رواية (المحترم البربري)
المحترم البربري
الفصل الحادي والثلاثون (الجزء الأول)
استندت على والدتها لتتمكن من النهوض وتولت الخادمة إسنادها من الجانب الآخر، تورمت عيني “آسيا” من كثرة البكاء وبح صوتها من صراخها المتواصل، تأثرت والدتها بحالها الضعيف وضمتها إليها وهي تعاونها في سيرها البطيء لتكمل صعودها على الدرج، أردفت قائلة لتدعمها:
-محدش هيقدر يعملك حاجة طول ما أنا عايشة على وش الدنيا، خليكي واثقة في ده يا “آسيا”
وكأنها تخاطب نفسها، لم تكن واعية عقليًا لما تقوله، انخرطت في دوامة ذكريات متداخلة مع أبيها كانت تنتهي دومًا بالشجار بينهما، لم تشعر نحوه بالحنو أو الاشتياق، بل كانت مشاعرها غريبة مليئة بالجفاء والبرود، لم تنتبه لعينين “معتصم” المركزتين معها، لم يقتنع بما رأه رغم حدة تصرفات والدها، أيقن أنها مسرحية هزلية لإقناع الجميع بأنها الضحية لقسوة أبيها وأنها لا تزال تعاني من فقدان الذاكرة، التفتت “نادية” نحوه برأسها صائحة فيه:
-“معتصم” اتأكد لو سمحت إن البني آدم ده مشى خالص من الكومباوند
رد بتهكمٍ:
-أكيد مش هيستنى بعد اللي حصل، ما هو دوره خلص على كده
رمقته “آسيا” بطرف عينها بنظرة حادة ساخطة، فذلك الشخص الفظ لا يمتلك ذرة إحساس واحدة ليشعر بما يختلج صدرها من ضيق كبير، لم يؤازرها بكلمة طيبة لتهدئ من روعها، فقط قنوطه نحوها هو الواضح على تعابيره وظاهر حتى في ردوده الجافة، تأكدت في نفسها أن ردها عليه لن يجدي مطلقًا، أبعدت عينيها عنه وتابعت سيرها المؤلم حتى وصلت إلى غرفتها، لم تتركها “نادية” ولازمتها طوال اليوم جالسة إلى جوارها على الفراش، وواضعة لرأسها على صدرها لتبث لها إحساس الطمأنينة في نفسها حتى خلدت إلى النوم، فتركتها وانسحبت بهدوء حذر من الغرفة.
………………………………………………..
علم “وحيد” بما حدث أثناء غيابه من تجاوز عنيف لـ “شرف الدين” ومحاولته أخذ ابنته بالقوة الجبرية، غلت الدماء في عروقه لإخفاء الأمر عنه حتى عودته إلى المنزل في المساء، عاتب زوجته قائلاً بامتعاض شديد ونظراته نحوها تحمل اللوم:
-إزاي كل ده يحصل وأنا معرفش؟
أجابته بحذرٍ:
-ما هو “معتصم” اتعامل معاه
لوح بيده متابعًا بعصبية ملحوظة:
-الراجل ده لازم يتعمل ضده محضر، مش معقول يتهجم على بيتي في غيابي ويتساب كده عادي من غير ما يتحاسب
ردت عليه “نادية” بقلقٍ:
-“وحيد” أنا مش عاوزة مشاكل، خلاص هو غار في داهية، خلينا ….
قاطعها بحدةٍ وقد تجهم وجهه:
-يا “نادية” اللي زي ده مش هايتهد، طالما عرف سكة البيت هنا توقعي وجوده في أي وقت
شحبت ملامحها نوعًا ما عقب جملته الأخيرة التي زرعت القلق فيها، هتفت بجدية:
-أنا هابلغ الأمن يمنعوه يدخل لو فكر يجي تاني
فرك طرف ذقنه وهو يكمل بنفس النبرة المزعوجة:
-ماشي ده حل مؤقت، بس أنا هاشور المحامي بتاعنا ولازم يبقى في إجراء قانوني ضده
أكملت قائلة بتوجسٍ وقد انعكس التوتر في نظراتها:
-مش ده المهم، بنتي فين من كل ده يا “وحيد”؟
لاحظ الاضطراب الظاهر عليها فوضع يده على كفها ضاغطًا عليه برفق وهو يؤكد لها:
-متقلقيش، محدش هيتعرض لـ “آسيا” طول ما أنا موجود
ردت بامتنان وقد تلألأت العبرات في نظراتها:
-ربنا يخليك ليا يا “وحيد”
ثم عادت لشرودها الحائر من جديد، بدت كمن يفكر بصوت مسموع وهي تغمغم خافتة:
-لو أضمن بس …..
ابتلعت باقي جملتها لتضفي المزيد من الغموض عليها، اعتدل “وحيد” في جلسته ليسألها مهتمًا:
-بتفكري في إيه؟
ترددت في البداية عن الإفصاح عما تفكر فيه، لكن نظرات زوجها كانت واضحة للغاية في صرامتها، ودعم ذلك نبرته القائلة:
-قوليلي يا “نادية”
ابتلعت ريقها لتقول بحرجٍ مرتبك:
-متقولش عليا بأخرف ولا …
رد مبتسمًا ليدفعها للبوح بما يملأ رأسها من أفكارٍ:
-يا حبيبتي قولي بس وأنا سامعك
سحب شهيقًا عميقًا زفرته دفعة واحدة لتحفز نفسها قبل أن تتابع:
-لو كان ينفع كنت خليت “معتصم” يتجوز “آسيا”، بس أنا عارفة إنه صعب
رفع حاجبه للأعلى متسائلاً باستغرابٍ كبير وقد بدا مستنكرًا لمجرد تفكيرها في ذلك الاقتراح غير الفعال:
-إنتي بتتكلمي جد؟!
ردت موضحة:
-هو الوحيد اللي هايقدر يحميها، إنت مشوفتش دافع عنها إزاي
أعاد زوجها ظهره للخلف نافيًا:
-استحالة ابني يوافق
تنهدت قائلة بيأس موافقة إياه الرأي:
-ما هو عشان كده أنا مستبعدة الحل ده
لاحظ تشكل علامات العبوس على تعابيرها المرهقة فمسح برفق على ظهر كفها قائلاً:
-احنا محتاجين نفكر في حل تاني عملي ومناسب للكل، بس دلوقتي حاولي ترتاحي
نظرت له بإحباط وهي ترد:
-منين هاتيجي الراحة وبالي هيفضل مشغول طول ما هو موجود في حياتنا
كانت محقة في ذلك، فظهور “شرف الدين” في هذا التوقيت بالذات يعني وجود ذريعة لمشاكل جمة ستتزايد باستمرار بقائه.
…………………………………………………….
انحنت للأمام لتلتقط أنفاسها بعد نصف ساعة من الركض المتواصل في مضمار العدو بالنادي، تنفست “أية” بعمق لتجبر صدرها المهتاج على التنفس برويةٍ، ثم اعتدلت في وقفتها لتواصل تمرينها، شهقت بصدمة حينما رأت آخر من توقعت تواجده بالمكان، ارتسم على ملامحها علامات الاندهاش الفرحة، تداركت نفسها وحاولت أن تبدو هادئة أمامه، خاصة أن ضربات قلبها كانت متلاحقة للغاية، مد “سامر” يده لمصافحتها قائلاً بلطفٍ:
-إيه المفاجآت الحلوة دي
بادلته المصافحة فرفض ترك يدها ورفعها إلى فمه ليقبلها بنفس اللباقة السابقة، توردت وجنتاها وتلعثمت وهي ترحب به:
-أستاذ “سامر”، ازيك
سحبت يدها سريعًا للخلف مبذلة مجهودًا كبيرًا للظهور بشكل هادئ أمامه، قطب ما بين حاجبيه ثم عبس بوجهه يعاتبها بضيقٍ مصطنع:
-مافيش داعي للألقاب دي، مش احنا المفروض بقينا أصحاب
عضت على شفتها السفلى بارتباك ثم ردت بخجلٍ:
-أكيد
تابع متسائلاً باهتمام:
-صدفة حلوة إني أشوفك هنا، إنتي بتيجي كتير النادي ده؟
أجابته عفويًا:
-ده أنا عضوة فيه، يوم بعد يوم بأجي أدرب، ده غير معظم خروجاتي مع أصحابي هنا
أومأ بحاجبه متابعًا بابتسامة عذبة:
-حلو أوي
خجلت وارتبكت من تحديقه الجريء بها، أخفضت نظراتها ليتضاعف حرجها مع رؤيتها لذلك العرق الذي يبلل ثيابها الرياضية، شعرت بسخونة كبيرة تجتاح بشرتها وهي متأكدة لرؤيته لها، تحاشت النظر نحوه مرددة بحرجٍ:
-أنا هستأذنك أروح أغير هدومي، شكلي مش لطيف بعد المجهود اللي عملته
رد مجاملاً وقد أسبل عينيه نحوها بطريقة حالمة:
-إنتي حلوة في كل الأحوال
زادت ربكتها من أسلوبه الناعم في تجاذب أطراف الحديث معها، أشارت بيدها قائلة:
-أنا مش هتأخر، هما 10 دقايق هاخد شاور وأغير هدومي وأرجع تاني
فرك طرف ذقنه مرددًا بهدوء محنكٍ:
-للأسف مش هالحق أقعد معاكي، عندي شغل كتير، بس أوعدك نتقابل تاني
تفهمت اعتذاره فهزت رأسها مبتسمة:
-أوكي ولا يهمك
ثم لوحت له وهي تشرع في الركض:
-باي!
رفع إصبعيه ليلوح لها بابتسامة ماكرة:
-سلام يا حلوة
تعلقت أنظاره الغريبة بها رغم ابتعادها عنها متابعًا حديث نفسه:
-أنا مش ورايا غيرك دلوقتي!
…………………………………………………
كان كالقنبلة الموقوتة التي انتزع فتيلها لمجرد سرد “معتصم” لتفاصيل ما حدث في منزله من تصادم “آسيا” مع أبيها، خرج “نبيل” عن هدوئه ليثور في وجه ابن عمه الذي كان غير مكترث بانفعالاته، ما ضاعف من حنقه هو بروده المستفز واقتناعه بأنه ملعوب مفتعل منها لكسب تعاطف من حولها ولإجبارهم على تصديق أكذوبتها فعنفه هادرًا:
-إنت مصدق نفسك؟
رد عليه بجمودٍ:
-أيوه، عشان فاهم كويس دماغها
احتقنت نظرات “نبيل” بصورة واضحة ورد عليه بتشنجٍ:
-اقسم بالله إنت مريض نفسي، ولو حد فعلاً محتاج علاج يبقى مخك اللي فوت ومصدق التخاريف والهبل ده
اغتاظ “معتصم” من هجومه العدائي على شخصه فنهره بخشونةٍ:
-اتكلم عدل معايا يا “نبيل”، ماتنساش نفسك!
نظر له شزرًا قبل أن يرد:
-والله لو قولتلك إيه، هاتفضل زي ما إنت، طالما اللي في دماغك موجود عمرك ما تشوف الحقيقة حتى لو كانت ظاهرة قصادك
صمت “معتصم” ولم يعلق عليه، بدت حدقتي “نبيل” كجمرتين مشتعلتين من النيران وهو يرى بنفسه أسلوبه المستفز الذي يثير أعصاب أي شخص طبيعي هادئ، رمقه بنظرات نارية قائلاً بنبرة غامضة:
-ماشي أنا هاريحك من مشاكل “آسيا” كلها
التوى ثغره بابتسامة ساخرة وهو يسأله باستخفاف:
-هاتعمل إيه يعني؟
أجابه بنبرة جادة لا تحمل المُزاح ودون أن يرتد له جفن:
-هاتجوزها
اعتقد أنها مزحة سخيفة منه فكرر ضاحكًا للحظات، لكن لم يظهر على وجه “نبيل” التأثر، كان جادًا للغاية، أدرك “معتصم” خطورة الأمر، تقلصت أمعائه بتوتر من طريقة تحديقه المقلقة به، هب واقفًا من مكانه مدهوشًا من اقتراحه الصادم الذي تخطى حدود تفكيره، ثم سأله بعدم تصديق:
-نعم؟ بتقول إيه؟
كانت نظرات “نبيل” قوية وجدية، اقترب منه ليواجهه باستبسال غير مسبوق، ثم أجابه بنفس الإصرار:
-إنت سمعتني كويس
سريت حمرة غاضبة في وجه ابن عمه وهو يرد مستنكرًا بنبرة شبه متعصبة:
-بطل أمور الاستعباط دي يا “نبيل”
تحدث من زاوية فمه متابعًا:
-“آسيا” محتاجة لواحد يخاف عليها بجد ويحميها، مش يهينها ولا يذلها لمجرد غلطات عملتها زمان
ظن “معتصم” أنه واقع في حالة ما بين الاستخفاف والجنون، تحرك “نبيل” خطوة لتنكمش المسافة بين نظراتهما الحادة والغاضبة ثم أضاف بإصرار عنيد:
-وأنا هاكون الشخص ده يا ابن عمي …………………………. !!
………………………………………………….
يتبع >>>>>>