“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد

كبير العيلة – 3 – بقلمي/ منى لطفي….
وصلت عائلة رؤوف الى مشارف البلدة وارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيه وهو يقول محدثا زوجته وابنتيه :
– شوفتوا بلدكم جميلة ازاي؟, شوفتوا الخضار اللي ملون أرضها.. لونه نفس لون قلوب ناسها.. أخضر وصافي…
قالت سلمى بابتسامة خفيفة :
– جرى ايه يا بابا؟, انا عارفة انك بتحب الأدب والشعر بس دي أول مرة أسمعك بتقول شعر بالطريقة دي.. من ساعة ما ركبنا العربية واحنا في مصر وانت زي الحبيب اللي راجع لحبيبته بعد طول غياب وعمّال يتغزل فيها !!
ضحك والدها ضحكة صافية بينما سارعت سلافة بالهتاف بمرحها المعهود موجهة حديثها الى أمها الجالسة بجوارها على المقعد الخلفي تبتسم بسعادة لسعادة زوجها:
– أوباااا.. خلِّي بالك يا ليلى.. إنِّي ألمح شبح حب قديم يلوح في الأفق غاليتي!!
ضحك الجميع وعلقت ألفت بمرح :
– لا تهتمي يا فتاة.. فقلبه معي ولم يسكنه غيري ..
قال رؤوف مكملا حديثهم بالعربية الفصحى:
– ولن يسكنه غيرك يا ليلايْ!
وانطلقت سلمى متابعة طريقها وسط الضحكات التي تتعالى في السيارة …
**************************************************
فُتحت بوابة حديدية ضخمة على مصراعيها بعد أن إنطلق زمور سيارة عائلة رؤوف وانطلقت سلمى عابرة اياها بسرعة لتبطيء بعد ذلك من حركتها ما إن اقتربت من البوابة الداخلية للمنزل بينما تلفت شهاب على صوت السيارة المتقدمة للداخل ليرمقها بتساؤل من فوق جواده العربي الاصيل (عنتر)…والذي كان جواداً اسود كالليل البهيم كان شهاب هو من روّضه, فقد كان فرس عربي جامح ولكن شهاب استطاع ترويضه وأصبح فارسه الأوحد …
– ستِّي الحاجة…يا ستِّي الحاجة الضيوف جوم بالسلامة…
اندفعت وردة تهتف بالبشارة لسيدتها وهي تركض فرحة, بينما قامت فاطمة من مجلسها بسرعة وهي تستند على ركبتيها بوهن وقالت وهى ترتدي خفها الذي لم تستطع ارتداؤه بسهولة من اول مرة لاستعجالها بينما نادت وهى تحاول الإسراع في سيرها بما يسمح لها جسدها الكهل:
– نادمي على الحاج يا بت يا وردة..
قالت وردة الفتاة ذات الرابعة عشر ربيعا وهي تهم بتلبية أمر سيدتها:
– من عينيا.. حاضر, يا حاج…. يا حاج …
بينما وقفت فاطمة وهي تنظر الى الباب حيث دخل راجح غفيرهم الخاص يحمل حقائب عدة إحداها فوق كتفه الأيمن يسندها براحته اليمنى الغليظة وأخرى تحت إبطه الأيسر وثالثة ورابعة يمسك بمقبضيهما بكفّه الأيسر الغليظ!!
تنحنح راجح وهويسعل هاتفا بضخامة صوته الجهوري:
– يا رب يا ساتر….
ووضع الحقائب جانبا بينما تقف فاطة تنظر بلهفة الى الباب والدموع تتلألأ في عينيها وإبتسامة ترقب ترتسم على شفتيها المشققتين, حبست أنفاسها حين طالعتها قامة مديدة يعلوها رأس اسود غزا الشيب شعره, ارتجفت شفتيها ومدت يديها فاتحة ذراعيها وهى تقول بتلعثم وإبتسامة سعادة وعدم تصديق لما تراه عينيها تشق طريقها الى وجهها المتغضن فيما تتدافع الكلمات من فمها بينما ترتعش شفتاها وتغيم عيناها بالدموع التي فاضت ما ان نطقت قائلة :
– و.. ولـ… ولدي, ولداااااااي …..
ركض رؤوف الى أمه في سرعة وكأنه قد غدا شابا في العشرين من عمره, ليلقي بنفسه بين أحضانها الدافئة, هذا الحضن الذي حُرم منه طويلا, كانت تغسل وجهيهما بدموعها بينما يقبل هو كل إِنش في وجهها وتقبل هي رأسه ووجهه وهي تهتف منادية بإسمه ثم ابتعدت قليلا عنه لتملأ عينيها برؤية وجهه الذي اشتاقت له حتى أمرضها شوقها ذلك, ثم أحاطت وجهه بكفيها المغضنتين وهي تقول من بين غصات بكائها الحار والذي يناقض الابتسامة الواسعة التي ارتسمت على وجهها لتنيره:
– رؤوف .. ولدي, يا حتة من جلبي, اتوحشتك جوووي.. جووي يا ولدي…
امسك رؤوف بيديها المحيطة بوجهه ليقبل باطن كفيها وهو يقول بينما دموعه قد غلبته رغما عنه لتغرق وجنتيه:
– وانتي كمان يا أمي.. وحشتيني اووي… اوووي …
سمع صوتا على الرغم من عدد السنين التي مرّت ولكنه لا يزال محتفظا بقوته وثباته وهو يهتف آمرا:
– كفاياكي يا فاطنة… خليني اعرف اسلم على الغالي…
رفع رؤوف رأسه ليشاهد نظرات والده المشتاقة وهو يتابع بابتسامة مرتجفة رغما عنه فاتحا ذراعيه على وسعهما:
– ايه .. ما اتوحشتنيش آني كُمااان ولا ايه يا ابن عبد الحميد؟!.
ابتعد رؤوف قليلا عن والدته وسار حتى والده وهو يجيب بابتسامة مشتاقة ودموع تسيل رغما عنه مغرقة وجهه الأسمر:
– ابن عبد الحميد اشتاق لريحة عبد الحميد يا حاج..
ورمى نفسه بين ذراعي والده ليتلقفه حضنه القوي الدافيء ورفع يد والده يقبل ظاهرها وسط عبارات الحمد والشكر لله التي صدرت من عبد الحميد أن منّ عليه الله بإحتواء ابنه ثانية بين ذراعيه ورؤيته وسط عائلته قبل ان توافيه المنية…
راقبت عائلته الصغيرة ما حدث من لقاء عائلها الحبيب مع والديْه والدموع تجري مدراراً من فيض المشاعر التي تراه امامها, ابتعد قليلا رؤوف عن والده واشار بيده الى عائلته الصغيرة الواقفة بجوار بعضها البعض وهو يقول وابتسامة فخر صغيرة ترتسم على وجهه :
– عيلتي يا حاج …
قالت فاطمة وهى تحاول ايقاف دموعها بإبتسامة أمومية حانية:
– ما شاء الله يا ولدي …
بينما واصل رؤوف حاثًّا عائلته على التقدم والسلام على والديه:
– سلمى, سلافة, تعالوا حبايبي سلموا…, ثم تابع بفخر مشيرا الى والديْه:
– دا جدكم.. أبويا الحاج عبد الحميد, وجدتكم… أمي الحاجة فاطمة…
اقتربت ألفت للسلام على حماها وحماتها وقالت بابتسامة هادئة صافية وهي تقبل رأسيهما:
– انا مبسوطة جدا انى شوفتكم.. رؤوف بيتكلم عنكم كتير وما صادفش في الكم مرة اللي اتقابلتوا فيها إني أكون موجودة..
رحبت بها فاطمة قائلة بابتسامة صغيرة:
– بيتك وُمطرحك يا مرات الغالي.., بينما صافحها الجد مرحبا بها بابتسامة هادئة…..
قدّم رؤوف سلمى قائلا بفخر أبوي:
– دي سلمى يا حاج… الدكتورة سلمى رؤوف عبد الحميد الخولي…
اقتربت سلمى وصافحت جدها مقبلة رأسه بينما تلقفتها جدتها بين أحضانها وهى تهتف بحب:
– بسم الله ما شاء الله…. دَكتووورة !, أهلا بيكي يا بتِّي… نورتي بيتك ومُطرحك يا ست الدكتووورة..
اقتربت سلافة بينما تزين ثغرها ابتسامة واسعة وهي تسبق والدها في التعريف بنفسها بمرحها المعهود:
– وانا بأه آخر العنقود سكر معقود…
التفتت اليها جدتها وقالت وهى تفتح ذراعيها اليها :
– تعالي يا سكر إنتي, شكلك سكر ودمك احلى من السكر كومان…
احتضنتها سلافة وهى تقبل راسها وهتفت بشقاوتها المحببة:
– انت اللي احلى من العسل يا ماما ستو…
قطبت جدتها قليلا وابعدتها عنها وهي تستفهم بحيرة:
– واه!, ايه؟, ماما ستو؟, ايه ماما ستو دايْ؟..
أجاب رؤوف بابتسامة صغيرة:
– ماما ستو يعني جدتي يا أم رؤوف بس في البندر بيقولوها كدا.
قالت الجدة وهى تحيط كتفي سلافة بذراعها بضحكة سعيدة:
– ماما ستو… ماما ستو, ماعيفرجش.. اهنه بيجولو جدتي.. لكن أي حاجه منيكي مجبولة يا بت الغالي, وانت بجاه اسمك ايه على اكده؟, بوكي جالو بس ما تواخزنيش يا بتّي راح من بالي!.
قطبت سلافة بينما ضحك والدها وهو يجيب:
– معلهش يا حاجه.. اصل اسمها مش عاجبها!
قطبت امه سائلة :
– ايه ؟, مش عاجبها ؟, ليه يعني؟!, عيكون اسمها ايه ان شاء الله…. زليخة؟
ضحك رؤوف قائلا :
– لأ … سلافة!
كررت فاطمة هاتفة:
– ايه؟, مين؟, كيف سُلفة يعني؟, تاجي إزايْ ديْ؟!
تبرّمت سلافة وقالت لوالدها بحزن مصطنع:
– شوفت يا بابايا… أهي ماما ستو مش عاجبها الاسم وبتقول سلفة!!, لا يا ماما ستو مش سلفة… سلافة.. اقولك.. قوليلي سولي!
هتفت جدتها باستهجان :
– واه… ايه؟, سولي؟, ديه كلب دِه؟, كيف يا بتي أناديكي باسم كلب الله يرضى عنيكي بس؟!!
ضحكت ألفت قائلة :
– شوفتي.. مش انا لوحدي اللي مش عاجبني اسم الدلع بتاعك! قالت سلافة بحنق :
– خلاص يا ماما ستو قولي لي.. لولو!, ايه رأيك؟, أظن سهلة أهي؟!
أجابت فاطمة وهي تشيح بيدها :
– مِشِ إمهمْ… لولو.. لولو, إلِمهم انك أحلى من اسمك..
ضحك الجميع بينما اقترب الجد وهو يقول :
– طيب ولولو مش ناوية تسلم على جدها ولا ايه؟
اقتربت سلافة وهي تجيب بضحكتها التي تدخل القلوب:
– معقولة يا بابا جدو؟, أنا من ساعة بابايا ما كلمنى على حضرتك ونفسي اشوفك…
احتواها جدها بين ذراعيه وهي يقول بحنان أبويّ:
– شكلك إكده.. نصابة إصغيرة كيف بووكي وهو في سنّك إكده.. كان بياكل بعجلي ياما حلاوة!
سمعوا صوتا جهوريا يقول :
– وكانت النتيجة انه بعد عنِّنا اكتر من 30 سنة !.
التفتوا جميعا ليشاهدوا عثمان وهو يتقدم منهم وما لبث ان وقف قليلا يطالع في أخيه الواقف وسط عائلته الصغيرة التي استطاعت نيل اعجاب والده ووالدته منذ لحظة دخولهم, نظر مليا الى شقيقه الذي وقف يبادله النظرات بأخرى هادئة.. متسائلة…. قلقة!!, بينما نظرات عثمان يشوبها الغموض, وساد الصمت المترقب بين الجميع, وكان عثمان أول من خرقه عندما ترك العصا الأبنوسية التي يحملها جانبا ومد ذراعيه قائلا وابتسامة بدأت في الظهور على محياه :
– نورت بيتك يا وِلد أبوي…
ليسارع رؤوف باحتضان شقيقه وهو يتشمم رائحته بلهفة كبيرة, تلك الرائحة العابقة برائحة هذه الارض الطيبة والتي اشتاق اليها اشتياق العطشان للماء ..
أشارت فاطمة لإمرأة تقف بعيدا تراقب ما يحدث أمامها وتعابير وجهها لا تنم عما يجيش في صدرها من مخاوف وتساؤلات, وبعضا من الغيرة لدى رؤيتها لفرحة الجميع بعودة الغائب بصحبة عائلته, هتفت فاطمة بابتسامة واسعة:
– جدّمي يا أم غيث سلِّمِي على ولد عمك رؤوف ومَرَتُه وبناته…
تقدمت راوية وهي تعدل من وضع وشاحها الملون العريض فوق رأسها ورسمت ابتسامة هادئة وقالت مرحبة وهي تنظر بطرف عينها الى رؤوف:
– حمدلله ع السلامة يا وِلد عمي…
رد رؤوف تحيتها بإيماءة صغيرة من رأسه وقال ببشاشة:
– الله يسلمك يا أم غيث…
تقدمت باتجاه ألفت ووقفت أمامها ومدت يدها لتصافحها وهي تقول برسمية:
– البلد نورت بوجودكم….
ومالت عليها لتقبلها قبلة خفيفة باردة ولكن ألفت لم تقف عندها وأجابت بابتسامة صافية:
– منورة بيكم يا أم غيث….
ابتعدت راوية بعد ذلك وهي ترمق البنتين بغموض, سارعت سلمى لمصافحتها وهي تقبلها قائلة:
– أزيك يا طنط؟..
وتبعتها سلافة وهي تكمل:
– عاملة ايه يا طنط؟..
أخفت راوية امتعاضها من اسلوب البنتين في الكلام, واستهجنت في داخلها هامسة مع نفسها:
– طنط وطنط, ايه الكلام الماسخ ديه؟, كَنْهُمْ بيجولوا طنطا!, انما هجول إيه؟, طالعين لامهم, مجايبك يا ولد عمي!!
قال الجد قاطعا السلام البارد الذي استشعره من كنَّته راوية تجاه عائلة ولده الآخر رؤوف:
– جرى ايه يا أم غيث, فين الغدا, ضيوفنا أكيد جاعوا من تعب المشوار والطريج!!..
هنا تبدلت تعابير راوية من البرود للهفة وسرعة الاستجابة مما دل على مدى الاحترام والهيبة التي يمثلها هذا الصرح الشامخ الواقف أمامهم والذي مهما مرت عليه السنون فإنها لا تنقص من مكانته وهيبته وسط أفراد عائلته شيئا, قالت راوية وهي تهم بالذهاب:
– حالا يا بويا الحاج, هجولهم يجهزوا الغدا…

************************************************
جلس الجميع في غرفة الجلوس الكبيرة بمقاعدها الخشبية الثمينة المنحوتة على هيئة الأرابيسك, كان رؤوف أول من قطع الحديث الدائر حول أحوال البلدة والأهل والأقارب حينما توجه بالسؤال الى شقيقه الأكبر قائلا:
– أومال فين أولادك يا أبو غيث؟, غيث وشهاب وسلسبيل صح؟
أجاب عثمان بابتسامة فخورة:
– صوح يا ولد أبويْ, غيث في الديوان دِلوكْ, وشهاب في المزرعة أما سلسبيل بجه فهي ببيت جوزها… راضي وِلد عدنان إبن عمنا طه الله يِّرحَمُهْ, ما كانوش يعرفوا انك هتاجي انّهارْدِهْ, ولا كانوا هيبجوا في استجبالكم…
قال رؤوف بابتسامة حانية:
– ربنا يخليهوملك ويفرحك بيهم, انما غيث وشهاب ما اتجوزوش؟
أجاب الجد وهو ينظر الى ولده عثمان بغموض:
– لع, لسّاتهم من غير جواز, كل واحد بيستنى نصيبه, ولمّن النصيب بياجي ما في حد يجدر يوجف جُصاده!!..
قطب عثمان لدى سماعه عبارة والده, وتذكر معارضة والده في زواج ابنيه خاصة وأنهما قد تخطيا سن الزواج بالنسبة لعاداتهم, فالشاب ما ان يبلغ العشرون عاما حتى يبدأ الأهل بالتخطيط لزواجه, وكلما فاتح أباه في مسألة زواج الأبناء, أغلق الوالد الحديث في هذا الأمر بغموض قائلا أن النصيب لم يأت بعد, وعندما حاول دفع غيث بالحديث في هذا الشأن مع جده فاجئه غيث بأن هذا ليس بالأمر الجلل, وأنه واثق ما إن يزمع على الزواج بجدية فإنه قادر على إقناع جدّه, بينما شهاب رفض النقاش في الأمر جملة وتفصيلا هاتفا أنه لا يفكر بهذا الأمر ولو قدر أنملة الآن!!…
همس عثمان في نفسه وهو يطالع أبوه يتبادل المزاح مع حفيدتيْه:
– يا ترى يا أبو عتمان ناوي على ايه؟, أنا خابرك زين, ما بتجولش كلام والسلام, كل حرف بيطلع من خاشمك بتكون واعي له زين!, ربنا يستر من اللي جاي يا حاج…
وهو يعلم يقينا في قرارة نفسه أن والده قد وضع قرارا بشأن أحفاده ولم يبقى سوى الإفصاح عنه و…..التنفيذ!!
————————–————————–—-
تجمعت العائلة حول مائدة عامرة بكل ما لذ وطاب من أكلات مختلفة شهية المذاق, جلس الجميع, الجد على رأس المائدة والى يمينه عثمان ويساره رؤوف, والى يمين عثمان راوية, بينما الى يسار رؤوف ألفت فسلمى ثم سلافة, وعلى الجهة المقابلة للجد كانت فاطمة والتي لم تجلس طوال مدة تناولهم الطعام, بل اتخذت مكانها واقفة بجوار رؤوف ابنها تهتم بوضع شتى أنواع المأكولات في صحنه, قال رؤوف وهو لم يعد يستطيع وضع لقمة اضافية في فمه:
– كفاية يا أمي, بطني هتنفجر من كتر الأكل..
شهقت فاطمة مفجوعة وخبطت على صدرها هاتفة بلوم:
– بعد الشر عنيك يا ولد بطني, ان شالله اللي يكرهك, خد يا ضنايا اشرب بوج الماية ديِه وانت هتُبجى منيح…
ومدت اليه كوبا من الماء فتناوله منها وأمسك بيدها قبل أن تبعدها ومال عليها مقبلا ظاهرها وهو يقول بابتسامة:
– ربنا يخليكي ليا يا غالية وما يحرمنيش منك ابدا انتي والحاج…
ورفع كوب الماء ليشربه بينما مالت سلافة على أذن سلمى بجوارها وهمست لها بابتسامة مكتومة:
– الحقي شكل جدتك هتاخد قيس ابن الملوح من ليلى, وشكله كدا ليلى راح عليها خلاص!!..
وكزت سلمى سلافة بمرفقها في خاصرتها فتأوهت الأخيرة بألم ونظرت اليها بعتب بينما تحدثت سلمى بحزم وهي تطالع صحنها:
– سلافة… بطلي تهريجك دا, هما هنا ميعرفوناش ولا يعرفوا طريقتك في الكلام, فلو سمحتي تراعي دا كويس اوي, ولا انتي مش واخده بالك من مرات عمك من ساعة ما قعدنا وعينها ما نزلتش من علينا, وبتبص لنا بنظرات غريبة تخض, زي ما نكون جايين علشان نطردها ونقعد مكانها!!..
تأففت سلافة وقالت بهمس:
– خلاص خلاص, آسفة, بس انا كنت بكلمك انتي بس, احنا هنبتيدها حبسة نَفَس!, وبعدين مرات عمك مع نفسها… أهم حاجة ما نحاولش نحتكْ بيها خالص…
ثم انفرجت أساريرها وتابعت بابتسامة صغيرة:
– والأهم بقه ان جدك وجدتك الفرحة مش سيعاهُم, وحاسة انه عمك كدا كمان, وكفاية فرحة بابا, شوفي ماما حتى من ساعة ما جينا وهي بتبتسم وعينها ما نزلتش من على بابا فرحانه لفرحته, وبصراحه مقابلتهم كلهم لينا حلوة, ما فيش غير مرات عمك ودي شكلها كدا بيعمل لجدك ألف مليون حساب, انا متفائلة بالاجازة دي ان شاء الله..
أجابت سلمى بخفوت:
– بس لسه باقي العيلة…. ولاد عمك, يا ترى هيتبسطوا هما كمان ولا هيطلعوا لمرات عمك؟!!..
هزت سلافة بكتفيها علامة الجهل, ثم انصرفت تتابع تناول طعامها وكذلك سلمى….
مر وقت تناول الطعام وسط الاحاديث الخفيفة تتخللها تعليقات سلافة المرحة وابتسامة سلمى الهادئة, وفرحة رؤوف بعودته الى أحضان عائلته مرة أخرى وسعادة ألفت لسعادة زوجها…
================================
تم تخصيص طابق كامل لعائلة رؤوف, كان هذا الطابق وللغرابة قد تم بنيانه منذ أكثر من ثلاثون عاما لكي يعيش فيه رؤوف مع زوجته زينب شقيقة راوية, ولكن تم إقفاله بعد ان رحل رؤوف عن البلدة, وأُعيد فتحه ثانية وتجهيزه عندما تلقى الجد اتصالا من ولده يخبره فيه أنه يزمع على العودة الى البلدة قريبا برفقة عائلته..
كان الطابق عبارة عن شقة واسعة الى حد ما, تتكون من ثلاث غرف, اثنتان للنوم وواحدة للجلوس, وردهة متوسطة, ومطبخ وحمامين, أحدهما في غرفة النوم الرئيسية والآخر بجوار غرفة النوم الأخرى والتي تم تخصيصها لسلمى وسلافة…
دخلتا الى شقّتهما العلوية بعد ان استأذنوا للصعود الى الأعلى للحصول على قدر من الراحة, دارت سلمى بعينيها في المكان حولها, بينما أطلقت سلافة صافرة طويلة وهتفت:
– يا سلااام, شوفتي الجمال, واضح كدا ان جدك جاب مهندس ديكور على أعلى مستوى, الشقة بتاعتنا على أحدث حاجة, سواء في لون الحيطان ولا التشطيب أو حتى الموبيليا….
علقت سلمى بهدوئها المعهود وهي تجول بناظريها في ارجاء المكان:
– فعلا يا سولي, وأهم حاجة الهدوء, علشان أقدر أنجز في الرسالة بتاعتي…
اقتربت سلافة من المرآة التى تتوسط الحائط في ردهة المنزل بينما انسحب والديهما الى غرفتهما ما ان صعدا الى الأعلى, قالت سلافة وهى تطالع نفسها في المرآة:
– تفتكري بابا لما يشوف باقي العيلة بالليل زي ما جدو قال, محدش هيحرجه بأي كلمة؟
تطلعت سلافة الى نفسها في المرآة وهى تنتظر جواب أختها, رأت انعكاس صورتها في المرآة وتذكرت تعليق جدتها حين رأتها أنها قد اكتسبت الشكل الحسن من والدتها ولكن خفة الدم وسرعة البديهة من والدها…
قارنت بينها وبين شقيقتها الواقفة خلفها تدور بعينيها في المكان..
من يراهما لأول وهلة يحسبهما توأمين, مع ان فارق العمر بينهما أكثر من اربعة سنوات, فكلتيهما تملكان نفس الصفات الشكلية مع فروقات بسيطة, وان كانت سلافة قد ورثت قامتها الرقيقة الضئيلة من أمها بينما ورثت سلمى طول القامة من والدهما والاثنتان تشتركان في رشاقة الجسم وخصر غاية في الدقة, وتملكان نفس لون البشرة الأبيض المشرّب بحمرة كوالدتهما والتى ورثتها عن جدتها لأمها التركية, وعينان واسعتان مكللتان برموش غزيرة, بينما تختلفان في لون العينين, فعيني سلافة سوداء عميقة تتيه في ليلها, أما سلمى فزيتونية العينين, تجعلك تشرد في غابات الزيتون الخاصة بها, و لهما شعر أسود كالليل البهيم, يتعدى كتفيهما, فالشعر الطويل هو زينة المرأة كما دأبت والدتهما على القول, وإن كانت سلافة كثيرا ما خالفت رغبة والدتهما وعمدت الى قص شعرها كي يسهل عليها تصفيفه على الرغم من نعومته الزائدة عن الحد لدرجة انها قد عمدت أحيانا الى تجعيده كي يثبت!!..
قالت سلمى مجيبة بهدوء وهي تتجه الى غرفتهما:
– ما تقلقيش, اللي انا شوفته تحت يخليني أقولك ان جدنا هنا الكل بيعمل له ألف حساب, وانه محدش هيقدر يقول لبابا كلمة واحدة تزعله, و…..
وبترت عبارتها بشهقة مباغتة, فاتجهت اليها سلافة ووقفت أمام باب الغرفة مستندة بيديها على حائط الباب بجوارها وقالت قاطبة:
– ايه يا سلمى مالك فيه ايه؟
عقدت سلمى جبينها وزفرت بغيظ وهي تجيب بحنق:
– اللاب بتاعي شكلي كدا نسيته في العربية, اووف.. ياربي – ونفخت بضيق وتابعت – لازم اروح اجيبه من العربية كنت عاوزة أستغل الوقت في الرسالة بتاعتي قبل ما الضيوف بتوع بالليل ما ييجوا…
ثم سارعت بالمغادرة فانتحت سلافة بعيدا لتسمح لها بالمرور فيما تابعت سلمى وقد تناولت مفاتيح السيارة وهي تسرع بالمغادرة:
– هروح أجيب اللاب وآجي على طول, خلي بالك من الجرس لما أرجع , بلاش تحطي لي السماعات في ودانك وأقعد أهاتي علشان تفتحيلي..
أومأت سلافة بالايجاب فيما انطلقت سلمى من فورها وهي تنفخ بضيق فمن ناحية هي تشعر بالتعب الجسماني نظرا لطول المسافة التي قادتها ولم تخلد الى الرائحة مطلقا حتى بعد وصولهم, ومن ناحية أخرى ذلك القلق الطبيعي الذي يساورها بشأن عائلة والدها, وأيضاً أمر رسالة الدكتوراه والذي تريد انجازه في أسرع وقت…
زفرت براحة وهي تخرج حقيبة اللاب من المقعد الخلفي حيث كان موضوعا في الدواسة الخلفية, وابتسمت براحة قبل أن تغلق باب السيارة ثم تسرع بالذهاب وهي تفكر جيدا في الجزئية التالية برسالتها والتي طلب منها أستاذها المشرف على الرسالة تعديلها وكانت غارقة في أفكارها بشدة وذلك حين اصطدمت بقوة في حائط ضخم كاد أن يحطمها!!..
شهقت ملتاعة, فلم يكن الحائط سوى حائط بشري بصدر عضلي عريض كاد يحطم أضلعها التي ارتطمت به, وكرد فعل لمفاجئتها رجعت الى الوراء بسرعة كادت أن تتسبب في سقوطها لولا أن امتدت يدين قويتين أمسكتا بمرفقيها وتعالى صوت خشن غاضب يهتف بغلظة:
– ايه دا؟, مش تشوفي قودامك؟!, واخده في وشّك وماشية كدا زي القطر!!…
انتبهت سلمى من جمودها الذي سببه مفاجئتها في الارتطام بمحدثها, وشعرت بالانزعاج من هذا الضخم المستبد, هي لم تقصد إطلاقا الاصطدام به, وهل هناك عاقلا يرتطم بحائط خرساني مسلح يكاد يصيبه بتهتك في ضلوعه وهو بكامل وعيّه؟!!…
رفعت عينيها إليه وفتحت فمها وهي تهم بالرد عليه بكلمات توقفه بها عند حده, وتجعله يكف عن تمتماته الغاضبة تلك, حينما إصطدمت نظراتها الزيتونية بأخرى مشتعلة كالفحم الملتهب, ليسود الصمت التام, وقد تلاقت الأعين… وهمست الشفاه, و…… رجفت القلوب!!..

  • راحت فين يا ربي دي؟..
    تأففت سلافة من طول غياب سلمى وقررت الذهاب للتفتيش عنها ومعرفة سبب تأخرها وفجأة طرق سمعها صوت طرقات متتالية على الباب, فسارعت لفتحه وقد علمت أنها سلمى وهتفت وهي تفتح الباب على مصراعيه بسخرية:
  • ما بدري يا ست سلمى, ايه كنتي بتمشي جوّه الجزمة الأول؟؟
    وقطبت ما إن طالعتها الهيئة الواقفة خلف الباب, كان مديرا لها ظهره ولكن ما إن سمع عبارتها الساخرة حتى التفت في دهشة يطالع صاحبة الصوت الساخر لتطالعه هيئتها وكانت قد أبدلت ثيابها بأخرى خفيفة عبارة عن بنطالا قطني يصل الى منتصف الساق وبلوزة بيتية عليها رسم عروس البحور الشهيرة, بنصف كم, ورقبة مربعة عريضة, وقد رفعت شعرها بمشبك فوق رأسها وتطاير بعض خصلاته حول وجهها ليكسبها رقة وجاذبية مهلكة!!
    شهقت سلافة وهي ترى ذلك الكائن الضخم الواقف ببابهم, يطالعها بنظرات مشدوهة يبادلها نظراتها المندهشة بأخرى مذهولة, حاولت التحدث ولكنها سرعان ما سكتت فجأة وهي تسمعه يهمس بإنبهار بالرغم منه وكأنه مغيّب وهو لا يستطيع إبعاد عينيه عن هذه الصورة الملائكية الخلابة التي تمتثل واقفة أمامه:
  • بسم الله ما شاء الله, سبحان من خلجك وصوّرك!!..
    شهقتها الخجلى جعلته يفيق من التيه الذي شعر به لتتحول نظراته من ذهول وعدم تصديق الى أخرى نارية ملتهبة وهو يطالعها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها بدهشة ممزوجة بحدة وغضب, ثم انتبه الى وقوفهما أمام الباب ليقبض على مرفقها ويدفعها الى الداخل بسرعة صافقا الباب خلفه بعنف وتحدث بحدة من بين أسنانه المطبقة:
  • إنتي إتجنيتي؟, كيف تفتحي الباب وانتي لابسة خلجاتك ديْ؟, فين عمي رؤوف؟..
    تساءلت سلافة بدهشة بعد أن استطاعت تجميع قواها:
  • عمك؟!..
    مال عليها وهو لا يزال قابضا على مرفقها بقوة آلمتها بينما تابعت بتساؤل مرتبك من نظراته القوية وهو يطالع عينيها ليتيه في ليلها السرمدي بينما تقابلها سماء رمادية ترعد في دخان عينيه في ليل عاصف:
  • إنتَ….
    قاطعها ساخرا:
  • غيث وِلد عمك يا.. بت عمي!!
    شهقت صغيرة أعقبها جذبها لمرفقها بشدة لتفلته من قبضته, ثم وقفت بارتباك هنيهة لا تدري ماذا عليها أن تفعل قبل ان تسارع الى الداخل لتنادي والدها وقد شعرت بأن القط قد أكل لسانها من هذا الكائن الهمجي الضخم وكأنه الأسد ملك الغابة والذي اقتحم عليها ملاذها الآمن!!..
    في حين نظر غيث في أعقابها وهي تختفي من أمامه في إحدى الغرف وتمتم بخفوت:
  • بجه ديْ تبجي بت عمي رؤوف؟!, لو أنا منِّيه ما عخليش حد يلمح طرفك واصل يا…. بت عمِّي!!
  • يتبع –
error: