رواية (المحترم البربري)
المحترم البربري
الفصل الخامس والثلاثون
أرق مضطجعها باقتحامه لغرفتها والبوح بعزمه على إتمام زواجه منها، استثار أعصابها بتهوره وبجراءته الزائدة معها وكأنه ملك زمام أمرها، تلفتت “آسيا” حولها باحثة عما تلقيه نحو “معتصم” كوسيلة لإفراغ شحنة غضبها منه، وقعت عيناها على مبرد الأظافر والمزهرية الصغيرة الموضوعة إلى جواره على الكومود فالتقطت الأخيرة بيدها وقذفتها في اتجاهه لتصطدم بمؤخرة رأسه، تألم من الضربة المباغتة واستدار نحوها يرمقها بنظراته الغاضبة، بادلته بنظرات متنمرة وهي تقف على ركبتيها على الفراش، أشارت له بيدها تحذره بشراسة:
-إياك تجي هنا تاني!
رد متحديًا بصوته المحتد وقد تبدلت قسماته للقسوة:
-إنتي متعرفنيش
انحنت لتأخذ مبرد الأظافر مستخدمة إياه كأداة حادة للدفاع عن نفسها، زحفت بركبتيها متراجعة على الفراش، نظر لها بنظرة تحمل السخرية، ثم أردف قائلاً بتهكمٍ وهو يومئ بعينيه:
-ده على أساس إنه هيحميكي، ارمي البتاع ده من إيدك!
حدجته بعينين ملتهبتين وهي ترد بوقاحة لتستفزه:
-بلاش أعلم عليك تاني
تحسس عفويًا جرحه الذي ضمده بمساعدة الصيدلي قبل ساعات متذكرًا هجومها عليه، استشاط من طريقة تحديقها الباردة به والتي أشارت إلى عدم تقديره لما يمكن أن يفعله معها إن خرج عن عقلانيته، ظلت محافظة على تلك النظرات المستفزة مما حفز دمائه على الاهتياج، كذلك ازدحم عقله بكل ما يخصها من أخبار يندى لها الجبين لتزيد من وهج غضبه، خرج “معتصم” عن عقلانيته وهدوئه الحذر ليندفع نحوها قاصدًا الإمساك بها، تملصت منه “آسيا” ببراعة قبل أن يطالها وركضت نحو باب الغرفة، لحق بها وجذبها من ذراعها ليستوقفها، التفتت نحوه قاصدة غرز المبرد في عضده، لكنه تمكن منها وقبض على رسغها وانتزعه قسرًا من بين أصابعها، شهقت بخوف، وقبل أن تصرخ لتفضح أمره كانت يده موضوعة على فمها، كممها جيدًا وألصق ظهرها بصدره، ثم استخدم ذراعه الآخر في تقييد رسغيها، اهتاجت “آسيا” من أسلوبه الطائش معها، تلوت بجسدها بكامل قوتها لتتخلص من قبضتيه، لكنه لم يحررها، مال على أذنها يهمس لها بوعيد:
-ده ليه حسابه
شعر بحركة خافتة خارج غرفتها وبصرير باب ما يُفتح، فتأهبت حواسه وشدد من قبضتيه عليها، تراجع بها للخلف مسندًا ظهره على الحائط ومجبرًا إياها على الالتصاق به والبقاء تحت رحمة حصاره، توترت نظراته وخفق قلبه بقوة مع رؤيته لمقبض الباب يتحرك، جزعت “آسيا” وتضاعفت حركتها مما حثه على استخدام قدراته العضلية في تثبيتها وتثبيط مقاومتها حتى لا تثير أي جلبة، لحظات مرت عليه كالدهر لكنها انتهت بسماعه لصوت خطوات الأقدام تبتعد، تنفس “معتصم” الصعداء وأرخى يديه عنها قليلاً، غمغمت بصوتها المكتوم بتذمر وكأنها تلعنه، عاد ليهمس لها:
-حظك إني قفلت الباب وإلا كنتي هتتفهمي غلط
انزعجت من تلميحه المسيء لكونه يشير عمدًا إلى محاولتها إغرائه وربما دعوته لقضاء الليل في غرفتها، حررها لتبتعد فورًا عنه ونظراتها النارية تكاد تفتك به، ردت بصوت خفيض لكنه مهدد:
-هافضحك يا “معتصم”
أشار بيده مرحبًا:
-اتفضلي
ثم تراجع نحو الفراش ليتمدد عليه موسدًا ذراعيه خلف رأسه، نظر لها بطرف عينه قائلاً ببرود:
-وأنا مستني، وابقي فسري لمامتك أنا بأعمل إيه هنا
كزت على أسنانها مرددة بغيظ:
-إنت جبان!
اعتدل في نومته محذرًا:
-لمي لسانك، لأني ممكن أغلط جامد أوي، ودي أقل حاجة عندي
صاحت فيه بصوت مختنق رغم خفوته:
-أنا مش هاتجوزك، افهم بقى
تنهدت بعمق قبل أن تكمل بإحباط:
-عارفة إن وجودي هنا غصب عنك، بس مش هاسيب حقي
تحدث من زاوية فمه قائلاً بازدراء:
-باني على حقيقتك كمان
ردت باستنكارٍ:
-هو أنا غلطت في إيه لما أطالب بحقي في الست اللي ربيتك؟!
هب واقفًا من على الفراش ليقف قبالتها، رمقها بنظرة مغلولة وهو يرد:
-بلاش تكدبي الكدبة وتصديقها
هزت رأسها بالنفي مدافعة عن نفسها:
-والله ما كدبت في حاجة
رمقها بنظرة احتقار قبل أن ينطق:
-مافيش أسهل من الحلفان
يئست “آسيا” من إقناعه ببراءة نواياها حاليًا، سيظل على موقفه المعاند مهما حاولت أن توجد له من مبررات ودلائل قوية، لكزها بإصبعه في وجنتها مضيفًا بجدية:
-أنا هاسيبك بمزاجي، بس مش ناسي اللي عملتيه فيا
ثم أخفض نظراته نحو جرحه لتدقق هي الأخرى النظر فيه، تأكدت أنه سيثأر لنفسه منها، تراجعت عنه لتتجه نحو المرآة باحثة عن شيء ما، التقطت المقص وفتحته على الأخير لترد بنبرة غامضة وهي ترفعه نصب عينيه:
-ولا تزعل نفسك، كده احنا خالصين
ثم قامت بجرح معصمها بقوة بنصله الحاد، اتسعت مقلتاه فزعًا من تهورها الأهوج، هرول نحوها منتزعًا المقص من أصابعها وهو يهتف مصدومًا بصوته الخافت:
-يخرب عقلك، إنتي مجنونة!
ألقاه على الفراش ثم رفع ذراعها المصاب عاليًا ليضغط على جرحها النازف، خشي أن تكون قد قطعت في لحظة طيشها شريانها، نظرت له بعينين دامعتين قائلة بنبرة متألمة:
-كده ملكش حاجة عندي
حدجها بنظرة غاضبة كارهة لما فعلته، ثم رد مغتاظًا:
-إنتي مش طبيعية، مخك ده في حاجة!
وقف “معتصم” حائرًا في مكانه يفكر على عجالة في طريقة لوقف نزف الدماء، أجلسها على الفراش واتجه نحو الحمام ليبحث بداخله في خزانة الأدوية عما يمكن أن يستخدمه لإسعافها دون أن يزعج والدتها أو والده، عاد إليها وجثا على ركبتيه أمامها ليضمد جرحها، ركز انتباهه على ما يفعل متمتمًا بضيقٍ كبير:
-أنا ما شوفتش كده
غابت “آسيا” عن وعيها بعد أن زحف ذلك الدوار الرهيب إلى رأسها، مالت بجسدها على “معتصم” الذي تفاجأ بها تسقط عليه، أمسك بها ليعدلها هاتفًا بقلقٍ:
-“آسيا”، ردي عليا
ضرب على وجنتها بكفيه محاولاً إفاقتها وهو يردد بخوفٍ:
-“آسيا”، سمعاني، “آسيا”
لم يجد منها أي استجابة فلف ذراعه حول كتفيها ومرر الآخر أسفل ركبتيها ثم حملها ليمددها على الفراش، وضع يده أعلى رأسه وهو يدور حول نفسه في حيرة جلية، خاف من تخطي المسألة لمجرد جرح عابر، كان عليه أن يضع الخطة لإنقاذها دون أن يكشف أمر زيارته السرية لها، خطا نحو باب غرفتها ليفتحه بحذرٍ، تسلل إلى الخارج بعد أن تأكد من عدم وجود أحد بالرواق، عاود إغلاق الباب بالمفتاح بهدوءٍ ثم سحب نفسًا عميقًا ليشرع في تنفيذ ما أملاه عليه عقله من حلٍ جهنمي للفت الأنظار إليها دون أن يثير الريبة حوله، صاح عاليًا بصوته الأجش:
-ماينفعش كده يا “آسيا”، دي مش طريقة، افتحي الباب لو سمحتي
دق الباب بعنفٍ مواصلاً صراخه:
-لو سمحتي ردي عليا، بلاش تأذي نفسك
استيقظ والده على صوته المرتفع متسائلاً بقلقٍ:
-في إيه؟
استدار نحوه ليجيبه بعبوس وهو يجاهد لإخفاء نظراته المضطربة:
-“آسيا” حابسة نفسها في أوضتها
سأله “وحيد” بامتعاض مستنكر:
-هي حرة تعمل اللي عاوزاه؟
تدارك والده سريعًا الأمر واستغرب من تواجد ابنه أمام غرفتها في تلك الساعة المتأخرة، تجهمت ملامحه وهو يعاود سؤاله بضيق أكبر:
-وبعدين إنت إيه اللي موقفك هنا عندها السعادي؟
رد بارتباك ملحوظ:
-أصل هي .. يعني مش بترد عليا في الموبايل و…
أراد إشعاره أنهما على تواصل خفي بعيدًا عن أنظارهما، كذلك لم يكمل جملته بسبب مقاطعة “نادية” له:
-بنتي مالها؟
رمقته بنظرة متوترة وهي تتابع:
-أنا قلقت لما لاقيتها قفلاه، بس بصراحة افتكرتها خايفة من بعد اللي حصل النهاردة
خمن “معتصم” بمنطقيةٍ أنها كانت الشخص الذي حاول فتح باب غرفتها قبل قليل، أجابها وهو يشير بيده:
-يا ماما كنت بأحاول أكلمها زي ما متعودين كل يوم بالليل، بس هي ما بتردش عليا
بدت كلماته مريبة للغاية وتحمل الكثير من المعاني، وضع “وحيد” يده على كتف ابنه ليديره نحوه قبل أن يسأله بحدةٍ:
-ما تفهمني بالظبط في إيه بينك وبينها؟!!!
أجابه “معتصم” بتذمر:
-بعدين يا بابا هاوضحلك كل حاجة، خلينا نشوف الأول هي مالها!
طرقت “نادية” باب الغرفة وهي تهتف عاليًا:
-افتحي يا “آسيا”، ردي عليا يا بنتي
تابع “معتصم” برجاءٍ:
-“آسيا” لو سمحتي كلمينا بس!
انقبض قلب والدتها بقوة، وضعت يدها على صدرها مرددة بتوجسٍ مذعور:
-لأحسن يكون جرالها حاجة!
هتف “معتصم” بنزق وقد تراجع عدة خطوات للخلف:
-أنا هاكسر الباب
اعترض والده طريقه قائلاً:
-استنى يا “معتصم”!
جمد أنظاره عليه قبل أن يرد بخشونة:
-“آسيا” مجنونة وممكن تعمل أي حاجة
زاد هلع “نادية” من أسلوبه في الحديث عن تصرفات ابنتها غير العقلانية، لم تمانع على الإطلاق تحطيم “معتصم” للباب، اندفع الأخير بجسده نحوه ليصطدم به بقوة لعدة مرات حتى انفتح الباب على مصراعيه، بالطبع أظهر اندهاشة مصدومة أمام والدتها التي صرخت بهلعٍ:
-بنتي!
هرولت “نادية” نحو فراشها لتجد دمائها تغرق الملاءة، صرخت بلا وعيٍ:
-عملتي تاني كده ليه؟ كلم الدكتور بسرعة يا “وحيد”!
أومأ زوجها برأسه هاتفًا:
-حاضر
ثم انطلق إلى خارج الغرفة ليهاتف الطبيب، انتبه “معتصم” لعلبة الإسعافات الأولية الموضوعة بجوار الفراش، اتجه نحوها بحذرٍ ودفعها برفق بقدمه لتختفي أسفله، رفع وجهه ليحدق في “نادية” التي توسلته بخوفٍ وهي تحتضن ابنتها:
-وديها على المستشفى يا “معتصم”
رد معترضًا بتريثٍ:
-بلاش يا ماما، هايكون فيها محاضر وسين وجيم، إن شاء الله تكون حاجة بسيطة، أنا هاحاول أوقف النزيف لحد ما الدكتور يجي
وكأنها لم تصغِ له، سألت ابنتها الغائبة عن الوعي بقلبٍ ملتاع:
-عملتي كده ليه بس؟
أجابها “معتصم” بحزنٍ:
-كانت بتقولي إنها هتنتحر لو ماتجوزناش، خايفة إن بابا يرفض
حدقت فيه بذهول كبير، ثم أخفضت نظراتها نحو ابنتها، رددت بعينين باكيتين:
-للدرجاي متمسكة بيك، أنا مش مصدقة!
استمر “معتصم” في أداء دور المصدوم في تلك التمثيلية المصطنعة، دنا منها ليقف خلفها قائلاً بأسفٍ:
-هاحكيلك كل حاجة يا ماما بس نطمن عليها الأول
………………………………………………………
تقلبت على جانبها في الفراش لتشعر بتلك الوخزة القوية في معصمها مما نبه كامل حواسها وأجبر عقلها على العودة من سباته العميق، فتحت “آسيا” عينيها ببطءٍ ثم نظرت بنصف عين إلى الأشياء المبهمة من حولها، أغمضت جفنيها وعاودت فتحهما لتذهب النعاس عنها، تأملت باستغراب رسغها المضمد جيدًا، تحيرت في البداية عن سبب وجوده، اعتدلت على ظهرها لتجد “معتصم” واقفًا على رأس الفراش يطالعها بنظراتٍ واثقة وهو متأنق في بدلته، تلاشى مع حضوره آثار النعاس من على وجهها، امتقعت قسماتها من تحديقه المطول والمستمتع بها، سألته بحدةٍ:
-إنت واقف عندك كده ليه؟
رد ببرود دون أن يخفي تلك البسمة السخيفة من على محياه:
-صباح الخير
تذكرت سريعًا صدامهما العنيف فتحفزت في نومتها وبدت مستعدة للدفاع عن نفسها، سألته بنرفزة طفيفة:
-إنت مش خايف أصرخ و … ؟!
قاطعها بتمهلٍ:
-شششش، اللي حصل بالليل عدى خلاص، إنتي بقى اهدي واسمعيني كويس يا “آسيا”
رمقته بنظراتها المشتعلة فأكمل بهدوئه المريب:
-مامتك فاهمة إنك انتحرتي عشان تقنعيهم يوافقوا على جوازنا، وكل اللي حصل بينا فيلم عملناه عليهم عشان يضطروا يوافقوا نتجوز
شخصت أبصارها مما ألقاه على مسامعه، توترت أنفاسها متسائلة بصدمة كبيرة:
-نعم، إنت بتقول إيه؟
تابع بنفس النبرة الجليدية الجافة:
-زي ما سمعتي، وأي كلام تاني هاتقوليه محدش هيصدقه، وخصوصًا إن الكل بقى في صفي دلوقتي، يعني الكرة في ملعبي، واللعب على المكشوف
صرخت فيه باستنكار:
-أنا مش مصدقة نفسي، وسيادتك هاتستفيد إيه؟
حذرها بقوةٍ:
-وطي صوتك
بدت لهجته صارمة بالإضافة إلى نظراته الجادة، التزمت الصمت مضطرة لتفكر في إجابة مقنعة لسؤالها الحائر، استشفت الرد سريعًا، قطبت جبينها موضحة:
– أها، دلوقتي فهمت، إنت بتعمل كل ده عشان ترميني برا البيت، فكرك لما تتجوزني هاتمنعني من هنا؟
دس يديه في جيبي بنطاله قائلاً بعدم مبالاة:
-والله هاكون حر في تصرفاتي مع مراتي!
نظرت له شزرًا قبل أن تهينه:
-إنت أسوأ حد قابلته في حياتي
رد عليها ببرودٍ متجاوزًا إهانتها:
-من بعض ما عندكم يا “آسيا” هانم!
أطلت شرارات الحنق من عينيها الفيروزيتين، كان حقًا ناجحًا في إثارة دمائها، انتبهت لصوت والدتها المتسائل:
-حبيبتي عاملة إيه دلوقتي؟
التفتت نحوها لتجيبها باقتضابٍ:
-الحمدلله
اقترب “معتصم” من “نادية” ليلف ذراعه حول كتفيها، اندمج في الحديث قائلاً بعتابٍ:
-أنا زعلان منها أوي يا ماما، يعني بتتصرف من دماغها ومش عاوزة تصبر لحد ما أقنع بابا
زوت والدتها جبينها قائلة بثقة:
-ومين قالك إن “وحيد” معترض؟ بالعكس هو مرحب جدًا بفكرة جوازكم، بس طريقتكم إنتو الاتنين غلط
رد منكسًا رأسه:
-هانعمل إيه، كنا خايفين يحصل زي موضوع طنط “مها”!
ردت “نادية” مؤكدة عن ثقة:
-اطمنوا، احنا يهمنا إيه غير سعادتكم يا ولادي
أحنى “معتصم” رأسه على جبينها ليقبله بودٍ قبل أن يرد ممتنًا:
-ربنا يخليكي لينا، المهم دلوقتي عاوزين أحلى فطار لأجمل “آسيا” عندنا!
ضحكت قائلة:
-على طول
تبعها “معتصم” بعينيه حتى خرجت من الغرفة، رمقته “آسيا” بنظرة نارية وهي تقول بتهكمٍ:
-المفروض يدوك جايزة أوسكار أحسن ممثل كداب
مط فمه قائلاً بإعجاب:
-البركة فيكي
اقترب من فراشها فاستندت على مرفقيها محاولة التراجع بعيدًا عنه، انحنى للأسفل نحوها ليتأمل تعابيرها الغاضبة عن قرب، منحته نظرة تحمل الحنق والبغض ثم ضغطت على أسنانها قائلة:
-بأكرهك
رد هامسًا وهو يبتسم لها بعجرفةٍ:
-وأنا مش عاوزك تحبيني
تجهمت مضيفة بغيظٍ:
-انسان حقودي مليان غل
رد مهينًا إياها بفظاظةٍ:
-كفاية العفة والسمعة النضيفة اللي طالعة منك
ضجرت من تطاوله عليها فارتفع صوتها وهي تحذره:
-احترم نفسك
وضع “معتصم” إصبعه على شفتيها، شهقت من تجرأه عليها، همس مضيفًا بنبرة ذات مغزى:
-أنا لسه مغلطتش، فخدي بالك!
أبعدت يده عنها صائحة فيه:
-برا
قبض على رسغها ضاغطًا عليه بأصابعه فأخرجت أنينًا متألمًا من حلقها، بدا صوته قويًا رغم همسه:
-برضوه مش عاوزة تلمي لسانك!
توترت حدقتاها من لهجته المريبة والتي ذكرتها بصوت أحدهم حينما أوشك على الاعتداء عليها، شعر برجفتها فترك يدها متأكدًا من جدية تهديده لها، اعتدل في وقفته مسلطًا نظراته عليها، بدا “معتصم” أكثر غرورًا وتملكًا عن ذي قبل، تمط بكتفيه قائلاً:
-أنا خارج، سلام!
تسارعت أنفاسها الغاضبة والتي امتزجت مع خوفها الغامض، كورت أصابع يدها لتضرب بها الوسادة مرددة مع نفسها:
-ربنا ياخدك!
…………………………………………
تعمد في الفترة الأخيرة التواجد في المواقع الإنشائية التابعة لإشراف مكتبه ليتجنب الالتقاء مع ابن عمه، فقد علم الأخير برغبته في الزواج من “آسيا” فاستشاط غضبًا وتأكد من كونه يقف وراء إفساد خطبته منها، عرف “نبيل” مكان “معتصم” فتوجه إليه قاصدًا الاشتباك معه، لم يعبأ بكونه وسط العمال والمهندسين، انقض عليه ممسكًا به بطريقة مريبة من ذراعه، نظر له “معتصم” باستنكار ومع ذلك لم يقاوم جذبه له منعًا للمشاكل، سار الاثنان بعيدًا عن الجميع لينزوي كلاهما في بقعة خالية، اندلع غضب “نبيل” فصرخ منفعلاً:
-عملت كده ليه؟ وماتقوليش إنك بتحبها!
رد عليه “معتصم” بحذرٍ ليمتص غضبته:
-اهدى يا “نبيل”، احنا وسط الناس، هايقولوا إيه عننا
صاح به بعدم اكتراثٍ:
-ملكش دعوة، رد عليا
تمسك “معتصم” بهدوئه قائلاً:
-لما توطي صوتك الأول!
أضاف “نبيل” صارخًا باستنكار أكبر:
-وطبعًا تلاقيك إنت اللي بخيت الكلمتين بتوعك في ودن ماما عشان تقلب على “آسيا” من قبل ما تشوفها حتى
بدا “معتصم” مستفزًا وهو يسأله:
-إنت مش عاوز تسمعني ليه؟
أجابه بعصبية:
-لأني أكتر واحد فاهمك يا “معتصم”، إنت عمرك ما حبيت “آسيا” ولا هتحبها، محدش بيكرهها أدك، وجوازك منها مش بنية صافية، إنت قاصد تعمل ده عشان تأذيها
عبس بوجهه قائلاً بجمود:
-بلاش أفورة، إنت مكبر الموضوع أوي، وبعدين يا سيدي الجواز قسمة ونصيب
التهبت نظراته مرددًا بإنكارٍ:
-أه مع حد تاني إلا أنت
اغتاظ من هجومه عليه متسائلاً:
-واشمعنى يعني؟
أجابه ببساطةٍ:
-إنت ناسي كنت بتقول عليها إيه ولا بتعاملها إزاي؟ فجأة كده حبيتها وبقيت متيم بيها وعاوز تجوزها
وضع “معتصم” قبضتيه على كتفي ابن عمه قائلاً له:
-“نبيل” إنت مش هاتقدر تفهمني
نزح يديه عنه مرددًا:
-غلطان، أنا أكتر واحد عارف إنت بتعمل كل ده ليه، بس لعلمك حتى لو بقت “آسيا” مراتك فأنا هاقفلك لو اتعرضلتها
استفز بكلامه المتعصب نزعته الرجولية فاشتعلت نظراته وسأله بخشونةٍ:
-أفندم، بصفتك إيه؟
نظر في عينيه بقسوة قبل أن يرد:
-اختار اللي إنت عاوزه، بس “آسيا” مش لوحدها، أنا في ضهرها، وده آخر ما عندي!
حافظ “معتصم” على بروده الجامد رغم النيران المستعرة بداخله لدفاع ابن عمه عنها باستماتة وكأنها سحرته بتعويذة ما، تنهد بعمق ليحبس انفعالاته بصدره قائلاً:
-تمام، ممكن نشوف شغلنا بقى!
…………………………………………………
كانت بحاجة لمن تفضفض معها وتسترسل في الحديث حول مشاعرها الناشئة مع ذلك الذي خفق قلبها لأجله، استغلت “أية” انتشار خبر رغبة “معتصم” في الارتباط بـ “آسيا” لتأتي لزيارتها وتبوح لها بما خبئته عن صديقاتها المقربات، جلست معها في غرفتها وتمددت على الفراش لتسألها بفضول وقد أخرجت تنهيدة حارة من صدرها:
-قوليلي يا “آسيا”، حبيتوا بعض إزاي؟
التفتت نحوها دون أن تحرك ساكنًا من مقعدها المواجه للشرفة لترمقها بنظرة مزعوجة، فقد سئمت من حديث الجميع عن الخطبة المزعومة واهتمامهم بكافة التفاصيل المتعلقة بها وكأن الاثنان طائرا الحب، كانت متيقنة في داخلة أن ما يحدث مجرد أكذوبة يحيكها “معتصم” لتدميرها نفسيًا وذهنيًا لترحل وتترك له كل شيء، أشاحت بوجهها للجانب لتخفي نقمها من الموضوع برمته، ثم سألتها بفتورٍ:
-إنتي أخبارك إيه؟ بقالي فترة مشوفتكيش، في حاجة شغلاكي ولا إيه
أخرجت “أية” زفيرًا بطيئًا من صدرها قبل أن تجيبها بغموض مقتضب:
-يعني حاجة زي كده
نهضت من على الفراش لتجلس بجوارها في الشرفة، حدقت فيها قائلة بتهلفٍ وقد بدا على تعبيراتها الحيوية والتورد:
-أنا كنت عاوزة أخد رأيك في حاجة
تفرست “آسيا” في وجهها متسائلة باهتمام:
-إيه هي؟
أجابتها بعد أن زفرت بعمق:
-بصراحة كده أنا في واحد بيحبني جدًا وهايموت عليا
ارتسمت على قسماتها الاهتمام، فأخيرًا وجدت ما يشغل تفكيرها عن “معتصم” وأموره، لذا سألتها بحماسة طفيفة:
-وده حصل امتى؟
عضت “أية” على شفتها السفلى لتقول بعدها بخجلٍ:
-يعني من قريب، بس أنا لسه مش قايلة لحد
أومأت برأسها متفهمة، ثم سألتها هامسة:
-أها، وإنتي بتحبيه؟
تشكلت ابتسامة رقيقة على ثغرها وهي تجيبها:
-باين كده، بس طبعًا مش زي مغامراتك إنتي و”معتصم”
رفعت “آسيا” حاجبها للأعلى في استنكار بائن لذلك التشبيه الجائر بين قصة حب زائفة وأخرى حقيقية، ردت عليها بتهكمٍ ساخط:
-هو في زينا أصلاً
تابعت “أية” مضيفة:
-المهم، “سامر” كان عاوز …
اعتدلت “آسيا” في جلستها بعد سماعها لاسم ذلك الشاب، بدا لها مألوفًا بدرجة كبيرة، سألتها بجدية:
-ده اسمه؟
هزت “أية” رأسها بالإيجاب:
-أيوه، على فكرة هو شاب غني أوي وعنده شركات وحاجات كتير
-تمام، طب هايتقدملك امتى بقى طالما معندوش مشاكل؟
-لسه مش دلوقتي، أما نقرب من بعض أكتر
-ربنا يسعدك
تحمست “أية” كثيرًا من تجاوب “آسيا” معها، فقررت أن تجازف أكثر علها تجد الداعم لها في أنشودة حبها العذب، أخرجت هاتفها المحمول وعبثت بأزراره ثم مدته ناحيتها قائلة بحرارةٍ:
-بصي دي صورته
تأملت “آسيا” حالة المشاعر الفياضة البائنة عليها بابتسامة مجاملة، ثم أمسكت بالهاتف لتحدق في صورته، انتابتها حالة من الارتباك لمجرد تطلعها لملامحه التي أوقظت فيها مشاعرًا بالضيق والتوتر، انتشلها من شرودها في تدقيق النظر فيه صوت “أية” القائل:
-شكله واو خالص، أنا مبهورة بيه
ظلت عيناها مركزة على تفاصيل وجهه وهي تتسائل باهتمام مريب:
-قولتيلي اسمه ايه؟
أجابتها دون تردد وهي تميل برأسها في خجلٍ:
-“سامر عمران”
شردت “آسيا” من جديد في قسماته التي لم تكن غريبة عليها بالمرة، كانت متأكدة في قرارة نفسها أنها التقت به من قبل، رددت بهمسٍ غير مفهومٍ:
-أنا حاسة إني شوفته قبل كده …………………………….. !!!
…………………………………………………….
يتبع >>>>>>