“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد

كبير العيلة
الحلقة السادسة
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
جلست فوق الكرسي الصغير أمام مرآة الزينة تصفف شعرها الأسود المجعد والذي تدلى حتى وصل الى أرجل المقعد القصيرة, كانت تفرقه الى نصفين وأمسكت بإحداهما تقوم بتجديله عندما اعترضتها يدا سمراء قوية تبعها همس أجش من صاحبها وهو يميل اليها هامسا في أذنها:
– همِّليه, ما تجدلهوشي, انتي عارفة جد ايه بحب امسكه بين يدِّيني واحس بيه وبنعومته…
ضحكت سلسبيل ضحكة دلال ونظرت الى انعكاس صورة زوجها راضي في المرآة وقالت بغنج أنثوي يناقض حمرة الخجل التي لونت وجنتيها, فمع مرور أكثر من ست سنوات على زواجهما ولكنها الى الآن لا تزال تشعر بالحياء من غزله الدائم بها, أجابت بابتسامة زادتها فتنة:
– ما انت عارف انه بيزهجني, طويل إكده وبيغلبني في التسريح..
مال على عنقها الطويل ليقبله وهو يقول بأنفاس متهدجة:
– هو مغلبك إنتي وبس؟, ديِه إمعذبني إمعاه!, كفاية اللي بحس بيه لما بشوفه جودامي إكده هيطب الارض من طوله, ولا لما ألمسه وهو بينات يديني زي دلوك, آه يا سلسبيل.. كل حاجة فيكي بتجنينني عليكي.
أسدلت سلسبيل عينيها في حياء بينما قبض على كتفيها ليساعدها على الوقوف وأدارها اليه ورفع يديه محيطا بوجهها ليرفعه اليه وهو يتابع بصوت أجش بينما تسدل هي أهدابها الغزيرة المعقوفة الى الأعلى لتغطي بركتي العسل اللتان تجريان في مقلتيْها:
– طالعيني يا جلب راضي…
رفعت عينيها اليه ليبادلها النظر بنظرات مغرمة مشتاقة لها وقال وهو يقربها اليه ببطء:
– أحلى عيون شوفتها في حياتي, عاوز أشوف عيونك دِه وهي بتضحك إكده على طول, مش عاوز التكشيرة تعرف طريجها لعينيكي الحلوين دول واصل ولا لـ…..
وبتر عبارته وهو يضع أصابعه فوق شفتيها الحمراوين المكتنزتين يتحسسهما بشغف ويتابع بأنفاس ساخنة حارقة:
– ولا شفايفك اللي بتطير عجلي دي, ما عاوزشي أشوفها غير وهي بتضحك إو بس!.
قالت بدلال وهي تحاول الابتعاد عن قبضته التي اشتدت بينما تسللت ذراعاه القويتان تحيطان بخصرها الدقيق:
– يوه وبعدهالك بجه يا راضي, مرَت عمي هتستعوجني, همّلني خليني أروح أشوف اللي ورايْ…
باغتها بأن وضع ذراعا أسفل ركبتيها والآخر خلف عنقها وحملها فجأة لتشهق من المفاجأة وقال وهو يتجه بها الى فراشهما الذي يتوسط غرفتهما في قصر والده , بينما ولديْهما بغرفتهما التي تجاور جناحه هو وسلسبيل يلهوان بألعابهما كما سبق ورآهما قبل ان يوافي سلسبيل الى جناحهما, قال وهو يميل ليضعها في منتصف الفراش:
– باه, أهمّلك كيف؟, وبعدين ما تخافيشي أمي مش هتنادم عليكي ولا تستعوجك, هي عارفة اني اتوحشتك جوي, أني غايب عنيكي أديني سبوعين, ما وحشتكيشي زي ما انا اتوحشتك؟, كفاية إني من ساعة ما جيث واني مش عارف ألتم عليكي واصل..
أحاطت عنقه بذراعيها البضتين وهمست بحب يلمع بين عسلي عينيها:
– انت عارف يا راضي وانت مش موجود بكون عامله زي العيل إلصغيِّر اللي من غير ابوه ولا أمه, انت أبوي وأمي وأهلي وعزوتي كلاتها يا راضي, اليوم اللي بتسافر فيه وتفوتني بحس كَنْ روحي بتروح منِّي ولما بترجع بالسلامة بحس إنْها بتعاود جوايا من تاني, ربنا ما يحرمني منيك يا ولد عمي يا رب, ويجعل يومي جبل يومك…
مال عليها راضي مشرفًا فوق بينما ترتاح يديه على جانبي رأسها فوق الفراش, ورفع رأسه هاتفا:
– يا بووووويْ, وبعد إكده عاوزاني أفوتك؟, إنتي عروستي الليلة, أني أفوت روحي ولا افوتك انتي يا روح راضي!
خجلت سلسبيل وهمست باعتراض واه وهي تشيح بعينيها خجلا من نظراته الجريئة:
– راضي…
أجاب وهو يقترب بوجهه منها مسلطا نظراته على شفتيها القرمزيتين بصوت متحشرج من فرط انفعالاته التي تمور بين جنبات صدره:
– يا روح وجلب وعجل راضي انتي….
سلسبيل بخفر:
– أني….
ولم يمهلها المتابعة ليقطف كرز شفتيها في قبلة طويلة عميقة قبل أن يغرق بها في بحر من الأحاسيس والمشاعرالجياشة التي لم تعلم عنه شيئا الا على يديْ حبيبها وزوجها… راضي!!
*************
سارت بخطوات سريعة غاضبة متجهة الى الخروج من الاستراحة هربا من هذا المغرور المتحذلق الذي يكاد أن يفقدها صوابها ويخرجها عن هدوئها المعتاد, سمعت صيحته الآمرة لها بالوقوف وكانت قد وصلت بالفعل الى الباب, فوقفت مكانها وأغمضت عينيها وهي تعد في داخلها من 1 الى 10 محاولة استعادة هدوئها, سمعت خطواته الغاضبة, ثم شعرت به وهو يقف وراءها تماما ويميل عليها هامسا في أذنها بلهجة أمر لا تحتمل النقاش كي لا يلاحظ أحد من العمّال المحيطين بهم ما يدور بينهم:
– حصّليني..
وخرج بينما تسمرت هي واقفة في مكانها تحدق في إثره لتتمتم بإندهاش غاضب:
– حصّليني!, يكون البيه فاكر نفسه سي السيد وأنا أمينة ولا أيه؟..
ثم تنفست بعمق وتابعت محاولة بث الهدوء الى نفسها:
– لا لا مش كدا يا سلمى, ما تخليهوش ينجح انه يفقدك الهدوء بتاعك, دا قرّب يخليني صورة من سلافة في عصبيتها واندفاعها!, بس انا لازم أحط له حد, هو وغروره الفظيع دا.. بس بهدوء وبرود..
والتمعت عيناها بتحد قبل ان تتجه اليه لاحقة به….
وصلت حيث يقف أسفل سقيفة من خشب السنديان تتدلى منها عناقيد العنب, وكان يستند بيده اليمنى على شجرة باسقة أسفلها, ويقف موليا إياها ظهره, وقفت على بعد خطوات منه وكتفت ساعديها وقالت ببرود تام وان لم يخلو صوتها من حدة خفيفة:
– نعم, أفندم؟
حانت منه نصف استدارة ناظرا اليها من فوق ذراعه اليمنى المستندة فوق الشجرة وقال بصوت مكتوم:
– تقدري تفهميني ايه اللي كان بيحصل جوّة دا من شوية؟
عقدت جبينها وقالت بحيرة واضحة:
– وهو ايه اللي حصل من شوية مش فاهمه؟
اعتدل في وقفته لينظر اليها لثوان قبل ان يتقدم عدة خطوات فيقف على بعد أمتار قليلة منها ويجيب بغضب خفي:
– وقفتك مع الصنايعيه بالشكل دا!, انتي فاكرة نفسك فين؟, احنا هنا في الصعيد مش في مصر!, والمقبول عندكم هناك مرفوض وبشدة هنا!!
فكّت ذراعيها وأشارت اليه بسبابتها اليمنى وهي تردد بدهشة:
– هو ايه المقبول والمرفوض والصعيد ومصر؟, انت عارف انت بتقول ايه؟, اللي يسمعك يقول اني كنت واقفة أتسامر معهم!, وبعدين هنا او مصر او في أي حتة تانية.. انا واحده عارفة حدودي كويس أوي وملتزمة بيها!
ضحك ساخرا:
– آه.. بدليل اللي شوفته جوة في الاستراحة من شوية!
ثم قلب وجهه متابعا باستهجان تام:
– انتي تعرفي ايه انتي علشان تقفي مع الرجالة وتقولي لهم اعملوا وما تعملوش؟!, لا ومش بس كدا كمان… تعارضيني وتتدخلي في الكلام اللي بيني وبينهم!
زفرت سلمى بيأس محاولة تمالك أعصابها التي هددت بالانفلات للمرة التي لا تعلم عددها منذ أن بدأ العمل في الاستراحة التي بالمزرعة لتحويلها الى مستوصف خاص بعمال المزرعة ولمن احتاج من أهل البلد, وكانت قد شعرت بالسرور لاقتراح الجد فهي تكاد تجن بعيدا عن مرضاها, ولكن أكثر ما ينقص فرحتها هو هذا الواقف أمامها والمسمى شهاب!, فهو منذ أن بدأت بحضور التشطيبات النهائية للاستراحة حتى تملي على لمهندس المسؤول اقتراحاتها بشأنها وقد وقف لها هذا الشهاب كالشوكة في الخاصرة!
قالت بابتسامة صفراء ساخرة:
– ممكن سؤال.. انت مهندس؟
نظر اليها عاقدا جبينه وأجاب:
– لأ…
تابعت بنفس الابتسامة الصفراء:
– أومال عاوزني أتكلم معاك انت وأقولك اللي انا عاوزاه في الاستراحة ليه؟, انا بتكلم مع مهندس الديكور علشان دي شغلته, لكن اقولك وانت ترجع تقوله.. ليه يعني؟!
هتف بسخط:
– وهو انتي بتتكلمي مع المهندس وبس؟, لو كان على كدا ما كنتش اتكلمت!, لكن حضرتك بتتكلمي مع المهندس والسباك والنقاش والنجار, دا حتى عوضين اللي بيعمل الشاي والقهوة للعمال بتتكلمي معاه!!
هتفت بحنق:
– لا الاه الا الله, وهو انا بهزر ولا بقول نُكت!, حاجة مش عجباني في الشغل والمهندس بيكون مش موجود.. ايه المانع اني اقول للصنايعي عليها؟, ايه اللي يخليني أكلم المهندس ولا أكلمك وانتو تقولولهم؟, افهم يا شهاب بيه.. انا دكتوووورة.. يعني بعالج مرضى كتير.. ستات ورجالة, فمينفعش يعني اني كل ما اعوز حاجة أجري عليك اقولهالك تتكلم بلساني!!

زفر بضيق وأجاب من بين أنفاسه المحتدة:
– يا دكتووورة افهمي, شغلك حاجة ووقفتك بين الصنايعية والعمال حاجة تانية!, خصوصا اني موجود!, جدي كلفني أنا اني اتابع شغلهم, وانتى قعدت مع المهندس وقولتي له على اللي عاوزاه, يبقى مالكيش عندنا غير انك تلاقي كل اللي طلبتيه اتنفذ, يعني وقفتك دي وكل يوم تنطِّي هنا مرفوووضة!, فهمتي ولا أقول كمان!
وقفت سلمى تطالعه مليا بنظرات غامضة قبل ان تقول ببرود صقيعي:
– شوف بقه, علشان واضح كدا اننا هنتعامل مع بعض كتير بما ان المستوصف هيبقى في قلب المزرعة, انت مالكش أي حق أو صفة تدخل في طريقتي لا مع الناس ولا في شغلي!, أنا كبيرة كفاية اني أقدر أعرف انا بتكلم ازاي ومع مين, وأظن اني محترمة تقاليد بلدكم كويس أوي وعارفة الفرق بين مصر وهنا, ولو جدي كان عنده ذرة شك واحدة في كدا ما كانش اقترح فكرة المستوصف دا ولا اتحمس له أوي كمان, علشان كدا.. حتة ينفع وماينفعش ويصح وما يصحش.. يا ريت تشيلها من دماغك خالص, زي ما أنا مش بتدخل في طريقة شغلك ابعد انت نفسك خاااالص عن شغلي!
قطع المسافة التي تفصلهما في خطوتين ووقف أمامها تماما وقال وهو يقرب وجهه منها حتى أنه قد استطاع رؤية مقلتيها اللتيْن يحيط بهما شعيرات ذهبية اللون, وصرّح بوضوح قائلا:
– دا في المشمش!, حساب وهحسابك, وهراقبك, وهعد عليكي أنفاسك كمان ايه رأيك بقه؟
علمت أنه من النوع العصبي والذي كثيرا ما تغلبه انفعالاته من حديث شقيقته سلسبيل عنه, وعلمت أيضا أنه قد يأخذ كلامها على محمل التحد, وتعجبت من طبعه الأحمق هذا والذي لا يتماشى مع عمره الذي تخطى الثلاثين, لذا عمدت الى رسم ابتسامة بلهاء على وجهها وقررت أن تتعامل معه كطفل مشاغب كبير, وقالت:
– وهو كذلك, بس خلي بالك زي ما تعمل هعمل, أنا ما كنتش بحب اتدخل في شغلك بس كويس انك قولت لي على اللي هتعمله علشان انا من ساعة ما جيت هنا وشوفت طريقتك مع اللي معاك هنا وانا في كلمتين محشورين في زوري ومش عاوزة أقولهم وأقول لنفسي وأنا مالي, بس الحمد لله أخيرا هقولك على اللي في بالي…
نظر اليها متسائلا متصنعا عدم الاهتمام بينما نظرت اليه جيدا حتى كاد يتيه في غابات الزيتون خاصتها وتحدثت ببرود مشددة على كل كلمة تقولها كي تضمن فهمه لها جيدا:
– حرام عليك البني آدميين والحيوانات اللي تحت ايدك!, انت بس مش كفّرت البني آدمين في عيشتها..لأ!, دا حتى الحيوانات قربت تصرخ وتقولك ارحمنا بقه من كُتر اللي بتعمله فيهم!, ارحم… ارحم…. من لا يَرحم لا يُرحم!!…
وابتعدت عنه بعد أن منحته إبتسامة ساخرة, وانصرفت تاركة إياه وهو ينظر في أعقابها بذهول متمتما:
– أرحم الحيوانات!, هي بتهلفط تقول ايه؟
ثم انتبه الى مغادرتها, فتابع من بين هسيس أنفاسه الغاضبة وفحم عينيه يبرق كنار مشتعلة:
– ماشي يا سلمى, بتردهالي؟!, بتتريقي عليّا؟, طيب يا أنا يا أنتي؟, يا ناري.. يا تلجك!!
وبرقت عيناه ببريق عزم مخيف…….
********************
جلس عثمان بجوار والده في غرفة المكتب بعد أن انهى اطلاعه على سير العمل, كما يفعل يوميا بعد عودته, فلا بد من أن يقص على والده كلما حدث سواءا في الديوان أو المزرعة واللذان يشرف عليهما يوميا خلافا للتقرير اليومي الذي يوافيه به كلا من توأميه…
قال عثمان ناظرا الى والده بابتسامة:
– معلهش يا حاج, كنت عاوز أسألك من مدة في حاجة إكده بس…
نظر اليه الجد بغموض وأجاب بابتسامة العارف ببواطن الامور:
– وما سألتش ليه يا ولدي؟, عموما إسأل… أني سامع أهاه!
قال عثمان بحيرة:
– انت ليه خليت بنات اخوي يشتغلوا مع شهاب وغيث؟, في الاول أنا جولت عشان عاوز أكيد تجرِّبهم من بعض, بوي وأني خابرك زين, وعارف بتفكر كيف, انت ما عاوزشي بنات خوي يطلعوا لحد من برات العيلة, وأني امعاك في دِه.. هما لحمنا ودمنا وكفاية بوهُم اللي تغرب وبعد عنينا.. جِه الوجت اللي نحضن فيه بناتنا وما يِّفرْجُوناشِ واصل, بس كنت مُتوجِّع انك هتختار سلمى لغيث وسلافة لشهاب, انما اللي حوصل العكس!
استند الجد براحتيه على رأس العصا العاجية المطعمة بفصوص كبيرة من الأحجار الكريمة ونظر اليه مجيبا بابتسامة:
– لو انت خابرني كيف ما بتجول كنت عرفت اني اعملت اكده ليه؟..
تابع وهو ينظر الى ابنه الكبير بابتسامة حانية:
– اني فعلا كيف ما جولت يا ولدي, مش عاوز لحمنا ودمنا يخرجوا برّات العيلة, بس لازمن لما أختار.. أختار صوح, ما هو ما ينفعاشي نلبس طاجية دِه لدِه وخلاص, كل فولة وليها كيّال ولازمن نختار الكيال الصوح, انت لمن تاجي تطفي نار وليعاذ بالله بتطفيها بإيه.. بنزين ولا مايِّهْ؟
أجاب عثمان عاقدا جبينه في حيرة:
– مايَّه طبعا يا حاج!
قال الجد مبتسما رافعا يده اليمنى مشيحا بها أمامه:
– أديك جولتها بعضمة إلسانك, النار لازم لها المايَّة… غيث ولدك هو اللي عيطفي نار سلافة, وسلمى هي اللي هتطفي نار شهاب اللي جايدة طول الوجت ديْ ما بتروحش!, لو عكسنا وشهاب ولدك خد سلافة, سلافة لساتها إصغيرة وعاوزة اللي يحايلها ويبجى رحيم بيها ويصبر عليها وياخدها بالهداوة واحدِة واحدِة, لكن شهاب ما عندوش صبر ولا طولة بال ولا برود غيث, برود غيث هو اللي هيخليه يجدر يستحملها ويطّبعها بطبعه, لكن شهاب… لو خدوا بعض من اول يوم هتجوم حريجة ونار جايدة ويمكن اللي خايف منِّيه يوُحصل وبدل ما نكون بنلم شمل العيلة نُبجى بنبعتِّرها أكتر, واكده برضيك لسلمى وشهاب, شهاب عاوز اللي يتعامل معاه بالراحة, عاوز واحدة صبورة وعندها شوية ابرود اكده علشان تجدر تتحمل اجنانه, اني يمكن كبرت صوح بس لسّاتني بعجلي وعارف اوزن الامور كيف, اني خابر زين كل واحد من ولادك كيف بيفكر وكيف بيتصرف, ومع ان المدة اللي جضيتها مع بنات رؤوف خوك مش كبيرة لكن هو كان مش بيبطل يحكيلي عنيهم لمَّن كنت اشوفه في السنين اللي فاتت, وجدرت اكون فكرة عنيهم اتوكدت منَّيها لما جوم حدانا اهنه وشوفتهم, اطمن يا عتمان يا ولدي… بوك مش ممكن يجازف بعياله ويخليهوم يفارجوه مرة تانية… وصدجني كيف ما جولتلك.. النصيب بينادي صاحبه, وعشان اطمنك زود بعد, كل واحد من عيالك اختار المهرة بتاعته من غير ما أتدخل, أني كل اللي اعملته دلْوك اني عطيت لهم الفرصة انهم يجرِّبوا من بعض ويعرفوا بعض أكتر, عشان تِعرِف ان شعر بوك الشايب دِه مش دليل شيبة وبس لاه!, دِه خبرة في الدنيِّه واللي اني عرفته وشوفته ما تلاجيهوش في أي كُتاب, اطَّمن يا ولدي.. وبكرة تجول بوي عنديه حج!..
*********************
– انتي واجفة عنديكي بتعملي ايه؟
التفتت ألفت الى راوية الواقفة عند باب المطبخ الكبير, وقد ألقت بسؤالها ذلك بحنق استنكارا منها لدخول غريمتها الى المطبخ, بينما كانت ألفت تقوم بصنع كعكة بالمثلجات كما يحبها زوجها وبنتيها فارتأت صنعها لتتناولها العائلة في هذا الجو الخانق, ابتسمت ألفت وأجابت بينما تقف وردة بجانبها لتساعدها:
– راوية!, معلهش اتخضيت.. أبدا لاقيت الجو حر ورؤوف عندي والبنات بيحبوا تورتة الآيس كريم قلت أعملها, ناكلها كلنا , أهي حاجة تطري على الواحد في الحر دا…
اقتربت راوية منها ووقفت أمامها قائلة بلهجة لائمة بينما تطالعها بنصف عين:
– سلامتك من الخضّة يا أم البنات!, ايييه تاعبك الجو عندينا, معجبكيش الحر إهنِهْ, لحجتي تزهجي من بلدنا ولا ايه؟
قطبت ألفت بحيرة واعتدلت واقفة أمامه وهي تمسح يديها في منشفة قطنية وتقول باستفهام:
– ليه يا راوية خدتي كلامي بالشكل دا؟.
ثم ابتسمت بحيرة متابعة:
– أنا لا قصدي اني أنتقد البلد ولا اني زهقت ولا حاجة أبدا, وبعدين ما الحر هنا وفي مصر وفي كل حتة, ليه بتفسري كلامي انه هجوم عليكم؟!
استهجنت راوية وقالت بصوت مرتفع:
– يعني أني بتبلّا عليكي يا ست ألفت؟, جصدك ايه؟, عاوزة تعملي فيها المظلومة وتشعليلي حريجة في البيت؟, طيب أني آسفة.. ما عنتش متحدتة معاكي واصل!..
ثم اقتربت منها وتمتمت أمام وجهها الذي يحمل تعبير الحيرة والذهول مما تسمع:
– بس يكون في معلومك أني خابرة نيّتك زين, ومعخلكيشي توصلي للي انتي رايداه!, أني واعيالك جوي…
هتفت ألفت بحيرة واضحة:
– واعية لأيه بس؟, انتي قصدك ايه يا راوية بالظبط؟
– أني أجولك جصدها ايه؟
شهقت راوية بهلع بينما رفعت ألفت نظراتها الى حماتها الواقفة الى الخلف على بعد عدة خطوات منهما مكّنتها من سماع حديثهما بالكامل, بينما تابعت فاطمة التي تقدمت اليهما بخطوات قوية تنافي سنوات عمرها التي تخطت الستون حتى وقفت بجوار راوية وقالت بنظرات تكاد تخترق راوية لشدّتها:
– أم غيث خايفة انك تزهجي من الجاعده حدانا وممكن رؤوف ولدي يخاف عليكي وع البنتَّهْ وياخدكم ويسافر تاني…
ثم حانت منها نظرة الى راوية الشاحبة بجوارها وتابعت بنظرة تحمل طابع تحذير واضح:
– مش إكده يا أم غيث؟
أجابت راوية بتلعثم بسيط بينما راقبتهما ألفت بحيرة ولا تعلم لما لم تقتنع كليّة بتبرير فاطمة, سمعت راوية تقول:
– إيـ.. أيوة صوح يا حاجة…
هتفت ألفت رافضة:
– بس أنا مش ممكن أعمل كده يا حاجة, أنا مش ممكن أكون السبب وأبعد رؤوف عن عيلته وبلده تاني, وربنا اللي يعلم أنتم بقيتوا في معزة عيلتي تمام, وبحس وسطيكم اني وسط اهلى وناسي دا غير اني فعلا بحب البلد هنا أوي واهلها وناسها..
ربتت فاطمة على كتف ألفت وقالت بابتسامة حانية:
– أني مصدجاكي يا بتّي.. انتي بت ناس, واحده غيرك كانت ممكن ترفض انها تاجي لنا اهنه, لكن انتي طلعتي بنت ناس صوح, واحنا كمان حبيناكي جوي, ومعزتك من معزة ولادي بالظبط, اني من زمان واني نفسي يبجالي بت أحس بحنيتها عليّ, مهما كان رجالتنا جلبهم جامد, وانتي بتّي اللي ما جبتهاشي بطني!..
احتوتها ألفت بين ذراعيها وقبلت رأسها وهي تقول وسط دموع جاهدت ألا تسقط:
– وإنتي يا حاجة, غلاوتك عندي في غلاوة المرحومة أمي تمام, ربنا يديكي طولة العمر, ويديم المحبة بيننا يارب…
ابتعدت عنها فاطمة وقالت بمزاح راغبة في تغيير الحديث واضفاء طابع المرح عليه:
– الّا صحيح, الحلا دِه هيجدر يرطب على جلوبنا حبَّة من الحر الشديد دِه؟
ابتسمت ألفت وأجابت:
– هيعجبك اوي يا حاجة, رؤوف طول الصيف لازم أعملهوله, وعلى فكرة في البلد اللي احنا كنا فيها في الخليج الحرارة كانت كتير جدا بتعدى الخمسين, يعني الصيف هنا بالنسبة له لعب عيال…
أحاطت فاطمة كتف ألفت وقالت:
– طيب لو كنتي خلصتي تعالي اجعدي معانا..
قالت ألفت:
– اه خلصت خلاص, ثم وجهت كلامها لوردة:
– لو سمحتي يا وردة حطي الكيكة في الفريزر بتاع التلاجة..
وخرجت برفقة فاطمة بينما تابعتهما راوية بنظراتها الحاقدة وهي تتوعد في سرها هامسة:
– طويتي الحاجة تحت باطك كيف ما عملتي في ولد عمي!, وأكيد عمي الحاج هو كمان بجه زي الحاجة إكده, لكن لاه, أني عارفة انتي بتخططي انتي وبناتك لايه بالظبط!, وحكاية انهم يشتغلوا مع ولادي دي وراها إنَّهْ.. وما كونشي راوية إمَّا عرفتها, فاكرة انك كيف ما خدتي ولد عمي هتجدري تخلي بناتك ياخدوا ولادي!, لاه.. دِه بُعدك.. كان غيرك أشطر!, ولما نشوف يا بنت البندر أني ولاّ…. إنتي!!
بينما عيناها تحدقان في أثرهما بحقد وكره دفين..
***********************
– جدي المحاسب اللي عندينا انت خابر انه كَبير في السن والبارحة وجع من طوله وجابوله الدكتور وجال انه لازم له راحة شهر إكده, والشغل اكده هيبجى كتير, انت كنت جولتيلي ان بت عمي هتنزل امعايا الشغل, يا ترى الكلام دِه مظبوط ولا خلفتو الحكي؟
أجاب الجد على سؤال غيث الذي ألقاه على مسامعه أثناء تناولهما طعام الافطار في الحديقة بينما لا يزال الباقيين نيام, أما شهاب فهو لم ينم بالمنزل منذ ثلاث ليال, متعذرا بوجود أعمال معلقة في المزرعة مؤثرا البقاء هناك, قال الجد مخفيا ابتسامته:
– لاه الكلام لساتو زي ما هو, بت عمك انى كلمتها في الموضوع, وهي موافجة, هي أي نعم رفضت في الاول وبوها هو كان مستغرب منيها, بس اني جدرت اقنعها انها اتجرب ع الاجل مش عتخسر حاجة!
ثم نظر بمكر الى غيث الجالس بجواره عاقدا جبينه بشدة وتابع:
– إلا صحيح يا ولدي, ايه.. انت وينك اليمين اللي فاتو؟, انهارده اول مرة نفطر سوا من مدة!, بتخرج الصبح بدري وتعاود آخر اليوم تعبان وتروح دارك طوالي, وشهاب خوك بجالو اكتر من تلات ايام بينام في المزرعة وعذره انه فيه شغل كتير في المزرعة عاوز تظبيط؟!
هرب غيث من نظرات الجد الماكرة وأجاب بهدوئه المعتاد:
– ما فيشي يا جدي, شوية شغل وخلاص, ودلوك يا ريت لو جدرت تبجى تجولها انها هتبتدي معانا من بكرة بالكتير ان شاء الله..
لاحت من الجد نظرة خلف غيث لم يفطن الاخير لها وأجاب بغموض:
– واني اجولها ليه؟, ما تجولها انته!
همّ بالغيث بالكلام عندما قاطعه وجها لحورية فاتنة أقبلت عليهما وهي تحمل بين ذراعيها باقة من الزهور المختلفة برائحتها التي فاحت لتنعش المكان, كانت وجنتيها تلمعان بتألق نافس لون وريقات الورد الارجوانية في جمالها, بينما لمعة عيناها تكاد تُذهب بالألباب, هتفت سلافة ولم تكن واعية للعينين اللتان تتشربان تفاصيلها بكل دقة, وكيف لا وقد غابت عنه لأكثر من ثلاثة أيام منذ صدامهما في الحديقة بعد ذهاب قريبها, لم يستطع منع نفسه من التمعن بكل تفصيلة منها, سمعها وهي تهتف بحبور قائلة للجد بينما يجلس هو الى الظل بعيدا عن نظراتها:
– صباح الخير يا أحلى جد, ايه رأيك بقه في الورد دا؟, أنا قطفته بنفسي..
واقتربت من الجد تتناول اناء الورود الموضوع في منتصف المائدة المصنوعة من خشب الزان, لتضع الورود التي قطفتها بعد أن أخرجت الأخرى الذابلة, قال الجد بابتسامة واسعة:
– صباح النور على أحلى سلافة في البر كلاته..
استندت براحتيها على طرف المائدة ومالت على جدها تهتف باعتراض مصطنع قاطبة جبينها:
– يا جدي قلنا.. سولي, سهلة والله أهي وبسيطة, دا حتى ماما ستّو اتعلمتها وبقيت تطلع منها حلو أوي, ياللا يقول معايا.. سو..لي, شوفت سهلة ازاي؟, أسهل من سلافة!
ضحك الجد وقال بينما نظراته تتعداها الى نقطة خلفها:
– بس أني عجبني اسمك اللي اختاره ولدي, سلافة.. اسم جد اكده مش تحس انه ماسخ ومايع, ولا ايه يا غيث يا ولدي؟
اعتدلت سلافة واقفة من ان سمعت اسم غيث, والتفتت حيث يوجه الجد سؤاله, لتطالعها عينان حادتان في وجه هادئ ساكن, أجاب غيث على سؤال الجد وهو يطالعها بنظرات باردة بينما تذكرت سلافة آخر مرة رأته فيها والكلمات التي رمتها في وجهه قبل أن تنصرف غاضبة عازمة على أن تبتعد عن طريقه كلية طوال فترة مكوثهم في المزرعة, وقد نجحت الى حد كبير في ذلك, قال غيث:
– والله يا جدي أنا معرفش في الخرابيط ديْ, انا اللي اعرفه انه كل واحد له اسم بيتنادى بيه, غير اكده ماليش فيه…
نظرت اليه ثم حركة كتفها لا مبالية لكلماته بينما أشار الجد لها للجلوس بجواره فاختارت الجلوس الى يسار الجد حيث غيث يجلس الى اليمين فأصبحت في مواجهة غيث, قال الجد بعد جلوسها:
– فاكرة يا بتِّي الحديت اللي كنا جولناه من يمين انك تشتغلي امعانا اهنه في الديوان؟
أومأت موافقة وقالت وهي تتناول اناء العسل لتضعه أمامها وتغرس الملعقة الصغيرة به لتجيب قبل أن تضع ملعقة العسل في فمها:
– ايوة طبعا فاكرة يا جدو, وانا اتحمست للفكرة اوي, أهو بردو أحسن من القاعدة, انا ما اتعودتش على وقت فراغ طويل كده…
قال الجد وهو يشير برأسه الى غيث بينما تضع معلقة العسل في فمها:
– عال, يبجى جهزي حالك بعد الفطور هتروحي مع ولد عمك عشان تستلمي الشغل…
نظرت سلافة الى جدها بدهشة واسعة فاتحة عينيها على اتساعها وقد نسيت المعلقة في فمها بينما قال غيث ناظرا اليها بسخرية واستفزاز:
– مش لازم انهاردِه يا جدي, خليها من بكرة ان شاء الله, عشان تكون عاملة احسابها…
قطبت سلافة جبينها ناظرة اليه بسخط وهمت بالرد عليه عندما انتبهت الى ملعقة العسل التي لا تزال في فمها, فأخرجتها سريعا, وأجابت بينما قطرات العسل تلتمع على شفتيها لتكسبهما بريقا يخطف الأبصار:
– وليه بكرة ان شاء الله؟, وبعدين ليه يعني اروح معاك؟, ما انا ممكن أشتغل من هنا, هات لي الشغل معاك وانا هشتغل عليه هنا على اللاب بتاعي….
سكت غيث ولم يعقب على كلامها, بينما شردت نظراته في تلك القطرة من العسل التي تتركز على زاوية فمها, وقد غامت عيناه بانفعالات لم يعبر عنها أي اختلاجة في وجهه سوى انقباضة بسيطة لعضلة فكّه, انتبه بعدها لانتظارها سماع جوابه الذي لم يتأخر اذ أشاح بوجهه بعيدا عنها وهو يجيبها بصوت خشن:
– انتي ما عارفاشي الشغل ماشي كيف, لازمن تكوني موجودة الاول, وبعدين هتشتغلي عليه كيف وانتي إهنه؟
أجابت سلافة محدقة به بدهشة بينما الجد يجلس مستمعا ومستمتعا بجدالهم الممتع له:
– نعم؟, ليه.. هو انتو مش عاملين بروجرام للحسابات عندكم ممكن في أي وقت وأي مكان تدخل تشتغل عليه؟؟
ليجيب غيث وهو يزفر بعمق:
– لاه, مش عاملين, الديوان عندينا ماشي كيف مكان ماشي من سنين, ما فيش لا كَمبيوتر ولا يحزنون!..
تدخل الجد في الحوار قائلا بهدوء وابتسامة خفيفة تلون وجهه الكهل الملتحي بلحية بيضاء كثيفة:
– دِه عندي أني يا بنتي, أنى اللي ما رضيتش انه غيث يغيِّر طريجة الشغل, كان هيمشي ناس كتير جوي واني مش بحب جطع الارزاج, دِه جطع الارجاب ولا جطع الارزاج يا بتِّي!
قالت سلافة وقد شعرت بالفخر بهذا الجد العادل الحكيم بينما ابتسامة تزين ثغرها الوردي الذي لا يزال يحمل بصمات العسل الأبيض النقي:
– ربنا يخليك يا أحلى جدو, بس بردو دا ما يمنعش اننا نطوّر من شغلنا, ولو على الموظفين أكيد طبعا بعد ما نطبق البرنامج الجديد فيه ناس كتير هنضطر نستغنى عنهم, انما احنا ممكن نعمل حاجة كويسة, نعمل دورات تدريب على البرنامج الجديد, والمتقدمين دول يتثبتوا عندنا, واكيد هيكون فيه ناس مش هتتقدم خصوصا اللي سنّهم كبير, دول حضرتك ممكن تنقلهم في أماكن تانية عندك, ما شاء الله عندكم مشاريع كتير ممكن تشغلهم فيها, دا غير اللي سنّهم عدّا الستين وصحتهم مش مساعدة.. ايه المانع انه حضرتك تعمل لهم زي معاش شهري كدا يكون تقريبا مساوي لمرتبهم بكدا احنا هنظبط شغلنا صح, وهنعلمهم حاجات جديدة, واللي ميقدرش منهم وتعبان وبينزل يشتغل علشان يقدر يصرف على أهل بيته هنخليه ومن غير ما يحس انه دا احسان مننا ولا حاجة يقعد في بيته معزز مكرم والمعاش يجيله لغاية عنده, والأهم من كل دا كمية الدعوات اللي هتاخدها يا جدو, جرّب يا جدو.. صدقني البرنامج الجديد دا هينفعنا في شغلنا جامد, دا غير انك من هنا من بيتك تقدر تدخل عليه وتشوف الشغل ماشي ازاي…
صمتت لتلتقط أنفاسها بعد خطابها الحماسي, تنظر الى الجد بترقب في انتظار سماع تعليقه بينما ارتسمت على شفاه غيث ابتسامة اعجاب لم يستطع إخفائه بذكاء وحماس ابنة عمه المشاغبة هذه….
نظر الجد اليها وتحدث بعد هنيهة وقال بفخر:
– ربنا يخليكي ويبارك فيكي يا بتّي, وأني موافج, أنتي اللي هتتولي موضوع البرنامج دِه وتشوفي ازاي اندرّب عليه الموظفين عندينا..
ثم نظر الى غيث متابعا:
– غيث يا ولدي من اللحظة ديْ انت وسلافة مسؤولين عن الموضوع دِه, شوف اللي يلزمها واعمله…
قال غيث موافقا:
– وهو كذلك يا جدي, أني هستناكي يا بت عمي عشان نروحو سوا, دِه لو لساتك عاوزة تبتدي من انّهاردِه؟, ثم نهض متابعا:
– عن اذنك يا جدي..
نهضت بدورها هاتفة وهي تنظر اليه بينما أولاها ظهره:
– اكيد طبعا عاوزة ابتدي ومن دلوقتي كمان, عموما انا الحمد لله فطرت, هشرب الشاي وانا هناك….
عقد جبينه واستدار اليها بينما تقدمت منه بضعة خطوات قبل أن يكشر قائلا باستهجان:
– جاهزة كيف يعني؟, طب ع الأجل غيري خلجاتك الاول!
نظرت الى ثيابها المكونة من فستان قصير يصل الى أعلى الركبة بقليل باللون الأبيض المطبوع بأزهار عباد الشمس الكبيرة, ذو حمالات عريضة يضيق من الأعلى ثم يتسع الى أسفل حتى أعلى الركبتين, أسفله بلوزة صيفية بيضاء اللون بنصف كُم, والى الأسفل بنطال قماشي بنيّ اللون, وقد عقدت شعرها بوشاح خفيف بلون أزهار عباد الشمس, وانتعلت حذاءا خفيفا, ولم تضع أي من أدوات الزينة باستثناء كحلاً أسود أكسب عينيها اتساعا ولمعة, رفعت عينيها اليه وهتفت بدهشة:
– خلجات ايه اللي أغيرها؟
أشار بسبابته الى ثيابها وهو يقول ببرود يخفي غيْظ مكتوم:
– يعني ما وعياشي للي انتي لابساه دِه؟
كان الجد يكتم ضحكاته بصعوبة وهو يستمع الى سجالهم, فيما أجابت سلافة بحيرة وحنق:
– وهو ايه دا اللي انا لابساه؟, دا انا تقريبا لابسة هدومي كلها!, فستان وبنطلون وبلوزة, إيه عاوزني أستّف لك الدولاب كله فوقي ولا إيه؟
نظر اليه بغضب خفي وأجاب:
– مش لازم لها تريجة يا بت عمي, وشعرك دِه هتمشي بيه إكده كيف, غطِّيه الاول!
زفرت بعمق وكتفت ذراعيها وهي تقول عاقدة جبينها بنزق:
– اووف يا ربي, شعري ماله, ما هو انا لمّاه أهو؟!, عموما هريّحك!
واتجهت الى مائدة الافطار وتناولت قبعة قش كبيرة لم يكن قد انتبه اليها قبل ذلك, وكانت قد جمعت فيها الأزهار, ثم عادت اليه وهي تضعها فوق رأسها ورفعت حوافها العريضة قليلا وهي تقول في سأم:
– ها كويّس كدا؟
نظر الى قبعة القش البيضاء العريضة الحواف التي تعتمرها, زفر بحنق , تبّا لقد زادتها القبعة فتنة وجمالا!!
نفخ في ضيق وهتف وقد بدأت واجهة بروده بالتصدع:
– خلاص خلصينا, شيليها.. خلّيها مش فارجة, ياللا الحجيني كفاياكي عطلة!
وتقدمها لتهتف به محتدة:
– غيث!
وقف متمسمرا مكانه وهو يسمع اسمه من بين شفتيها فقد كان له وقع موسيقي غريب, فلم تكن تخاطبه باسمه مجردا منذ قدومها, حيث كانت تتحاشى الحديث اليه وان وجهت اليه الكلام وهذا من النادر حدوثه كانت تقول ابن عمي!, تقدمت اليه واستدارت لتقف أمامه وقالت مقطبة حاجبيها في حدة وكأنها تؤنب طفلا صغيرا على فعل طائش قد قام به:
– انت متعرفش يعني ايه ” السيدات أولا”؟, فيه حد يقول لبنت – وضخّمت صوتها مقلّدة إيّاه – الحجيني! ( كتم ضحكة كادت أن تخونه وتعمد رسم البرودة على وجهه فيما واصلت)- المفروض تقولي اتفضلي, حاجة كدا, اومال لو ما كنتش متعلّم ومتخرج من جامعة, ما اتعاملتش مع بنات خالص قبل كدا؟, وانا اللي مستغربة انك لغاية ما اتجوزتش ليه؟..
تنفست بعمق وأغمضت عينيها ثم فتحتهما ناظرة اليه وهي تكمل بلهجة الاقرار بالأمر الواقع:
– أبشّرك يا ابن عمي.. لو فضلت كدا ما فيش قطة حتى هترضى بيك!, اللهم الا اذا واحدة بقه طيبة اوي ومن بتوع الافلام الابيض والاسود وما هتصدق ابن العمدة اتقدم لها علشان توافق على طول!.
نظر اليها مليّا بغموض ليميل بعد ذلك باتجاهها وهو يقول بابتسامة هادئة:
– ما تجلجيش يا بت عمّي, وجت ما هعوز أتزوج مش هختار أي حد, ولازمن اخد رأيك الاول!
قلبت وجهها حائرة وهمست ساخرة:
– يا واد يا جامد!, وعاوز ياخد رأيي, وانا مالي انا, عاوز تشيّلني ذنبها ليه؟.
كان غيث قد استدار متابعا سيره عندما توقفته صوت همهماتها فالتفت اليها بنصف استدارة وقال:
– بتجولي حاجة يا سلافة؟
نفخت بحنق ولحقته بخطوات حانقة ووقفت أمامه قائلة وهي تضع يديها في خصرها:
– لا ما قولتش, بص يا ابن عمي, شكلنا كدا هنقعد كتير مع بعض اوي الايام اللي جاية, فيا ريت تناديني سولي, مش عاوزة سلافة دي!
أجاب غيث ببرود:
– بس اسمك سلافة, اني ما جبتوش من بيتنا!.
أجابت بنزق:
– مش بحبه!, أنا اصحابي كلهم بيقولوا لي سولي!
تظاهر بالتفكير ثم قال:
– يعني أني أجف أنادم عليكي وسط الناس واقول سولي؟, لاه.., ما عينفعشي, اختاري سلافة ولا زلافة؟!
صاحت بحنق:
– ايه زلافة دي كمان؟, ما تقول لي زرافة أحسن!
ثم نفخت بضيق متابعة وهي تسدل يديها بجانبها مشيحة بإحداها:
– خلاص, سلافة أرحم بردو..
ابتسم غيث بسخرية وتابع سيره, فيما شردت سلافة قليلا لتنتبه بعد ذلك لابتعاده عنها بمسافة كبيرة فركضت خلفه وهي تصيح قائلة:
– استنى يا كابتن, انت يا باش مهندس..
ثم تابعت بلهجة صعيدية رسمت ابتسامة عريضة على وجهه لم ترها حيث كان يوليها ظهره:
– دِه بيّنها هتكون أيام كحلي مخططة برماديْ اللي جاية ديْ!!
وهرولت لتلحق بخطواته بينما تعالت قهقهات الجد الضاحكة ما إن غابا عن ناظريْه!!

– يتبع –

error: