رواية (المحترم البربري)
رواية (المحترم البربري)
جميع الحقوق محفوظة للكاتبة منال محمد سالم
رواية (المحترم البربري)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
الفصل الأول
على غير المتوقع والمعتاد في مثل تلك النوعية من الحفلات عالية التنظيم، رفضت الخروج للسير على الممر الرخامي ضمن باقي العارضات المستعدات لأداء عرضهن المميز قبل أن تتلقى باقي أجرها وكاملاً، مدت “آسيا” يدها نحو الراعي الرسمي لذلك الحفل وهي ترفع رأسها للأعلى في إباء وكبرياء واضح، تأملها الأخير بنظرات مطولة دارسة لكل تفصيلة في وجهها المتوهج بمساحيق التجميل التي ضاعفت من جمالها ومن إشراقها المغري، أخفض أعينه ليتابع تأمل جسدها المثير الذي بدا منحوتًا كالتماثيل الإغريقية من أسفل ثوبها الأسود، ناولها الشيك النقدي قائلاً:
-وماله، تستاهلي!
ردت عليه بقسوة وهي تنظر له باستعلاء من عينيها الفيروزتين:
-حقي!
اختطفت منه الشيك بإصبعيها ثم رفعته نصب عينيها لتقرأ ما دونه فيه من أرقام خيالية، التوى ثغرها بابتسامة صغيرة ساحرة شاعرة بالانتشاء لحصولها على مبتغاها، أبعدته عن أنظارها لتحدق في وجه الراعي مكملة حديثها معه ببرود:
-اعمل حسابك دي أخر مرة هاشتغل فيها هنا
رد محتجًا باندهاش صادم:
-مش معقول، ده احنا عندنا ديفيلهات تانية و….
قاطعته مشيرة بإصبعها:
-خلاص، كفاية عليا كده، أنا راجعة مصر!
رفعت يدها لتتلمس شعرها المعقود كعكة لتتأكد من تناسقه، ثم التفتت نحو المرأة متأملة مظهرها الفاتن بدلال يليق بها، تسمر الراعي في مكانه للحظاتٍ محاولاً استيعاب قرارها الصادم بترك كل شيء والسفر هكذا دون سابق إنذار، هتف متسائلاً وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
-وتسيبي دبي، بلد الموضة والجمال؟
حدقت “آسيا” عبر النافذة الزجاجية – والتي كانت تحتل مكان الجدار بأكمله – في شكل المباني الشاهقة متأملة تصميمهم الإبداعي اللافت للأنظار، تنهدت بعمق لترد باقتضاب حاسم:
-أيوه
وقف خلفها يسألها بجدية عله ينجح في إقناعها بالعدول عن رأيها:
-طب ليه؟ كل طلباتك مجابة، وكل أوامرك بتتنفذ أول بأول، يعني…
التفتت برأسها للجانب قليلاً لتلمحه من طرف عينها لتقاطعه بعبوس:
-زهقت!
تحرك خطوة أخرى نحوها ليصبح في نفس مستواها، نظر لها بتوسل مقروء في عينيه وهو يستعطفها:
-طيب إيه رأيك لو نزلتي في سيزون الصيف، احنا لسه عندنا شغل كتير اليومين دول، وبصراحة مقدرش أستغنى عن واحدة زيك معروفة، اطلبي اللي إنتي عاوزاه، وأنا تحت أمرك
تجمدت أعينها المحدقة بشرودٍ على نقطة في الفراغ لترد بجمود جليدي:
-ده أخر ما عندي
هز رأسه بأسف، فشل في مسعاه معها، ضغط على شفتيه وهو يسير مبتعدًا عنها محدثًا نفسه
-خسارة بجد الجمال ده مايكملش هنا!
التقطت أذنيها ما قاله فأغمضت عينيها نافضة عن عقلها ما تكبدته من مشاق ومصاعب لتصل إلى تلك المكانة المميزة، وتغدو من أشهر عارضات الأزياء في الوطن العربي، اعتدلت في وقفتها لتبدو أكثر شموخًا وإغراءً، استدارت للخلف لتبدأ في السير بخطواتها الواثقة، فقد حان الوقت لتقديم أخر عروضها هنا قبل أن يحين موعد إقلاع طائرتها العائدة إلى أرض الوطن.
……………………..
شدَّ كم قميصه – ذو اللون الأبيض –من أسفل سترته الكُحلية للخارج قليلاً ليغلق الزر الذهبي، انتصب ذاك الشاب الذي قارب على بلوغ العقد الرابع من عمره في وقفته ليزداد عُرض منكبيه ويبرز طوله الفاره أكثر، مسح البائع على كتفيه برفق ليتأكد من ضبط السترة عليه، ابتسم له بتباهٍ يعكس إعجابه بتفرده المعروف في بيع تلك النوعية من الثياب الفاخرة، حدق “معتصم” في المرآة مطولاً متفحصًا تفاصيل البدلة عليه، كانت مناسبة له وكأنها صممت خصيصًا من أجل ذوقه الرفيع فأظهرت تناسق جسده الرياضي ببراعة، وأبرزت عضلاته المشدودة، مط فمه مستطردًا حديثه بصوته الخشن:
-تمام، هاخدها!
اتسعت ابتسامة البائع على الأخير، فبيع قطعة كتلك ستزيد من ربحه خاصة إن كان المشتري الرجل الأكثر ثراءً في عالم البناء والمقاولات، رد بلا تفكير:
-تحت أمرك يا “معتصم” بيه!
لم يكن بحاجة لتبديل ثيابه من جديد، حسم أمره بارتداء الحلة الجديدة بعد نزع الملصق الذي يحوي ماركتها التجارية الشهيرة وسعرها الباهظ، انحنى قليلاً بجذعه ليلتقط حافظة نقوده، أخر منها الكارت البنكي ليسدد ثمنها فورًا، ثم دس في جيبه مفاتيحه وهاتفه المحمول، اقترب منه أحد العاملين بالمحل التجاري يحمل في يده حقيبة وضعت بها بدلته القديمة، أشار له ليتبعه إلى سيارته، وما إن رأه سائقه الخاص حتى أسرع بفتح باب المقعد الخلفي له ليستقر بداخلها، تناول من العامل الحقيبة ووضعها بصندوق السيارة ثم أسرع في خطاه ليجلس خلف المقود، تساءل السائق بنبرة رسمية:
-على المكتب يا “معتصم” بيه؟
رد باقتضاب وهو يضع نظارته الداكنة على عينيه:
-لأ، اطلع على البيت، ده ميعاد الغدا!
-حاضر يا فندم
قالها وهو يدير السيارة بتريث نحو الطريق الرئيسي لينحرف منه إلى طريق أخر جانبي حيث يؤدي في نهايته إلى المجمع السكني الذي يقطن به رب عمله، أمسك “معتصم” بهاتفه المحمول ليتابع أخر المستجدات عبر الصفحات الإخبارية، لمح مصادفة خبرًا صغيرًا عن أجر خيالي لإحدى العارضات العربيات والذي فاق نظيراتها الأجنبيات، لم يتوقف عنده كثيرًا فقد بدا مشمئزًا من تلك المهنة التي تخفي الكثير خلفها من العبث واللهو الماجن، ناهيك عن الفضائح المتعلقة ببعضهن، رن الهاتف فأضاءت شاشته العريضة بصورة “أية” ابنة عمه الصغرى، تقوس فمه بابتسامة صغيرة وهو يجيبها متحمسًا:
-برينسيس العيلة
ردت عليه بتوسلٍ مغرٍ:
-“معتصم”، بليز عاوزة منك خدمة
تلاشت بسمته وهو يتابع بجدية:
-على طول كده، من غير سلامات وتحيات، ها، قولي!
أكملت موضحة:
-أنا وصحابي مش عارفين نحجز في كافيه (……)، تقدر تكلم صاحبه يظبطلنا الحكاية دي
وضع إصبعه تحت ذقنه يفركه بحركة بسيطة قائلاً:
-ممممم، عشانه صاحبي!
زادت من استعطافها المصطنع قائلة:
-بليز.. بليز، ده إنت حبيبي!
التوى ثغره للجانب ليقول مستسلمًا لرقتها التي تجبره على الخضوع لها وتنفيذ رغباتها دون نقاشٍ:
-أوامرك يا جميلة
هللت بحماس استطاع تخمينه:
-ميرسي خالص، مش هنسالك ده أبدًا، أشوفك بعدين، وسلم على أنكل وأنطي
-أوكي، باي
……………………..
انتهت من تنسيق الزهور في المزهرية الرفيعة قبل أن تضعها في مكانها بجوار النافذة المفتوحة لتتسرب إليها أشعة الشمس الذهبية، ابتسمت لجمالها الطبيعي الذي يشعرها بالارتياح، التفتت “نادية” بجسدها للخلف لتسير بخطوات متهادية ورزينة نحو المقعد الوثير الموضوع بجوار مكتبة الحائط الضخمة، أتت إليها الخادمة تسألها بروتينية معتادة:
-أجهز الغدا يا هانم؟
أجابتها بابتسامة صغيرة:
-شوفي “معتصم” الأول، لو كان هايجي خلاص حضريه، لو عنده شغل مافيش داعي
تابعت الخادمة متسائلة:
-والباشا “وحيد”؟
أجابتها بنفس الهدوء الناعم:
-الدكتور قال النهاردة يقدر ياكل مشوي، وأنا بنفسي هاشرف على أكله بس لما يرجع من عنده
-تؤمري بحاجة تانية يا هانم
-لأ، شكرًا، تقدري تتفضلي
-عن إذنك
قالتها الخادمة وهي تومئ برأسها قبل أن تنصرف من غرفة المكتبة لتترك سيدة المنزل بمفردها، سحبت “نادية” ذلك الكتاب من على الطاولة الصغيرة المستديرة، ثم جلست على المقعد لتشرع في استكمال قراءته، فقد عزفت عن متابعته لأيام بسبب انشغالها بمراعاة زوجها الذي عانى من وعكة صحية لكنه تماثل للشفاء، للحظة شردت في ذكرى بعيدة وهي تقلب صفحات الكتاب، تلك الذكرى التي دومًا تنغص عليها هدوئها وتشعرها بالذنب والأسف، ارتعشت أناملها وتوترت أنفاسها وهي تقاتل لاستبعادها عن عقلها، هي عمدت إلى دفن كل ما يخصها كي لا تتألم، لم يكن الأمر بيدها، كانت مضطرة للتخلي عن أي شيء يربطها به، حتى هي … ابنتها.
……………………..
علق حقيبته الرياضية على كتفه وهو يتجه نحو المصعد بعد أن أوصله رفيقه المقارب له في عمره إلى المجمع السكني، فأصحبت عادة ممارسة الرياضة مع الرفقاء القدامى من اهتماماته مؤخرًا خاصة بعد اعتقاده أنها ستعيد إليه شبابه المفقود، ضغط “وحيد” على زر استدعاء المصعد مترقبًا نزوله، اعتلى وجهه ابتسامة هادئة حينما رأى إحدى الشابات الصغيرات تقف إلى جواره، بادلته الشابة الابتسامة قائلة بنعومة:
-هاي أنكل “وحيد”
امتعض وجهه من تذكيرها للفارق العمري بينهما بدعوته إياه بذلك اللقب المقيت، فقد كان يحب مناداته باسمه مجردًا إن لم يكن مصحوبًا بكلمة السيد “وحيد”، اضطر أن يرد عليها بعبوس:
-أهلاً
عضت على شفتها السفلى الملطخة بتلك الحمرة الصريحة متسائلة بخجلٍ لطيف:
-أخبار “معتصم” إيه وأنطي “نادية”؟
بالطبع فهم سبب توددها الغريب إليه رغم كونه جاهلاً بهويتها، فابنه يقف خلف ذلك الاهتمام الزائد، فهو الشاب الأكثر شهرة في هذا المجمع السكني الراقي بين الفتيات والشابات بسبب تعامله المثالي معهن، يشعر كل واحدة منهن بأنها خلقت ملكة متوجة، لا مثيل لها، متفردة، تستحق أن تلقب بملكة جمال العالم، فلماذا التعجب إذًا من اهتمامهن به شخصيًا؟ رسم “وحيد المصري” على فمه ابتسامة سخيفة وهو يرد باختصار:
-كويسين
مالت الفتاة ناحيته فلامست ذراعه بكتفها وهي تهمس له بمكرٍ:
-طيب سلملي عليهم، وخصوصًا “معتصم”، باي يا أونكل!
أومأ برأسه دون تعليق، وما زاد من غرابة الموقف أنها انصرفت ولم تركب معه المصعد، ولج إلى الداخل محدثًا نفسه بازدراء:
-هو أنا عارف إنتي مين! محظوظ يا “معتصم”، مين أدك، كل البنات بتحبك، كل البنات حلوين!
انغلق المصعد عليه وهو يدندن بما يتذكره من تلك الأغنية الشبابية آنذاك وقت أن كان يماثله في العمر.
……………………..
بعد مرور يومين، توقفت سيارة الأجرة أمام إحدى البنايات ذات الطراز المعماري القديم والتي تقع في وسط المدينة، ورغم كون المنطقة راقية إلا أنها تحوي تحف معمارية مميزة ظلت شاهدة على تاريخ أصيل، تنهدت “آسيا” بإرهاق وهي تترجل من السيارة بعد أن دفعت الأجرة لسائقها، كانت رحلة عودتها متعبة، لكنها وصلت في الأخير إلى حيث ستبدأ، أحضر لها السائق حقيبتها قائلاً بترحاب زائد كمجاملة مصطنعة منه للحصول منها على مبلغ إضافي:
-حمدلله على السلامة يا هانم، القاهرة نورت
اكتفت بالنظر إليه من خلف نظارتها العريضة، دست يدها في حقيبتها لتخرج ورقة نقدية منها، مدت إصبعيها بهما إليه فسال لعابه وهو مركز بصره عليه، خطفها منهما وكأنه كنزه الثمين الذي حاز به دون عناءٍ يذكر، تناولت حقيبة سفرها منه لتخطو برشاقة وهي تصرع الأرضية الصلبة بخطواتها الواثقة في اتجاه المدخل، فهناك منزلها الذي استأجرته لتمكث فيه خلال الفترة القادمة، هب حارس البناية واقفًا يتأمل صاحبة الوجه الحسن والمظهر اللافت للأنظار وهو يسألها:
-خير يا هانم؟
ردت بقوة ظهرت في نبرتها:
-أنا الساكنة الجديدة هنا، “آسيا شرف الدين”!
رسم ابتسامة مرحبة على محياه وهو يردد اسمها الذي كان مختلفًا عن بقية ساكني البناية:
-الست “آسيا”
-ايوه، السمسار بلغني آ…..
قاطعها بتهليل متحمس:
-عرفتك يا هانم، احنا اتشرفنا بيكي، والعمارة كمان نورت بـ…..
ردت مقاطعة ببرود:
-كفاية كلام، أنا مصدعة
تجهمت تعابيره قائلاً بحرجٍ:
-اللي تؤمري بيه جنابك
-خد الشنطة وطلعها لفوق!
قالتها بصيغة آمرة وهي تنزع النظارة عن عينيها باحثة عن المصعد لتستقله، تبعها الحارس بهدوء وهو يتأمل هيئتها المغرية، بالطبع وجود أنثى بتلك المواصفات الجمالية الغير طبيعية في بناية تعج بالسكان – وخاصة الذكور – سيحدث الكثير من المشاكل، هكذا دار في عقله وهو يتوقع الأسوأ من بقائها.
……………………..
تململ على الفراش بتعب مضاعف وهو يقاتل لإبقاء جفنيه مفتوحين بعد تلك الليلة الصاخبة التي قضاها بصحبة أقربائه للاحتفال بنجاح ابنة عمه الصغرى، امتد الحفل للساعات الأولى من الصباح، وبالطبع تعذر عليه النهوض مبكرًا للذهاب إلى عمله في مكتب المقاولات والإنشاءات الهندسية المملوك له، أنزل “معتصم” ساقيه عن الفراش أولاً، ثم بدأ في فرك رأسه عدة مرات كمحاولة بائسة منه لتنشيط عقله، تثاءب بصوت مسموع وهو يمسح بيده على صدره العاري، هو يحبذ النوم بسرواله فقط تاركًا الغطاء يتكفل بتغطية جسده إن شعر بالبرودة، زحف – بالمعنى المجازي – نحو المرحاض ليغتسل ويبدل ثيابه، سمع دقات خافتة على باب غرفته تبعها صوت الخادمة القائل:
-معتصم بيه، أحضر لحضرتك الفطار
دعك عينيه بقبضتيه المتكورتين لينحني بعدها نحو هاتفه المحمول ليتفقد الوقت، تأخر كثيرًا عن موعد الإفطار، فقد قارب الظهيرة، رد عليه بصوت متحشرج وهو يسعل:
-لأ، اعملي فنجان قهوة بس!
ردت بامتثالٍ:
-حاضر يا فندم
سألها “معتصم” مستفسرًا وهو ينظر إلى ذقنه النابتة قليلاً في المرآة:
-ماما صحت؟
أجابته بجدية:
-ايوه، ونزلت من بدري مع الباشا “وحيد”
زفر بملل وهو يقول:
-طيب، جهزي القهوة وأنا جاي
-حاضر
ولج بعدها إلى داخل المرحاض ليبدأ في مراحل الاستعداد للذهاب إلى عمله، في نفس التوقيت كانت تقف عند عتبة باب ذلك المنزل ترمق اللافتة المدون عليها “وحيد المصري” بنظرات نارية تحمل الغضب والكره، توصلت “آسيا” إلى عنوان تلك العائلة من أحد معارفها القدامى والذي ظن أنه يقدم لها خدمة عظيمة بإبلاغها به، لكنه لم يعرف أنه سيفتح بابًا من الجحيم على أفرادها، بابًا لم يظنوا أنه سيظهر ليفسد عليهم هدوئهم واستقرارهم الطبيعي ……………………..
……………………..