“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد

كبير العيلة
الحلقة(37)- الجزء الأول
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
وقفت تتناول بضعة لقيمات من طعام الإفطار على عجل فنهرتها أمها قائلة:
– يا بنتي اقعدي وافطري بالراحة مش كدا، حد بيجري وراكي؟..
سلافة وهي تبتلع لقمتها بصعوبة:
– يا ماما يا حبيبتي هتأخر على الشغل كدا.. انتي ناسية اننا في التجمع وشغلي في الدقي؟.. ياللا الحمد لله انا شبعت، أنا ماشية..
واتجهت الى أمها تقبلها ثم الى أبيها وانطلقت تتبعها دعوة والديها لها بأن يكفيها الله شر طريقها ويوفقها…
تنهدت ألفت بعمق وهي تراقب أثر ابنتها الغارب لتتمتم في حزن:
– صعبانة عليّا أوي…
وضع رؤوف قدح الشاي على المائدة وقال باعتراض:
– مالها يا ألفت؟.. ما هي الحمد لله زي الفل قودامك أهي، سلافة قوية يا ألفت.. وأحسن قرار أخدته انها رجعت الشغل تاني، هو دا اللي هيملا وقتها وهيخليها ما تفكرش في حاجات تضايقها، بنتك لازم تعيش حياتها من تاني، جوازها كان تجربة ومرّت بحلوها ومرّها.. مش هنقف عليه وندفنها بالحيا!!…
ألفت بيأس:
– بس انت عارف كلام الناس، متطلقة بعد جواز كم شهر ورجعت شغلها على طول، دلوقتي تشوف كلام زمايلها هيكون عامل أزاي، واللي هتكون متعاطفة بجد واللي شمتانه دا طبعا غير الكلام اللي هيطلع و…
قاطعها رؤوف باستنكار غاضب:
– ايه دا يا ألفت؟.. معقول اللي بتقوليه دا؟.. من امتى احنا بنربي عيالنا على كلام الناس؟.. احنا دايما بنقولهم طالما انتو صح وما بتعملوش شيء يغضب ربنا يبقى ما يهمكوش من حد.. يا ألفت رضا الناس غاية لا تدرك… وما لا يدرك كله يترك كله!!…
ألفت بزفرة عميقة:
– الحمد لله رب العالمين، أنا عارفة ومقتنعة بكل اللي بتقوله دا يا رؤوف، لكن مهما كان دي بنتي واتعرضت لتجربة قاسية جدا وأنا مشفقة عليها من اللي هتشوفه وتسمعه..
رؤوف بجدية:
– الضربة اللي ما تكسرش تقوي يا ألفت.. التجربة لما بنمر بيها بنتعلم منها درس وعلى أد قسوة التجربة بيكون عمق الدرس دا.. الشاطر اللي يستوعب التجربة كويس أوي ويفهم الدرس صح..
سكتا قليلا قبل أن يتحدث رؤوف مقطبا:
– صحيح أومال سلمى ما جاتش تفطر معانا ليه؟…
ألفت بابتسامة صغيرة:
– مالهاش نفس، هي شهور الحمل في الاول بتكون شهور وحم متعبة.. عموما أنا شوية كدا وهحاول معها تاكل حاجة حتى ولو بسيطة…
روؤف بزفرة عميقة:
– عارفة يا ألفت اللي قلقني بجد حالة سلمى!.. البنت حامل، يعني طفل جاي في السكة ان شاء الله، ولو سألتيني رأيي هقولك اني ضد أي فكرة انفصال طالما في أولاد هي اللي هتدفع التمن في الآخر!!..
ألفت بتنهيدة عميقة:
– عندك حق فعلا يا رؤوف، انا مش عارفة ايه اللي جرى، اللي كان يشوف لهفة غيث وشهاب عليهم كان يقول دول هيشيلوهم في عينيهم.. محدش كان يتوقع أبدا اللي هيحصل وخصوصا طلاق غيث لسلافة..
رؤوف بجدية تامة:
– ما تنسيش ان أمهم هي السبب الرئيسي ان لم يكن الوحيد في اللي حصل كله!… ما كانوش يتوقعوا أبدا ان كره أمهم لبناتنا ممكن يوصل بيها انها تهد حياة ولادها هي وتخرب بيتهم بإيديها.. أبويا الحاج يوم ما كانوا عندنا ساعة الطلاق قاللي انهم عرفوا وسمعوها بودانهم.. ما انا قلت لكم.. بيقوللي انهم كانوا مش مصدقين.. مذهولين…
ألفت بأسى:
– وبعد ما حكيت لبنات ولا كأن حاجة حصلت.. سلمى قالت لي بهدوئها ان الحقيقة كان مسيرها تبان بس دا ما يمنعش انها هتفضل أمهم وهي مش متصورة أن حماتها تكون بالكره والحقد دا كله حتى بعد ما عرفنا بالانهيار العصبي اللي جالها وان الدكتور طلب انها تدخل المصحة.. وسلافة هزّت اكتافها بمنتهى البرود وقالت لي بلا مبالاة رهيبة انه مش فارق معها في حاجة.. كان يفرق لو كان غيث سألها وصدقها من الأول لكن كون انه يصدق اللي سمعه من أمه بس فدا معناه انه لسّه زي ما هو.. وان محاولته انها ترجع له جات بعد ما عرف مش قبل!.. وانها دلوقتي اتأكدت انهم فعلا ماينفعش يكملوا مع بعض!..
قاطع حديثهما حضور سلمى التي ألقت عليهما بتحية الصباح، سألتها ألفت وهي تراها وقد استعدت للخروج:
– انتي خارجة يا سلمى؟..
سلمى بهدوء وهب تقف بجوارهما:
– أيوة يا ماما.. هروح أشوف الدكتور عشان الرسالة بتاعتي اللي انا سايباها بئالي مدة طويلة دي وبالمرة أجدد الأجازة.. مش هقدر على شغل المستشفى والرسالة قلت أركز دلوقتي في السرالة لغاية ما الفترة دي تعدي على خير ان شاء الله وبعدين أظبط الشغل مع دراستي..
رؤوف بابتسامة صغيرة:
– ان شاء الله تقومي بالسلامة وتجيب لنا ولي العهد.. الا قوليلي.. هتقدري تسوقي لغاية المستشفى؟..
سلمى بابتسامة:
– لا يا بابا ما انا هاخد تاكسي، مش هقدر أسوق في الزحمة دي حضرتك عارف انا هروح القصر العيني ودا مشوار جامد…
عرضت عليها أمها أن تتناول طعام الافطار ولكنها رفضت وودعتهما وانصرفت تصاحبها دعوات والديها لها بالتوفيق والسلامة..
**************************************************************************
دلفت الى الداخل وهي مغمضة عينيها تماما كما أمرها حينما اقتربا من القصر، دخلت بخطوات بطيئة يمسك بذراعها برفق، قالت وهي تبتسم:
– إنت رايح بيّا على فين يا وِلْد عمِّي؟…
أجابها وقد أقسمت انها تسمع ابتسامته في صوته الخشن القوي:
– عتخافي يا سلسبيلي وأني امعاكي؟!…
لتجيبه بثقة وتلقائية أخذت بلبّه:
– أني آمنك على حياتي كلّاتها يا ليثي.. وجودك جاري ماعيخليش الخوف يِّعْرِفْ طاريجاه لجلبي لا على نفسيّ ولا على ولاديّ…
همس لها وهو يوقفها مكانها:
– الكلمتين الحلوين داهومّن هكآفئك عليهم بعدين.. ودلوك فتْحي وجوليلي إيه رايك؟..
رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تفتحهما لتطالعها ردهة منزل واسعة وكأنها قد انتقلت الى قصر من قصور الخيال، ارتسمت ابتسامة اعجاب وعدم تصديق على شفتيها، وابتعدت عنه بخفة وهي تتجول في الردهة بعينيها بين لوحات تزيّن الحائط تجمع بين المناظر الطبيعية الخلّابة وآيات قرآنية تريح النفس، نظرت في الأركان ليطالعها قطع من الأثاث الغالي الثمن يخطف الأنفاس لجماله، قطبت ويه تشعر بقدمها تغوص الى الاسفل كلما سارت لتنظر أسفل منها فتفاجأ بسجاد أعجمي وثير، تكاد قدمها تختفي وسطها، رفعت عينيها الى الليث الذي يقف جانبا يراقب انبهارها بابتسامة سعيدة ونظرات تحملان حنان العالم كله، اقتربت منه ووقفت أمامه تسأله بانبهار طفولي وفضول:
– إيه ديه يا وِلْد عمي؟.. صارايط الباشا ديه؟…
ثم ضحكت برقة ذهبت بأنفاسه وهي تتابع بمرحها الخفيف:
– عارف.. حاسّه كاني في صارايط عابدين اللي كنت بتْفرِّج عاليها في التّلَفَزْيوون…
الليث بهدوء حان وهو يميل برأسها عليها ناظرا في عمق عينيها:
– لاه.. ديه مش صارايط الباشا!…
قطبت وتلفتت حولها قبل أن تسأله في حيرة:
– أومال صارايط مين ديْ؟.. حد من جرايبنا دعانا عنديه مثلا؟.. واذا كان اكده ما استجبلوناش ليه؟.. ايه احنا جينا بدري ولّا ايه؟.. حتى اذا كان من الزوج انهم يستجبلونا احنا……..
لتصمت فجأة بعد أن أقفل الليث فمها براحته العريضة التي تكاد تبتلع وجهها بأكمله!! ، هتف الليث بحدة مفتعلة:
– واه.. سلسبيل.. اسكتي اشويْ!.. بالعه رادوي!!..
أسبلت عينيها في حزن زائف ليبعد يده وهو يكاد يسب نفسه فها هي قد انطفأ بريق السعادة في عينيها، ولكنه كان يمزح معها، أمسك بكتفيها وقال بإلحاح وترجي:
– سلسبيل انتي ازعلتيْ؟.. اني بمزح امعاكي يا بت عمّي….
لتقلب وجهها مدعية الغضب حتى إذا ما اقترب منها أشارت له باصبعها ليميل اليها كي تسر شيئا في أذنه، قطب ولكنه مال عليها منتظرا في لهفة ما تريد قوله له لتفااااجئه بـ.. “طوووووووط”…. ، انتفض مبتعدا برأسه عنها وهو يحك أذنه بسبابته فيما انطلقت ضحكاتها المرحة حتى ادمعت عيناها، نظر اليها بنصف عين وقال:
– طووووط!!.. مش عيب حُرمه كبيرة كيفك وتجوول طوووط؟..
رفعت كتفيها بلا مبالاة وقالت:
– إعملك إيه.. انت اللي بتجيباه إلنافسك، بجه اني رادوي يا ليث؟…
الليث وهو يمسك بيدها:
– لمْهم.. تعالي عشان تتعرفي بصحاب الجصر..
سار معها حتى وصلا الى مرآة كبيرة تحتل جزءا كبيرا من الحائط، وقفا أمامها وهي تطالعها بغرابة، حدثت صورته المنعكسة أمامها في المرآة قائلة بعدم فهم:
– ايه ديه يا ليث؟.. لمْرايه ديْ صاحبة الجصر؟.. ، ثم شهقت عاليا متابعة بخوف:
– لا يكون الجصر ديه مسكوون يا ليث؟.. لاه يا خويْ ماليش صالح عاودني دارنا تاني..
سحب ليث نفسا عميقا وتحدث من بين أسنانه بحنق آمرا بينما يقبض على كتفيها يثبتها في مكانها حتى لا تبتعد:
– سلسبيل.. ممكن تجفلي خاشمك ديه؟… ماراية ايه اللي صاحبتها؟… ، ثم زفر عميقا ومال على أذنها بينما تزم شفتيها كالأطفال في حنق طفولي أسره، همس في أذنها:
– اللي جودامك في لمْرايه ديْ تبجى صاحبة الجصر يا سلسبيلي، نوّرت بيتك وموطرحك يا بت عمي!….
لتحدق في صورته المنعكسة أمامها بذهول متمتمة:
– بيـ… بيتي ومو.. موطرحي!!..
أدارها لتقابله وأجباها وهو يحني رأسه لتتقابل عيناهما وتضرب أنفاسه الساخنة بشرة وجهها الحليبية:
– انتي ست الدار ديْ يا سلسبيلي.. وان طولت أجيبلك جطعه من السما ما هتوخّرشي يا بت عمي…
لتفاجئه بإلقائها نفسها بين ذراعيه واحتضانه بقوة أذهلته وهو يلمس تلك القوة تنبع من هذا الجسد الضئيل الذي ما ان يحتويه بين ذراعيه حتى يكاد يختفي، ظلّا لبرهة من الوقت وهي متعلقة بعنقه، حتى أبعدها عنه وهو يهمس:
– انتي لسّاتك خارجه من المشتشفى، تعالي أفرجك دارنا هتعجبك جوي..
ليفاجأ بدموعها الصامتة فسارع بمسحها بإبهاميه فيما قالت وابتسامتها تتنافى مع دموعها:
– أني جول تلك اني بحبك انَّهاردِه ولّا لاه؟…
الليث بابتسامة حنون:
– انتي بتجوليهالي في كل دجيجة بتمر علينا وانتي جصاد عيني وفي حضني يا بت عمي…
ثم قبّل أعلى رأسها قبل أن يسير معها حتى غرفتهما في الطابق الأعلى والذي ما ان همّا بالصعود اليه حتى باغتها بحملها وحينما حاولت الاعتراض أجابها بحنان ولكن حاسم:
– انتي لساتك تعبانه..
وصلا حتى باب الغرفة لينزلها على قدميها ويفتح الباب فتدلف يتبعها ليث، دارت في المكان حولها تطلق آهات الاعجاب بالغرفة بدءا من لون الحائط السماوي وحتى الأثاث النفيس، ولفت نظرها السرير ذو الاربعة أعمدة وقد ذكرها بآخر كانت قد رأته في مسلسل يحكي حقبة الاربعينيات وكان في قصر من قصور الباشوات، لتقطب حائرة فهي قد علقت على ذلك السرير وهي تشاهد الحلقة مع حماتها، وكان وقتها لا يزال راضي حيّا، رفعت عينيها اليه وهو يبتسم وكأنه على علم بما يدور في خلدها، سألته بصوت مبحوح:
– السارير ديه كان نفسيه اللي أني شوفتو…
ليقترب منها مكملا عبارتها:
– اللي شوفتيه في الحلجة اللي كتِّ بتابعيها انتي وأمية جولتي لها وجتها انك نفسك لو تجعدي على واحد زييه إو بس!!….
همست وهي تحدق فيه بدهشة:
– وانت عرفت كيف؟..
ليرفع يديه قابضا على كتفيها برفق وهو يجيب بينما عيناه ترسلان آيات العشق الصادق اليها:
– كت وجتيها داخل المجعد ما كتّش خابر انك مع أمي غير لمّن اسمعت حِسِّكْ.. وجتها كلمتك رنّت اف ودْنيّ.. وجانتني فاكِرْها… عشان تعرفي انه أحلامك أوامر يا بت عمي…
احمر وجهها خجلا، وقالت له بحب:
– ربنا ما يحرمني منيك أبد ويجدرني أفرحك كيف ما بتفرحني يا ابن عمي…
ثم ما لبثت أن هتفت وكأنها تذكرت شيئا هاما قد غاب عن بالها:
– إلا بالحاج… العيال فين؟..
الليث بابتسامة وهو يقبض على أعلى ذراعيها يقربها إليه:
– عند أمي… هيجعدوا اهناك يامين على ما تجدري تجفي على رجليكي، انتي ناسيه ان الدّكتووور جال ما فيش مجهود واصل…
سلسبيل بتلقائية:
– بس أني اتوحشتهوم جوي جوي يا ليث، عشان خاطري يا ولد عمي خلينا ع الاجل احنا انروح عند أبويا الحاج وأوماي الحاجة… وحشني عدنان وشبل جوووي، وبعدين هو مش هيبجى فيه حد ايساعدني في الدار اهنه؟..
الليث بتأكيد:
– أكيد، هاجي بلك اللي يهتم بالدار ونضافته وكل حاجة فيه، عشان… ، ومال عليها هامسا بخبث:
– صاحبة الدار اتخلّي بالها من صاحب الدار!!…
لتضحك بنعومة خطفت دقة من دقاته، فابتعد عنها زافرا بقوة وهو يهتف ناظرا الى الأعلى:
– الصبر من عنديك يا رب…
لتتعالى ضحكاتها فرمقها بنظرة سوداء ونهرها بحنق زائف:
– بكفياكي عاد يا سلسبيل.. غاوية تنرفازيني أنتي…
قالت سلسبيل باعتذار ضاحك:
– لاه أبد.. وانا يهون عليّا زعلك برضيك يا ولد عمي، دجايج أدخل أتسبّح وأغير خلجاتي عشان انروح انشوف العيال وأزور أمي كومان اتوحشتها جوي!!…
وانصرفت من أمامه متجهة الى الحمام الملحق بالغرفة فلم ترى نظرة عينيه التي كساها الغموض لتلمع كبريق الالماس الاسود!!!!!!!…
*************************************************************************
دخلت غرفتها بالمشفى ووضعت الملف الذي يحوي أوراق رسالتها فوق سطح المكتب، لترتمي بدورها فوق المقعد خلفه، طرقات صغيرة دلف بعدها زميلها الطبيب “علاء”.. كان زميلها في الجامعة وتخرجا سوية وتم تعيينهما في نفس المشفى ولكن تخصص هو جراحة المخ والاعصاب وقد أوشك على الانتهاء من رسالة الدكتوراه، اتقرب منها علاء يحمل قدحين من القهوة الساخنة، وضع أحدهما فوق سطح المكتب أمامها، ليجلس على المقعد المقابل لها وهو يقول:
– بس برافو عليكي يا سلمى، انتي أنجزتي فعلا جزء كويس من الرسالة…
سلمى بعدم رضا:
– جزء كويس ايه بس يا علاء، مش شايف الدكتور هزأني ازاي عشان بقالي تقريبا ست شهور لا جيت ولا تابعت معاه؟.. انا فعلا مقصرة أوي، المفروض اني كنت هناقش الرسالة دي معاك، أهو انا دلوقتي اتأخرت تيرم كامل تقريبا…
علاء وهو يشير اليها بقدحه:
– يا ستي ما تزعليش نفسك، انتي ناسية ظروفك اللي فاتت؟.. وبعدين جواز وبيت أكيد طبعا هتتأثري، المهم انك ما تكسيليش وتخلصيها خسارة تضيعي مجهود السنين اللي فاتت دي كلها..
سلمى بتأكيد وهي تتناول قدحها:
– أكيد طبعا.. ميرسي على القهوة يا علاء جات في وقتها…
قرّبت القدح من فمها كي ترتشفه وما ان شمّت رائحة القهوة حتى أغمضت عينيها منتشية برائحتها التي توغلت في خياشيمها، فتحت عينيها لتطالعها صورة علاء وهو ينظر اليها فاغرا فاه في دهشة، انتبهت الى نظراته الذاهلة فقالت بضحكة خفيفة:
– ايه أول مرة تشوف حد بيشرب قهوة؟…
ليجيبها بمرح وقد أفاق من ذهوله:
– لا وانتي الصادقة أول مرة أشوف حد بيحب في فنجان القهوة!!!
لتشرد الى البعيد وابتسامة ناعمة تعتلي ثغرها حيث كثيرا ما سمعت هذه العبارة من آخر كان في وقت من الأوقات أقرب اليها من نفسها، وكان كثيرا ما يهتف بها بحنق حتى تمادى الى تحذيرها بأنها لو استمرت على طريقتها هذه في احتساء القهوة فإنه… سيمنعها من الاقتراب منها ولو بالشمّ حتى!!!..
انتبهت على صوت علاء وهو يقول:
– على فكرة رشا عازماكي على الغدا انهرده، اول ما عرفت انك رجعتي وهي صممت انك تتغدي معنا، وبتحاول تكلمك على موبايلك مقفول..
لتنتبه الى أنها قد اغلقته قبل ان تدلف الى مكتب الأستاذ المشرف على رسالتها ونسيت أن تفتحه، فقالت وهي تُخرجه من جيب معطفها الأبيض:
– آه تصدق من ساعة ما كنت عند الدكتور في المكتب وانا نسيت أفتحه…
وما ان فتحته حتى صعقت من كمية الرسائل والمكالمات الفائتة، واسترعى انتباهها عشرون مكالمة من سلافة فسارعت بالضغط على اسمها وهي تعتذر من علاء برأسها فأشار لها بأنه سينصرف وسيكون بانتظارها حتى ينصرفا سوية…
كانت تخبط بسبابتها فوق المكتب وهي تستمع الى الرنين من الجهة الاخرى من الهاتف، وما ان أجابت سلافة حتى سارعت بالقول:
– معلهش يا سولي حبيبتي.. قفلت الموبايل وانا داخله عند الدكتور ونسيت أفتحه بعد ما خرجت، طمنيني فيه حاجة؟..
لتجيبها سلافة بصوت مكتوم:
– لا ابدا.. انتي خلصتي شغل؟..
قطبت سلمى وأجابتها في ريبة:
– آه.. تقريبا يعني، فيه ايه يا سلافة صوتك ماله مش عجبني؟…
سلافة بشهقة بكاء مكتومة انتبهت لها سلمى:
– أنا هاجيلك يا سلمى…
سلمى بكلمة واحدة:
– وأنا مستنياكي..
بعد أقل من نصف ساعة كانت سلافة تنتصب واقفة أمامها في غرفتها بالمشفى، قطبت سلمى في ريبة واقتربت منها وهي تلاحظ هيئتها الشاحبة وعينيها الذابلتين، وضعت يدها فوق كتفها وقالت باهتمام:
– سلافة.. ايه اللي جرى يا حبيبتي؟.. انتي… انتي معيّطه؟!!…
لتهتز كتفي سلافة وترمي بنفسها بغنة في أحضان شقيقتها التي احتوتها بدفء وهي تكاد تفقد عقلها من قلقها على حالة أختها الغريبة، لم يسبق لها وأن شاهدت شقيقتها الصغرى وهي في حالة انهيار كهذه، حتى حينما تطلقت من غيث لم يصل بها الأمر الى هذا الحد!!!..
انتظرت حتى هدأت نوبة البكاء الحادة التي داهمتها ثم ابتعدت عنها قليلا وقالت وهي ترفع رأسها اليها بابتسامة بسيطة:
– ممكن أعرف ايه سبب الدموع دي كلها؟..
رفعت سلافة عينان حمراوين اليها وهمست بصوت خاو:
– هقولك…
جلستا الى الاريكة وبعد أن شربت سلافة بعضا من الماء سردت على مسامع سلمى ما حدث ابتداءا من دخولها الى المؤسسة حيث تعمل صباحا والى ان خرجت، حكت عن الهمزات واللمزات التي كانت تلاحقها في كل مكان تذهب اليه، وعن تعاطف القلة وشماتة الكثيرين!!..، وعن بعض الهمسات الخانقة التي تشكك بصورة غير مباشرة عن السبب الحقيقي لوقوع الطلاق بعد أسابيع من الزواج!!!! ، سألتها سلمى:
– وهما عرفوا منين انك اتطلقتي؟..
سلافة بصوت متحشرج:
– أنا اللي قلت لهم، انا ما عملتش حاجة غلط عشان أحط راسي زي النعامة في الرمل، كل شيء نصيب وأنا نصيبي انا وغيث انتهى لغاية كدا، واللي جننهم أكتر اني رفضت حد يجيب سيرته بكلمة وحشة حتى لو مجاملة ليا لانه في الاول وفي الاخر ابن عمي، ومهما كان اللي حصل بيننا ما اسمحش لحد يجرّح فيه ولو بربع كلمة، وطبعا لانهم ناس فاقدين الاحترام وما يعرفوش شيء اسمه احترام ولا ورد عليهم قالوا يبقى اكيد انه هو اللي سابني واني انا اللي دايبه فيه، وطبعا الكلام ابتدا يتغير بعد ما كان اني استحق واحد احسن منه وانه ما يستاهلتيش بقه طيب ليه ما صبرتيش، ليه ما شوفتيش ايه اللي يريحه وعملتيه، لازم الست تطبع بطبع جوزها، وخدي من دا كتير، لما جيت على آخر اليوم خلاص دماغي كانت هتفجر ومش عاوزة أروّح البيت وانا بالمنظر دا عشان بابا وماما ما يقلقوش خصوصا ماما كانت معارضة نزولي الشغل ولو عرفت هتصمم اني أٌعد في البيت وما أرجعوش تاني، وأنا مستحيل أعمل كدا، لأني لو عملت كدا يبقى بديهم فرصة انهم يتكلموا اكتر ويطلعوا كلام تاني وتالت وعاشر، لكن لو روحت واتصرفت انه الامور طبيعية جدا واحده فواحده الكلام هيخفّ وهيلاقوا حاجه تانية تشغلهم عني…
ابتسمت سلمى وهتفت باعجاب:
– برافو عليكي يا سولي، أنا كنت فاكره انك مش هترضي ترجعي الشغل، لكن انتي تروحي وتخلي كل واحد يحط لسانه جوة بؤه!!…
هتفت سلافة بابتسامة:
– هربيهم!!!.. انا بس كنت مخنوقة ومعرفتش أتكلم مع حد…. ربنا يخليكي ليا يا سوسو..
لاحقا ولدى انصرافهم وجدت سلمى علاء في انتظارها كما أخبرها، كان علاء على معرفة بسلافة وبعد أن حيّاها قالت سلمى بأسف:
– معلهش يا علاء اعتذر لي من رشا، عموما يا سيدي الجايات كتير، وأكيد هشوفها، وانا هكلمها أعتذر لها بنفسي وأرتب معها وقت نتقابل فيه..
علاء بجدية:
– اعتذار ايه يا بنتي؟.. لا طبعا مافيناش من كدا، بيني وبينك كانت عاوزاكي تشوفي الزئردتين هناء وشيرين… مجننها….
ضحكت سلافة وقالت:
– هي بردو صممت وسميت هناء وشيرين؟..
علاء بتنهيدة عميقة:
– آه، اعمل ايه.. حكم القوي!!!
تبادل الثلاثة الضحك، وسار برفقتهم حتى وصلا الى سيارة سلافة التي صعدت بينما وقفت سلمى تتجاذب أطراف حديث مرح مع علاء انطلقت على أثرها ضحكاتها قبل أن تصعد الى مقعدها بجوار سلافة التي لوّحت مودعة لعلاء قبل أن تنطلق، ولكنهما لم ينتبها لعينين رماديتين تراقبهما… وتحديدا سلمى… فيما تلوح العواصف في أفق عيناه بينما يهمس بوعيد وهو يضرب قبضته على سطح سيارته بقوة:
– يا ترى يبقى مين دا يا مدام سلمى؟.. أنا لازم أقول لغيث، الوضع دا ما يتسكتش عليه أكتر من كدا!!!!!!!!!!….
– نهاية الجزء الاول –
error: