رواية (المحترم البربري)
(المحترم البربري)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
الفصل الثاني
بغرورٍ وتعالٍ اكتسبته من والدها الفظ ذو الطبائع الحادة والأفعال الصارمة، عقدت العزم على أخذ حقها بنفسها، حتى وإن كان ممن ظنت يومًا أنهم الأقرب إليها، فهي الملامة الأولى والأخيرة فيما وصلت إليه أمور عائلتها من تشتت وغربة وأمور أخرى لا تحب تذكير نفسها بها، تنفست “آسيا” بعمق وهي ترفع ذراعها لتقرع الجرس، تأهبت جيدًا لمواجهتها الشديدة معها، ضبطت من وضعية نظارتها القاتمة أعلى رأسها، ارتدت قناع القسوة والشراسة وهي تحدق في وجه الخادمة التي فتحت لها الباب، سألتها الأخيرة بهدوء جاد:
-أيوه يا فندم
نظرت لها “آسيا” باستعلاء أشعرها بالاحتقار وهي تسألها بنبرة جافة:
-مدام “نادية” موجودة؟
انزعجت الخادمة من أسلوبها الفظ في إشعارها بالدونية والوضاعة من مجرد نظرة مطولة، وخاصة أنها تعامل بودٍ من عائلة المصري، ابتلعت مرارة الإهانة لتجيبها بابتسامة صغيرة:
-لا يا هانم، هي…..
لم تصغِ إلى باقي جملتها حيث دفعتها من كتفها بقوة لتمرق إلى الداخل متجاوزة الأعراف والتقاليد المتبعة في استقبال الضيوف بذلك المنزل، احتجت عليها الخادمة قائلة بضيق:
-يا هانم مايصحش اللي بتعمليه ده، قولتلك “نادية” هانم مش موجودة، و….
التفتت ناحيتها “آسيا” لترمقها بنظرات أكثر شراسة أجفلت بدن الأخيرة وجعلتها ترمش بعينيها بتوتر ملحوظ، قاطعتها بصيغة آمرة مشيرة لها بسبابتها:
-تتصلي بيها تيجي هنا فورًا
اغتاظت الخادمة من طريقتها التحكمية بها وكأنها ربة عملها وليست السيدة “نادية” ذات الأخلاق الدمثة والصفات المحببة للجميع، تعاملت معها على قدر المستطاع بمهنية وبودٍ كي لا تضع نفسها في موقف حرج، فربما تكون على صلة وثيقة بسيدتها، ردت بحذرٍ عليها:
-حضرتك أنا….
قاطعتها من جديد بلهجة أكثر قوة لا تقبل بالنقاش:
-اللي قولتله يتنفذ، وإلا هاعمل حاجات تخلي اللي مشغلاكي تندم إنها مقابلتنيش!
خافت الخادمة من أسلوبها المهدد، واضطرت مرغمة أن تمتثل لأوامرها، راقبتها “آسيا” وهي تبتعد عنها لتبدأ في تأمل المكان الذي ولجت إليه بنظرات شمولية دارسة لكل جزئية فيه، كان المنزل فخيمًا يحتل طابقين متتاليين من البناية يتصلان ببعضهما عن طريق سلم داخلي، احتوى على أثاثٍ مصممٍ على أحدثِ طراز، تناسقت ألوانه مع طلاء الجدران، أكملت خطاها بثباتٍ نحو الداخل متأملة بقيته بتأنٍ، وجدت ردهة متسعة بها صالونًا كلاسيكيًا من اللون الذهبي معدًا لاستقبال الضيوف، تقوس فمها بابتسامة تهكمية وهي تحرك عينيها بعيدًا عنه.
مرت كذلك سريعًا بعدة أرائك مريحة من الطراز الحديث أو ما يعرف بالـ “مودرن” يتم استخدامهم في مشاهدة التلفاز والتجمع الودي بين أفراد العائلة لتقترب من شيء لفت انتباهها، تجمدت تعبيرات وجهها واحتقنت أعينها بحمرةٍ ملتهبة حينما وقع بصرها على تلك الصورة الفوتوغرافية الكبيرة التي زينت أحد الجدران، قست ملامحها مع رؤيتها لوجه السيدة البشوش التي تقف خلف رجل وقور جالس على مقعد خشبي عريض المسندين يشبه ما يوضع خلف المكاتب الفخمة، لم تهتم بباقي تفاصيل الصورة، فحدقتاها ظلت مركزة على وجهها فقط، عكس ذلك البريق المنبعث منهما غلاً واضحًا ممتزجًا بغضبٍ مستعر، كزت على أسنانها هامسةٍ بوعيد:
-ده اللي بعتينا عشانه!
كانت حواسها بالكامل منصبة على إبراز حقدها نحو تلك المرأة، فلم تشعر “آسيا” بالحركة الدائرة من خلفها حيث انتهى “معتصم” من ارتداء ثيابه وخرج من غرفته متجهًا نحو الصالة، زكم أنفه ذلك العطر الأنثوي القوي الغير مألوف عليه، تلفت برأسه باحثًا عن مصدره، تباطأت خطواته مع رؤيته لانعكاس ظل أحدهم من على بعد، ضبط ياقته وهو يدنو نحوه، اعتلت الدهشة تعبيراته وارتفع حاجبه للأعلى مبديًا تعجبه من تلك التي توليه ظهرها، تحركت حدقتاه ببطء متأملة رشاقة جسدها المنحوت الذي برز بإغراء أربكه للحظة من أسفل ثوبها الأسود القصير، بالطبع أثار اهتمامه شعرها الأسود المعقود كذيل حصان يتدلى فوقه بطريقة منمقة للغاية، انخفضت نظراته تتأمل ساقيها الطويلتين اللاتين تضاعفا جمالهما مع كعبها العالي، اعتصر عقله محاولاً تذكر من هي، فربما التقاها مسبقًا لكن لم تسعفه ذاكرته، ازدرد ريقه وهو يتنحنح بخشونة ليلفت انتباهها لوجوده، لكنها ظلت متسمرة على وضعيتها تلك، انزعج من تجاهلها له، فخطا نحوها وهو يسعل بصوت مسموع ليتأكد تلك المرة من سماعها إياه، وببرود معتاد منها حينما تتعامل مع أمثال الرجال الذين يكررون نفس الحركة للفت انتباهها إليهم أدارت وجهها بتمهلٍ نحوه.
رأت “آسيا” شابًا فتي العضلات تظهر وسامته الممتزجة بأناقته الواضحة يطالعها بنظرات فضولية تستفسر عن هويتها دون حاجته للنطق بذلك، استطرد “معتصم” حديثه متسائلاً بابتسامة صغيرة:
-مين حضرتك؟
تأمل حدقتيها اللاتين كانتا غريبتين بسبب تلك العدسات اللاصقة التي تضعها عليهما فبدت كمن توشك على سحر من يتطلع إليها بتعويذة منهما، خرج صوته مترددًا وهو يتابع:
-أنا أول مرة أشوفك هنا، أنا أعرفك
بدت كمن تفضلت عليه بالرد وهي ترمقه بنظرة جليدية من برجها العاجي قائلة:
-لأ
استفزته نظراتها المتعالية نحوه وكأنه شخص حقير تجرأ عليها، بل إنها أشعرته بنظرة واحدة فقط أنه لا يرقى أبدًا للحديث إلى مثيلاتها من مرتدي قناع الغرور والغطرسة، سحب نفسًا مطولاً نفثه من أنفه متسائلاً بانزعاج:
-ممكن أعرف الهانم مين وعاوزة إيه بالظبط؟
عاودت التحديق في الصورة الفوتوغرافية وهي تكتف ساعديها لترد بسؤال صريح بنبرة تضمن في طياتها إهانة خفية:
-فين “نادية”؟
استثارت أعصابه على الفور من تجريد أحب الأشخاص إلى قلبه من أبسط الألقاب التي تضفي عليها وقارًا واحترامًا، صاح بلا وعي وهو ينهرها بعنف ومهددًا بسبابته:
-اتكلمي عن أمي عدل، إنتي سامعة!
تجاهلت عصبيته البائنة في نبرته واستمرت في التحديق ببرود للصورة، رأى “معتصم” تلك الابتسامة الساخرة التي تشكلت بقوة على ثغرها مما حقن دمائه سريعًا بغضبٍ مبرر، ضرب بيده فجأة بعنف على الحائط لتنتفض في وقفتها، تعقدت ملامحها وهي تستدير نحوه ترمقه بنظرات أكثر حدية، كز على أسنانه يسألها بغيظ:
-ردي عليا، إنتي مين؟
استعادت سريعًا ثباتها أمامه، لم تهتز من انفعاله الرجولي الذي يحاول إظهاره لها، وضعت “آسيا” يدها على منتصف خصرها، ثم أومأت بحاجبها قائلة بثقة بثت في نفسه القلق وقد عادت ابتسامتها المريبة للطفو على صفحة وجهها:
-أنا اللي جاية أخرب عليها حياتها!
انقبض قلبه بقوة من كلماتها التي بدت كالطلقات النارية المباغتة في صدره والتي أصابته في مقتل، شخصت أبصاره مفزوعًا من تهديدها الصريح، لم يمضِ عليه أكثر من ثوانٍ ليستوعب الأمر خاصة مع ابتسامتها التي زادت من استفزازه، غلت الدماء في عروقه واندفعت بقوة إلى جميع خلايا جسده تحفزه على الانقضاض عليها دون إبداء ذرة ندم واحدة، قبض على ذراعها متعمدًا غرز أظافره في لحم عضدها ليؤلمها وهو يصرخ بها:
-إنتي اتجننتي؟
هزها بعنف مواصلاً صراخه المهتاج:
-مين إنتي علشان تعملي كده فيها؟ فكرك أنا هاسمح لحد زيك يقرب منها ولا يمسها!
كركرت ضاحكة رغم ذلك الألم الذي يسببه لها ليستشيط غضبًا أكثر منها، توقفت عن الضحك لترد ببرود أتقنته:
-ولا تقدر تعمل حاجة!
أمسك بها من ذراعها الأخر مشددًا قبضتيه عليها، استمر في هز جسدها بعنف مشعرًا إياها بقدرته على إنهاء مثيلاتها ممن يتجرأن على المساس بفردٍ من عائلته الغالية، هدر بها بقسوةٍ:
-إنتي متعرفيش أنا مين
شحذت قواها لتتخلص من يديه القابضتين عليها مقاومة إياه قدر المستطاع قائلة بتحدٍ سافر غير مبالية بتبعات ما تتفوه به مع شخص على شفا حفرة من الانفجار:
-ولا تفرق معايا، أنا حسابي مع “نادية” وبس
لم يتحمل المزيد من ازدرائها لها، هي نجحت في إيصاله لذروة غضبه، أرخى يده ليباغتها بصفعة قوية على وجنتها طبعت فيها أصابعه على بشرتها البيضاء بوضوح، بدت كالصنم وهي تتلقاها فلم تهتز ولم تضعف، فقط احتقنت نظراتها واشتعلت بشررٍ مستطرٍ، استأنف تهديده العدائي لها قائلاً:
-قبل ما تفكري تلمسي شعرة منها هاتكوني ميتة
رفع يده ليجذبها من شعرها الأسود فشعرت به يكاد يقتلعه من جذوره، ضغطت على شفتيها بقوة مانعة نفسها من التأوه وإظهار ألمها أمامه، هي لم تتوقع أن يواجهها شخصًا مثله، كانت آمالها معقودة على المواجهة العنيفة مع من تبغضها، وليس مع ذلك الغريب، ورغم ذلك عمدت إلى عدم الظهور بمظهر الضعف والخذلان في مقابل قوته الذكورية والجسمانية التي ظهرت بوضوح معها، لن تمنحه حتى الفرصة لاستضعافها رغم عدم كونها في موقف قوة، جرجرها خلفه منكسًا رأسها بطريقة ذليلة نحو باب المنزل صارخًا بها:
-بـــرا!
زادت حدة الألم فانفرجت شفتاها لتخرج أنينًا موجوعًا بحق، أدار المقبض لينفتح الباب ثم دفعها بكامل قوته للخارج لتفقد اتزانها وتطرح أرضًا، ارتطم جسدها بشراسة عنيفة بالأرضية الصلبة فتألمت عظامها خاصة رسغيها اللذين تحاملت عليهما كثيرًا، تحجرت الدمعات في عينيها الملتهبتين غضبًا وهي ترفع رأسها نحوه، ردت بعزة نفس محدجة إياه بنظراتها المميتة:
-وماله، بس خليك فاكر “آسيا شرف الدين” هاتحرقكم قبل ما تموتوها
صفق الباب في وجهها بقوة متجاهلاً تهديدها العلني وهو يلعنها بكلمات نابية سمعت أغلبها من خلف الباب الموصود، تحاملت على نفسها لتنهض من رقدتها المتألمة كاتمة ما يعتريها من آلام شديدة، سارت بخطوات شبه عرجاء نحو المصعد وهي تمنع نفسها من ذرف العبرات، هي فقط لم تتخذ حذرها معه لذلك لا داعي للبكاء أو النحيب، سترد له الصاع صاعين إن أتت لها الفرصة، عليها فقط أن تركز الآن في هدفها الهام، إفساد حياة أمها.
……………………..
لم تستطع الدماء أن تحط في عروقه بعد ما سمعه منها من تهديدات تكاد تطال من أفنت عمرها في تربيته، من منحته الحنان والعاطفة الأمومية المضاعفة، ذرع “معتصم” غرفته ذهابًا وإيابًا محاولاً السيطرة على انفعالاته المهتاجة، كان الأمر عويصًا عليه، تمتم من بين شفتيه بغضبٍ شديد:
-بنت الـ ……..، أكيد حد مسلطها علينا، مش هاسمحلها تأذي أمي!
دقت الخادمة باب غرفته تسأله بقلق وقد رأت حالته المهتاجة وما دار من شجار عنيف مع تلك الغريبة:
-“معتصم” بيه أجيب لـ….
قاطعها بحدة وهو يأمرها مشيرًا بسبابته:
-مش عاوز حد يكلمني السعادي
هزت رأسها بالإيجاب متفهمة سبب عصبيته وهي تقول بخنوع:
-حاضر
صاح بها بصيغة آمرة استوقفتها:
-استني
تابع مضيفًا بصوتٍ شبه لاهث:
-لما ترجع ماما من برا عرفيني
-حاضر يا فندم
قالتها وهي توصد الباب خلفها ليواصل “معتصم” التنفيس عن غضبه بالتحرك بعصبية في غرفته، شعر بالاختناق وبعدم قدرته على التصرف بعقلانية، حثته خلاياه على التصرف ببدائية بربرية مع تلك الحقيرة، القتل يعد بالنسبة لها ميزة لا تستحقها، انتزع رابطة عنقه وألقاها على الفراش، كذلك خلع سترته وشمر عن ساعديه ليبدأ بعدها في ممارسة رياضة الضغط كوسيلة للتفريغ عن الشحنة الغاضبة المتأججة بداخله، توقف عما يفعل حينما سمع صوت ضحكة “نادية” يصدح بمرح بالخارج، نهض سريعًا من مكانه واندفع كالثور الهائج متسائلاً بعصبية غير مفهومة بالنسبة لها:
-ماما
نظرت له بغرابة متأملة ذلك العرق الغزيز الذي يغرقه وتلك الحمرة الظاهرة على وجهه، سألته بتلهف وهي تقترب منه لتضع يدها على صدغه:
-مالك يا حبيبي، إنت تعبان؟ فيك حاجة؟
سألها بصوته المتشنج وهو يجاهد لكبت انفعاله:
-إنتي كويسة؟
-أه يا “معتصم”، بس مال شكلك؟ في حاجة حصلت في الشغل؟
تنفس الصعداء لكون تلك المقيتة لم تتعرض لها بأذى، بدأت ثورته في الهدوء تدريجيًا، لكنه أثارت فضول “نادية” لسؤاله بتوجسٍ:
-“معتصم” رد عليا، حد جراله حاجة؟ ماتخلنيش أفضل قلقانة كده
رد بهدوءٍ حذر وهو يتصنع الابتسام:
-مافيش حاجة خالص، اطمني
-بس إنت….
أمسك بكفي يدها ليرفعهما إلى فمه، طبع قبلة صغيرة على كلاهما قائلاً بوداعة تناقض همجيته قبل برهة:
-يا ماما أنا تمام، ماتقلقيش عليا
رمقته “نادية” بنظراتها الحانية وهي تسحب يديها من كفيه لتربت باليمنى على صدغه برفقٍ، أتت الخادمة تقول بعفوية لم يضعها “معتصم” في الحسبان:
-“نادية” هانم، في واحدة جت سألت على حضرتك
شحب لون وجهه على الأخير وهو يلتفت بنظره نحو الخادمة يرمقها بغضب لتهورها الأهوج، تساءلت “نادية” بفضولٍ:
-مين دي؟
هزت كتفيها بالنفي قائلة:
-معرفش يا هانم، بس “معتصم” بيه كان….
قاطعها هاتفًا بقسوة:
-خلاص روحي إنتي شوفي شغلك!
جمدت “نادية” أنظارها على وجهه الذي بدا مريبًا، استشعرت وجود خطب ما يخفيه عنها، سألته بقلقٍ ظاهر في نبرتها:
-مين دي يا “معتصم”
نكس رأسه بتردد، لم يرغب في البوح لها بما صار في غيابها، استمرت في ملاحقته بأسئلتها قائلة:
-إنت عارفها يا ابني؟
أجابها بامتعاض وهو ينظر إليها بحذرٍ:
-لأ، دي أول مرة أشوفها، بس قالت إن اسمها ….
بتر عبارته متمنيًا في نفسه ألا يسبب الإفصاح عن هويتها بما لا يُحمد عقباه، أصغت “نادية” لكل كلمة يقولها باهتمام واضح على تعبيرات وجهها ونظراتها إليه، اتسعت حدقتاها برعبٍ مصدوم، وشعرت بأنفاسها تنقطع عن رئتيها حينما تابع قائلاً:
-“آسيا شرف الدين” ……………………..
……………………..