رواية (المحترم البربري)
الفصل الرابع عشر
…………………
تحسست قلبها النابض فشعرت به يقفز بين ضلوعها، لم تكن وهمًا أو حلمًا عابرًا من نسج خيالها، إنها حقيقة تراها بأم أعينها، أسرعت “نادية” في خطاها نحوها وغريزة الأمومة تحركها بكل حماسٍ، نسيت ما بها من أوجاع، وما قيل من قبل من فضائح تخصها وركزت فقط على كونها قد وصلت إلى ابنتها أخيرًا، وما إن اقتربت مسافة لا بأس بها منها حتى صاحت عاليًا لتلفت انتباهها:
-“آسيا”، بنتي!
تصلب جسد الأخيرة من تلك الكلمات المقتضبة، لوهلة ظنت أنها تتوهم ذلك الأمر، لكن تكرر النداء بنفس النبرة المليئة بالحنان والحزن، التفتت برأسها نحو صاحبته لتتأكد فعليًا من وجودها، بدت مذهولة وهي تتأمل تلك التي تطالعها بنظرات تعكس تلهفًا واشتياقًا كبيرًا، كانت المرأة الواقفة على مقربة منها تطابق الصورة التي رأتها مسبقًا في منزل والدتها، إنها بالفعل هي، وفي أقل من ثانية هاجت الدماء في شرايينها وتدفقت بغزارة في كافة خلايا جسدها محفزة غضبها نحوها، رسمت “نادية” ابتسامة ناعمة على وجهها الحزين وهي تدنو منها لتقول بعدها بعاطفة نابعة منها:
-“آسيا”، أنا مامتك!
تلك الكلمة التي بغضتها لكونها تذكرها بما مرت به من آلام وشعور بالوحدة، أخفت “آسيا” حنقها ببراعة لتحدق فيها بنظرات مطولة، تخشبت أصابع يدها على الكأس الممسكة به، ظلت تضغط عليه بلا وعي مفرغة فيه ما يعتريها حاليًا من شحنات غضب متأججة فلم تشعر به يتهشم بين أناملها، انتفضت “نادية” فزعًا في مكانها هاتفة بتخوفٍ:
-خدي بالك يا بنتي!
لم تكترث “آسيا” للجرح النازف في راحة يدها، بل يمكن القول بأنها لم تشعر بالألم مطلقًا، أخفضت رأسها لتنظر له بغضبٍ مبرر، أخرجت من حقيبتها منشفة ورقية لتوقف نزف الدماء، اقتربت منها والدتها واضعة يدها على ذراعها فنظرت لها “آسيا” كالملسوعة، أبعدت يدها عنها وهي تحدجها بنظرات نارية، ازدردت “نادية” ريقها مستشعرة نفورها الواضح منها، كتمت ضيقها من تصرفها الجاف معها، وبررت لنفسها بأنها لديهل كل الحق لتحزن منها، حاولت أن تلطف الأجواء بينهما فاستطردت قائلة بودٍ:
-أنا بأدور عليكي من زمان
ظنت “آسيا” أنها ستثور فيها فور أن تراها، ستقبض على عنقها وربما تخنقها بأيدٍ عارية دون إبداء ذرة ندم واحدة أو حتى ذرف عبرة واحدة حسرة عليها، ستفعل ما تعهدت لنفسها به منذ نعومة أظافرها، لكنها عجزت عن مواجهتها، هربت الكلمات من على لسانها، فقدت النطق مجازًا، تفاجأت بذلك الإحساس العاجز الذي تملكها، بدت مشلولة التفكير مسلوبة الإرادة أمام تيار الحنان المتدفق منها، تجمدت أعينها عليها مراقبة ردة فعلها الطبيعية نحوها، تخيلتها مثلها قاسية، جاحدة، متكبرة، متعالية، ساخطة، بل وأسوأ بكثير، لكنها وجدت فيها ملامح الأم الطيبة الحنون التي تملأ روحك بالسلام والطمأنينة لمجرد التطلع إلى وجها والظفر بابتسامة رضا من على شفتيها، استنكرت خذلان نفسها بعد ما تدربت مرارًا وتكرارًا على تلك المواجهة المصيرية، أحست بالفشل الذريع، بذهاب كل شيء سدى، بأنها اقترفت خطئًا حينما ظنت أنها قادرة على الانتقام، منحتها نظرة أخيرة تحمل كرهًا مكتومًا قبل أن تعلق حقيبتها على كتفها وتنسحب هاربة من المكان لتخفي ضعفها المخزي، صدمت “نادية” من ردة فعلها بعد أن توقعت عتابًا شديد القسوة، لحقت بها لتستوقفها وهي ترجوها:
-بتهربي مني ليه يا بنتي؟ أنا مصدقت لاقيتك
صرخت فيها الأخيرة بلا وعيٍ:
-دلوقتي بس ظهرتي في حياتي؟ دلوقتي جاية تقوليلي بنتي؟!
-أنا ….
قاطعتها بانفعال غاضب وقد تسللت العبرات إلى مقلتيها:
-ولا كلمة، مش عاوزة أسمع حاجة، ابعدي عني!
تلفتت “نادية” حولها بتوتر مراقبة ردة فعل المتواجدين، خشيت أن يظن أحدهم وجود خطب ما أو شجار ما بينهما، فيفسد محاولتها للتودد إليها، لذا وضعت يدها على كتفها قائلة بصوتٍ شبه مختنق:
-تعالي نتكلم بعيد عن هنا وأنا هافهمك كل حاجة يا “آسيا”
نفضت يدها بعيدًا عنها صائحة بنبرة مهتاجة:
-تفهميني إيه بالظبط؟
ردت بصوتٍ شبه لاهث:
-الحقيقة!
صاحت فيها “آسيا” متسائلة بسخطٍ:
-أنهو حقيقة بالظبط؟!
أجابتها بصوتها المهتز:
-اللي باباكي خباها عليكي وفهمك إني السبب و….
قاطعتها صارخة وهي تشير لها بيدها محذرة إياها من الاقتراب منها أو تلمس جسدها:
-أنا مش محتاجة أعرف حاجة منك عشان أفهم، أنا مريت بأسوأ ما تتخيلي، وبصي شوفي بقيت إيه، وإنتي عايشة هنا في سعادة وسط ابنك وجوزك!
-يا “آسيا” إنتي غلطانة، باباكي خطفك مني و….
-بلاش أعذار فارغة، إنتي لو كنتي عاوزة توصليلي كنتي عرفتي، بس إنتي نستيني ببساطة وكملتي حياتك عادي
قالت جملتها الأخيرة وهي تسرع في خطواتها لتبتعد عنها، هرولت “نادية” خلفها محاولة اللحاق بها وهي تقول:
-ماتظلمنيش، إديني فرصة أدافع عن نفسي
توقفت عن السير لتستدير كليًا نحوها ثم صرخت بها تسألها:
-وأنا مين كان إداني فرصة أختار حياتي؟
تحركت “نادية” لتقف قبالتها متابعة رجائها:
-اهدي طيب وخليني أشرحلك الظروف وإنتي احكمي عليا!
رمقتها بنظرة ناقمة على كل شيء وهي ترد بإحباط:
-هايفرق في إيه لما تحكي؟ هترجعي الزمن تاني لورا وتعوضيني عن اللي فات؟
ردت عليها والدتها بيأسٍ:
-لو أقدر هاعمل كده
نظرت لها “آسيا” بكرهٍ كبير وهي تقول ساخرة:
-ارجعي لحياتك السعيدة يا “نادية” هانم وانسيني زي زمان، كانت غلطة لما فكرت أرجع من الأول هنا
اعترضت والدتها طريقها قائلة باستنكار وراسمة على فمها ابتسامة صغيرة:
-دي أحسن حاجة عملتيها إنك رجعتي يا بنتي، إنتي مش متخيلة فرحتي بيكي وأنا شيفاكي قصادي عاملة ازاي
توهجت نظراتها بحنق حاقد وهي تنهرها قائلة:
-بطلي نفاق وكدب
انزعجت “نادية” من عدم تصديقها لها، ومع ذلك حافظت على هدوء نبرتها وهي تستعطفها:
-لأ يا بنتي، دي الحقيقة، ولازم تصدقيها
منحتها “آسيا” نظرة غاضبة قبل أن توليها ظهرها لتكمل سيرها المتعجل نحو الجراج، تبعتها “نادية” تسترق قلبها:
-استني يا “آسيا”، أنا مش هاسيبك النهاردة، أنا مامتك ومن حقي عليكي تعرفي اللي حصل
توقفت الأخيرة أمام سيارتها لتصرخ بها بعصبية:
-ابعدي عني، أنا ماليش أم
صدمت “نادية” من إنكارها لذلك الرابط الغريزي بينهما، قرأت في عينيها رفضًا صريحًا لمنحها أي فرصة للغفران والسماح، راقبتها وهي تستقل سيارتها، كانت أمام خيارين لا ثالث لهما، أن تتركها ترحل وتفقد الصلة معها للأبد، أو أن تفرض نفسها عليها وتذهب معها جبرًا حتى لو كانت ذاهبة إلى الجحيم، حسمت أمرها وقررت أن تفعل ما أملاه عليها قلبها الموجوع، فتحت باب السيارة وركبت إلى جوارها قائلة بإصرار:
-أنا جاية معاكي!
التفتت “آسيا” نحوها ترمقها بنظرة حادة من طرف عينها، قبضت على المقود بكلتا يديها متجاهلة دمائها التي امتزجت بجلد المقود، ثم ضغطت على دواسة البنزين لتنطلق بالسيارة وهي تفكر في كيفية التخلي عن ضعفها لتنتقم بشراسة ممن أنجبتها وأتت بها لتلك الحياة القاسية.
……………………..
بحث كالمجنون عنها في كل المناطق التي من الممكن أن تتواجد بها بداخل النادي بعد أن طال غيابها، ومع ذلك لم يجدها، حاول الاتصال بها، لكن للأسف لا استجابة على الإطلاق، انتاب “وحيد” حالة من القلق على زوجته، خشي أن تكون قد أصيبت بمكروه ما أو تعرضت للأذى وهو يجهل بذلك، انقبض قلبه لمجرد التفكير في هذا الأمر بتلك الصورة المأساوية، عاود الاتصال بها، ولا جديد يُذكر، قرر أن يهاتف ابنه “معتصم” الذي اختفى هو الأخر في ظروف غريبة، وجد صعوبة في الوصول إليه، حدث نفسه بانفعال طفيف:
-رد يا “معتصم”، ده مش وقت تختفي فيه خالص!
بدا “وحيد” حائرًا وهو يقف بمفرده وسط أقربائه محاولاً إخفاء توتره وفي نفس الوقت الوصول إلى ابنه على الأقل ليعاونه في البحث عن “نادية” دون إثارة قلق وريبة الضيوف المتواجدين.
……………………..
على الجانب الأخر، كان “معتصم” يقف مستندًا بظهره على مقدمة سيارته، شرد أمامه يفكر فيما قاله “سامر” عن “آسيا”، ود لو قطع كل صلة بها كي لا تحترق أعصابه من تصرفاتها المسيئة، اشتدت تعابير وجهه واحتقنت حدقتاه، كان يقاوم رغبات مُلحة بداخله تدفعه للتصرف بهمجية، بالثورة والغضب، بالانفعال والثأر، كان الأسلم له وسط ذاك الكم الهائل من الضغوطات العصيبة والمستفزة أن يبتعد، نأى بنفسه عن الجميع وأثر أن يقف منفردًا في تلك البقعة الخاوية من أي روح، ترك للنسمات القليلة الباردة تهدئة نفسه المشحونة بكل مقومات الغضب، وما إن هدأ نسبيًا حتى عاود التطلع إلى هاتفه المحمول، وجد عدد لا بأس به من المكالمات الفائتة من والده، قطب جبينه متعجبًا، تنفس بعمق قبل أن يهاتفه، تساءل بفتور ملحوظ ما إن سمع صوته:
-أيوه يا بابا
سأله “وحيد” بتلهفٍ:
-إنت فين؟
رد عليه متسائلاً بجمود قليل:
-هو في حاجة؟
أجابه أباه بهلع استشعره بقوةٍ:
-مامتك مش لاقيها يا “معتصم”!
انتصب الأخير في وقفته مرددًا بذهول صادم وعقله يبذل قصارى جهده لاستيعاب الأمر وتفسيره:
-نعم
تابع والده موضحًا:
-دورت عليها في كل مكان في النادي ومالهاش أي أثر!
شحب لون وجهه متسائلاً بتوتر مضاعف:
-يعني إيه الكلام ده؟
رد عليه “وحيد” بما كان يخشى سماعه:
-يعني مامتك اختفت واحنا مش عارفين
اتجه “معتصم” سريعًا نحو سيارته، استقلها قائلاً بجدية شديدة وقد توترت كافة تعابيره:
-أنا جاي عند حضرتك حالاً
……………………..
راقبتها خلسة رغم تلك السعادة الغامرة التي سيطرت عليها لكونها معها أخيرًا، ابتسمت “نادية” بوداعة إلى ابنتها وهي تطالعها بنظراتها المشتاقة، أرادت أن يحتفظ عقلها بصورة حية لها، تمنت لو سمحت لها باحتضانها، وضمها إلى صدرها، بإعطائها الفرصة لتلمس بشرتها وتحسس تعابير وجهها بعد أن حُرمت من أبسط حقوقها في رؤية ابنتها تكبر في كنفها، على عكسها كانت “آسيا” جالسة بتحفزٍ في مقعدها وقابضة بقوة على المقود، كانت تعاتب نفسها بقسوة لضعفها أمامها، لتراخيها في حسابها، أخفضت “نادية” أعينها لتحدق في أثار الدماء الواضحة، اعتصر قلبها ألمًا لرؤيتها مجروحة هكذا، حاولت أن تلفت نظرها إليه فاستطردت قائلة بحذرٍ كبير:
-إيدك بتوجعك يا بنتي؟
كان بداخل “آسيا” متحفزًا ضد أمها، فبمجرد أن نطقت، انفجرت فيها صارخة بتشنجٍ:
-ماتقوليش الكلمة دي، أنا مش بنتك
ثم ضغطت على دواسة البنزين لتزيد من سرعة السيارة، ابتلعت “نادية” ريقها وتشبثت أكثر بمقعدها متوجسة خيفة في نفسها أن تتسبب ابنتها في حادث سير، أضافت مرددة بتلعثم وهي ترمش بعينيها:
-حاضر، اهدي بس!
التفتت “آسيا” نحوها ترمقها بنظراتها الحادة وهي تواصل صراخها بها:
-وملكيش دعوة إن كنت بأنزف ولا لأ
ردت عليها “نادية” بندمٍ بدا ظاهرًا في نظراتها أيضًا:
-أنا خايفة عليكي
التوى ثغر ابنتها للجانب لترد بتهكمٍ ساخط:
-كفاية الخوف ده توريه لابنك ولجوزك، مش هي دي عيلتك اللي بجد؟
أكثر ما أصابها بغصةٍ مريرة في حلقها وبالحزن في نفسها هو اعتقاد وحيدتها أنها تخلت عنها وتركتها هكذا، ألمتها تلم الفكرة كثيرًا، توسلت لها “نادية” قائلة بصوتٍ مختنق:
-يا “آسيا” ماتظلمنيش
لم يكن بها أي طاقة للجدال معها، حتى أنها سئمت وجودها بجوارها بعد أن تمنت ذلك كثيرًا، ضغطت فجأة على مكابح السيارة لتوقفها صائحة فيها بصيغة آمرة وهي تنظر أمامها:
-انزلي!
تفاجأت “نادية” بما تفعله، ارتد جسدها للأمام من جراء إيقاف السيارة هكذا دون أي مقدمات، استندت بيديها على التابلوه مانعة نفسها من الاصطدام، التفتت برأسها نحوها ترمقها بنظراتها المدهوشة، ومع ذلك رفضت قائلة بعنادٍ:
-لأ
استدارت “آسيا” نحوها تصيح فيها:
-بأقولك انزلي من عربيتي!
ردت محتجة على أمرها:
-مش هاسيبك وإنتي في الحالة دي
نظرت لها شزرًا وهي تقول بسخطٍ لكنه عبر عن لوم وعتاب صادق لها:
-ما إنتي سيبتيني زمان!
كانت محقة في جملتها الأخيرة والتي نطقتها بكل مرارة وأسى، استشعرت ذلك “نادية” وتضاعف تأنيب ضميرها، اعتذرت منها قائلة:
-حقك عليا
ضحكت “آسيا” بطريقة هيسترية ساخرة منها على أسفها الغير مجدي، فهو لن يعيد الماضي ولن يصلح ما فات، نظرت لها والدتها بغرابة، ورغم ذلك لم تقاطعها وتركتها تفعل ما يحلو لها، فهي في أمس الحاجة للبقاء إلى جوارها، حتى لو استهزأت منها، ستلزم الصمت فقط من أجلها.
……………………..
عجز عن الوصول إليها هو الأخر، انتابته هواجس مخيفة عن احتمالية لقائها معها، بل بات شبه متأكد من حدوث ذلك، فعرض الأزياء وحفلته الصغيرة كانتا في نفس المكان، بدا “معتصم” كمن رأى شبحًا للتو وهو يتخيل الصدام بينهما، بل ربما وصل إلى أخطر من ذلك بكثير، هو يعلم مسبقًا نوايا “آسيا” نحوها، و”نادية” لن تتحمل إساءتها نحوها، فماذا عن تعهداتها بالمعاناة القاسية، شعر بانقباضة قوية في صدره وهو يفكر في الأمر من ذلك المنطلق، لم يرغب في الإفصاح عن شكوكه لوالده، وقرر أن يتصرف بمفرده للتعامل مع تلك الأزمة الخطيرة، حاول أن يبدو عقلانيًا وهو يطمئن والده قائلاً:
-ماتخافش يا بابا، أنا هاعرف مكانها وأبلغك
صاح به “وحيد” منفعلاً وهو يلوح بيده:
-ازاي بتقولي مخافش وهي حتى مش عاوزة ترد على الموبايل؟!
جذبه “معتصم” بعيدًا عن الحضور كي لا يلفت انتباههم بعد أن ارتفعت نبرة صوته ثم رد معللاً:
-جايز مش سمعاه
نظر له والده بضيق وهو يرد مستنكرًا محدودية تفكيره في مسألة حرجة كتلك:
-إنت بتضحك على مين يا “معتصم”؟ ده أنا أبوك مش عيل صغير، مامتك أكيد حصلها حاجة و….
قاطعه قائلاً بجدية:
-ان شاء الله خير، أنا هاتصرف يا بابا، خليك بس مع الضيوف وقولهم أي حاجة وأنا هاكون على اتصال معاك
رد “وحيد” بامتعاض:
-ماشي، أما أشوف!
استأذن بعدها بالانصراف قاصدًا الاتجاه إلى مكان بعينه؛ منزل “آسيا”.
……………………..
-اعمل اللي قولتلك عليه ومش هاوصيك
قالها “سامر” بلهجة آمرة للمتحدث معه في الهاتف المحمول قبل أن ينهي معه تلك المكالمة الغامضة، ثم أشار بيده للنادل الواقف خلف بار المسكرات بذلك الملهى الليلي متابعًا:
-هات واحد تاني
رد النادل مبتسمًا:
-أوامر سيادتك!
استدار “سامر” برأسه ليطالع الراقصة التي تتوسط الصالة وهي تتمايل بجسدها بميوعة وليونة ممتعًا عينيه بمفاتن جسدها البارزة خلف بدلتها الفاضحة، لعبت الخمر برأسه وتخيلها “آسيا”، اعتدل في جلسته وركز بصره أكثر، لعبت الإضاءة الخافتة دورًا في إكمال مشهده التخيلي، شعر بالإثارة والانتشاء متوهمًا نفسه بمفرده معها، هي ترقص له وتغازله بنظراتها الموحية مرسلة له إشارات ذات مغزى ليقترب منها، تحسس صدره راغبًا في تذوق طعم الحب معها، انتزعه من تخيلاته الجامحة صوت النادل القائل بروتينية:
-اتفضل يا باشا، أي أوامر تانية
هز رأسه نافيًا ثم لكز جانب رأسه متسائلاً ببلاهة:
-شكلي سكرت ولا إيه؟!
ارتشف جرعة كبيرة من كأسه متابعًا حديث نفسه:
-هتجنني يا “آسيا”!
استدار نحو الراقصة يتابعها من جديد ثم أكد لنفسه بثقة:
-أنا عاوزك وبكرة هتجيلي لحد عندي برجليكي بعد اللي هايتنشر عنك وعني!
……………………..
لم تكترث بتبعات ما تفعله، فالمهم عندها أن تكون إلى جوار ابنتها ومعها حتى لو كلفها الأمر الكثير، تجاهلت “نادية” جميع الاتصالات الهاتفية غير عابئة بحالة القلق التي بها عائلتها، فكل شيء يهون في سبيل البقاء مع وحيدتها التي حرمت منها لأعوامٍ، في النهاية قررت إغلاق هاتفها لكي لا تشغل بالها بأي أمور جانبية، واكتفت باختلاس النظرات نحو ابنتها، أوقفت “آسيا” سيارتها على مقربة من بنايتها ثم ترجلت منها دون أن تنبس بكلمةٍ، تبعتها والدتها في صمت حتى ولجت معها إلى مدخل البناية، استدارت ابنتها نحوها ترمقها بنظرات حادة وهي تسألها بجمودٍ قاسٍ:
-رايحة فين؟
أجابتها بترددٍ ملحوظ وهي تزدري ريقها:
-جاية معاكي
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بتجهمٍ:
-ليه؟
ردت “نادية” بجدية طفيفة:
-لازم نتكلم شوية يا “آسيا”
اعترضت الأخيرة بنبرة شبه متعصبة:
-وأنا مش عاوزة أسمعك ولا أعرف حاجة منك
ردت عليها أمها بإصرار عنيد:
-أوكي، بس على الأقل تعرفي الحقيقة وإنتي حرة بعد كده في قرارك، لكن أنا مش هامشي قبل ما تسمعيني للأخر!
-أها .. الحقيقة!
قالتها “آسيا” وقد تقوس فمها بابتسامة سخيفة متهكمة معبرة عن عدم رضاها بما يحدث، ومع ذلك حثها فضولها على ترك الفرصة لها لتسمع منها أكاذيبها الجديدة، أشاحت بوجهها بعيدًا عنها وأكملت طريقها في اتجاه المصعد، تنفست “نادية” الصعداء لكونها قد تخلت نسبيًا عن عنادها لتمنحها فرصة للحديث عن أسرار الماضي.
……………………..
جلست واضعة ساقها فوق الأخرى وهي تطالع والدتها بنظرات جامدة تخفي خلفها الكثير من المشاعر المحتقنة، كتمت في نفسها ألم الجرح الموجود في راحتها، اكتفت بوضع ضمادة طبية دون أن تهتم بتطهير الجرح أو معالجته، لم يشغل حتى بالها وقف النزيف، ولكن لتتجنب فقط توسلات والدتها بالاهتمام به، أرادت “نادية” أن تسبر أغوار عقل ابنتها لتعرف فيما تفكر، فيما تعتقد، وفيما أملاه عليها والدها الدنيء وزرعه في نفسها من مشاعر غل وحقد نحوها، أحزنها كثيرًا رؤيتها على تلك الحالة الناقمة، حتى في أبسط الأمور لا تكترث بحالها، أي وضع قد آلت إليه بسببه؟ سيطر على ملامحها تعبيرات حزينة آسفة وهي تطالعها مليًا، زفرت “آسيا” متسائلة بفتور دون أن يرف لها جفن:
-عاوزة تقولي إيه؟
ردت “نادية” بنبرة منكسرة وقد لمعت أعينها بالعبرات:
-سامحيني لأني صدقت باباكي في لحظة وإنه راجل محترم هيلتزم بوعده ليا ويرجعك لحضني، سامحيني لأني قصرت في حقك ومدورتش في كل مكان عليكي واستسلمت لما معرفتش طريق ليكي، سامحيني لأني تخليت عنك في أكتر وقت كنتي محتاجاني فيه
تفاجأت “آسيا” باعتذاراتها المتلاحقة، بعبراتها التي انسابت من حدقتيها لتمتزج مع نبرتها المخذولة، ركزت أعينها عليها محاولة البحث عن ثغرة تجبرها على تصديق ما ادعاه والدها عليها، تحولت تعبيراتها لعلامات مصدومة مع اقتراب والدتها منها لتقبل رأسها مبدية ندمًا شديدًا عما أجبرت ابنتها على معايشته، لم تستطع تحمل ذلك منها فصاحت في غضب:
-اللي بتعمليه ده مش هايصلح اللي فات
ردت بإحباطٍ:
-أنا عارفة، ولا هيرجع الزمن لورا
لم ترغب “نادية” في تشويه صورة طليقها، لكن على ابنتها أن تعرف الحقيقة أيًا كانت نتائجها، لذا استجمعت جأشها لتكمل بهدوء رغم صعوبة الأمر عليها:
-بس غصب عني والله، باباكي كان مدمن قمار، اتجوزني بس علشان ياخد فلوسي وميراثي من والدتي الله يرحمها، كان…
توقفت لتبتلع ريقها قبل أن تواصل بأنفاس متهدجة:
-كان عامل البيت كازينو صغير لأصحابه، كل يوم سهر وقمار وخمرة وحاجات قذرة، أنا مقدرتش استحمل، وخصوصًا لما خلفتك!
ظلت تعابير “آسيا” جامدة للغاية، بدت أمامها غير متأثرة بما تسمعه رغم كونها دمائها تغلي بداخل عروقها، فهي إلى حد ما شبه محقة في إدمان والدها للقمار، هو لم يتوقف عن تلك العادة أبدًا، بل إنه مازال يمارسها إلى الآن، أنعش حديثها ذاكرتها فعادت بها إلى الوراء لتتذكر لجوئه في بعض الأحيان للمقامرة عليها هي شخصيًا، كان الأمر في البداية مزاحًا، ومع الوقت تحول إلى أمر جدي مما أجبرها على سداد مديونياته الطائلة لتنأى بنفسها بعيدًا عن أطماع رفقاء السوء الذين لازموه لساعات وسلطوا أعينهم الطامعة عليها بسبب جمالها الطبيعي، كم وضعها في مواقف محرجة أجبرتها على الهروب من المنزل والبقاء في الفنادق كضيفة غريبة لا عائلة لها، اضطرت أن تعمل لساعات في وظائف لم تحبذها منذ البداية لتدفع ثمن إدمانه المريض حتى عرفت الطريق إلى عالم الشهرة والموضة مصادفة، فظنت أن تلك المهنة هي الخلاص لها منه، لكنها كانت البداية فقط لاستنزافها نفسيًا وماديًا وأخلاقيًا، فحينما كانت ترفض الدفع كان يهددها، وعندما ييأس من محاولة إقناعها يلجأ لشماعة إلقاء اللوم على والدتها، وهي كالمغيبة صدقته وحملت أمها كل اللوم والذنب، لم تعبأ بما قيل عنها من شائعات كاذبة، تجاهلت الجميع واكتفت بالنظر للأمر من ناحية أخرى حيث أنه أكسبها المزيد من الشهرة، أخرجها من شرودها البعيد صوت “نادية” القائل:
-مكونتش عاوزاكي تتربي في الجو ده، اتفقت أنا و”شرف الدين” على الطلاق بعد ما ساومني على مبلغ كبير علشان يتنازل عن حضانتك ليا، وإنتي كنتي كل اللي يهمني، فمفرقش معايا أي فلوس، ووافقت على كل طلباته، وإديته كل اللي طلبه وزيادة كمان
صدمت “آسيا” مما عرفته، لكنها احتفظت بذلك القناع الجامد المرسوم على تعابيرها، لن تمنحها الفرصة للإشفاق عليها، لن يشفع لها حديثها النادم، ستستمر في معاملتها بقسوة، مسحت “نادية” بقايا عبراتها بأطراف أناملها ثم استأنفت حديثها قائلة:
-جدك الله يرحمه كان مستعد يدفع مال قارون عشان نخلص أنا وإنتي منه، بس للأسف “شرف الدين” خدعنا كلنا، بعد ما خد الفلوس واتفق معانا على ميعاد نتقابل فيه كان هو سافر بيكي برا، قلبت الدنيا عليكي وحاول جدك بعلاقاته يوصل لأي خيط يدلنا عليكي بس السكك كلها اتقفلت في وشنا، وحتى لما اتجوزت عمك “وحيد”، مابطلش يدور معايا عليكي لحد ما يأسنا من إننا نلاقيكي!
نهضت “آسيا” من على الأريكة لتقف قبالتها وهي تسألها بغموض مريب:
-خلصتي اللي عندك؟ في حاجة زيادة؟
استشعرت “نادية” احتمالية تكذيبها لما سردته عليها، فاسترقت قلبها قائلة بحنو وبنبرة تلين القلوب المتحجرة:
-يا بنتي صدقيني، ده اللي حصل والله، وأنا مستعدية أجيبلك “وحيد” يـ …..
قاطعتها “آسيا” بشراسة وقد قست نظراتها نحوها:
-إنتي مش عشتي حياتك واتجوزتي، جاية عاوزة مني إيه؟ إنسيني زي زمان وابعدي عني
اعتصر قلب والدتها ألمًا من رفضها تصديق الحقيقة، وضعت يدها على كتفها لتضغط عليه برفق وهي تقول بنبرة منكسرة:
-أنا عمري ما نسيتك أبدًا، والله ما غبتي عن بالي للحظة!
في تلك اللحظة انتبهت كلتاهما لصوت الدقات العنيفة على الباب، تساءلت “نادية” بفزعٍ:
-ده مين ده؟
لم تكن الاثنتان بحاجة لتخمين هوية الطارق فصوته كان كفيلاً بالإشارة إلى شخصه المتعصب خاصة حينما هدر مهددًا:
-أنا عارف إنك جوا معاها، افتحي يا “آسيا” وإلا هاكسر الباب، مش هاسيبك النهاردة!
شحب لون وجه “نادية” كثيرًا مع معرفتها بوجود “معتصم” بالخارج، وما زاد من هلعها هو تهديده العدائي لابنتها، ربما أساء فهم الموقف ولهذا يتصرف بتلك الشراسة بدافع حمايته لها، راقبت “آسيا” ردة فعل والدتها بسخط، ثم أشارت بيدها قائلة في سخرية:
-أهوو البيه ابنك شرف!
توقعت “نادية” حدوث صدام عنيف بينهما، وكان عليها التصرف فورًا للململة الأمور قبل أن تتفاقم دون داعٍ، لذلك هرولت دون تأخير ناحية الباب لتفتحه فتفاجأ “معتصم” بوجودها أمامه، اتسعت حدقتاه على الأخير قائلاً بنبرة مصدومة:
-ماما
ابتسمت له كمحاولة يائسة منها لطمأنته، اندفع نحوها محتضنًا وجهها بين راحتيه وهو يسألها بتلهفٍ:
-إنتي كويسة؟ حد اتعرضلك، في …..
قاطعته قائلة بلطفٍ وهي تومئ برأسها مؤكدة:
-اطمن يا حبيبي، أنا بخير، مافيش أي حاجة
رفع “معتصم” رأسه ليحدق في وجه “آسيا” التي كانت تقف في الخلفية، ارتفع الأدرينالين المتحفز في دمائه سريعًا، اقتحم المنزل متجهًا بعصبيته الجلية نحوها مهددًا إياها بسبابته:
-قسمًا بالله لو كنتي أذيتيها مكونتش هارحمك
ردت عليه “نادية” بنبرتها الخائفة:
-قسمًا بالله ما حصل حاجة يا “معتصم”، احنا كنا بنتكلم وأنا اللي جيت معاها بنفسي!
تطلع إلى أعينها ليتأكد من صدق ما قالته، لم تكن بحاجة للكذب فقد كانت نظراتها مقروءة له، ابتسم لكونها بخير وأومأ برأسه متفهمًا ما فعلته من أجل رؤية ابنتها بغض النظر عن كونها لا تستحق ذلك الاهتمام والحنان الزائد منها، تابعتهما “آسيا” بنظرات غاضبة مغلولة، وقد تأكدت من داخلها أنها لم تنل سوى التعاسة والشقاء، كظمت غيظها في نفسها، ثم صاحت بصرامة وهي تشير بيدها:
-خد “نادية” هانم واطلعوا برا ……………………..
……………………..