رواية (المحترم البربري)
الفصل الثالث والعشرون
تخيل أنه يخوض كابوسًا مزعجًا سيفيق منه بعد قليل ليغدو كل شيء طبيعيًا كما اعتاد في حياته الهادئة قبل أن يلقاها، لكن على عكس ما تمنى “معتصم” كان الأمر واقعًا ملموسًا؛ “آسيا” ممددة على الأرضية الإسفلتية غارقة في دمائها ووجهها يختبئ خلف تلك الصبغة المخيفة، ويحاوطها أشخاص غرباء لا يستطيع أن يفسر همهماتهم المتداخلة، حبس أنفاسه مترقبًا انسدال الستار والإعلان عن خبر مشؤوم سيتحمل هو اللوم كليًا عنه، انقطعت أنفاسه وأحس بارتفاع صوت نبضات قلبه في صدره، التدافع يزداد والوجوه تعكس ما يدور، شعر “معتصم” بقبضة قوية تدفعه للخلف، نظر بشرود مصدوم لمن فعل ذلك فوجد أحد المسعفين يريد أن يمر ليتفقدها، انزوى بعيدًا عن الحشد المتكتل حولها غير مدرك لما سيفعله، لأول مرة يفقد قدرته على التصرف في المواقف الصعبة.
عاون “نبيل” المسعفين في رفع “آسيا” على الناقلة الطبية وتولى مهمة الإدلاء عن البيانات الشخصية التي تخصها لأحدهم، استدار برأسه ناحية ابن عمه يسأله بنبرة محتقنة لكنها رسمية للغاية:
-جاي معايا؟
بدا “معتصم” فاقدًا لقدرته على النطق أو التعبير، كان وجهه جامدًا خاليًا من أي تعبيرات تدل على قبوله أو رفضه، نظر له “نبيل” باستياء محبط ثم أضاف بجدية:
-خليك مكانك أنا رايح معاها!
حاول “معتصم” الرد عليه لكنه كان في حالة صدمة، شعر أن الكلمات هربت من على طرف لسانه، بأنه مسلوب الإرادة ومضطرب في الإحساس، تحركت أعينه مع ابن عمه وهو يستقل عربة الإسعاف برفقة “آسيا” ليستفيق بعدها من جموده المريب مدركًا أنه بات بمفرده في الشارع وبعض الأفراد ممن يندبون حظ تلك الشابة التعسة التي ربما لن تنجو من ذلك الحادث الأليم، استوعب ما يدور وعاد إلى أرض الواقع، استجمع نفسه ثم هرول متجهًا نحو سيارته ليستقلها ويتبعهم محاولاً إجبار عقله على التفكير بمنطقية في تلك الظروف العصبية.
…………………….. ……………………..
شهقت بحشرجة مخيفة وهي تنتفض من رقدتها الطويلة مستعيدة وعيها، وكأن قلبها استشعر ما تمر به ابنتها فأجبر عقلها على العمل بكفاءة والنهوض من ذلك السبات العميق، بدأت “نادية” في تحريك جسدها المتيبس بحركات متكررة معلنة عن إفاقتها، هب “وحيد” واقفًا من مكانه بعد أن أغلق مصحفه وأسنده على الطاولة متوجهًا إليها، لم يصدق عينيه وهو يرى بنفسه حركتها المحدودة، تهللت أساريره هاتفًا بسعادة:
-“نادية” حبيبتي، إنتي سمعاني
حاولت نزع الكمامة البلاستيكية التي تمدها بالأكسجين لتقول بصوت خفيض وواهن:
-“آسيا”
لم يفسر زوجها ما تقوله، لكنه احتضن كفها بين راحتيه قائلاً بحماسٍ:
-حمدلله على سلامتك، أنا مش مصدق نفسي والله
التفتت بأعينها المتسعة في توتر لتقول له بجدية شديدة:
-“آسيا”
عقد ما بين حاجبيه مبديًا استغرابه من سؤالها عنها، حافظ على ثبات ابتسامته قائلاً بهدوء كي لا يثير قلقها عليها خاصة بعد أن نما إلى مسامعه ما حدث مؤخرًا من فضائح مخجلة تصدرت الأخبار والمواقع:
-هي كويسة
هزت رأسها بالنفي وهي ترد بصوتها الهامس:
-لأ، قلبي بيقولي لأ
رد بحذرٍ:
-صدقيني هي ….
بتر عبارته مضطرًا حينما انتبه إلى وقع أقدام أحدهم، سلط “وحيد” أنظاره على الممرضة التي ولجت إلى داخل الغرفة لتتأكد من نشاط أجهزتها الحيوية، ابتسمت بمحبة حينما رأت المريضة قد عادت إلى وعيها، وقفت إلى جوار فراشها مرددة بنبرة رسمية:
-حمدلله على سلامة الهانم، أنا هابلغ الدكتور علشان يجي يشوفها
رد عليها “وحيد” بجدية:
-يا ريت يكون بسرعة
-على طول يا فندم
قالتها الممرضة وهي توليه ظهرها لتسير في اتجاه باب الغرفة، ظل متابعًا لحركتها حتى انصرفت من المكان فعاود التحديق في زوجته التي كانت تكافح للنهوض من على الفراش، حذرها قائلاً بتوجسٍ:
-“نادية”، مافيش داعي للحركة الكتير
ردت عليه بنبرتها الواهنة:
-عاوزة أشوف بنتي، هي محتاجاني
بدا “وحيد” حائرًا في التعامل مع إصرارها العنيد، ابتسم مضيفًا بهدوء:
-ماشي، بس نطمن عليكي الأول ولا عاوزة توقعي من طولك تاني
استسلمت أمام جديته، فهي بحاجة لاستعادة نشاطتها لتتمكن من الوقوف على قدميها، على عكسها شرد “وحيد” يفكر مليًا في أكذوبة مقنعة يسردها عليها بشأن ابنتها لتصدقها دون الحاجة إلى أي مبررات، فهي إن عرفت بما صار لها لانهارت فورًا، لم يكن أيضًا على علم بحادث السير المروع الذي تعرضت له مؤخرًا مما سيزيد الأمور تعقيدًا.
…………………….. ………………….
وضعت بالعناية الفائقة بعد أن أجريت لها عمليات جراحية دقيقة في الأجزاء المصابة من جسدها لمعالجتها في الحال قبل أن تتفاقم حالتها وتدهور للأسوأ، خاصة بعد أن نزفت كثيرًا، منعت الزيارة عن “آسيا” حتى إشعار آخر، جلس “معتصم” على المقعد المعدني الموجود بالرواق محنيًا بجسده للأمام ومسندًا جبينه على كفيه المشبكين معًا، استعاد في ذاكرته مشاهدًا مجمعة لأغلب المواجهات الحامية بينهما، تحديات وصدامات شرسة لم تخلو من الصفعات وتبادل الاتهامات، ومع ذلك لم تنته أيًا منهم بحادث أليم مثل تلك المشاجرة الأخيرة، كان ضلعًا مباشرًا في إصابتها حتى وإن أنكر ذلك، تمنى ألا تكون في وضع حرج وتفيق مما هي فيه ليتغلب على إحساسه بالذنب نحوها، فجزء منه يوبخه على تجاوزه المبالغ فيه معها دون مراعاة لحالتها النفسية السيئة، كان كالأعمى مغيبًا عما تمر به، ومازال على عناده في شأنها، يرفض تصديق براءتها، انتزعه من تفكيره العميق صوت “نبيل” المعاتب بقسوة:
-إنت السبب في اللي جرالها
تجمدت أنظاره عليه فواصل تعنيفه بغلظة:
-لو ماتت ذنبها في رقبتك
مجرد ذلك تلك الكلمة أصابه بالقشعريرة، تحفزت دمائه واعتدل في جلسته مقاومًا شعور تأنيب الضمير الذي يؤرقه منذ وقوع الحادث لها، استطرد قائلاً بصوت شبه متحشرج مدعيًا الهدوء:
-يا ريت ما نتكلمش في الموضوع ده دلوقتي
رد عليه بعنادٍ وهو يشير بسبابته:
-لأ هنتكلم، إنت ظلمتها ولازم تعرف ده كويس
لم يتحمل إلقاء اللوم عليه فدافع عن نفسه قائلاً:
-هي اللي عملت كده في نفسها بفضايحها، أنا لا هاكون أول واحد ولا أخر واحد يواجهها بمصايبها، كان لازم تعرف هي إيه بالظبط
اغتاظ “نبيل” من كونه يخلق الأسباب ليريح نفسه حتى لو كانت مخطئة، هتف بحدةٍ غير مكترث بارتفاع نبرته وبوجوده في المشفى:
-مين إنت علشان تحاسبها ولا تحكم عليها؟ مجرد ابن جوز أمها، يعني ملكش صلة قرابة مباشرة معاها
توتر “معتصم” من التفات الأنظار نحوهما فهب واقفًا من جلسته الغير مسترخية ليرد وهو يضع يده على كتف ابن عمه:
-خلاص نتكلم بعدين!
أزاح الأخير قبضته بعيدًا عنه ثم رد بإصرار أشد عنادًا:
-مافيش بعدين، خلينا نتكلم بصراحة، واحدة اتحرمت من حنان أمها لسنين، وشافت حد تاني أخد كل حاجة طبيعي لازم تكرهه وتعاديه، وإنت كنت الواحد ده، لو كنت مكانها كنت هتصرف إزاي؟
قست ملامحه قائلاً:
-إنت بتدورلها على مبررات وخلاص يا “نبيل”، بلاش تكون على نياتك كده، محدش قالها تبقى صايعة وفضايحها على كل لسان، محدش قالها ترمي نفسها في حضن اللي يدفع تمنها
احتدت نظراته من أسلوبه المستفز ثم تابع بغلظة:
-وإنت إتأكدت من ده ولا مجرد ترديد للكلام اللي بنقراه ونسمعه؟!!!
تحدث قائلاً من زاوية فمه:
-مش محتاج أتأكد، كلها على بعضها بيقول إنها كده، أنا فاهمها كويس!
يئس “نبيل” منه فرد بإحباط:
-بجد إنت تركيبة عجيبة، عمرك ما كنت كده، بالعكس إنت محترم جدًا مع البنات وبتعاملهم كويس
نظر له شزرًا وهو يرد:
-لما يكونوا محترمين، غير كده أنا ……
قاطعه الطبيب “مصطفى” قبل أن يكمل جملته مرددًا بنبرة جادة للغاية وهو يدنو منهما:
-“معتصم”!
استدار برأسه نحوه هاتفًا:
-“مصطفى”
سأله “نبيل” بتلهفٍ وقد تضاعف توتره بداخله:
-طمنا إيه أخبار “آسيا”؟ محدش هنا عاوز يقول حاجة عن حالتها!
بدا وجهه مشدودًا إلى حد ما وهو يجيبه:
-مخبيش عليكم، وضعها كان سيء أول ما جت، بس عشمنا في الله إنها تفوق وتتجاوب مع العلاج
انقبض قلب “معتصم” رغم ثباته الوهمي أمام الاثنين، للحظة اعتقد أنها ستقضي نحبها، وأنه الطرف الرئيسي في إلقاء حتفها، بينما تساءل “نبيل” بقلقٍ:
-في حاجة خطيرة عندها؟
حرك “مصطفى” رأسه نحوه قليلاً ليرد بأسف:
-ارتجاج في المخ، كسر في الساق اليسري، وتهتك في جانب الحوض الأيسر، ده غير الخلع اللي في الكتف، وللأسف حصل تمزق في بطانة الرحم وتم خياطته وده ممكن يأثر على عملية الحمل في المستقبل
كان “معتصم” كمن أصيب بالصاعقة عندما سمع ملخصًا موجزًا لوضعها الصحي، تجمد في مكانه وحدق في وجه صديقه مصدومًا، لم يتوقع أن تكون حالتها على تلك الدرجة من الخطورة، والأسوأ من ذلك احتمالية حرمانها من إحساس الأمومة إن قُدر لها أن تتزوج، على عكسه كان ابن عمه في حالة تأثر واضحة، تمتم بحسرةٍ كبيرة:
-يا ساتر يا رب
ساد الصمت لثوانٍ بين ثلاثتهم حتى قطعه “معتصم” بجمود زائف:
-طب هي هتفوق امتى؟
أجابه “مصطفى” بروتينية:
-لسه مش عارفين
كانت المفاجأة الأكبر التي جذبت أنظارهم لبداية الرواق هو رؤية ثلاثتهم لـ “نادية” تسير مستندة على ذراع زوجها، اعتلت تعابير “معتصم” دهشة عجيبة، فمنذ سويعات كانت راقدة في فراشها تنازع للبقاء على قيد الحياة، والآن هو يراها مستعيدة لوعيها وتمشي بتؤدةٍ (ببطء)، التفت نحو ابن عمه يبادله نظرات مدهوشة، ثم عاود التحديق بها، ارتسمت ابتسامة سعادة على وجهه العابس مرددًا:
-ماما
هرول نحوها ليحتضنها باشتياق كبير، نسي مع ضمتها ما يمر به من ضغوطات عصيبة، ظل باقيًا في أحضانها متنعمًا بدفئه الحنون، همس لها بنبرة شبه مختنقة:
-حمدلله على سلامتك!
مسدت على رأسه ومسحت على ظهره برفق ليتغمده إحساس مطمئن أصابه بالسكينة، لكنها سريعًا أعادته لمرارة الأحداث حينما سألته بتلهفٍ:
-فين “آسيا”؟
شعر بغصة عالقة في حلقه، بوقع قسوة سؤالها البسيط على نفسه، تراجع عنها ليحدق فيها بأعين مليئة بالدهشة والصدمة، هربت الكلمات من جوفه فعجز عن الرد عليها، بدا مشتتًا ضائعًا أمام نظراتها العطوفة، مدت يدها لتمسح على صدغه برفق ثم تابعت قائلة بابتسامة باهتة:
-أنا عرفت إنها هنا، عاوزة أشوفها يا “معتصم”!
ارتجفت شفتاه وهو يرد بارتباك:
-بس هي ….
قاطعه والده قائلاً بجدية وبكلمات موحية:
-“معتصم”، احنا سمعنا عن حادثة الموتوسكيل من الدكتور “مصطفى”، وجايين نشوف “آسيا”، فمافيش داعي نفتح في أي مواضيع
حملق فيه ابنه بنظرات غريبة، لكن نظرات والده كانت واضحة للغاية هو لا يريد الخوض في الحديث عن فضيحة الفندق كي لا يثير انزعاج زوجته التي لا تزال تعاني من أثار مرضها، أومأ “معتصم” برأسه قائلاً بتفهم:
-تمام يا بابا!
أردف “مصطفى” قائلاً:
-بأعتذرلكم يا جماعة مش هاينفع حد يشوفها دلوقتي، لما الحالة تستقر!
اعتصر الألم قلب والدتها فردت عليه بحزنٍ:
-للدرجادي بنتي حالتها وحشة
تدارك “مصطفى” الموقف سريعًا قبل أن ينعكس بالسلب على حالتها قائلاً:
-ماتتخضيش يا طنط، بس ده إجراء روتيني!
أضاف “معتصم” بابتسامة مصطنعة:
-ماما وجودنا هنا مالوش لازمة، تعالي نشرب حاجة أو ….
نفس الجملة تتكرر على مسامعها، الابتعاد عن ابنتها ريثما تفيق، لم تنسَ “نادية” ما حدث في المرة الماضية، لذا صاحت مقاطعة بلهجة شديدة:
-مش هامشي يا “معتصم”
انزوى ما بين حاجبيه بقوة وهي تكمل:
-أنا هافضل جمب بنتي حتى لو استنيت برا باب أوضتها، مش هاسيبها تاني أبدًا …………………….. ………… !!!
…………………….. …………………….. ……….يتبع >>>>>>
تخيل أنه يخوض كابوسًا مزعجًا سيفيق منه بعد قليل ليغدو كل شيء طبيعيًا كما اعتاد في حياته الهادئة قبل أن يلقاها، لكن على عكس ما تمنى “معتصم” كان الأمر واقعًا ملموسًا؛ “آسيا” ممددة على الأرضية الإسفلتية غارقة في دمائها ووجهها يختبئ خلف تلك الصبغة المخيفة، ويحاوطها أشخاص غرباء لا يستطيع أن يفسر همهماتهم المتداخلة، حبس أنفاسه مترقبًا انسدال الستار والإعلان عن خبر مشؤوم سيتحمل هو اللوم كليًا عنه، انقطعت أنفاسه وأحس بارتفاع صوت نبضات قلبه في صدره، التدافع يزداد والوجوه تعكس ما يدور، شعر “معتصم” بقبضة قوية تدفعه للخلف، نظر بشرود مصدوم لمن فعل ذلك فوجد أحد المسعفين يريد أن يمر ليتفقدها، انزوى بعيدًا عن الحشد المتكتل حولها غير مدرك لما سيفعله، لأول مرة يفقد قدرته على التصرف في المواقف الصعبة.
عاون “نبيل” المسعفين في رفع “آسيا” على الناقلة الطبية وتولى مهمة الإدلاء عن البيانات الشخصية التي تخصها لأحدهم، استدار برأسه ناحية ابن عمه يسأله بنبرة محتقنة لكنها رسمية للغاية:
-جاي معايا؟
بدا “معتصم” فاقدًا لقدرته على النطق أو التعبير، كان وجهه جامدًا خاليًا من أي تعبيرات تدل على قبوله أو رفضه، نظر له “نبيل” باستياء محبط ثم أضاف بجدية:
-خليك مكانك أنا رايح معاها!
حاول “معتصم” الرد عليه لكنه كان في حالة صدمة، شعر أن الكلمات هربت من على طرف لسانه، بأنه مسلوب الإرادة ومضطرب في الإحساس، تحركت أعينه مع ابن عمه وهو يستقل عربة الإسعاف برفقة “آسيا” ليستفيق بعدها من جموده المريب مدركًا أنه بات بمفرده في الشارع وبعض الأفراد ممن يندبون حظ تلك الشابة التعسة التي ربما لن تنجو من ذلك الحادث الأليم، استوعب ما يدور وعاد إلى أرض الواقع، استجمع نفسه ثم هرول متجهًا نحو سيارته ليستقلها ويتبعهم محاولاً إجبار عقله على التفكير بمنطقية في تلك الظروف العصبية.
……………………..
شهقت بحشرجة مخيفة وهي تنتفض من رقدتها الطويلة مستعيدة وعيها، وكأن قلبها استشعر ما تمر به ابنتها فأجبر عقلها على العمل بكفاءة والنهوض من ذلك السبات العميق، بدأت “نادية” في تحريك جسدها المتيبس بحركات متكررة معلنة عن إفاقتها، هب “وحيد” واقفًا من مكانه بعد أن أغلق مصحفه وأسنده على الطاولة متوجهًا إليها، لم يصدق عينيه وهو يرى بنفسه حركتها المحدودة، تهللت أساريره هاتفًا بسعادة:
-“نادية” حبيبتي، إنتي سمعاني
حاولت نزع الكمامة البلاستيكية التي تمدها بالأكسجين لتقول بصوت خفيض وواهن:
-“آسيا”
لم يفسر زوجها ما تقوله، لكنه احتضن كفها بين راحتيه قائلاً بحماسٍ:
-حمدلله على سلامتك، أنا مش مصدق نفسي والله
التفتت بأعينها المتسعة في توتر لتقول له بجدية شديدة:
-“آسيا”
عقد ما بين حاجبيه مبديًا استغرابه من سؤالها عنها، حافظ على ثبات ابتسامته قائلاً بهدوء كي لا يثير قلقها عليها خاصة بعد أن نما إلى مسامعه ما حدث مؤخرًا من فضائح مخجلة تصدرت الأخبار والمواقع:
-هي كويسة
هزت رأسها بالنفي وهي ترد بصوتها الهامس:
-لأ، قلبي بيقولي لأ
رد بحذرٍ:
-صدقيني هي ….
بتر عبارته مضطرًا حينما انتبه إلى وقع أقدام أحدهم، سلط “وحيد” أنظاره على الممرضة التي ولجت إلى داخل الغرفة لتتأكد من نشاط أجهزتها الحيوية، ابتسمت بمحبة حينما رأت المريضة قد عادت إلى وعيها، وقفت إلى جوار فراشها مرددة بنبرة رسمية:
-حمدلله على سلامة الهانم، أنا هابلغ الدكتور علشان يجي يشوفها
رد عليها “وحيد” بجدية:
-يا ريت يكون بسرعة
-على طول يا فندم
قالتها الممرضة وهي توليه ظهرها لتسير في اتجاه باب الغرفة، ظل متابعًا لحركتها حتى انصرفت من المكان فعاود التحديق في زوجته التي كانت تكافح للنهوض من على الفراش، حذرها قائلاً بتوجسٍ:
-“نادية”، مافيش داعي للحركة الكتير
ردت عليه بنبرتها الواهنة:
-عاوزة أشوف بنتي، هي محتاجاني
بدا “وحيد” حائرًا في التعامل مع إصرارها العنيد، ابتسم مضيفًا بهدوء:
-ماشي، بس نطمن عليكي الأول ولا عاوزة توقعي من طولك تاني
استسلمت أمام جديته، فهي بحاجة لاستعادة نشاطتها لتتمكن من الوقوف على قدميها، على عكسها شرد “وحيد” يفكر مليًا في أكذوبة مقنعة يسردها عليها بشأن ابنتها لتصدقها دون الحاجة إلى أي مبررات، فهي إن عرفت بما صار لها لانهارت فورًا، لم يكن أيضًا على علم بحادث السير المروع الذي تعرضت له مؤخرًا مما سيزيد الأمور تعقيدًا.
……………………..
وضعت بالعناية الفائقة بعد أن أجريت لها عمليات جراحية دقيقة في الأجزاء المصابة من جسدها لمعالجتها في الحال قبل أن تتفاقم حالتها وتدهور للأسوأ، خاصة بعد أن نزفت كثيرًا، منعت الزيارة عن “آسيا” حتى إشعار آخر، جلس “معتصم” على المقعد المعدني الموجود بالرواق محنيًا بجسده للأمام ومسندًا جبينه على كفيه المشبكين معًا، استعاد في ذاكرته مشاهدًا مجمعة لأغلب المواجهات الحامية بينهما، تحديات وصدامات شرسة لم تخلو من الصفعات وتبادل الاتهامات، ومع ذلك لم تنته أيًا منهم بحادث أليم مثل تلك المشاجرة الأخيرة، كان ضلعًا مباشرًا في إصابتها حتى وإن أنكر ذلك، تمنى ألا تكون في وضع حرج وتفيق مما هي فيه ليتغلب على إحساسه بالذنب نحوها، فجزء منه يوبخه على تجاوزه المبالغ فيه معها دون مراعاة لحالتها النفسية السيئة، كان كالأعمى مغيبًا عما تمر به، ومازال على عناده في شأنها، يرفض تصديق براءتها، انتزعه من تفكيره العميق صوت “نبيل” المعاتب بقسوة:
-إنت السبب في اللي جرالها
تجمدت أنظاره عليه فواصل تعنيفه بغلظة:
-لو ماتت ذنبها في رقبتك
مجرد ذلك تلك الكلمة أصابه بالقشعريرة، تحفزت دمائه واعتدل في جلسته مقاومًا شعور تأنيب الضمير الذي يؤرقه منذ وقوع الحادث لها، استطرد قائلاً بصوت شبه متحشرج مدعيًا الهدوء:
-يا ريت ما نتكلمش في الموضوع ده دلوقتي
رد عليه بعنادٍ وهو يشير بسبابته:
-لأ هنتكلم، إنت ظلمتها ولازم تعرف ده كويس
لم يتحمل إلقاء اللوم عليه فدافع عن نفسه قائلاً:
-هي اللي عملت كده في نفسها بفضايحها، أنا لا هاكون أول واحد ولا أخر واحد يواجهها بمصايبها، كان لازم تعرف هي إيه بالظبط
اغتاظ “نبيل” من كونه يخلق الأسباب ليريح نفسه حتى لو كانت مخطئة، هتف بحدةٍ غير مكترث بارتفاع نبرته وبوجوده في المشفى:
-مين إنت علشان تحاسبها ولا تحكم عليها؟ مجرد ابن جوز أمها، يعني ملكش صلة قرابة مباشرة معاها
توتر “معتصم” من التفات الأنظار نحوهما فهب واقفًا من جلسته الغير مسترخية ليرد وهو يضع يده على كتف ابن عمه:
-خلاص نتكلم بعدين!
أزاح الأخير قبضته بعيدًا عنه ثم رد بإصرار أشد عنادًا:
-مافيش بعدين، خلينا نتكلم بصراحة، واحدة اتحرمت من حنان أمها لسنين، وشافت حد تاني أخد كل حاجة طبيعي لازم تكرهه وتعاديه، وإنت كنت الواحد ده، لو كنت مكانها كنت هتصرف إزاي؟
قست ملامحه قائلاً:
-إنت بتدورلها على مبررات وخلاص يا “نبيل”، بلاش تكون على نياتك كده، محدش قالها تبقى صايعة وفضايحها على كل لسان، محدش قالها ترمي نفسها في حضن اللي يدفع تمنها
احتدت نظراته من أسلوبه المستفز ثم تابع بغلظة:
-وإنت إتأكدت من ده ولا مجرد ترديد للكلام اللي بنقراه ونسمعه؟!!!
تحدث قائلاً من زاوية فمه:
-مش محتاج أتأكد، كلها على بعضها بيقول إنها كده، أنا فاهمها كويس!
يئس “نبيل” منه فرد بإحباط:
-بجد إنت تركيبة عجيبة، عمرك ما كنت كده، بالعكس إنت محترم جدًا مع البنات وبتعاملهم كويس
نظر له شزرًا وهو يرد:
-لما يكونوا محترمين، غير كده أنا ……
قاطعه الطبيب “مصطفى” قبل أن يكمل جملته مرددًا بنبرة جادة للغاية وهو يدنو منهما:
-“معتصم”!
استدار برأسه نحوه هاتفًا:
-“مصطفى”
سأله “نبيل” بتلهفٍ وقد تضاعف توتره بداخله:
-طمنا إيه أخبار “آسيا”؟ محدش هنا عاوز يقول حاجة عن حالتها!
بدا وجهه مشدودًا إلى حد ما وهو يجيبه:
-مخبيش عليكم، وضعها كان سيء أول ما جت، بس عشمنا في الله إنها تفوق وتتجاوب مع العلاج
انقبض قلب “معتصم” رغم ثباته الوهمي أمام الاثنين، للحظة اعتقد أنها ستقضي نحبها، وأنه الطرف الرئيسي في إلقاء حتفها، بينما تساءل “نبيل” بقلقٍ:
-في حاجة خطيرة عندها؟
حرك “مصطفى” رأسه نحوه قليلاً ليرد بأسف:
-ارتجاج في المخ، كسر في الساق اليسري، وتهتك في جانب الحوض الأيسر، ده غير الخلع اللي في الكتف، وللأسف حصل تمزق في بطانة الرحم وتم خياطته وده ممكن يأثر على عملية الحمل في المستقبل
كان “معتصم” كمن أصيب بالصاعقة عندما سمع ملخصًا موجزًا لوضعها الصحي، تجمد في مكانه وحدق في وجه صديقه مصدومًا، لم يتوقع أن تكون حالتها على تلك الدرجة من الخطورة، والأسوأ من ذلك احتمالية حرمانها من إحساس الأمومة إن قُدر لها أن تتزوج، على عكسه كان ابن عمه في حالة تأثر واضحة، تمتم بحسرةٍ كبيرة:
-يا ساتر يا رب
ساد الصمت لثوانٍ بين ثلاثتهم حتى قطعه “معتصم” بجمود زائف:
-طب هي هتفوق امتى؟
أجابه “مصطفى” بروتينية:
-لسه مش عارفين
كانت المفاجأة الأكبر التي جذبت أنظارهم لبداية الرواق هو رؤية ثلاثتهم لـ “نادية” تسير مستندة على ذراع زوجها، اعتلت تعابير “معتصم” دهشة عجيبة، فمنذ سويعات كانت راقدة في فراشها تنازع للبقاء على قيد الحياة، والآن هو يراها مستعيدة لوعيها وتمشي بتؤدةٍ (ببطء)، التفت نحو ابن عمه يبادله نظرات مدهوشة، ثم عاود التحديق بها، ارتسمت ابتسامة سعادة على وجهه العابس مرددًا:
-ماما
هرول نحوها ليحتضنها باشتياق كبير، نسي مع ضمتها ما يمر به من ضغوطات عصيبة، ظل باقيًا في أحضانها متنعمًا بدفئه الحنون، همس لها بنبرة شبه مختنقة:
-حمدلله على سلامتك!
مسدت على رأسه ومسحت على ظهره برفق ليتغمده إحساس مطمئن أصابه بالسكينة، لكنها سريعًا أعادته لمرارة الأحداث حينما سألته بتلهفٍ:
-فين “آسيا”؟
شعر بغصة عالقة في حلقه، بوقع قسوة سؤالها البسيط على نفسه، تراجع عنها ليحدق فيها بأعين مليئة بالدهشة والصدمة، هربت الكلمات من جوفه فعجز عن الرد عليها، بدا مشتتًا ضائعًا أمام نظراتها العطوفة، مدت يدها لتمسح على صدغه برفق ثم تابعت قائلة بابتسامة باهتة:
-أنا عرفت إنها هنا، عاوزة أشوفها يا “معتصم”!
ارتجفت شفتاه وهو يرد بارتباك:
-بس هي ….
قاطعه والده قائلاً بجدية وبكلمات موحية:
-“معتصم”، احنا سمعنا عن حادثة الموتوسكيل من الدكتور “مصطفى”، وجايين نشوف “آسيا”، فمافيش داعي نفتح في أي مواضيع
حملق فيه ابنه بنظرات غريبة، لكن نظرات والده كانت واضحة للغاية هو لا يريد الخوض في الحديث عن فضيحة الفندق كي لا يثير انزعاج زوجته التي لا تزال تعاني من أثار مرضها، أومأ “معتصم” برأسه قائلاً بتفهم:
-تمام يا بابا!
أردف “مصطفى” قائلاً:
-بأعتذرلكم يا جماعة مش هاينفع حد يشوفها دلوقتي، لما الحالة تستقر!
اعتصر الألم قلب والدتها فردت عليه بحزنٍ:
-للدرجادي بنتي حالتها وحشة
تدارك “مصطفى” الموقف سريعًا قبل أن ينعكس بالسلب على حالتها قائلاً:
-ماتتخضيش يا طنط، بس ده إجراء روتيني!
أضاف “معتصم” بابتسامة مصطنعة:
-ماما وجودنا هنا مالوش لازمة، تعالي نشرب حاجة أو ….
نفس الجملة تتكرر على مسامعها، الابتعاد عن ابنتها ريثما تفيق، لم تنسَ “نادية” ما حدث في المرة الماضية، لذا صاحت مقاطعة بلهجة شديدة:
-مش هامشي يا “معتصم”
انزوى ما بين حاجبيه بقوة وهي تكمل:
-أنا هافضل جمب بنتي حتى لو استنيت برا باب أوضتها، مش هاسيبها تاني أبدًا ……………………..
……………………..