رواية (المحترم البربري)
الفصل الثالث عشر
،،،،،،،،،،،،،،
نظرت له بتحدٍ دون أن يرف جفنيها، فبقيت أعين “سامر” معلقة بحدقتيها الفيروزتين مستمتعًا بذلك الإغراء المخفي فيهما، اقشعرت من مسحه الناعم على بشرتها بأصابعه، حاولت أن تبدو هادئة أمامه، لكن رادوها إحساس غريب بأن تلك الليلة لن تمضي على خير، وبدلال ناعم حاولت “آسيا” إبعاد عنقها عن لمسات يده المستباحة على بشرتها، ردت بقوة تمزج بين الرقة والأنوثة الخطيرة وهي تتحاشى النظر إليه في المرآة:
-ومستحيل أقرب!
ثم أشارت لمساعدتها بالتوقف عن العمل ونهضت من مقعدها دون أن تكمل الأخيرة مهمتها، استعدت للسير رافعة طرفي ثوبها عن الأرضية، ولكن استوقفها “سامر” معترضًا طريقها ومتسائلاً بجدية شديدة:
-على فين؟
نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بتعالٍ:
-ورايا شغل، أمثالك مايفهموش فيه!
رد مبتسمًا وهو يرفع حاجبه للأعلى:
-أكتر حاجة عجباني فيكي لسانك المبرد ده
دنا خطوة منها مضيقًا عليها الحصار ثم أضاف بإعجاب:
-بس مش مهم قصاد جمالك ده!
تجاهلت “آسيا” ما أسمته بجملة إطرائية لمدحها واستدراجها للحديث رغم يقينها بكونه يريدها لأغراض دنيئة، استخدمت سبابتها في الإشارة إلى هيئته قائلة بتهكمٍ:
-وإنت كلك على بعضك بعضلاتك المنفوخة دي ماتملاش عيني
انزعج من سخريتها الواضحة منه واستهتارها بقوته الذكورية التي لم تختبر خشونتها بعد، قست تعابيره محذرًا بخشونة طفيفة:
-حاسبي على كلامك
ردت بتحدٍ وقد توهجت حدقتاها:
-وإلا ..؟!
……………………..
على الجانب الأخر، انتهت “نادية” من تناول قطعة صغيرة من قالب الحلوى الذي أحضره لها “معتصم”، كان الأخير سعيدًا بالفرحة البادية عليها وعلى والده بعد أن خاضت عائلته في الفترة الأخيرة ضغوطات كثيرة، تبادل مع ابن عمه حديثًا وديًا ثم انتقل للحديث مع باقي الضيوف، انتبه لرنين هاتفه في جيب سترته، فابتعد قليلاً ليتمكن من سماع المتصل به مشيرًا إلى “نادية” بيده، لوحت لها بيدها متفهمة سبب انصرافه المفاجئ لكونه ذو علاقة بالعمل، وضع “معتصم” يده على أذنه قائلاً بصعوبة:
-خليك معايا ثواني، هاروح مكان هادي شوية علشان أعرف اسمعك!
واصل خطواته المتعجلة باحثًا عن مكان غير صاخب ليتمكن من إكمال المكالمة، لكن لفت أنظاره تلك اللافتة المعلق عليها إعلان عن عرض للأزياء، قرأ فحواها بأعينه فاقدًا تركيزه مع الطرف الأخر، انقبض قلبه مستشعرًا وجود من يخشاها بالمكان، وضع الهاتف من جديد على أذنه قائلاً بارتباك ملحوظ:
-معلش هاطلبك تاني
ودون أن يقدم أن تبريرات أنهى المكالمة معه متجهًا نحو الصالة المخصصة لإقامة العرض، مرر أنظاره على أوجه العارضات المشاركات فلم يجدن بينهن ضالته، اعتقد أنها بالكواليس فتحرك بحذر نحو المنطقة المخصصة للعارضات، أوقفه أحدهم متسائلاً بجدية:
-على فين يا فندم؟
نظر له “معتصم” قائلاً بابتسامة سخيفة ومصطنعة:
-أنا جاي لـ “آسيا” هانم، العارضة المشهورة
رد عليه الحارس الأمني مدققًا النظر في هيئته:
-عارفها، بس هي بتجهز، فماينفعش حد يدخل و….
تحفزت خلايا عقله كليًا بعد أن تأكد من وجودها ضمن المشاركات في العرض، وهذا ما لم يضعه في الاعتبار، خشي أن تلتقي بوالدتها ويحدث الصدام الحاد بينهما، هو متأكد من نواياها السيئة نحوها، فلن تمر المقابلة على خير بأي حال، ناهيك عن كم الفضائح الذي سيشهده المتواجدون وربما يتطور الوضع للأسوأ، لعن ذلك الحظ العثر الذي جعله يختار هذا اليوم ليقيم فيه حفلته العائلية، كان عليه التصرف سريعًا فاختلق كذبة ما قائلاً بثبات:
-أنا جايبلها حاجة، وهي اللي طلباني، ولو اتأخرت هتحصل مشكلة
نظر لها الحارس مطولاً، لم يكن مقتنعًا بما قاله، فتابع “معتصم” مضيفًا بجدية:
-ممكن تناديها علشان تتأكد، بس أنا مش مسئول عن أي غلط يحصل و….
قاطعه الحارس مرددًا باستسلام ومشيرًا بيده:
-اتفضل
تنحى بعدها للجانب مفسحًا له المجال ليمر، ابتسم له “معتصم” بامتنان قبل أن يكمل سيره نحو الداخل، على قدر الإمكان حاول أن يلقي نظرة سريعة وشاملة على وجوه المتواجدات من العارضات باحثًا عنها بينهن، تعذر عليه إيجادها، فاستمر في بحثه، اتسعت حدقتاه بصدمة حينما رأها تتحدث عند الزاوية مع “سامر”، وجوم مُنذر بأشياء غير جيدة كسا ملامحه، سحب نفسًا عميقًا حبسه لثانية بداخل صدره ثم أطلقه دفعة واحدة وهو يتحرك صوبهما، التقطت أذنيه صوتها المتكبر وهي توجه حديثها للواقف قبالتها:
-ولا يفرق معايا
رد عليها “سامر” متسائلاً بتجهم كبير:
-أومال مين اللي يملى عينك؟
حركت شفتيها لترد لكن صوت “معتصم” جمد الكلمات على طرف لسانها، استدارت بجسدها نحوه لتتأكد من نبرته المألوفة فوجدته يرمقها بنظرات نارية صائحًا:
-“آسيا”
تناست لحظيًا وجود “سامر” معها وركزت حواسها مع غريمها اللدود، انعكست المفاجأة على وجهها ونظراتها نحوه، ردت باستغراب كبير:
-إنت؟!
أمسك بها من رسغها ليسحبها بعيدًا عن “سامر”، جذبت معصمها بكل قوتها فتحررت منه، نظرت له بغيظ، وقبل أن تستجوبه على طريقته الهمجية في التعامل معها كان هو الأسبق في سؤالها باستفهام وقد بدا عليه الغضب:
-جاية هنا ليه؟
ثم قبض على ذراعها من جديد مكملاً حديثه بانفعال ملحوظ لفت انتباه المحيطين بهما:
-عاوزة تبوظي كل حاجة أنا بأعملها
تأوهت من قسوة قبضته عليها، حاولت التملص منه لكنه استمر في ضغطه المؤلم، زوت ما بين حاجبيها متسائلة:
-إنت بتكلم عن إيه؟
أرخى أصابعه عنها متعمدًا دفعها بقوة نسبية إلى الخلف آمرًا إياها:
-ارجعي مطرح ما جيتي وانسيها، اعتبريها ماتت جايز تتهدي
تابع “سامر” حديثهما من على بعد متوقعًا في البداية أن تكون هناك نوعًا من الغيرة وربما المشاعر المتبادلة بينهما نظرًا لتعامله معها بتلك الحدة والغلاظة، عماه تفكيره السطحي عن تفسير الأمور بمفهومها الصحيح، اعتبر المسألة نوعًا من الاستهانة برجولته، لذلك اقترب منهما متسائلاً بتهكمٍ وهو يشير نحو “معتصم”:
-هو ده بقى؟
رفع الأخير رأسه نحوه يرمقه بنفس النظرات الكارهة، ثم رد بسخطٍ:
-أهلاً، غني عن التعريف يا .. “سامر” بيه!
انتصب “سامر” في وقفته متعمدًا إظهار عرض كتفيه، وقوة عضلاته المشدودة، بدا بدرجة كبيرة متباهيًا بنفسه ومعتدًا بجسده الرياضي، أراد إيصال غرضه له، ونجح ببساطة، فنظرات “معتصم” نحوه كانت مليئة بالحنق والضيق، تحدث “سامر” من زاوية فمه قائلاً:
-“معتصم” باشا، من حظي إني أشوف جنابك هنا
رد عليه الأخير مبتسمًا بتهكمٍ:
-هاتقولي
التفت “سامر” ناحية “آسيا” يسألها بطريقة تحمل نوعًا من السخرية وتلميحًا بوجود علاقة ما سرية بينهما:
-ده بقى اللي مانعك عني؟ قولي ماتكسفيش!
احتقن أعينها بشدة من كلماته الموحية فردت بعصبية:
-احترم نفسك
خمن “معتصم” أن الحديث عنه لذلك سأله بهدوء مفتعل وهو يبذل جهدًا مضاعفًا لضبط انفعالاته المستشاطة بداخله:
-معلش هقاطعكم، إنت بتكلم عن مين بالظبط؟ قصدك أنا؟!
صرخت فيهما “آسيا” متسائلة بحدةٍ وهي تتراجع خطوتين مبتعدة عنهما:
-إنتو الاتنين جايين هنا ليه؟
أجابها “سامر” بابتسامة مراوغة وهو يغمز لها:
-أنا جايلك مخصوص
رفعت حاجبها للأعلى متسائلة بنفس النبرة الغاضبة:
-ليه؟
لم تحصل على إجابة لسؤالها الأخير بسبب مقاطعة إحدى المسئولات عن تنظيم العرض لحوارها معه مرددة بجدية:
-“آسيا”، الشو هيبدأ، بليز محتاجينك معانا
وزعت أنظارها بين وجهي “سامر” و “معتصم”، قرأت في نظراتهما نحوها اتهامات صريحة بكل ما يشينها، فالأول يطمع في ليلة عابثة معها، والثاني يريد الخلاص منها قبل أن تحقق انتقامها من والدتها، لم تكن بحاجة لتفسير تصرفاتها الحادة معهما، بل لم تكن بحاجة من الأساس لخوض جدال عقيم مع كليهما لن تخرج منه سوى مدمرة نفسيًا ومرهقة جسديًا، ومفلسة ماديًا إن تطرق الأمر لمهنتها، لذلك انسحبت من أمامهما وهي تحدث نفسها بذهول:
-بجد مش مصدقة نفسي!
جمد “معتصم” أعينه عليها رغم انصرافها شاعرًا بغضب يجتاحه، بحنق مضاعف يزيد من حقده عليها، لم تحط دمائه الفائرة في عروقه مع رحيلها بل زادت ثورتها حينما استطرد “سامر” حديثه من جديد قائلاً:
-أول مرة أشوفك هنا في النادي
رد عليه “معتصم” بعبوس:
-أنا عضو من زمان، بس احنا ماتقبلناش قبل كده
فرك “سامر” طرف ذقنه بحركة دائرية، ثم رمقه بنظرة شمولية قائلاً ببرود:
-مش فارق
ثم كتف ساعديه مضيفًا بنبرة ذات مغزى متعمدًا إثارة ريبته:
-بس هاقولك على حاجة، أنا عارف كل حاجة عنك
دس “معتصم” يديه في جيبي بنطاله قائلاً بعدم اكتراث:
-طبيعي الناس هنا تبقى عارفة بعض
رفع “سامر” إبهامه هاتفًا:
-مظبوط، إنت صح
ثم أرخى ذراعيه متابعًا بغموض:
-بس المهم اللي جاي بعد كده
قطب “معتصم” جبينه محاولاً سبر أغوار عقله ليفهم المقصد من حديثه غير الواضح، ثم أردف متسائلاً في حيرة:
-يعني إيه؟
أجابه بتمهلٍ وقد ارتسم على وجهه تعابير جادة للغاية:
-من الأخر كده ملكش دعوة بـ “آسيا”، فاهمني!
تفاجأ “معتصم” من أمره الصارم وكأنه المتحكم في شئونها، ردد مصدومًا:
-أفندم
اقترب منه “سامر” ليضع يده على كتفه، ضغط عليه بأصابعه موضحًا:
-دلوقتي هي تخصني، وأنا عاوزاها، ومش هاسيبها
لم يكن “معتصم” ليكترث بما يفعله ذلك السمج الممتلئ بالعضلات أو حتى يهتم بعلاقاته النسائية لولا وجود ما يربطه به؛ بالطبع كان يقصد “آسيا”، استشاطت نظراته، واضطربت نبضاته، لم يتحمل المزيد منه خاصة مع نظراته التي تشير إلى الكثير، لكزه في ذراعه مبعدًا إياه عنه وهو يرد:
-إنت اتجننت
قهقه ضاحكًا ليبدي استخفافه بعصبيته تلك، ثم رد عليه بتباهٍ:
-أنا لسه بعقلي، لأني لو مجنون هاطلع أجيبها من على منصة العرض وامشي بيها وسط الناس ومحدش هيمنعني!
نفث “معتصم” – مجازًا – دخانًا من أذنيه بسبب طريقته الكلامية المستفزة له والتي عبثت بصورة مباشرة مع رجولته في تحدٍ سافر لقوته، انفجر فيه صائحًا بخشونة ومهددًا إياه:
-طب إياك تقربلها
غمز له “سامر” بثقة:
-هي اللي هاتقرب مني، وبمزاجهها!
برزت مقلتاه بغضبٍ مستطير، فابتسم له “سامر” وهو يرفع إصبعيه عند جبهته ليحيه قائلاً:
-وبكرة تشوف بنفسك يا “معتصم”، أصل أنا خبير أوي في النوع ده، سلام!
ثم قهقه ضاحكًا ليظهر له عدم اهتمامه به ومستخفًا بتهديده الذي ظنه مجرد حديث عبثي، تسمرت قدمي “معتصم” وظل كالصنم في مكانه متابعًا “سامر” الذي ابتعد عنه، انتابته هواجس مخيفة حول المقصد من حديثه، كان مؤمنًا بقوة أنها فتاة عابثة تُجيد اصطياد الرجال، وها هو شخص أخر يؤكد له ذلك، شحن غضبه كله ووجهه نحوها هي فقط، نعم نجح “سامر” ببراعة في زرع كراهية أشد عدائية نحو “آسيا”، فهي باتت بالنسبة له – فعليًا – امرأة سيئة السمعة، احتقنت عروقه، وشعر بالاختناق لمجرد وجوده في مكان يحوي أنفاسها، تلفت بصورة عصبية فاقدًا التركيز، وضع يده على رابطة عنقه يحل وثاقها، انتزعها من حول ياقته وهو يندفع بأنفاس متلاحقة إلى خارج المكان، لم يعد إلى عائلته، بل انطلق نحو الجراج ليستقل سيارته هاربًا من النادي قبل أن ينفجر في أحدهم بلا أي داعي.
……………………..
تعكر مزاجها رغم تلك البسمة المصطنعة التي رسمتها على وجهها وهي تسير بثقة مغترة على الأرضية اللامعة مكملة مع باقي العارضات دورها في الحفل، كانت أعصابها متقدة نتيجة ما تتعرض له من مواجهات عنيفة مع الرجال تحول دون تنفيذ انتقامها الذي تسعى إليه، اختلست “آسيا” النظرات نحو الجالسين متوقعة وجود أحدهما بينهما، لكنها لم ترَ أيًا منهما، حافظت على جمود تعابيرها منتظرة بفارغ الصبر انتهاء الفقرة لتعاود أدراجها إلى الكواليس، خلى المكان من وجودهما فشعرت بالارتياح، ابتسمت بتصنع وهي تتلقى التهنئات ممن حولها، اقترب منها منظم الحفل يمدحها فردت عليه بلباقة، ثم قدم لها باقي الأجر المتفق عليه، بدلت ثيابها بإرهاق وقامت بجمع متلعقاتها الخاصة مستعدة للرحيل، أحست بجفاف شديد في حلقها، برغبة ملحة لتناول مشروب بارد تنعش به نفسها، فاتجهت للكافيتريا القريبة من صالة العرض لتشتري ما تريد.
في نفس التوقيت، انتاب “نادية” القلق لغياب “معتصم” دون مبرر عن الحفل، حاولت أن تختلق له الأعذار معللة انشغاله بالعمل، ثم انسحبت بهدوء عن الصخب الدائر حولها لتتمكن من مهاتفته، تضاعف خوفها مع تجاهله لاتصالاتها المتكررة، رددت لنفسها بتوتر:
-أكيد في مشكلة، رد وطمني يا “معتصم”!
حركت رأسها في كافة الاتجاهات آملة أن تجده في مكان ما بالقرب منها، اتجهت إلى الكافيتريا متوقعة أن يكون هناك، جالت بأعينها المكان سريعًا لكنها لم تجده بين الحضور القليل، تحول في لحظة الخوف المسيطر عليها إلى صدمة كبيرة حينما لمحت وجهًا بدا لها مألوفًا تقف بالقرب من البار الرخامي، شعرت بخفقان قوي في قلبها، بصعوبة بالغة في التنفس بطريقة طبيعية، لم تكن لتعرفها لولا تلك الصور التي رأتها لها من قبل، فهي احتفظت بالكثير منها في ذاكرة هاتفها المحمول لتتأملها مليًا كل يوم فتعوض غيابها الإجباري عنها، لذا حفظت عن ظهر قلب تقاسيم وجهها وملامحها، تحرك لسانها تلقائيًا ينادي باسمها:
-“آسيا” ……………………..
……………………..