رواية روضت الذئب بقلم اسراء على/كاملة
رواية روضت الذئب بقلم اسراء على الفصل التانى
روضت_الذئبأولًا بعتذر عن الغياب لأني كنت مساقرة لظروف خاصة بتمنى متزعلوش
حين تظلمنا الحياة بـ أسوء الطرق…
إما يضطر الإنسان المواجهة بـ كل شراسة…
أو ينحني لها تاركًا إياها تتقاذفه كما تهوى…صرخ بـ غضب دالفًا خارج المرحاض وهى تتبعه لتقول بـ غضب يُماثل غضبه-مش تطنشني يا طارق وتمشي..أستنى هنا…
ألقى المنشفة من يده ثم إستدار إليها غير آبهه لنظرة الألم المُرتسمة على وجهها ليقول بـ قسوة
-لأ هطنشك يا هايدي..هطنشك لما ترجعي للكلام فـ الموضوع دا للمرة المليون..إرحميني بالله عليكي…
لم ترد عليه بل إنسابت عبرتان على وجنتيها الناعمتين ليتأفف طارق بـ نفاذ صبر ثم إقترب منها يُحاوط ذراعيها ثم همس بـ يأس
-على الأقل دلوقتي وإحنا بنمر بـ الظرف دا..جدتي لسه ميتة النهاردة وأنتي بتتكلمي فـ الموضوع دا
-تحشرجت نبرتها وهمست:عشان كدا بتكلم فيه..مفيش وقت نضيعه ..عشان خاطري
-جذبها إلى أحضانه ثم همس:عشان خاطري أنتي إسمعي كلامي…
أبعدها عنه قليلًا يُزيل عبراتها بـ حنو ثم تشدق بـ رقة وهو ينظر إلى عيناها الرائعتين
-خشي إلبسي يا هايدي..خشي إلبسي وإطردي الشيطان دا من راسك
-حركت رأسها نافية قائلة:مش هقدر وأنا حاسة بـ الذنب ناحيتك
-قست عيناه قليلًا وهو يقول بـ قوة:ذنب إيه بس!..ذنب إيه بس!..خشي إلبسي يا هايدي عشان مينفعش أسيب بابا لوحده…
أزالت عبرتين هبطتا دون أن تشعر ثم أبعدت يده عنها وإتجهت ناحية الخزانة وأخرجت ثياب مُكونة من بنطال قُماشي أسود وقميص نسائي أسود اللون أيضًا يصل إلى ما بعد خصرها بـ قليل..أما عن خُصلاتها فـ قد عقدتها على هيئة كعكة مُنمقة وإستدارت إليه لتجده يُغلق أخر زرين من قميصه فـ إتجهت إليه تُساعده على إرتداء سترة حلته السوداء..جذب هو يدها ثم قبّل باطنها هامسًا بـ صدق
-وجودك فـ حياتي بيغنيني عن أي حاجة تانية وعن أي طفل..عشان أنتي طفلتي يا هايدي..عارفة يعني إيه!..يعني أنتي مسئولة مني..عليا أحميكي حتى لو من نفسك لو هتضريها..هي دي الأبوة
-ردت بعدما إبتلعت غصتها قائلة:طب وأنا!..مش محتاجة أكون أم!..أحس إن فيه حد مسئول مني والمفروض أحميه حتى من نفسي!…
حينها إبتسم بـ رقة يجذبها إلى أحضانه هامسًا بـ نبرة عميقة غائرة من الألم عليها
-أنا إبنك..ومش هسمح يكونلي أخ أبدًا..هكون أناني وأستأثر بـ أمومتك ليا..أنا وبس يا ماما…
أحس بـ إرتجافة جسدها بين أحضانه ليتيقن أنها تبكي..ليُشدد من عناقها ثم همس مرةً أُخرى بـ نبرةٍ أكثر عُمقًا
-متعيطيش..أوعي تسمحي لحاجة تهزمك..دي إرادة ربنا ولو كان إختبار..فـ مقدمناش حاجة غير الصبر..تمام!…
نطق بـ كلمته الأخيرة وهو يُحاوط وجنتيها بـ يده ليبتسم بـ حنو فـ أومأت بـ ضعف غير قادرة على شئ حاليًا سوى الإستسلام..فـ أمسك بـ كف يدها وهمس
-يلا يا هايدي..جدتي ماتت وإحنا بنحب فـ بعض…
تحركا حتى خرجا من الغُرفة لتسأله بـ خفوت
-أنت بطلت تحب جدتك مش كدا؟…
توقف لثانية ثم عاود السير مُجددًا وقد أحست بـ حزنه فـ مُنذ طلاق والدته وتلك القُنبلة التي تفجرت وأخته الغير شقيقة التي ظهرت فجأة جعلته يحقد على سُعاد فـ هي السبب الرئيسي لما حدث معهم لذلك أجابها بـ صوتٍ جاف
-يمكن عشان هي السبب فـ اللي إحنا فيه..عمتًا ربنا يرحمها هي ميجوزش عليها غير الرحمة وهي بين إيدين ربنا
-تمتمت هايدي بـ صوتٍ خفيض:ربنا يرحمها…
وصلا إلى السيارة لتصعدها هايدي أولًا ثم طارق الذي تجهمت ملامحه بـ شدة..لولا ما فعلته له سابقًا لما حضر عزائها وقد إعتكف عنها لسنتين كاملتين كما فعل رائف..ولكنه كان يزورها من وقتٍ إلى أخر لا لشئ سوى تأنيب ضميرها هذا إن تواجد..دائمًا ما كان ينطق بـ تلك العبارة بـ اخر حديثه ثم يرحل..وبالرغم من ملامح الألم والغموض التي تجتاحها ولكنه لم يأبه ولو لثانية..تنهد وهو يُتمتم بـ قنوط
-ربنا يرحمك يا سُعاد هانم..ربنا يرحمك يا جدة عيلة الأسيوطي…
**************************
تصلب رائف بـ مكانه وكأنه تحول إلى تمثال لتنهض زهرة بـ حذر وهى تتجه إليه ولكنها جفلت حين إستدار إليها على حين غُرة يسألها بـ جفاء قاسي
-وأنتي عرفتي منين!…
إبتلعت ريقها بـ صعوبة وهى تعلم مدى حساسية الموضوع بـ النسبةِ إليه..لم تُخبره بـ أنها تتواصل مع عائلته طوال تلك الفترة وقد حذرها كثيرًا أن تفعل..ولكنها إن أرادت ترويض الذئب يجب أن تتحمل إفتراسه لها
أجفلت بـ قوة وهو يقترب منها ينتظر إجابتها بـ ترقب..لتبتلع ريقها الذي جف من الأساس..تراجعت خطوة وهى تستجمع شجاعة واهية..ثم هتفت
-أنا آآآ..باباك كلمني…
إنتهت وساد الصمت..ليتوقف لحظة وإثنان قبل أن يعود ويقترب ليهمس بـ خفوت خطير
-وعرف رقمك منين!..ها ردي!
-إنتفضت من صرخته لتصرخ بـ المثل:لأني بتواصل معاهم من زمان…
صمتت تتأمل ملامح الصدمة على وجهه قبل أن تتحول إلى خيبة أمل ثم غضب وهو يهدر
-أنا مش مانع التواصل معاهم!..ردي عليا ليه تعملي كدا وأنتي عارفة إني مش هعدي الموضوع دا…
أخذت نفسًا عميق ثم إتجهت إليه تلك الخطوة الفاصلة لتضع يدها على ذراعه قبل أن يبتعد مُنتفضًا وكأن حية لدغته..لتبهت ملامحها لثوان قبل أن تقول بـ خفوت
-أنا عملت كدا عشان خاطرك مش عشان خاطرهم..أنا كل اللي بعمله لمصلحتك
-ضرب على صدره بـ عنف وقال:وأنتي تعرفي مصلحتي منين!..أنتي مش عارفة هما عملوا فيا إيه؟!
-أجابته بـ قوة:وعشان كدا بحاول أعمل اللي فيه مصلحتك..أنت بتغذي حقد يا رائف مش هيقتل غيرك وغيري..إحنا الأتنين أول اللي هيتأذوا من حقدك دا..متمشيش وراه فـ تخسر نفسك قبل ما تخسرنا…
ضيق عيناه بـ غضب وقد تحولت عيناه الزرقاوين إلى عاصفتين تُهددان بـ إقتلاع الجميع..تنهدت مرة وأثنان فـ هي باتت تعلم نوبات غضبه كلما ذكرت العائلة..لتعود وتضع يدها بـ حذر على وجنته للحظات ظنت أنه سيبتعد ولكنها وجدته جامد..لتتملكها شجاعة هاتفة بـ نبرة حاولت كل جهدها أن تكون مُقنعة
-حاول مرة متفكرش فـ اللي هما عملوه..فكر إنك من غيرهم مش هتكون غير لوحدك
-هدر بـ عنف:أنتي وغيث معايا
-حاوطت وجهه قائلة:وعشان خاطر غيث خليه يتعرف على عيلة أبوه..متحسسوش أنه لما يكبر ميلاقيش عيلة يتباهى بيها..متحرمش أهلك من إنهم يشوفوا حفيدهم…
أدار وجهه عنها وهو يُحاول نزع يدها عنه إلا أنها تشبثت به لتعود وتُدير رأسه إليها ثم هتفت بـ إبتسامة رقيقة
-طب طارق موحشكش!..أهو طارق كمان ضحية يا رائف..ليه تعاقبه بـ ذنب غيره!
-رد عليها بـ نبرة قاتمة:أنا مبعاقبهوش..ولا عمري فكرت
-نفت بـ قوة قائلة:لأ فكرت..بـ دليل إنك مش بتتواصل معاه إلا كل فين وفين..ولما زهق كلمني وقالي خلي رائف يرجع وكفاية غُربة..طارق محتاجلك..محتاجلك أكتر مني ومن إبنك كمان…
نظر إليها وعيناه تشتد بـ قساوة تعرفها إلا أنها لم تتدخر وسعها كله وهى ترتفع على أطراف أصابعها لتصل إلى وجنته تُقبلها بـ نعومة قائلة
-ع الأقل إحضر العزا..مش طالبة منك حاجة غير كدا..عشان خاطري يا رائف..أنا الفترة دي كلها بحترم رغبتك فـ بعدك عنهم..لكن دا ظرف خارج عن إرادتهم
-همس بـ قنوط وجفاء:بس هى ظلمتني..ومش قادر أسامحها
-زفرت نفسًا حار وقالت:مش بطلب منك السماح..أد أما بطلب منك إنك ترجع مصر وتقف جنب والدك ع الأقل…
بـ الرغم أنها لا تشعر ناحية جدته بـ أي تعاطف لما سببته له بـ أذية قاسية جعلت منه ذاك الشخص الذي نفرت منه مُسبقًا..إلا أنها عشقها له يُجبرها على ذلك..من أجله لا أجل أحدًا آخر فـ رائف لا يزال يحمل جانبًا مُظلمًا يُخفيه عنها..مهما بلغ حنانه إلا أن ماضيه عائق يقف أمامه وأمام مُستقبلهم
إبتسمت بـ إرتجاف وهى تتذكر ليالٍ إبتعد فيها عنها من كثرة الأحلام البغيضة التي تأتيه..فـ في أحد الأيام راوده حُلم عن حياته التي قضاها خلف القَضبان وذكرى تلك الليلة المريرة لا تزال محفورة بـ قلبه وعقله..تُخبرها أنه لا يزال يشعر أنه ضعيف لذلك تأتيه نوبات العنف..كـ تلك التي أصابته يوم أن ساومته على حبها
حركت إبهامها وهي تستشعر شروده فلم يستشعر شرودها ثم هتفت بـ إبتسامة حاولت قدر الإمكان أن تجعلها ثابتة
-وبعدين أنا وحشني أهلي وعاوزة أشوفهم
-رد عليها بـ نبرة جافة:نبعتلهم يجوا زي كل مرة
-لوت شدقها وهى تقول بـ ضيق:بس أنا وحشتني مصر..وحشتني أرضي اللي إتربيت عليها
-رد عليها بـ جمود أفزعها:وأنا موحشتنيش..أنا مشوفتش منها غير الوجع والقهر..بـ التالي مفيش سبب يخليني أرجعلها
-قبّلت وجنته مرةً أُخرى وهمست بـ يأس:عشان خاطري..إتغلب على حقدك وكرهك لمرة واحدة..نخلص أيام العزا ونرجع تاني…
لم يرد عليها بل أبعد يدها عن وجهه ليتجه إلى غُرفة الصغير يصفع الباب خلفه بـ رفق..لتجلس هى على أحد المقاعدة تزفر بـ حزن وقهر..لما عليها أن تتحمل كل ذلك لأجل عائلة لم تُقدم له سوى الألم الظلم الذي ذاقته هى الأخرى..مرة عندما أبعدوها وهي صغيرةً عنه والأُخرى لما تسببت له تلك العائلة من أذى فطالها الأذى منه
**************************
وقف مُحي بـ مُقدمة سُرداق العزاء يستقبل الوفود وعلى وجهه ملامح لا يُمكن قراءتها إن كان حزينًا أو أنه لم يأبه لموت والدته!..إقترب أحدهم منه ليُصافح يده قائلًا
-البقاء لله
-ليرد عليه مُحي بـ خفوت:ونعم بالله…
توقف الرجل قليلًا ليرفع مُحي وجهه ينظر إليه بـ حيرة عندما توقف أمامه ليسأله بـ خفوت
-خير فيه حاجة!
-تنحنح الآخر هاتفًا:نسيت أعرفك بـ نفسي..أنا الدكتور سالم العراقي
-أومأ بـ رأسه قائلًا:تشرفنا..بس برضو مفهمتش..حضرتك عاوز إيه!
-عقد سالم حاجبيه وتساءل بـ حيرة:هي سُعاد هانم الله يرحمها مقالتش حاجة!
-رفع مُحي حاجبيه وقال:لأ
-حك سالم جبهته إلا أنه قال بـ هدوء:يبقى حضرتك هتعرف يوم فتح الوصية
-رد عليه مُحي بـ صدمة:وصية!..وصية إيه؟..أنا مش فاهم حاجة
-ربت سالم على منكبه قائلًا:هتعرف إن شاء الله يوم فتح الوصية زي ما قولت لحضرتك..بعد إذنك…
ثم تركه ورحل ليجلس بـ أحد المقاعد بـ الداخل ومُحي يُراقبه بـ تدقيق..ليأتي طارق ويسأله بـ توجس
-خيريا بابا في إيه!
-مط شفتيه قائلًا بـ حيرة:معرفش والله يا بني
-طب فهمني…
قص عليه مُحي ما قاله سالم مُنذ قليل ليُقول بـ تعب
-تصرفاتها عمرها ما كانت سليمة..أنا مبقتش فاهم أي حاجة
-ربت على ساعده قائلًا:خلاص يا بابا..بعد العزا نتكلم…
تنهد مُحي بـ تعب..ليُصافح أحدهم قبل أن يتساءل دون النظر إلى طارق
-متعرفش رائف هيجي ولا لأ!
-رفع طارق منكبيه بـ قلة حيلة وتشدق:والله أنا لسه سائل مرات حضرتك وقالتلي إن إسراء متصلتش بيها
-ذم مُحي شفتيه بـ خيبة أمل وإحباط ثم هتف:يبقى مش جاي
-أو يمكن جاي ومش حابب يعرف حد
-زفر مُحي نفسًا حار وقال:يارب يا طارق..الحِمل كسر ضهري
-ربت طارق على منكب والده وقال:ما عاش ولا كان اللي يكسر ضهرك يا دكتور مُحي…
ربت مُحي على يده دون أن ينظر إليه ثم وجه نظره إلى سالم الذي يجلس بـ مقعده يحتسي القهوة وعيناه شاردة وكأنه يُفكر بـ ذلة لسانه أمام مُحي
**************************
كانت تجلس بـ جوار النافذة لا تنظر إليها بل تنظر إلى وجه رائف النائم أو الذي يدعي النوم..لتتنهد بـ حزن وهى تتذكر بعد ساعتين فقط من حديثهم أنه أيقظ الصغير وأبدل ملابسه ليقول بـ نبرة قاسية سوداء تحمل حقد لم تستطع الأيام أن تتغلل عليه
-قومي جهزي نفسم..قدامك ساعة بس عشان نلحق الطيارة…
على الرغم من سعادتها ولكنها تشعر مقدار الألم الذي ستتسبب به تلك الزيارة وربما أيضًا سيفتح جراحًا أُخرى لن تقدر الأيام ولا هي على مداواتها..تنهدت مرةً أُخرى ثم أغمضت عيناها
فتح عيناه ما أن أحس أنها توقفت عن تحديقها به لينظر إليها بـ جمود قاسي..أحيانًا يخاف عليها من نوبات غضبه وذلك الحقد الذي ينهش قلبه وجسده فـ يُغرقه بـ هوةٍ سوداء غير قادر على تحملها
تذكر ذات يوم ما أن أبصر بـ كابوس..كان ينتفض ويصرخ مثل ذلك اليوم بـ السجن القاصي الذي عانى به الكثير..يومها ما أن حاولت إيقاظه لم يشعر إلا وأنه يقبض على عنقها وعيناه تلمع شراسة ولم يفق إلا على صرخة مذعورة صرخت بها
-رائف..أنا زهرة…
إبتعد عنها كـ الملسوع وحاول الحديث إلا أنه لم يستطع..كانت العبارات تتوقف بـ حلقه وهو يراها تسعل وقد تحول وجهها إلى لون أزرق نتيجة قلة الأكسجين..يومها نظر إلى يده بـ ذهول ثم نطق بـ صدمة ونبرة متوترة
-أنا آآ..أنا…
ولكنه لم يجد ما يقوله فـ إندفع خارجًا من الغُرفة..ومُنذ ذلك اليوم وهو يتجنب النوم بـ جانبها ما أن تحوم تلك الذكريات فوق رأسه فـ تكون هي الضحية..لا يزال يشعر بـ ضعفه وأنه لن يتغلب على تلك الذكرى السوداء والتي حُفرت بـ ذاكرته بـ أقسى الطُرق
شدد على ذراع مقعده دون أن يدري..ليشعر بـ كفها الصغير يتحسس ظاهر كفه ونبرتها الناعمة تهمس بـ خفوت وإطمئنان وكأن كل شئ على خير ما يُرام
-هوّن على نفسك يا رائف..وخليك فاكر إني جنبك ومش هسيبك…
دون أن يدري وجده كفه يُحاوط كفها الصغير ويُشدد عليه وكأنه يستمد منها القوة..لتُشدد هى الأُخرى بـ قبضتها على قبضته لتوصل له أنها ستتدعمه دائمًا وأبدًا
**************************
كان أحمد قد وصل إلى منزل عائلة الأسيوطي ليتجه من فوره إلى مُحي قَدم تعازيه الحارة ثم طلب منه أن يُدخل صغيرته إلى المنزل ثم يعود
توجه إلى الداخل وما كاد أن يتحرك إلا وأبصر نهلة..صاحبة العشق القديم والتي بسببها كاد أن يخسر صديقه..لم يكن يدري أنه يتفحصها..كانت تسير وكأنها جُثة ميتة عيناها غائرتان لا تعي ما يحدث حولها ولكنه لاحظ إنقباض ملامحها وكأنها تبغض ما يحدث هنا
رُغمًا عنه شعر بـ الأسف تجاهها فـ هي لم تكن سوى أحد ضحايا سُعاد الأسيوطي فـ هو لم يُصدق للحظة أن تكون جدة رائف بـ مثل تلك القسوة والحقارة..لدرجة تصل بها إلى إيذاء أحفادها..تنهد بـ قنوط ثم دلف وإتجه إليها ليتنحنح قائلًا بـ نبرة مُتحشرجة
-البقاء لله يا نهلة…
نظرت إليه نهلة بـ شرود لتُحرك رأسها بـ لا معنى ثم تركته ورحلت..كانت تُشبه رائف إلى حد كبير عينيها وبشرتها إلا خُصلاتها الشقراء والتي تزينت بـ خطوط بُنية رائعة..عينيها التي فقدت حماس وشغف كان يراه بها حتى لو كانت كاذب..يبقى بها شيئٌ ميت..وكأنها فقدت روحها وهى غير قادرة على إستعادتها
يعلم بـ حالتها وأنها تمر بـ حالة نفسية سيئة مُنذ ما يقرب عامين..حتى يوم مواجهته لها لم تكن بـ هذا الضعف والموت أبدًا..فـ أخبره مُحي كل شيئًا بـ التفصيل لتغيم عيناه بـ أسى ولكنه رفض أن يُظهره أو يُظهر تعاطفه معها..فـ قد قتل عشقها بـ قلبه ولم يبقى سوى عشق والدة ملك التي قرر القدر أن يسلبها منه على أعماله
تحرك وهن يربت على ظهر إبنته النائمة ليتجه إلى رحمة التي قابلته بـ إبتسامة خفيفة ليقول بـ نبرة هادئة يشوبها بعض التعاطف
-البقاء لله يا مدام رحمة
-ونعم بالله يا أحمد..أزيك وأزي ملك!
-كويسين الحمد لله..أنا جاي أديها لحضرتك عشان أقف مع الدكتور بره
-أخذتها من بين ذراعيه وقالت:هات يا حبيبي..متخافش…
أومأ بـ رأسه قبل أن يميل ويُقبل ظهر طفلته ليتساءل بـ إهتمام
-هو رائف مش جاي!
-غامت عينا رحمة بـ الحزن إلا أنها قالت:معرفش يا أحمد والله..أنا كلمت مراته وهى مكلمتنيش..يظهر كدا أنه مش جاي…
ربت أحمد على ظاهر يدها ثم قال بـ هدوء ورزانة إكتسبها مع الأيام
-معلش يا مدام رحمة..برضو هو مشفش قليل من اللي حصله هنا..أكيد مش سهل عليه يرجع وهو بدأ حياة جديدة هناك
-ردت عليه رحمة بـ نبرةٍ مُتحشرجة:ربنا يريح قلبه…
همهم وهو يُؤمن على دُعاءها ليقول بعد لحظات بـ تردد
-وأخبار نهلة إيه!
-تنهد رحمة وهى تقول بـ حزن:الحمد لله على كل شئ
-الحمد لله..بتتحسن يعني!
-أومأت بـ خفوت قائلة:يعني حاجات مش محسوبة..اللي شافته مش قليل
-أومأ هو الآخر بـ شرود:ربنا يشفيها…
**************************
في اليوم الموالي وصلت الطائرة من الأراضي البريطانية إلى الأراضي المصرية..خرج رائف من الطائرة يحمل غيث بين يديه الأُخرى حول زوجته وهبط الدرج..لم يخفَ عليها تشنج جسده أو القساوة التي زادت بـ عيناه حتى ملامحه أضحت مُخيفة..لتبتلع ريقها بـ صعوبة هامسة بـ ذعر
-يارب عديها بـ الستر…
أنهى المُعاملات الخاصة بـ وصولهم ليدلفا إلى الخارج نظر إلى زهرة ليرى عينيها التي غامت بهما الراحة والسعادة ليبتسم بـ قسوة قائلًا
-مكنتش أعرف إنها وحشتك كدا!..مع إن برضو ليكي فيها ذكريات بشعة…
أجلفت من قساوة إبتسامته ونبرته المُتهكمة إلا أنها هتفت بـ بساطة
-بس فيها ذكريات أحلى
-رد عليها بـ تهكم:زي إيه مثلًا!
-تجاهلت سُخريته لتُجيبه بـ دفئ:إني قابلتك مثلًا…
لحظة واحدة لمحت بها عيناه التي رقت وشبه إبتسامة إرتسمت على شفتاه قبل أن يُخفيها بـ براعة..ليضع يده على ظهرها ثم دفعها رادفًا بـ جمود
-طب يلا ولا غيرتي رأيك!
-لأ يلا…
إستقلا سيارة أجرة لتتجه بهم إلى منزل الأسيوطي..وكلما إقتربا إلى المنزل كُلما قست عيناه أكثر ولكنه يجد كفها يحضتن كفه يبثه الهدوء والأمان فـ يهدأ ويحتضن كفها بـ تملك أرعبها
وصلا بعد مدة ليست بـ قصيرة ليترجل رائف تبعته زهرة..ظل ينظر إلى المنزل وعيناه تشتد بهما الظُلمة وجسده يتصلب بـ شدة..لتهتف هي بـ حنو بعدما لاحظت حالته
-يلا..وصلنا ومفيش حاجة تمنعنا…
لم يبدُ عليه أنه سمعها من الأساس ولكنه أجبر ساقيه على التحرك..ويده تحتضن كفها بـ قوة أكبر حتى سمعت صوت إحتكاك عظامها بين يديه ولكنها لم تعترض
وصلا إلى الباب فـ طرق عليه بـ خفوت وكأنه يخشى أن يسمعه أحد..إلا أنه قد أتى أحد الخدم وفتح الباب..لتتسع عين الفتاة لبرهة قبل أن تدارك نفسها قائلة
-إتفضل يا رائف بيه…
أومأ بـ رأسه ودلف..كانت عيناه تطوفان بـ المكان بحثًا عنها وكأنه يستنكر نبأ موتها ولكن إطار صورتها موضوع عليها شريطًا أسود أخبره أنها غادرت عالم الأحياء..سمع صوت زوجته من خلفه تهمس
-ربنا يرحمها…
تشنجت عضلات جسده ولكنه لم يستدر إليها بل تابع طريقه حتى وجد الجميع يجلس على طاولة الطعام..يتلاعبون بـ أطباقهم..قبل أن تقول زهرة بـ نبرة هادئة تفطن إلى هالة المنزل الكئيبة على الرغم من جمود ملامحهم
-السلام عليكم…
**************************
ساعدتها تلك السيدة على إرتداء ملابسها الشبه عارية ثم قالت بـ جم وهى تُغلق السحاب
-متبوظيش الليلة النهاردة..أنتي بقالك أسبوع راقدة فـ السرير بسبب ضرب الريس ليكي…
لم ترد عليها بل ظلت ملامحها الباهتة تنظر إلى صورتها بـ المرآة..ترى صورة فتاة جامعية تحولت إلى فتاة ليل تعمل بـ ذلك النُزل الذي ما هو إلا أحد البيوت المشبوهة ولكن بـ صورةٍ أرقى..فـ هنا لا يأتي سوى رجال الأعمال والوزراء وأصحاب النفوذ على أنهم يقومون بـ بعض الصفقات ولكن هناك بـ جزء غير معلوم بـ النُزل يظهر الجزء القذر له
صالة رقص تتمايل بها الفتيات بـ أجسادهن لتحصل على “زبون”..فـ يقع فخًا لمقوماتها ويقترب لتأتي أحد المسئولات عن تلك الفتيات تتم الصفقة فـ يأخذ الفتاة لأحد الغُرف الخفية ويبدأ بـ إتمام صفقته
وهى لم تكن سوى ضحية فخ العمل..جذبتها أحد صديقاتها إلى ذلك النُزل على أنهم يحتاجون إلى نادلة وهى الأجدر بها..وشاء القدر أن تدلف هذا المكان غيرُ قادرة على الخروج
هى فتاة تبلغ من العمر عشرون عامًا..عيناها بُنيتان باهتتان وبشرة خمرية..تدرس بـ كلية الصيدلة وشاء القدر أن تُعيل عائلتها الفقيرة بعدما توفى والدها إثر حادث مأسوي بـ عمله الخاص ورفض صاحب العمل أن يدفع التعويض فلم يكن منها سوى البحث عن عمل وتلك الفرصة التي أتتها على طبقٍ من ذهب لم تستطع رفضها..ولكنها وقعت أسيرة لفخ أسود حطم حياتها إلى أشلاء يصعب جمعها
تنهدت بـ حزن وقهر على ما أصابها ولكنها دومًا تهتف بـ صبر
-قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا..لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين…
وكان الدُعاء دومًا رفيقها فـ تستطيع التملص من تلك الحياة البغيضة التي تحياها حتى تستطيع الهرب..ولكن بـ أحد الليالي قررت الهرب ولكن صاحب المكان أوقف مُخططها وبقى يُعذبها حتى سقطت كـ الذبيحة فـ أمسك فكها هامسًا بـ شراسة
-لولا أنك بـ تجيبي فلوس كتير..كنت قتلتك وإرتحت منك…
وها هي تتزين من أجل العمل ليته قتلها ذلك اليوم..إستفاقت على صوت السيدة وهى تهتف بـ جمود
-يلا إلبسي الجاكيت فوق هدومك وإتحركي…
وإمتلثت كـ جثة هامدة ترتدي ثيابها لتُساق إلى مصيرها الذي لم يكن إلا إلقاء حتفها
هبطت الدرج حتى وصلت إلى تلك الصالة..نزعت عنها السترة ثم توجهت إلى ساحة الرقص وتمايلت بـ جسدها تُغمض عيناها عن تلك النظرات المُقززة إلى جسدها..حتى شعرت بـ يد تلتف حول خصرها فـ إنتفضت مُبتعدة ليضحك السكير قائلًا بـ شهوة وهو يتفحص قوامها الجذاب
-جرى إيه يا مزة مالك!..إنتفضي كدا ليه!!…
أدارت وجهها عنه لتلحظ المسئولة عنها ذلك الشخص والذي يبدو عليه الثراء لتتجه إليه وترحب به قائلة
-أهلًا يا باشا نورت..أأمر
-أشار إليها وقال:عاوزها
-هتفت بـ حماس:عنيا…
تقلصت ملامحها بـ تقزز وكأنها على وشك الغثيان..إلا أنها تماسكت..كادت أن تبكي وهى تستمع إليهما يتقفان على ثمنها وكأنها سلعة..بل هي سلعة تعرض جسدها لمن يدفع أكثر
إتفقا على الثمن ليسير بها إلى إحدى الغُرف..دفعها أولًا ثم هو..وما كاد أن يدلف حتى هجم عليها يُقبلها ولكنها تملصت منه بـ نفور قائلة بـ نبرة أودعت بها دلال زائف
-مش لما نشرب كاسين الأول
-نزع سترته ثم رد وهو يُحدق بها بـ شهوة:عندك حق..اللي زيك محتاجله دماغ عشان يتبسط…
تقززت من نبرته التي يسيل بها لُعابه عليها إلا أنها أجبرت نفسها على المُضي..توجهت إلى طاولة وُضع عليها جميع أنواع الخمور..لتبدأ بـ سكب كأس له..وكأس تبعه أخر وأخر حتى ثمل لدرجة أصبحت رؤيته مشوشة..حينها أمسكت يده وسحبته إلى الفراش..دفعته وهى تبتسم بـ نعومة..وما كاد أن يسحبها حتى غطّ في سُباتٍ عميق
إبتعدت عنه وظلت تبكي إلا أنها أجبرت نفسها حتى النهاية..حاولت نزع ثيابه عنه بـ صعوبة..ثم شعثت الفراش وأبعدت حمالة الثوب..بعدها قامت بـ عمل كدمات على أنحاء جسدها وهي تتأوه بـ قوة باكية
بعدما إنتهت جلست على طرف الفراش تستند عليه بـ كفيها تدعي بـ تضرع
-يارب الخلاص..يارب خلصني من هنا..كل دا ذنبي عشان إحنا فقرا..يارب إحميني ونجيني…