“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد
كبير العيلة…
الفصل الثامن عشر…
بقلمي/احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
************************** ***
أنوار تلألأ بها قصر الخولي المنيف في البلدة وصدحت بعدها صوت إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بعقد قرآن أحفاد عميد عيلة الخولي الحاج عبد الحميد عثمان الخولي, اقتصر عقد القرآن على الأهل والأقارب فقط احتراما لوفاة ابن العائلة راضي, ولكن هذا لم يمنع الرجال من إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بأبناء كبيرهم.. شهاب وغيث الخولي…
جلست سلافة وسلمى بجانب بعضهما بينما التفت النسوة حولهما وهن يلقين اليهن بالتهاني والمباركات, ووقفت الجدة تنظر بزهو الى حفيديتها وجمالهما الوضّاء, وكانت قد سمحت للنسوة بالأغاني وإطلاق الزغاريد فالمنزل خال لهن بينما انتصبت خيمة كبيرة للرجال في الساحة الملحقة بالقصر, وقد حضرت أم ليث وسلسبيل شقيقة العريسين وألحت أم ليث على الجدة السماح للحريم بإنشاد الأغنيات والتعبير عن فرحتهم, وبينما جلست ألفت تتلقى التهاني والمباركات من الحاضرات كلهم كانت راوية تقبع في جانب بعيد عنها تنظر اليها دون انتباه الآخرين لها بغموض بينما يعتمل قلبها بكره أسود وحقد دفين وهي تتوعد في ضميرها أنها ستذيقها هي وبناتها الويل على كافة أنواعه بل ستحيل ضحكتها السعيدة بابنتيها هذه الى دموع حارقة تبكي الساعة التي وافقت فيها على زواج ابنتيها من ولديْها هي!..
لم تكن تدري راوية والتي غلبها كرهها فظهرت نظتها السوداء جلية في عينيها أنها موضع مراقبة الجدة فاطمة لها, والتي أسرّت في نفسها وهي تتابعها بعينيها بوعد قاطع:
– ربنا يستر من اللي بتفكري فيه يا مرَت ولديْ, لكن أني واعيالك زين ومفتحالك عينيا التنييين جوي, ولو جلِّيت عجلك واعملت حاجة تفسد فرحتهم لاكون أني اللي واجفالك يا راوية, وانتي عارفة كلمة الحاجة فاطنة.. لمن أجول أنفذّ..
كانت هناك سيدة متشحة بعباءة سوداء مزينة أطرافها بخرز ملون تمسك بيدها دفّاً وتقوم بغناء بعض الأغاني المشهورة لديهم والتي كان يسمعها ولأول مرة ألفت وابنتيها…
ابتسمت سلافة هي وسلمى وهما يسمعان تلك الكلمات التي تراقص عليها بعض الفتيات وكانت تقول:
اتكحرت وأجرى يا رمان .. وتعالى على حجرى يا رمان ..أنا حجرى حنين يا رمان .. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على صدرى يا رمان.. أنا صدرى حنين يا رمان.. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على وسطى يا رمان.. أنا وسطى حنين يا رمان.. يخدك ويميل يارمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان ..وتعالى على (………) يا رمان ..أنا (……..) حنين يا رمان.. يخدك ويميل يا رمان….
جلست سلسبيل تطالع الفرحة المرتسمة على وجوه المحيطين بها, ولفت نظرها تعبيرات وجهي سلمى وسلافة, لا تنكر أنها ترى فرحة تتقافز داخل الأعين ولكنها لا تدري لما تشعر أنها ممتزجة بشعود آخر أشيه بالقلق أو الخوف, هي تعلم أن شقيقيها قد دفعا بالأحداث سريعا وأن عقد القرآن قد تم بعد زواجها هي بأقل من أسبوعين, ليرحل عقلها شاردا في ذلك الذي أقحم نفسه في حياتها ومع هذا يتركها بكامل حريتها!, هو يتحكم بكل شاردة وواردة بها وبدون أي مجهود منه!, يكفي أن ينظر إليها بليل عينيه السرمدي ذلك لتعلم ما يريد, هي منذ عناقه المباغت لها وهي تتعمد عدم الاقتراب منه أو إثارته, تعلم يقينا أن ماحدث كان النتيجة التي ترتبت عن عباراتها الخرقاء تلك التي رمتها بكل غباء في وجهه ليلة الزفاف, لم يكن من الواجب أن تقذفه بتلك الكلمات الصريحة بوقاحة من أنها لا تريد قربه وأنها لا تزال في عين نفسها زوجة لأخيه… راضي!, كتمت تنهيدة عميقة كادت تخرج من أعماق صدرها, حتى الأسم أصبح محرّم عليه تذكره, وقد يكون هذا أكثر ما يثير أعصابها ويوغر قلبها تجاهه, فهي ومنذ أن حملت لقب زوجة ليث أصبح من غير المسموح لها التفكير بغيره وان كان هذا الغير قد كان زوجا لها ذات يوم والآن هو في عالم آخر, ولكنها ليست بخائنة وهي تعد هذه خيانه ان ذكرت اسمه حتى بينها وبين نفسها, وهذا أكثر ما يثير استيائها وحنقها من ليث أنه حرمها حتى متعة العيش على ذكرى زوجها الراحل, لا تنكر أنه لا يحب صغارها فقط بل هو يعشقهم وهما يعشقانه بالمقابل وخاصة شبل, ذلك الصغير الذي أسماه هو وتربى في حضنه أكثر من أبوه البيولوجي والذي كان دائم السفر, فهو يقضي وقتا كثيرا معهما بل أن وقته هذا يعد من المقدسات بالنسبة له حتى أنها تشعر أن الولديْن قاربا أن يصبحا نسخة مصغرة عنه وخاصة شبل والذي يحاكيه في كل حركة تصدر منه ابتداءا من عقد يديه خلف ظهره وهو يتناقش في أمر هام, إلى التقطيبة التي تعتلي وجهه أثناء تركيزه في حل مشكلة ما, انتهاءا برغبته بارتداء عمامة كعمه ليث بل وأن يتعلم هو كيفية ربطها لنفسه!..
هزت رأسها محاولة صرف هذه الأفكار عن ذهنها ولكنها لم تستطع محو ابتسامتها عندما تذكرت وجهه عندما كان يحثها على الاسراع فهو سيكون إحدى الشهود على عقد القران بل أنه الشاهد المشترك على العقدين, كانت قد ارتدت عباءة حريرية وبناءا على نصيحة حماتها لم ترتديها سوداء فهي في نظر الناس عروس والعروس لا ترتدي الا الالوان الزاهية, وكانت قد أهدتها حماتها عباءة حمراء اللون موشية بخطوط فضية محكمة على جسدها تنسدل حتى الكاحل وأطلقت خصلات شعرها الأسود الطويل والتي قاربت ركبتيها, ثم زينت عينيها بالكحل الأسود العربي ولأول مرة تلون شفتيها بلون أحمر كرزي بناءا على إلحاح حماتها, كانت تقول لها بفخر أنها تريد أن تفاخر بها بين النسوة, فهي لا تقل جمالا عن ابنتي عمها, وبعد إلحاح شديد وافقت يتنازعها شعوران… عدم الراحة و…الخجل!, نعم فهي خجلى أن يراها ليث على هذه الصورة, هي لن تخرج كاشفة وجهها طالما أنها قد تزينت, فهي ستقوم بتغطيته كما أنها سترتدي عباءتها السمراء الواسعه ولكنها ستخلعها هي وبرقعها ما ان تصل, لم تكن لتخرج بزينتها تلك أمام الناس, ما ان خرجت من غرفتها وكان هو يزفر مناديا لها بقوة حتى تسمر واقفا أمامها فاغرا فاه مما يراه, النظرة التي أطلت من عينيه أرضت غريزة الأنثى بداخلها خاصة وأنه منذ الليلة التي لم يتمالك فيها نفسه وعانقها عناقا كاد أن يزهق روحها لم يقربها بل أنها كثيرا ما تشعر أنه يتعمد الابتعاد عنها كي لا يلامسها ولو بطريق الخطأ, وكثيرا ما ترردت كلماته من أنه هو الرافض لها في عقلها لتسألن نفسها ولأول مرة.. ترى ما سبب اخفاق زواج ليث ولثلاث مرات؟, بل أن أطول زيجة فيهم استمرت لستة أشهر فقط؟, والسؤال الأكثر إلحاحا هو.. هل ي ترى كان هناك أخرى شغلت قلب ليث ولهذا فشل في زيجاته الثلاث ولهذا أيضا أخبرها وبمنتهى الثقة أنها لا تثير فيه مقدار شعرة من أنملة؟, تكاد التساؤلات تفتك برأسها ولكن الأمر الذي يثير دهشتها وغيظها بل وحنقها هو.. ولما تشغل بالها بمثل هذه الأسئلة؟, لم تكن هي التي فرضت عليه الزواج بها بل أبوه وجدها وأباها بل والعائلة والأصول والأعراف!, فلو كان هناك ضحية لكل هؤلاء فهي الضحية ليس هو, فهو أولا وأخيرا رجل كان يستطيع الرفض ولم يكن ليقوم بما لا يريده فهو ليث.. ليث الخولي, إسمه بمفرده تهتز له الأبدان وترجف له القلوب…
تذكرت كلماته التي ألقاها بذهول اليها وهي يطوف حولها بينما وقفت في مكانها يكسوها الخجل من أعلاها الى أسفلها, ليقف بعدئذ أمامها وهو يهتف بانشداه مشيرا بسبابتها اليها من الأعلى الى الأسفل:
– انتي هرتوحي الفرح إكده؟.
قطبت وأجابت وقد اعتقدت أن منظرها ليس بالجيد وهي تنظر الى لباسها:
– إيوة, مرات عمي هيا اللي جابت لي الخلجات ديْ وجالت لي ألبسهم, ايه شكلهم مش زين؟
أجاب ليث وهو شارد بنظراته بين خصرها المحكم التفصيل وذراعيها الظاهرين من أسفل الكم الطويل الواسع اذا ما حركتهما فان الكم ينحسر الى الأعلى, ثم رفع عيناه الى عظمتي الترقوة الواضحين من فتحة العنق الواسعة, ليبتلع ريقه بصعوبة ويجيب بتلكؤ بينما نظراته تدقق في كل صغيرة وكبيرة فيها:
– هو من ناحية انه زين فهو زين الزين كومان…
ثم قطب متابعا وهو يقترب منها حتى وقف أمامها تماما فلفحتها أنفاسه الساخنة بينما هبّ عليه رائحة عطرها المسكي ليتغلغل داخل أنفه فيسير في دمه لينشر حرارة شديدة في سائر حواسه, رفع اصبعه يلمس به ثغرها الشبيه بثمرة الفراولة الناضجة:
– وايه ديه؟, حُمرة؟, وعينيكي ديْ..
ورفع عيناه الى عينيها ليتيه في عسليهما, هز رأسه بعنف يمينا ويسارا ليجلي عقله ثم هتف بغلظة:
-لاه.. على جتتي تتحركي خطوة واحدة من اهنه وانتي بالمنظر ديه!, روحي بدلي تيابك دي بسرعة ياللا, همّي أومال..
نظرت اليه مبهوتة من انفعاله ثم سألت ببراءة:
– يعني اني بدي أفهم دلوك اعتراضك عشان اللي اني لابساه زين؟
أجاب ليث بحدة:
– زين زيادة عن اللزوم كومان!..
قطبت وأجابت بحنق:
– ليث… أني مش هغيِّر خلجاتي, طالما هما زينيين أغيِّرهُم ليه؟, خصوصي ان مرت عمي هي اللي جايباهوم.., ياللا يا ليث بعدين الجماعه يستعوجونا…
وبدأت بالسير أمامه ليأمرها بالوقوف صائحا:
– استني عندك!..
ثم لحقها ووقف أمامها يهتف بحنق:
– انتي كيف ما تسمعيش أوامري وتنفذيها؟, أني مش عاوز حد يلمحك وانتي إكده!, أظن حجي زوجك وحجي عليكي اتطيعيني!
زفرت بضيق وأجابت:
– طيب مش لمن أفهم الاول ليه؟, انت بتجول انهم عاجبينك يبجى ليه؟, وبعدين مرت عمي جالت لي اني عروسة ولازمن ألبس وأتزين كيف العرايس ما بتعمل وان تجولت لي جبل سابج انه لازمن نظهر جودام الناس اننا مبسوطين وما فيش حاجة بيناتنا, يبجى ايه السبب؟.
هتف غيث بغير وعي منه:
– لأنك حلوة جووي, وأني بغير جوي جوي!.
سكتت لوهلة لتستوعب ما يقول ثم بدأ شبح ابتسامة يشق وجهها للظهور حاولت اخفائه سريعا وهي تقول:
– اني يعني هجعد مع رجالة؟, أني جعدتي كلاتها هتبجى وسط الحريم, حتى وشي هغطيه لغاية ما نوصلوا اهناك ما كونتش هتطلع بيه إكده وأني متزينة!
مال غيث عليها لينظر الى عينيها بعمق وهو يجيب:
– جوليها تاني انك حد من الرجالة هيلمح طرفك حتى لو بتتمسخري عشان أعرفك ان الله حج!, وبعدين حتى لو مع الحريم أني راجل ما أجبلش انه مرتي تظهر بالشكل دِه حتى لو مع حريم… واحده تجول عينيكي حلوة والتانية تجول خشمك والتالتة جسمك و…. لاه لاه لاه غيريه, غيريه لا ما عتروحيشي وديه آخر كلام عندي..
ليقاطعهما صوت طرقات على الباب فأجاب ليث الطارق والذي لم يكن سوى والدته التي دلفت بعد ان فتح لها الباب وما ان أبصرت سلسبيل حتى أدمعت عيناها وهتفت ببسم الله ما شاء الله ثم تابعت بابتسامة عريضة:
– جومر الله أكبر, أيوة إكده أهو دلوك حلاوتك تغلب حلاوة بنات عمك بتوع البندر, أني متأكّدة أن كل اللي عيشوفوكي الليلة عينيهم هتخرج من حجورها من جمالك!.
ليزمجر ليث كزمجرة الليث الغاضب ويهتف بوالدته حانقا:
– باه يا أمايْ, انتي بتكبري راسها ليه؟.
نظرت اليه أمه بدهشة وهتفت:
– باه مرات ولدي وفرحانه بيها, وبعدين ياللا إتأخرنا, بوك باعت يستعوجنا….
هتف ليث محاولا أيقافها وهي تهم بالسير منصرفة جاذبة سلسبيل معها:
– يما أستهدي بالله بس, سلسبيل هتغيِّر خلجاتها وبعدين هنروح..
قطبت أمه باستغراب:
– كيف يعني؟, وليه سلسبيل إتغيِّر؟, الخلجات عليها هتاكل منِّيها حتة!..
رفع ليث يده عاليا وهتف بحنق:
– يوووه يا أمّا… مش عتخرج جودام الخلايج إكده!.
الأم بنبرة زاجرة:
– ليث.. انت جرالك حاجة بعد الشر؟, مرتك مالها ما هي زي الفل أهي؟, اسمع يا ولدي الله يرضى عليك مش وجت مناجرة دلوك, وبعدين مرتك هتلبس عباية سودة وبرجع يبجى لازمته ايه عمايلك ديْ؟.
ارتدت سلسبيل عباءتها السمراء ونقابها الذي أظهر عينيها المخططتين بالكحل الأسود العربي ليزمجر ليث للمرة الألف هذه الليلة وهو يهتف مشيرا الى عينيها:
– ها.. شوفي يا أمّا.. عينيها ظاهرة كيف؟.
نظرت الأم الى عيني سلسبيل وأجابت بلامبالاة:
– وايه يعني عادي, محدش شايف حاجة والدنيا ليل, مش هنخطي من ناحية الرجالة واصل, ياللا يا سلسبيل يا بتي ولدي فاضي باينُّهْ..
خرجت ساحبة سلسبيل معها والتي لمحتى نظرة وعيد رماها بها ليث!!..
عادت الى حاضرها وهي تطالع العروستين لتنهض وتتجه اليهما مهنئة, وبعد قليل مدّت مائدة عشاء للسيدات بالداخل وأخرى للرجال خارجا, وبعد فترة بدأ الحضور بالانصراف ولم يبقى سوى سلسبيل وحماتها وزينب بالداخل وليث وصغار سلسبيل ووالده مع رياض زوج زينب بالخارج..
مالت زينب على أذن راوية هامسة:
– اجصري الشر يا ختي وابتسمي ولو بالكدب, الحاجة فاطنة عينها عليك من أول الليلة, بلاش تِكَبِّري الموضوع..
هتفت راوية بصوت منخفض وبنزق:
– يعني عاوزاني أتحزم وأرجص؟, مش كفاية سرجوا مني عيالي التنيين واني ساكتة وحاطة البُلغة في خشمي وما نطجتش بولا كلمة؟, زينب اجصري انتي في حديتك الماسخ دِه..
نظرت اليها زينب بإشفاق وأجابت قبل أن تنصرف عنها:
– خلي ابليسك راكبك لمن في الآخر هتجولي يا ريتني سمعت كلامك يا ختي..
وتركتها وانصرفت لتعلن الجدة بعد قليل رغبة العريسين بالجلوس الى عروسيهما, فنهضت كلا من سلافة وسلمى واللتان قد تعالت ضربات قلبيهما توترا وخشية مما هو آت, ولكن ظلا متماسكتين كي لا ينكشف ما يعتريهما من توتر وقلق..
دخلت سلافة الى غرفة أعدت سابقا لتجلس فيها مع غيث, كانت هناك مائدة مصفوف عليها أطباق العشاء, وقفت ما إن أغلقت الجدة الباب خلفها تطالع الباب وكأنها تريد حفظ النقوش المزدان بها خشب الباب ليطرق سمعها همسة خشنة:
– ما شاء الله تبارك الله, سبحان من صوّرك..
استدارت سلافة لتشهق بغتة وهي تتراجع الى الوراء عدة خطوات فقد فوجئت بغيث وهو يقف أمامها تماما, نظر اليها غيث بنظرات أشاعت الفوضى والإضطراب في سائر حواسها, أشاحت بوجهها جانبا بينما تقدم ليقف أمامها وهو يتابع بوله شديد:
– الجمال ديِه كلّاته بجى ملكي أنا…
ابتلعت ريقها بصعوبة, فامتدت يده ليقبض بسبابته وابهامه على ذقنها مديرا وجهها إليه ليتابع ونظراته تلتهمان تفاصيل وجهها بدءا من عينيها بليلهما السرمدي ثم حاجبيها الرفيعين مرورا بأنفها الصغير الدقيق حتى ثغرها بلونه الزهري الشهي ليطق وقتها آهة من أعماقه جعلتها تضطرب وهي تسمعه يهتف بصوت خشن من فرط الانفعالات التي تمور بداخله:
– مبروك يا جلب غيث, ما تتصوريشي فرحتي جد إيه دلوك؟.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأجابت ببحة مثيرة فقد خانها صوتها لفرط توترها مستعدية بعضا من مرحا وهي تسأل:
– جد إيه يا ولد عمي؟.
ابتسم غيث لطريقتها في التحدث باللكنة الصعيدية, قال مبتهجا:
– اعرفتي تتكلمي زيينا أهاه…, مش جولتلك هنعملك حاجات كتير بس انتي اصبري..
قالت سلافة وقد بدأ توترها بالزوال وهي تبتسم ابتسامة سحرت عقل غيث الذي وقف يراقب تحرك شفتيها وهي تتكلم بتوق شديد لمعرفة مذاق هذه الفاكهة التي كانت محرمة عليه قبلا ولكنها أصبحت حلالا خالصا له ما أن عقد عليها ليعلنهما الشيخ زوجا وزوجة أمام الجميع:
– وهتعملني ايه تاني يا ولد عمي..
ليميل عليها فتضرب أنفاسه الساخن صفحة وجهها البيضاء لتشعر بسخونة تنبعث منه بينما تمتد يديه تقبضان على ذراعيها وتسحبان جسدها لتلتصق بجذعه القوي وهو يجيب بينما كان يطالعها كالمسحور لا يكاد يشيح ببصره عن ثغرها الزهري الطري:
– هعلمك كيف تحبيني كيف ما بحبك, لو اني حبي أكتر بكَتير من أي حب ممكن تسمعي عنِّيه, بحبك يا بت عمي بحبـ….
وكأنه وجد أن الفعل أبلغ تعبيرا عن الكلام ليميل على ثغرها الوردي مختطفا إيّاه بقبلة ضارية أودعها شوقه وعشقه وتوقه لها, حاولت الافلات منه في البداية ولكنه كان أقوى منها بمراحل, ليعتصر خصرها الدقيق بذر اعيه فيلمس بشرة ذراعيها المكشوفين ففستانها كان من الشيفون المبطن بالساتان باللون الأصفر الليموني, ينسدل على قامتها حتى منتصف ساقيها, وكانت ذراعيه مكشوفين فهو ذو أكمام قصيرة للغاية, بينما فتحة العنق واسعة تُظهر كتفيها, غاب غيث في عناقه لها, يكاد يقسم أنه كان سيفنى لو لم ينهل من شهدها, فكأنه العليل وثغرها هو ترياقه الوحيد, ضعفت مقاومتها وانتبه لسكونها بين يديه, أبعدها عنه بصعوبة بالغة, واستند بجبينه الى جبينها وهو يقول بصوت خرج أجشا محملا بأحاسيسه القوية التي ولأول مرة يشعر بها بل إنه تفاجأ أنه يملك القدرة على الشعور بها لهذه الدرجة ولكن هذا طبيعي وخاصة في حالته فهو ليس محبّا عاديّاً.. بل هو عااااااشق حتى النخاع لعروسه التي أذاقته الأمرّيْن حتى واقفت على الارتباط به, قال بشوقه كله:
– احنا لازمن نتزوج بأسرع وجت, مش هجدر أستحمل يا سلافة, ارحميني يا بت عمي ووافجي!.
سحبت أنفاسها ببطء وعلى دفعات صغيرة حتى استعادت هدوئها الذي تبعثر على يد غيث بهجومه المباغت لحواسها, أجابت بابتسامة صغيرة لم يرها ولكنه سمع صوت ضحكتها في نبراتها المشاغبة بدلال:
– بعد اللي انت عملته انهرده دا يا ابن عمي انسى يكون في جواز قبل سنة!.
انتهزت فرصة مفاجئته من قولها لتبتعد عنه ما ان ضعفت قبضته لها, رجعت عدة خطوات الى الخلف حتى اصبحت على مسافة كانت بالنسبة لها آمنة فهي أصبحت على يقين أن غيث قد وصل صبره الى منتهاه ولا بد أن تمسك هي بلجام علاقتهما ماذا وإلا وبطريقته تلك قد تصحو في الغد تجده وقد حدد موعد الزفاف مع والدها!..
تقدم غيث خطوتين ثم سأل مستهجنا وهو يقطب حاجبيه, فهو من جهة يشعر بالغيظ من جوابها ومن ناحية أخرى يعر بالحنق الشديد لاستغلالها دهشته وابتعادها عنه وحرمانه من عذب حضنها الدافيء ورائحتها المسكرة:
– يعني إيه الكلام دِه ان شاء الله؟.
أجابت سلاة وهي تغمزه بشقاوة محببة مقلدة لكنته الصعيدية:
– اللي انت سمعته يا كَبير, ياللا دلوك أحسن يستعوجونا!..
هم بالكلام عندما قاطعه صوت طرقات على الباب فانتهزت سلافة الفرصة وركضت لتفتح ليطالعها وجه جدتها المغضن فاترمت بين ذراعيها وهي تهتف بمرح:
– ماما ستو, تصدقي حالا غيث كان لسه بيقول عاوزين الحاجة تيجي تتعشى معانا!.
فتح غيث عيناه على وسعهما وهتف بذهول:
– أني..
لتقاطعه سلافة:
– أيوة طبعا, عموما أيه رأيك أنا بجد شبعانه نطلع نقعد مع جدو شوية أحسن دا وحشني أوي…
ثم تأبطت ذراع جدتها وسارت معها تاركة غيث يلاحقها بنظرات مذهولة يكاد يضرب كفّا بكف من فرط دهشته وألاعيب هذه الجنية الصغيرة التي تكاد تذهب بعقله!.
————————– ————————– —
عند سلمى وشهاب:
***************
كما فعلت الجدة مع غيث وسلافة فعلت مع سلمى وشهاب إذ أدخلت سلمى الى غرف جانبية قبل أن تغلق الباب خلفها, جالت سلمى بعينيها حولها لتقع عيناها على مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من طعام ولم تكن قد تذوقت لقمة واحدة منذ الصباح الباكر, وكأنها برؤيتها للطعام قد افتكرت جوعها لتعلن معدتها أصوات الاحتجاج, فاتجهت حيث المائدة وأزاحت كرسيا لتجلس, أمسكت شوكتها وتناولت حبة من ورق العنب المحشو والذي تعشقه لتمضغه بلذة وبطء حتى ابتلعتها ثم تبعتها بأخرى تتلذذ بمذاقها وهي تغمض عينيها ليصل همس أجش الى آذانها يقول بخشونة ذكورية جذابة:
– هتخليني أحسد ورق العنب كدا وانتى بتاكليه بالاستمتاع دا!.
فتحت عيناها لتطالعها عيناه وقد دكن لونهما حتى غدا كسماء مظلمة في ليل شتوي بارد, ابتلعت باقي لقمتها ببطء ثم وضعت شوكتها جانبا وقد غادرتها شهيتها لتمسح فمها بمنديل ورقي, ثم تسلط نظراتها على نقطة وهمية فوق مفرش المائدة أمامها بينما تلمح بطرف عينها شهاب وهو يجلس على الكرسي الآخر بجوارها فاردا ذراعه على مسند كرسيها مستندا بذراعه الآخر على المائدةأمامه فكأنه يحوطها من الجانبين!, همس شهاب وهو يميل اتجاهها:
– مبروك, ألف مبروك يا عروسة..
سعلت قليلا لتجلي حلقها قبل أن تجيبه بخفوت قائلة:
– الله يبارك فيك..
سكت يطالع هيئتها المهلكة لحواسه, بدءا من شعرها بخصلاته اللولبية الناعمة التي أطلقتها تحيط بوجهها مرورا بزينة وجهها وعينيها المظللتين بلون الزرع الأخضر ليعزز من لون عينيها, ثم أنفها الشامخ فثغرها الخوخي اللون الذي يتماشى مع فستانها المشمشي اللون والذي يغطيها من أعلاها الى أسفلها ولكن… بفتحت عنق عميقة تظهر عظمتي الترقوة وتختفي حلية سلسالها داخل هذه الفتحة ليبتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول اكتشاف أين تماما اختفت حلية السلسال؟!, بينما ذراعاها يغطيهما قماش الفستان الشيفوني حتى المرفقين, مال اتجاهها هامسا وهو تائه في غابات عينيها:
– أكّليني!.
نظرت اليه بانشداه بينما زحف اللون الأحمر الى وجنتيها ليجعلها آية في الجمال, وبدون كلام رفعت شوكة نظيفة وهمّت بالتقاط إحدى محشو ورق العنب عندما اعترض هامسا أمام وجهها:
– لا.. بشوكتك إنتِ!..
قطبت لا تعي ما يقوله ليعيد على سمعها وقد مال أكثر اتجهها هامسا في أذنها لتضربها رائحة عطره الرجولي من خشب الصندل الممتزج برائحته الخاصة صانعا عطرا رجولي أخذ بلبها حتى أنها كادت تشعر بالدوار:
– شوكتك أنتي يا بنت عمي!.
رفعت شوكتها وكأنها مسلوبة الإرادة وتناولت إحدى ورقات العنب وقربتها من فمه ليميل عليها قابضا عليها بأسنانه ليمضغها ويبتلعها وهو لا يبعد بعينيه عنها مقدار شعرة, وما ان انتهى من تناولها حتى تناول الشوكة من يدها لتتلامس أصابعهما فيسير تيارا كهربائي عال التردد بينهما لتشعر برعشة في سائر أطرافها, تناول احدى ورقات العنب بطرف الشوكة ومدها لها لتتناولها بأسنانها اللؤلؤية, وهكذا مرة هي تطعمه وأخرى هو يطعمها حتى شارف طبق محشو ورق العنب على الانتهاء عندما تناول آخر واحدة بالوكة وقال بهمس:
– افتحي بؤك..
لتنصاع طواعية كالمغيّبة, وما ان ترك طرف الشوكة ورقة العنب بين اسنانها حتى سارع هو بالتقاط النصف الآخر بفمه لتيبعها بقبلة كاسحة, كانت بداية لعناق أقل ما يقال عنه أنه قااتل للحواس!, احتواها بشدة ورفعها بين ذراعيه وكأنها طفلة صغيرة لا تزن شيئا ووضعها على ركبتيه مواصلا عناقها المغيب للعقل, مرت فترة طويلة حتى تركها على مضض بعد أن استشعر حاجتها للتنفس, وضع ذقنه فوق خصلاتها الناعمة ملتقطا أنفاسه الثائرة ليهمس بصوت أجش خشن من فرط رغبته التائقة التي تستجديه لينال امرأته الآن وفي التو واللحظة:
– أنا هتفق مع باباكي الفرح يبقى أول الشهر, يعني بعد اسبوعين من انهرده, ولو عليّا ندخل انهرده!.
لتشهق عاليا مبتعدة عنه وتضربه بقبضتها الصغيرة فوق كتفها هاتفة بحنق:
– انت.. انت قليل الأدب!, وأنا بعد اللي انت عملته دلوقتي دا انسى أني أوافقك على الجنان اللي انت بتقوله دا!.
نظر اليها بابتسامة قائلا بمكر:
– حبيبتي الجنان ان مراتي حبيبتي تبقى قودامي وبين إيديا وأتحرم منها, ظلم دا ولا مش ظلم؟.
هتفت بنزق وهي تحاول القيام من جلستها في حضنه بينما يتشبث هو بها مضيقا الخناق حول خصرها:
– لا طبعا مش ظلم, واتفضل بقه ابعد عاوزة أقوم..
هز كتفيه بلا مبالاة وأجاب ببرودة زائفة:
– والله انا واخد مراتي في حضني ومش عاوزها تبعد عني ثانية واحدة, انتي بقه عاوزة تقومي دي مشكلتك انتي مش مشكلتي..
هتفت بحنق بينما اصطبغ وجهها بلون الدم لفرط خجلها وغيظها منه:
– يا سلام انت هتستعبط؟, ابعد يا شهاب خليني أقوم أحسن حد ييجي دلوقتي شكلنا مش هيكون حلو..
قال شهاب بلا مبالاة:
– ايه اللي في شكلنا مش حلو؟, واحد ومراته حبيبته فرحان بيها ومش عاوز يسيبها فيها ايه دي أفهم أنا؟, وبعدين اطمني محدش هييجي..
وكأن الله قد استجاب لدعائها فقد تعالت صوت طرقات على الباب ليعلو صوت الجدة فأفلتت سلمى من بين يديه بصعوبة وساوت ثيابها قبل أن تتجه الى الباب بينما وقف هو قاطبا ليفتح عيناه على وسعهما وهو يطالع جدته تدخل وبيدها سلافة ووراءهما غيث في حالة يطغى عليها الذهول الممتزج بالحنق والغيظ ولا يعلم هاجمه هاجس يخبره أنه ما هي إلا ثوان ويخرج من هنا حاملا لنفس تعبير وجه غيث؟!..
ما هي إلا ثوان الا وكانت الجدة تخرج من الغرفة تتأبط في كل ذراع بسلمى وسلافة يتبعهما غيث وشهاب يسيران بجانب بعضهما ينظران الى من سلبتاهما طعم الراحة تارة والى بعضهما بأسى أخرى وإلى جدتهما برغبة في الاستنكار وبقوة ثالثة!!.
************************** ***********************
سافر غيث وسلافة لمقابلة النائب العام وتقديم الأدلة التي بحوزة سلافة والتي أدلت بأقوالها كاملة حول معرفتها بقضية مريم وسامح, ورحلا بعد أن اطمئنا الى سير العدالة بمجراها الطبيعي, وكانت سلافة تشعر بالتفاؤل الشديد فهي ستنفذ وعدها لمريم ولن تفرط في أمانتها والجناة سنالون عقابهم الذي يستحقونه بينما هي لن يذهب دمها هدر, ولكن بعد يومين أتاها الخبر الذي قوّض سعادتها تلك!.
كانت سلافة وغيث قد ذهبا الى محامي سامح الذي كان في غاية التعاون معهما وشعرا أنه يريد مساعدتهما في إظهار الحق مما بدد مخاوفهما بشأنه, أخبرهما المحامي بأنه سيتدقم بطعن في قضية سامح معللا ذلك بظهور ادلة جديدة تثبت أقوال سامح السابقة بشأن اتجار المستشفى التي كان يعمل بها بتجارة الاعضاء, وعليه فسيأمر النائب العام بإرفاق الأدلة لباقي مستندات القضية, وبالفعل سارت الخطة كما رسمها المحامي ولكن ما لم يحسبوا حسابه هو مدى قدرة هؤلاء الناس على الوصول الى غايتهم, بل مدى الأجرام الذي قد يصلون إليه في سبيل منع أيّا كان من الوصول اليهم, كان ذلك بعد إعادة فتح قضية سامح بيومين اذ قرأت سلافة خبر حريق في غرفة حفظ الأدلة بالمحكمة!, مما جعلها تقفز بهلع وتتجه مستفسرة من المحامي مهاتفة إياه وهي تصيح به أن يشرح لها حقيقة ما حدث حتى أن غيث قد دخل سريعا على صوتها العالي وهي تصيح:
– يا شريف بيه انا مش فاهمه ازاي حريق في مكان بيحفظوا فيه أدلة مهمة زي دي؟.
أنصتت قليلا قبل أن تتابع وهي تلهث لالتقاط أنفاسها الثائرة:
– يعني ايه ماس كهربائي؟, هو كل مصيبة يقولوا ماس كهربائي, حاضر.. ههدى.. بس يا ريت تعرفني اللي بيجرى أول بأول..
أنهت المكالمة بينما يسألها غيث مقطبا عمّا جرى فسردت عليه آخر الاخبار, احتواها بين ذراعيه وهو يقول بتصميم:
– ولا يهمك يا سلافة, أنا متوكد ان الحج هينتصر برضيكي, وبعدين اني مش هسيبهم واصل, أني أعرف ناس مهمين جوي في الداخلية بحكم شغلنا, بس ما كونتش عاوز أدخِّلهم جولت أستنى لمن نشوف ايه اللي هيوحصل؟.
ثم رفع رأسها ناظرا الى عينيها حب قبل أن يردف بابتسامته المحبة رغبة منه في تلطيف الأجواء:
– انتي لساتك متعرفيشي مين همّا عيلة الخولي؟, عيلتنا كبيرة جوي يا سلافة وبنشتغل مع ناس من كبارات البلد, وصدجيني دم صاحبتك معيروحش هدر, وبعدين انتي ناسية انه لسه جضية جتلها ما اتجفلتش لساتهم عم بيدوروا ع الجاني..
ابتسمت سلافة بتعب وأومأت برأسها ايجابا, فتابع غيث:
– بجولك ايه أني هوصل مشوار اصغيّر إكده ولكن أرجع ألاجيكي روجتي, ماشي الكلام؟..
همهمت بالموافقة, فطبع قبلة علة وجنتها وانصرف, بينما جلست هي تستعيد ما سمعته من المحامي عندما دخل اليها والدها فتجاذبت معه أطراف الحديث حيث أخبره غيث بآخر التطورات ليقطع حديثها ووالدها رنين هاتفها المحمول فطالعت الاسم لتجيب بلهفة ما ان طالعت اسم المحامي شريف, كانت تستمع بلهفة أن يكون هناك تطورات في اقلضية لصالحهم عندما جمدت تعابير وجهها وتسمرت في مكانها لينهض رؤوف واقفا ويتقدم ناحيتها بينما سقط الهاتف من يدها, سألها رؤوف بقلق:
– في ايه يا سلافة؟, ايه اللي جرى؟.
رفعت سلافة عينان مذهولتان اليه وهي تمتم بغير تصديق:
– ضد مجهول يا بابا!, القضية اتقيدت ضد مجهول!, دم مريم راح هدر يا بابا راح هدر!..
أغمض رؤوف عينيه متأثرا وهو يتحوقل قائلا:
– لا حول ولا قوة إلا بالله…
لتبرق عينا سلافة ببريق وحشي وهي تهتف بعزم وإصرار:
– لكن لأ… أنا صعيدية وتاري لازم آخده, ولو القانون عجز انه ياخد لي بتاري, فأنا مش هسيب تار مريم يروح هدر أبدا!..
رؤوف قاطبا بريبة وقلق:
– يعني ايه يا سلافة؟.
نظرت اليه سلافة ببريق وحشي لم يسبق وأن رآه في عيني صغيرته سابقا وأجابت بشراسة:
– يعني اللعبة لسه ما انتهتش, أنا صعيدية يا بابا ومش ممكن أسيب تاري أبدا, وتار مريم أنا اللي هاخده…
وفجأة ارتسمت صورة مريم أختها التي لم تلدها أمها أمام عينيها لتمتلئ مآقيها بالدموع وتبدأ شفتيها بالارتجاف وهي تتذكر صور عديدة لمريم وهما سوية وأثناء مزحهما سوية وخروجهما وعملهما, صور مختلفة عديدة لتصيح بحرقة عالية:
– آآآآآآه.. يا مريم, مريم…
حاول رؤوف تهدئتها لتلفها فجأة غمامة سوداء ويدخل غيث مسرعا على صيحة سلافة والذي صادف وقت رجوعه ليتلقاها بين ذراعهي قبل أن تهوى وتنظر اليه هامسة بضعف ودموعها تسيل مغرقة وجهها:
– انت صح يا غيث, انت صح!.
وتسقط بعد ذلك في تلك الدوامة السوداء التي ابتلعتها لعلها تبتعد عن ذلك العالم القاسي ولو لدقائق في حين هتف غيث بلوعة وهو يعتصرها بين أحضانه موجها حديثه الى عمه الذي ركض الى الخارج طلبا للمساعدة:
– نادي سلمى يا عمي, سلافة هتروح منينا..
لينظر بعد ذلك الى وجهها المغمض العينين الراقد بين ذراعيه بلا حول ولا قوة وقد غزاه الشحوب الشديد مردفا بقسم ووعيد:
– واللي خلج الخلايج لأخد لك ابتارها ودمها ما عيروحش هدر, بس انتي جوميلي يا جلب غيث, جومي يا سلافة, ما تعمليش فيا إكده..
ولكن سلافة كانت هناك في تلك الغيمة السوداء التي ابتلعتها لا تعي شيئا مما حولها!!..
– يتبع –
الفصل الثامن عشر…
بقلمي/احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
**************************
أنوار تلألأ بها قصر الخولي المنيف في البلدة وصدحت بعدها صوت إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بعقد قرآن أحفاد عميد عيلة الخولي الحاج عبد الحميد عثمان الخولي, اقتصر عقد القرآن على الأهل والأقارب فقط احتراما لوفاة ابن العائلة راضي, ولكن هذا لم يمنع الرجال من إطلاق الأعيرة النارية احتفالا بأبناء كبيرهم.. شهاب وغيث الخولي…
جلست سلافة وسلمى بجانب بعضهما بينما التفت النسوة حولهما وهن يلقين اليهن بالتهاني والمباركات, ووقفت الجدة تنظر بزهو الى حفيديتها وجمالهما الوضّاء, وكانت قد سمحت للنسوة بالأغاني وإطلاق الزغاريد فالمنزل خال لهن بينما انتصبت خيمة كبيرة للرجال في الساحة الملحقة بالقصر, وقد حضرت أم ليث وسلسبيل شقيقة العريسين وألحت أم ليث على الجدة السماح للحريم بإنشاد الأغنيات والتعبير عن فرحتهم, وبينما جلست ألفت تتلقى التهاني والمباركات من الحاضرات كلهم كانت راوية تقبع في جانب بعيد عنها تنظر اليها دون انتباه الآخرين لها بغموض بينما يعتمل قلبها بكره أسود وحقد دفين وهي تتوعد في ضميرها أنها ستذيقها هي وبناتها الويل على كافة أنواعه بل ستحيل ضحكتها السعيدة بابنتيها هذه الى دموع حارقة تبكي الساعة التي وافقت فيها على زواج ابنتيها من ولديْها هي!..
لم تكن تدري راوية والتي غلبها كرهها فظهرت نظتها السوداء جلية في عينيها أنها موضع مراقبة الجدة فاطمة لها, والتي أسرّت في نفسها وهي تتابعها بعينيها بوعد قاطع:
– ربنا يستر من اللي بتفكري فيه يا مرَت ولديْ, لكن أني واعيالك زين ومفتحالك عينيا التنييين جوي, ولو جلِّيت عجلك واعملت حاجة تفسد فرحتهم لاكون أني اللي واجفالك يا راوية, وانتي عارفة كلمة الحاجة فاطنة.. لمن أجول أنفذّ..
كانت هناك سيدة متشحة بعباءة سوداء مزينة أطرافها بخرز ملون تمسك بيدها دفّاً وتقوم بغناء بعض الأغاني المشهورة لديهم والتي كان يسمعها ولأول مرة ألفت وابنتيها…
ابتسمت سلافة هي وسلمى وهما يسمعان تلك الكلمات التي تراقص عليها بعض الفتيات وكانت تقول:
اتكحرت وأجرى يا رمان .. وتعالى على حجرى يا رمان ..أنا حجرى حنين يا رمان .. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على صدرى يا رمان.. أنا صدرى حنين يا رمان.. ياخدك ويميل يا رمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان.. وتعالى على وسطى يا رمان.. أنا وسطى حنين يا رمان.. يخدك ويميل يارمان.. اتكحرت وأجرى يا رمان ..وتعالى على (………) يا رمان ..أنا (……..) حنين يا رمان.. يخدك ويميل يا رمان….
جلست سلسبيل تطالع الفرحة المرتسمة على وجوه المحيطين بها, ولفت نظرها تعبيرات وجهي سلمى وسلافة, لا تنكر أنها ترى فرحة تتقافز داخل الأعين ولكنها لا تدري لما تشعر أنها ممتزجة بشعود آخر أشيه بالقلق أو الخوف, هي تعلم أن شقيقيها قد دفعا بالأحداث سريعا وأن عقد القرآن قد تم بعد زواجها هي بأقل من أسبوعين, ليرحل عقلها شاردا في ذلك الذي أقحم نفسه في حياتها ومع هذا يتركها بكامل حريتها!, هو يتحكم بكل شاردة وواردة بها وبدون أي مجهود منه!, يكفي أن ينظر إليها بليل عينيه السرمدي ذلك لتعلم ما يريد, هي منذ عناقه المباغت لها وهي تتعمد عدم الاقتراب منه أو إثارته, تعلم يقينا أن ماحدث كان النتيجة التي ترتبت عن عباراتها الخرقاء تلك التي رمتها بكل غباء في وجهه ليلة الزفاف, لم يكن من الواجب أن تقذفه بتلك الكلمات الصريحة بوقاحة من أنها لا تريد قربه وأنها لا تزال في عين نفسها زوجة لأخيه… راضي!, كتمت تنهيدة عميقة كادت تخرج من أعماق صدرها, حتى الأسم أصبح محرّم عليه تذكره, وقد يكون هذا أكثر ما يثير أعصابها ويوغر قلبها تجاهه, فهي ومنذ أن حملت لقب زوجة ليث أصبح من غير المسموح لها التفكير بغيره وان كان هذا الغير قد كان زوجا لها ذات يوم والآن هو في عالم آخر, ولكنها ليست بخائنة وهي تعد هذه خيانه ان ذكرت اسمه حتى بينها وبين نفسها, وهذا أكثر ما يثير استيائها وحنقها من ليث أنه حرمها حتى متعة العيش على ذكرى زوجها الراحل, لا تنكر أنه لا يحب صغارها فقط بل هو يعشقهم وهما يعشقانه بالمقابل وخاصة شبل, ذلك الصغير الذي أسماه هو وتربى في حضنه أكثر من أبوه البيولوجي والذي كان دائم السفر, فهو يقضي وقتا كثيرا معهما بل أن وقته هذا يعد من المقدسات بالنسبة له حتى أنها تشعر أن الولديْن قاربا أن يصبحا نسخة مصغرة عنه وخاصة شبل والذي يحاكيه في كل حركة تصدر منه ابتداءا من عقد يديه خلف ظهره وهو يتناقش في أمر هام, إلى التقطيبة التي تعتلي وجهه أثناء تركيزه في حل مشكلة ما, انتهاءا برغبته بارتداء عمامة كعمه ليث بل وأن يتعلم هو كيفية ربطها لنفسه!..
هزت رأسها محاولة صرف هذه الأفكار عن ذهنها ولكنها لم تستطع محو ابتسامتها عندما تذكرت وجهه عندما كان يحثها على الاسراع فهو سيكون إحدى الشهود على عقد القران بل أنه الشاهد المشترك على العقدين, كانت قد ارتدت عباءة حريرية وبناءا على نصيحة حماتها لم ترتديها سوداء فهي في نظر الناس عروس والعروس لا ترتدي الا الالوان الزاهية, وكانت قد أهدتها حماتها عباءة حمراء اللون موشية بخطوط فضية محكمة على جسدها تنسدل حتى الكاحل وأطلقت خصلات شعرها الأسود الطويل والتي قاربت ركبتيها, ثم زينت عينيها بالكحل الأسود العربي ولأول مرة تلون شفتيها بلون أحمر كرزي بناءا على إلحاح حماتها, كانت تقول لها بفخر أنها تريد أن تفاخر بها بين النسوة, فهي لا تقل جمالا عن ابنتي عمها, وبعد إلحاح شديد وافقت يتنازعها شعوران… عدم الراحة و…الخجل!, نعم فهي خجلى أن يراها ليث على هذه الصورة, هي لن تخرج كاشفة وجهها طالما أنها قد تزينت, فهي ستقوم بتغطيته كما أنها سترتدي عباءتها السمراء الواسعه ولكنها ستخلعها هي وبرقعها ما ان تصل, لم تكن لتخرج بزينتها تلك أمام الناس, ما ان خرجت من غرفتها وكان هو يزفر مناديا لها بقوة حتى تسمر واقفا أمامها فاغرا فاه مما يراه, النظرة التي أطلت من عينيه أرضت غريزة الأنثى بداخلها خاصة وأنه منذ الليلة التي لم يتمالك فيها نفسه وعانقها عناقا كاد أن يزهق روحها لم يقربها بل أنها كثيرا ما تشعر أنه يتعمد الابتعاد عنها كي لا يلامسها ولو بطريق الخطأ, وكثيرا ما ترردت كلماته من أنه هو الرافض لها في عقلها لتسألن نفسها ولأول مرة.. ترى ما سبب اخفاق زواج ليث ولثلاث مرات؟, بل أن أطول زيجة فيهم استمرت لستة أشهر فقط؟, والسؤال الأكثر إلحاحا هو.. هل ي ترى كان هناك أخرى شغلت قلب ليث ولهذا فشل في زيجاته الثلاث ولهذا أيضا أخبرها وبمنتهى الثقة أنها لا تثير فيه مقدار شعرة من أنملة؟, تكاد التساؤلات تفتك برأسها ولكن الأمر الذي يثير دهشتها وغيظها بل وحنقها هو.. ولما تشغل بالها بمثل هذه الأسئلة؟, لم تكن هي التي فرضت عليه الزواج بها بل أبوه وجدها وأباها بل والعائلة والأصول والأعراف!, فلو كان هناك ضحية لكل هؤلاء فهي الضحية ليس هو, فهو أولا وأخيرا رجل كان يستطيع الرفض ولم يكن ليقوم بما لا يريده فهو ليث.. ليث الخولي, إسمه بمفرده تهتز له الأبدان وترجف له القلوب…
تذكرت كلماته التي ألقاها بذهول اليها وهي يطوف حولها بينما وقفت في مكانها يكسوها الخجل من أعلاها الى أسفلها, ليقف بعدئذ أمامها وهو يهتف بانشداه مشيرا بسبابتها اليها من الأعلى الى الأسفل:
– انتي هرتوحي الفرح إكده؟.
قطبت وأجابت وقد اعتقدت أن منظرها ليس بالجيد وهي تنظر الى لباسها:
– إيوة, مرات عمي هيا اللي جابت لي الخلجات ديْ وجالت لي ألبسهم, ايه شكلهم مش زين؟
أجاب ليث وهو شارد بنظراته بين خصرها المحكم التفصيل وذراعيها الظاهرين من أسفل الكم الطويل الواسع اذا ما حركتهما فان الكم ينحسر الى الأعلى, ثم رفع عيناه الى عظمتي الترقوة الواضحين من فتحة العنق الواسعة, ليبتلع ريقه بصعوبة ويجيب بتلكؤ بينما نظراته تدقق في كل صغيرة وكبيرة فيها:
– هو من ناحية انه زين فهو زين الزين كومان…
ثم قطب متابعا وهو يقترب منها حتى وقف أمامها تماما فلفحتها أنفاسه الساخنة بينما هبّ عليه رائحة عطرها المسكي ليتغلغل داخل أنفه فيسير في دمه لينشر حرارة شديدة في سائر حواسه, رفع اصبعه يلمس به ثغرها الشبيه بثمرة الفراولة الناضجة:
– وايه ديه؟, حُمرة؟, وعينيكي ديْ..
ورفع عيناه الى عينيها ليتيه في عسليهما, هز رأسه بعنف يمينا ويسارا ليجلي عقله ثم هتف بغلظة:
-لاه.. على جتتي تتحركي خطوة واحدة من اهنه وانتي بالمنظر ديه!, روحي بدلي تيابك دي بسرعة ياللا, همّي أومال..
نظرت اليه مبهوتة من انفعاله ثم سألت ببراءة:
– يعني اني بدي أفهم دلوك اعتراضك عشان اللي اني لابساه زين؟
أجاب ليث بحدة:
– زين زيادة عن اللزوم كومان!..
قطبت وأجابت بحنق:
– ليث… أني مش هغيِّر خلجاتي, طالما هما زينيين أغيِّرهُم ليه؟, خصوصي ان مرت عمي هي اللي جايباهوم.., ياللا يا ليث بعدين الجماعه يستعوجونا…
وبدأت بالسير أمامه ليأمرها بالوقوف صائحا:
– استني عندك!..
ثم لحقها ووقف أمامها يهتف بحنق:
– انتي كيف ما تسمعيش أوامري وتنفذيها؟, أني مش عاوز حد يلمحك وانتي إكده!, أظن حجي زوجك وحجي عليكي اتطيعيني!
زفرت بضيق وأجابت:
– طيب مش لمن أفهم الاول ليه؟, انت بتجول انهم عاجبينك يبجى ليه؟, وبعدين مرت عمي جالت لي اني عروسة ولازمن ألبس وأتزين كيف العرايس ما بتعمل وان تجولت لي جبل سابج انه لازمن نظهر جودام الناس اننا مبسوطين وما فيش حاجة بيناتنا, يبجى ايه السبب؟.
هتف غيث بغير وعي منه:
– لأنك حلوة جووي, وأني بغير جوي جوي!.
سكتت لوهلة لتستوعب ما يقول ثم بدأ شبح ابتسامة يشق وجهها للظهور حاولت اخفائه سريعا وهي تقول:
– اني يعني هجعد مع رجالة؟, أني جعدتي كلاتها هتبجى وسط الحريم, حتى وشي هغطيه لغاية ما نوصلوا اهناك ما كونتش هتطلع بيه إكده وأني متزينة!
مال غيث عليها لينظر الى عينيها بعمق وهو يجيب:
– جوليها تاني انك حد من الرجالة هيلمح طرفك حتى لو بتتمسخري عشان أعرفك ان الله حج!, وبعدين حتى لو مع الحريم أني راجل ما أجبلش انه مرتي تظهر بالشكل دِه حتى لو مع حريم… واحده تجول عينيكي حلوة والتانية تجول خشمك والتالتة جسمك و…. لاه لاه لاه غيريه, غيريه لا ما عتروحيشي وديه آخر كلام عندي..
ليقاطعهما صوت طرقات على الباب فأجاب ليث الطارق والذي لم يكن سوى والدته التي دلفت بعد ان فتح لها الباب وما ان أبصرت سلسبيل حتى أدمعت عيناها وهتفت ببسم الله ما شاء الله ثم تابعت بابتسامة عريضة:
– جومر الله أكبر, أيوة إكده أهو دلوك حلاوتك تغلب حلاوة بنات عمك بتوع البندر, أني متأكّدة أن كل اللي عيشوفوكي الليلة عينيهم هتخرج من حجورها من جمالك!.
ليزمجر ليث كزمجرة الليث الغاضب ويهتف بوالدته حانقا:
– باه يا أمايْ, انتي بتكبري راسها ليه؟.
نظرت اليه أمه بدهشة وهتفت:
– باه مرات ولدي وفرحانه بيها, وبعدين ياللا إتأخرنا, بوك باعت يستعوجنا….
هتف ليث محاولا أيقافها وهي تهم بالسير منصرفة جاذبة سلسبيل معها:
– يما أستهدي بالله بس, سلسبيل هتغيِّر خلجاتها وبعدين هنروح..
قطبت أمه باستغراب:
– كيف يعني؟, وليه سلسبيل إتغيِّر؟, الخلجات عليها هتاكل منِّيها حتة!..
رفع ليث يده عاليا وهتف بحنق:
– يوووه يا أمّا… مش عتخرج جودام الخلايج إكده!.
الأم بنبرة زاجرة:
– ليث.. انت جرالك حاجة بعد الشر؟, مرتك مالها ما هي زي الفل أهي؟, اسمع يا ولدي الله يرضى عليك مش وجت مناجرة دلوك, وبعدين مرتك هتلبس عباية سودة وبرجع يبجى لازمته ايه عمايلك ديْ؟.
ارتدت سلسبيل عباءتها السمراء ونقابها الذي أظهر عينيها المخططتين بالكحل الأسود العربي ليزمجر ليث للمرة الألف هذه الليلة وهو يهتف مشيرا الى عينيها:
– ها.. شوفي يا أمّا.. عينيها ظاهرة كيف؟.
نظرت الأم الى عيني سلسبيل وأجابت بلامبالاة:
– وايه يعني عادي, محدش شايف حاجة والدنيا ليل, مش هنخطي من ناحية الرجالة واصل, ياللا يا سلسبيل يا بتي ولدي فاضي باينُّهْ..
خرجت ساحبة سلسبيل معها والتي لمحتى نظرة وعيد رماها بها ليث!!..
عادت الى حاضرها وهي تطالع العروستين لتنهض وتتجه اليهما مهنئة, وبعد قليل مدّت مائدة عشاء للسيدات بالداخل وأخرى للرجال خارجا, وبعد فترة بدأ الحضور بالانصراف ولم يبقى سوى سلسبيل وحماتها وزينب بالداخل وليث وصغار سلسبيل ووالده مع رياض زوج زينب بالخارج..
مالت زينب على أذن راوية هامسة:
– اجصري الشر يا ختي وابتسمي ولو بالكدب, الحاجة فاطنة عينها عليك من أول الليلة, بلاش تِكَبِّري الموضوع..
هتفت راوية بصوت منخفض وبنزق:
– يعني عاوزاني أتحزم وأرجص؟, مش كفاية سرجوا مني عيالي التنيين واني ساكتة وحاطة البُلغة في خشمي وما نطجتش بولا كلمة؟, زينب اجصري انتي في حديتك الماسخ دِه..
نظرت اليها زينب بإشفاق وأجابت قبل أن تنصرف عنها:
– خلي ابليسك راكبك لمن في الآخر هتجولي يا ريتني سمعت كلامك يا ختي..
وتركتها وانصرفت لتعلن الجدة بعد قليل رغبة العريسين بالجلوس الى عروسيهما, فنهضت كلا من سلافة وسلمى واللتان قد تعالت ضربات قلبيهما توترا وخشية مما هو آت, ولكن ظلا متماسكتين كي لا ينكشف ما يعتريهما من توتر وقلق..
دخلت سلافة الى غرفة أعدت سابقا لتجلس فيها مع غيث, كانت هناك مائدة مصفوف عليها أطباق العشاء, وقفت ما إن أغلقت الجدة الباب خلفها تطالع الباب وكأنها تريد حفظ النقوش المزدان بها خشب الباب ليطرق سمعها همسة خشنة:
– ما شاء الله تبارك الله, سبحان من صوّرك..
استدارت سلافة لتشهق بغتة وهي تتراجع الى الوراء عدة خطوات فقد فوجئت بغيث وهو يقف أمامها تماما, نظر اليها غيث بنظرات أشاعت الفوضى والإضطراب في سائر حواسها, أشاحت بوجهها جانبا بينما تقدم ليقف أمامها وهو يتابع بوله شديد:
– الجمال ديِه كلّاته بجى ملكي أنا…
ابتلعت ريقها بصعوبة, فامتدت يده ليقبض بسبابته وابهامه على ذقنها مديرا وجهها إليه ليتابع ونظراته تلتهمان تفاصيل وجهها بدءا من عينيها بليلهما السرمدي ثم حاجبيها الرفيعين مرورا بأنفها الصغير الدقيق حتى ثغرها بلونه الزهري الشهي ليطق وقتها آهة من أعماقه جعلتها تضطرب وهي تسمعه يهتف بصوت خشن من فرط الانفعالات التي تمور بداخله:
– مبروك يا جلب غيث, ما تتصوريشي فرحتي جد إيه دلوك؟.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأجابت ببحة مثيرة فقد خانها صوتها لفرط توترها مستعدية بعضا من مرحا وهي تسأل:
– جد إيه يا ولد عمي؟.
ابتسم غيث لطريقتها في التحدث باللكنة الصعيدية, قال مبتهجا:
– اعرفتي تتكلمي زيينا أهاه…, مش جولتلك هنعملك حاجات كتير بس انتي اصبري..
قالت سلافة وقد بدأ توترها بالزوال وهي تبتسم ابتسامة سحرت عقل غيث الذي وقف يراقب تحرك شفتيها وهي تتكلم بتوق شديد لمعرفة مذاق هذه الفاكهة التي كانت محرمة عليه قبلا ولكنها أصبحت حلالا خالصا له ما أن عقد عليها ليعلنهما الشيخ زوجا وزوجة أمام الجميع:
– وهتعملني ايه تاني يا ولد عمي..
ليميل عليها فتضرب أنفاسه الساخن صفحة وجهها البيضاء لتشعر بسخونة تنبعث منه بينما تمتد يديه تقبضان على ذراعيها وتسحبان جسدها لتلتصق بجذعه القوي وهو يجيب بينما كان يطالعها كالمسحور لا يكاد يشيح ببصره عن ثغرها الزهري الطري:
– هعلمك كيف تحبيني كيف ما بحبك, لو اني حبي أكتر بكَتير من أي حب ممكن تسمعي عنِّيه, بحبك يا بت عمي بحبـ….
وكأنه وجد أن الفعل أبلغ تعبيرا عن الكلام ليميل على ثغرها الوردي مختطفا إيّاه بقبلة ضارية أودعها شوقه وعشقه وتوقه لها, حاولت الافلات منه في البداية ولكنه كان أقوى منها بمراحل, ليعتصر خصرها الدقيق بذر اعيه فيلمس بشرة ذراعيها المكشوفين ففستانها كان من الشيفون المبطن بالساتان باللون الأصفر الليموني, ينسدل على قامتها حتى منتصف ساقيها, وكانت ذراعيه مكشوفين فهو ذو أكمام قصيرة للغاية, بينما فتحة العنق واسعة تُظهر كتفيها, غاب غيث في عناقه لها, يكاد يقسم أنه كان سيفنى لو لم ينهل من شهدها, فكأنه العليل وثغرها هو ترياقه الوحيد, ضعفت مقاومتها وانتبه لسكونها بين يديه, أبعدها عنه بصعوبة بالغة, واستند بجبينه الى جبينها وهو يقول بصوت خرج أجشا محملا بأحاسيسه القوية التي ولأول مرة يشعر بها بل إنه تفاجأ أنه يملك القدرة على الشعور بها لهذه الدرجة ولكن هذا طبيعي وخاصة في حالته فهو ليس محبّا عاديّاً.. بل هو عااااااشق حتى النخاع لعروسه التي أذاقته الأمرّيْن حتى واقفت على الارتباط به, قال بشوقه كله:
– احنا لازمن نتزوج بأسرع وجت, مش هجدر أستحمل يا سلافة, ارحميني يا بت عمي ووافجي!.
سحبت أنفاسها ببطء وعلى دفعات صغيرة حتى استعادت هدوئها الذي تبعثر على يد غيث بهجومه المباغت لحواسها, أجابت بابتسامة صغيرة لم يرها ولكنه سمع صوت ضحكتها في نبراتها المشاغبة بدلال:
– بعد اللي انت عملته انهرده دا يا ابن عمي انسى يكون في جواز قبل سنة!.
انتهزت فرصة مفاجئته من قولها لتبتعد عنه ما ان ضعفت قبضته لها, رجعت عدة خطوات الى الخلف حتى اصبحت على مسافة كانت بالنسبة لها آمنة فهي أصبحت على يقين أن غيث قد وصل صبره الى منتهاه ولا بد أن تمسك هي بلجام علاقتهما ماذا وإلا وبطريقته تلك قد تصحو في الغد تجده وقد حدد موعد الزفاف مع والدها!..
تقدم غيث خطوتين ثم سأل مستهجنا وهو يقطب حاجبيه, فهو من جهة يشعر بالغيظ من جوابها ومن ناحية أخرى يعر بالحنق الشديد لاستغلالها دهشته وابتعادها عنه وحرمانه من عذب حضنها الدافيء ورائحتها المسكرة:
– يعني إيه الكلام دِه ان شاء الله؟.
أجابت سلاة وهي تغمزه بشقاوة محببة مقلدة لكنته الصعيدية:
– اللي انت سمعته يا كَبير, ياللا دلوك أحسن يستعوجونا!..
هم بالكلام عندما قاطعه صوت طرقات على الباب فانتهزت سلافة الفرصة وركضت لتفتح ليطالعها وجه جدتها المغضن فاترمت بين ذراعيها وهي تهتف بمرح:
– ماما ستو, تصدقي حالا غيث كان لسه بيقول عاوزين الحاجة تيجي تتعشى معانا!.
فتح غيث عيناه على وسعهما وهتف بذهول:
– أني..
لتقاطعه سلافة:
– أيوة طبعا, عموما أيه رأيك أنا بجد شبعانه نطلع نقعد مع جدو شوية أحسن دا وحشني أوي…
ثم تأبطت ذراع جدتها وسارت معها تاركة غيث يلاحقها بنظرات مذهولة يكاد يضرب كفّا بكف من فرط دهشته وألاعيب هذه الجنية الصغيرة التي تكاد تذهب بعقله!.
————————–
عند سلمى وشهاب:
***************
كما فعلت الجدة مع غيث وسلافة فعلت مع سلمى وشهاب إذ أدخلت سلمى الى غرف جانبية قبل أن تغلق الباب خلفها, جالت سلمى بعينيها حولها لتقع عيناها على مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من طعام ولم تكن قد تذوقت لقمة واحدة منذ الصباح الباكر, وكأنها برؤيتها للطعام قد افتكرت جوعها لتعلن معدتها أصوات الاحتجاج, فاتجهت حيث المائدة وأزاحت كرسيا لتجلس, أمسكت شوكتها وتناولت حبة من ورق العنب المحشو والذي تعشقه لتمضغه بلذة وبطء حتى ابتلعتها ثم تبعتها بأخرى تتلذذ بمذاقها وهي تغمض عينيها ليصل همس أجش الى آذانها يقول بخشونة ذكورية جذابة:
– هتخليني أحسد ورق العنب كدا وانتى بتاكليه بالاستمتاع دا!.
فتحت عيناها لتطالعها عيناه وقد دكن لونهما حتى غدا كسماء مظلمة في ليل شتوي بارد, ابتلعت باقي لقمتها ببطء ثم وضعت شوكتها جانبا وقد غادرتها شهيتها لتمسح فمها بمنديل ورقي, ثم تسلط نظراتها على نقطة وهمية فوق مفرش المائدة أمامها بينما تلمح بطرف عينها شهاب وهو يجلس على الكرسي الآخر بجوارها فاردا ذراعه على مسند كرسيها مستندا بذراعه الآخر على المائدةأمامه فكأنه يحوطها من الجانبين!, همس شهاب وهو يميل اتجاهها:
– مبروك, ألف مبروك يا عروسة..
سعلت قليلا لتجلي حلقها قبل أن تجيبه بخفوت قائلة:
– الله يبارك فيك..
سكت يطالع هيئتها المهلكة لحواسه, بدءا من شعرها بخصلاته اللولبية الناعمة التي أطلقتها تحيط بوجهها مرورا بزينة وجهها وعينيها المظللتين بلون الزرع الأخضر ليعزز من لون عينيها, ثم أنفها الشامخ فثغرها الخوخي اللون الذي يتماشى مع فستانها المشمشي اللون والذي يغطيها من أعلاها الى أسفلها ولكن… بفتحت عنق عميقة تظهر عظمتي الترقوة وتختفي حلية سلسالها داخل هذه الفتحة ليبتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول اكتشاف أين تماما اختفت حلية السلسال؟!, بينما ذراعاها يغطيهما قماش الفستان الشيفوني حتى المرفقين, مال اتجاهها هامسا وهو تائه في غابات عينيها:
– أكّليني!.
نظرت اليه بانشداه بينما زحف اللون الأحمر الى وجنتيها ليجعلها آية في الجمال, وبدون كلام رفعت شوكة نظيفة وهمّت بالتقاط إحدى محشو ورق العنب عندما اعترض هامسا أمام وجهها:
– لا.. بشوكتك إنتِ!..
قطبت لا تعي ما يقوله ليعيد على سمعها وقد مال أكثر اتجهها هامسا في أذنها لتضربها رائحة عطره الرجولي من خشب الصندل الممتزج برائحته الخاصة صانعا عطرا رجولي أخذ بلبها حتى أنها كادت تشعر بالدوار:
– شوكتك أنتي يا بنت عمي!.
رفعت شوكتها وكأنها مسلوبة الإرادة وتناولت إحدى ورقات العنب وقربتها من فمه ليميل عليها قابضا عليها بأسنانه ليمضغها ويبتلعها وهو لا يبعد بعينيه عنها مقدار شعرة, وما ان انتهى من تناولها حتى تناول الشوكة من يدها لتتلامس أصابعهما فيسير تيارا كهربائي عال التردد بينهما لتشعر برعشة في سائر أطرافها, تناول احدى ورقات العنب بطرف الشوكة ومدها لها لتتناولها بأسنانها اللؤلؤية, وهكذا مرة هي تطعمه وأخرى هو يطعمها حتى شارف طبق محشو ورق العنب على الانتهاء عندما تناول آخر واحدة بالوكة وقال بهمس:
– افتحي بؤك..
لتنصاع طواعية كالمغيّبة, وما ان ترك طرف الشوكة ورقة العنب بين اسنانها حتى سارع هو بالتقاط النصف الآخر بفمه لتيبعها بقبلة كاسحة, كانت بداية لعناق أقل ما يقال عنه أنه قااتل للحواس!, احتواها بشدة ورفعها بين ذراعيه وكأنها طفلة صغيرة لا تزن شيئا ووضعها على ركبتيه مواصلا عناقها المغيب للعقل, مرت فترة طويلة حتى تركها على مضض بعد أن استشعر حاجتها للتنفس, وضع ذقنه فوق خصلاتها الناعمة ملتقطا أنفاسه الثائرة ليهمس بصوت أجش خشن من فرط رغبته التائقة التي تستجديه لينال امرأته الآن وفي التو واللحظة:
– أنا هتفق مع باباكي الفرح يبقى أول الشهر, يعني بعد اسبوعين من انهرده, ولو عليّا ندخل انهرده!.
لتشهق عاليا مبتعدة عنه وتضربه بقبضتها الصغيرة فوق كتفها هاتفة بحنق:
– انت.. انت قليل الأدب!, وأنا بعد اللي انت عملته دلوقتي دا انسى أني أوافقك على الجنان اللي انت بتقوله دا!.
نظر اليها بابتسامة قائلا بمكر:
– حبيبتي الجنان ان مراتي حبيبتي تبقى قودامي وبين إيديا وأتحرم منها, ظلم دا ولا مش ظلم؟.
هتفت بنزق وهي تحاول القيام من جلستها في حضنه بينما يتشبث هو بها مضيقا الخناق حول خصرها:
– لا طبعا مش ظلم, واتفضل بقه ابعد عاوزة أقوم..
هز كتفيه بلا مبالاة وأجاب ببرودة زائفة:
– والله انا واخد مراتي في حضني ومش عاوزها تبعد عني ثانية واحدة, انتي بقه عاوزة تقومي دي مشكلتك انتي مش مشكلتي..
هتفت بحنق بينما اصطبغ وجهها بلون الدم لفرط خجلها وغيظها منه:
– يا سلام انت هتستعبط؟, ابعد يا شهاب خليني أقوم أحسن حد ييجي دلوقتي شكلنا مش هيكون حلو..
قال شهاب بلا مبالاة:
– ايه اللي في شكلنا مش حلو؟, واحد ومراته حبيبته فرحان بيها ومش عاوز يسيبها فيها ايه دي أفهم أنا؟, وبعدين اطمني محدش هييجي..
وكأن الله قد استجاب لدعائها فقد تعالت صوت طرقات على الباب ليعلو صوت الجدة فأفلتت سلمى من بين يديه بصعوبة وساوت ثيابها قبل أن تتجه الى الباب بينما وقف هو قاطبا ليفتح عيناه على وسعهما وهو يطالع جدته تدخل وبيدها سلافة ووراءهما غيث في حالة يطغى عليها الذهول الممتزج بالحنق والغيظ ولا يعلم هاجمه هاجس يخبره أنه ما هي إلا ثوان ويخرج من هنا حاملا لنفس تعبير وجه غيث؟!..
ما هي إلا ثوان الا وكانت الجدة تخرج من الغرفة تتأبط في كل ذراع بسلمى وسلافة يتبعهما غيث وشهاب يسيران بجانب بعضهما ينظران الى من سلبتاهما طعم الراحة تارة والى بعضهما بأسى أخرى وإلى جدتهما برغبة في الاستنكار وبقوة ثالثة!!.
**************************
سافر غيث وسلافة لمقابلة النائب العام وتقديم الأدلة التي بحوزة سلافة والتي أدلت بأقوالها كاملة حول معرفتها بقضية مريم وسامح, ورحلا بعد أن اطمئنا الى سير العدالة بمجراها الطبيعي, وكانت سلافة تشعر بالتفاؤل الشديد فهي ستنفذ وعدها لمريم ولن تفرط في أمانتها والجناة سنالون عقابهم الذي يستحقونه بينما هي لن يذهب دمها هدر, ولكن بعد يومين أتاها الخبر الذي قوّض سعادتها تلك!.
كانت سلافة وغيث قد ذهبا الى محامي سامح الذي كان في غاية التعاون معهما وشعرا أنه يريد مساعدتهما في إظهار الحق مما بدد مخاوفهما بشأنه, أخبرهما المحامي بأنه سيتدقم بطعن في قضية سامح معللا ذلك بظهور ادلة جديدة تثبت أقوال سامح السابقة بشأن اتجار المستشفى التي كان يعمل بها بتجارة الاعضاء, وعليه فسيأمر النائب العام بإرفاق الأدلة لباقي مستندات القضية, وبالفعل سارت الخطة كما رسمها المحامي ولكن ما لم يحسبوا حسابه هو مدى قدرة هؤلاء الناس على الوصول الى غايتهم, بل مدى الأجرام الذي قد يصلون إليه في سبيل منع أيّا كان من الوصول اليهم, كان ذلك بعد إعادة فتح قضية سامح بيومين اذ قرأت سلافة خبر حريق في غرفة حفظ الأدلة بالمحكمة!, مما جعلها تقفز بهلع وتتجه مستفسرة من المحامي مهاتفة إياه وهي تصيح به أن يشرح لها حقيقة ما حدث حتى أن غيث قد دخل سريعا على صوتها العالي وهي تصيح:
– يا شريف بيه انا مش فاهمه ازاي حريق في مكان بيحفظوا فيه أدلة مهمة زي دي؟.
أنصتت قليلا قبل أن تتابع وهي تلهث لالتقاط أنفاسها الثائرة:
– يعني ايه ماس كهربائي؟, هو كل مصيبة يقولوا ماس كهربائي, حاضر.. ههدى.. بس يا ريت تعرفني اللي بيجرى أول بأول..
أنهت المكالمة بينما يسألها غيث مقطبا عمّا جرى فسردت عليه آخر الاخبار, احتواها بين ذراعيه وهو يقول بتصميم:
– ولا يهمك يا سلافة, أنا متوكد ان الحج هينتصر برضيكي, وبعدين اني مش هسيبهم واصل, أني أعرف ناس مهمين جوي في الداخلية بحكم شغلنا, بس ما كونتش عاوز أدخِّلهم جولت أستنى لمن نشوف ايه اللي هيوحصل؟.
ثم رفع رأسها ناظرا الى عينيها حب قبل أن يردف بابتسامته المحبة رغبة منه في تلطيف الأجواء:
– انتي لساتك متعرفيشي مين همّا عيلة الخولي؟, عيلتنا كبيرة جوي يا سلافة وبنشتغل مع ناس من كبارات البلد, وصدجيني دم صاحبتك معيروحش هدر, وبعدين انتي ناسية انه لسه جضية جتلها ما اتجفلتش لساتهم عم بيدوروا ع الجاني..
ابتسمت سلافة بتعب وأومأت برأسها ايجابا, فتابع غيث:
– بجولك ايه أني هوصل مشوار اصغيّر إكده ولكن أرجع ألاجيكي روجتي, ماشي الكلام؟..
همهمت بالموافقة, فطبع قبلة علة وجنتها وانصرف, بينما جلست هي تستعيد ما سمعته من المحامي عندما دخل اليها والدها فتجاذبت معه أطراف الحديث حيث أخبره غيث بآخر التطورات ليقطع حديثها ووالدها رنين هاتفها المحمول فطالعت الاسم لتجيب بلهفة ما ان طالعت اسم المحامي شريف, كانت تستمع بلهفة أن يكون هناك تطورات في اقلضية لصالحهم عندما جمدت تعابير وجهها وتسمرت في مكانها لينهض رؤوف واقفا ويتقدم ناحيتها بينما سقط الهاتف من يدها, سألها رؤوف بقلق:
– في ايه يا سلافة؟, ايه اللي جرى؟.
رفعت سلافة عينان مذهولتان اليه وهي تمتم بغير تصديق:
– ضد مجهول يا بابا!, القضية اتقيدت ضد مجهول!, دم مريم راح هدر يا بابا راح هدر!..
أغمض رؤوف عينيه متأثرا وهو يتحوقل قائلا:
– لا حول ولا قوة إلا بالله…
لتبرق عينا سلافة ببريق وحشي وهي تهتف بعزم وإصرار:
– لكن لأ… أنا صعيدية وتاري لازم آخده, ولو القانون عجز انه ياخد لي بتاري, فأنا مش هسيب تار مريم يروح هدر أبدا!..
رؤوف قاطبا بريبة وقلق:
– يعني ايه يا سلافة؟.
نظرت اليه سلافة ببريق وحشي لم يسبق وأن رآه في عيني صغيرته سابقا وأجابت بشراسة:
– يعني اللعبة لسه ما انتهتش, أنا صعيدية يا بابا ومش ممكن أسيب تاري أبدا, وتار مريم أنا اللي هاخده…
وفجأة ارتسمت صورة مريم أختها التي لم تلدها أمها أمام عينيها لتمتلئ مآقيها بالدموع وتبدأ شفتيها بالارتجاف وهي تتذكر صور عديدة لمريم وهما سوية وأثناء مزحهما سوية وخروجهما وعملهما, صور مختلفة عديدة لتصيح بحرقة عالية:
– آآآآآآه.. يا مريم, مريم…
حاول رؤوف تهدئتها لتلفها فجأة غمامة سوداء ويدخل غيث مسرعا على صيحة سلافة والذي صادف وقت رجوعه ليتلقاها بين ذراعهي قبل أن تهوى وتنظر اليه هامسة بضعف ودموعها تسيل مغرقة وجهها:
– انت صح يا غيث, انت صح!.
وتسقط بعد ذلك في تلك الدوامة السوداء التي ابتلعتها لعلها تبتعد عن ذلك العالم القاسي ولو لدقائق في حين هتف غيث بلوعة وهو يعتصرها بين أحضانه موجها حديثه الى عمه الذي ركض الى الخارج طلبا للمساعدة:
– نادي سلمى يا عمي, سلافة هتروح منينا..
لينظر بعد ذلك الى وجهها المغمض العينين الراقد بين ذراعيه بلا حول ولا قوة وقد غزاه الشحوب الشديد مردفا بقسم ووعيد:
– واللي خلج الخلايج لأخد لك ابتارها ودمها ما عيروحش هدر, بس انتي جوميلي يا جلب غيث, جومي يا سلافة, ما تعمليش فيا إكده..
ولكن سلافة كانت هناك في تلك الغيمة السوداء التي ابتلعتها لا تعي شيئا مما حولها!!..
– يتبع –