعته لكن فات الأوان، واصطدم بها بقوة عنيفة مطيحًا بجسدها في الهواء لتفترش بعدها الأرضية وهي في حالة سيئة لا تبشر بخير، صاح “نبيل” مفزوعًا من هول المنظر وهو يركض نحوها هاتفًا باسمها:
-“آسيا”
وقبل أن يصل إليها استدار برأسه للخلف هادرًا بنبرة تحمل اللوم الصريح:
-لو جرالها حاجة هاتكون إنت السبب!
شعر “معتصم” أن أنفاسه انقطعت فجأة، وبانقباضة قوية اعتصرت قلبه بشراسة وقد شهد بعينيه ما حدث لها في ثوانٍ معدودة، تسمر في مكانه عاجزًا عن السير أو التفكير، ارتجفت أطرافه وهو يجاهد ليحرك قدميه نحوها رافضًا تصديق ما رأه توًا، وما ضاعف من إحساسه بالخوف هو إلقاء ابن عمه للوم عليه وكأنه من تسبب في ذلك الحادث المخيف.
ترجل قائد الموتور عن خاصته لينظر إلى ما اقترفه بهلعٍ، ارتعدت نبرته وهو يقول:
-والله ما شوفتها، هي اللي طلعت قدامي فجأة
تجمع عدد من المارة حول جسد “آسيا” متأملين ما حدث لها وامتزجت عباراتهم المواسية مع تلك المصدومة والمستنكرة، ردد أحدهم من الخلف:
-يا ساتر يا رب
وأضاف آخر:
-إسعاف بسرعة يا ناس
-لا حول ولا قوة إلا بالله
اندفع “نبيل” وسط أجسادها ليمر بينهم حتى وصل إليها، جثا على ركبتيه أمامها وبدأ في تفقدها مع شخص آخر بدا إلى حد ما متخصصًا فيما له علاقه بالأمور الطبية، كان ذلك واضحًا من طريقة تعامله معها وفحصه لنبضها، أراد الأخير أن يتأكد من بقائها على قيد الحياة، شحب وجه “معتصم” وقد وصل إليها، هربت الدماء من عروقه وهو ينظر بأعين زائغة ومترقبة لوجه ابن عمه وذلك الغريب الذي كان يفحصها، حركت بصره ناحية وجهها فوجده ملطخًا بالدماء، تضاعفت رجفته وهوى على قدميه أمامها شاعرًا بقوة ضربات قلبه، التفت “نبيل” نحوه مسلطًا أنظاره عليه ثم استطرد قائلاً بصوتٍ مختنق:
-إنت السبب ……………………..……………. !!!
……………………..……………………..………….

يتبع >>>>>>>

error: