رواية روضت الذئب بقلم اسراء على/كاملة

رواية روضت الذئب بقلم اسراء على الفصل الثامن

عندما تتشابك خيوط القدر..لا يُمكن حلَّها أبدًا…

كان يُمسك بـ يدها الموضوعة على الفراش الأبيض بـ قوة وكأنه يخشى أن تتلاشى..فـ ما أن زفّ إليها النبأ حتى فقدت وعيها ليأخذها هو إلى أحد الغُرف..إنحنى بـ جزعه العلوي يُقبل رأسها بـ قوة وعُمق ثم إرتفع وخرج من الغُرفة وجلس أمامها

وضع رأسه بين يداه وعلى وجهه تعبير قاس..وجد من يربت على منكبه فـ رفع وجهه ليجده والده..عاد إلى وضعيته الأولى دون أن يرد..تنهد مُحي وقال

-مراتك عاملة إيه دلوقتي؟!
-أجابه بـ جمود:لسه نايمة..مستحملتش الصدمة
-أومأ موافقًا:صعبة عليها برضو..كانت الأمور بينها وبين والدها بدأت تاخد وضعها الطبيعي…

لم يرد عليه رائف بل عاد بـ ظهره إلى الخلف ورفع رأسه إلى الأعلى..نظر مُحي إلى ملامح وجهه القاسية وقناع الجمود يتلبسه ليضع يده على ذقنه وقال بـ جدية

-هما اللي ورا الحادثة!!…

لم يكن سؤال بـ قدر ما كان تقريرًا لما حدث..ليهدر رائف بـ قسوة

-الجريمة..اللي حصل دا جريمة قتل وأنا مش هسكت
-حذره والده بـ خفوت:رائف!!..إحنا ما صدقنا نخلص من الأمور دي بلاش ترجعلها بـ رجليك…

ضرب بـ قبضته المقعد الفارغ بـ جانبه ثم أردف بـ حدة مُخيفة وهو يُشير إلى غُرفة زوجته

-واللي جوه مقهورة على أبوها دي أسيبها!!..مظنش إني هسيب حقه
-حاول مُحي الإعتراض:يا بني إفهم
-قاطعه رائف وهو ينهض:مش هفهم..الدم مبيجبش إلا الدم…

ثم تركه وإتجه إلى غُرفتها مرةً أُخرى..صفع الباب بـ قوة ليتجه إلى الفراش وجلس على طرفه

تأمل ملامحها جيدًا وهو يرى تعابير الألم والحُزن ترتسم بـ وضوح على ملامحها النائمة..رفع يدها ثم قَبّلها بـ رقة عدة مرات قبل أن يهمس بـ إبتسامة

-أنتِ الحد الفاصل اللي بيني وبين عالم الفساد…

تمدد بـ جانبها جاذبًا رأسها إلى صدره وأكمل حديثه

-أنا رجعتك ليا بـ صعوبة ومش هيكون سهل عليا أخسرك يا زهرة..أنا عارف إن العالم قاسي..قاسي جدًا بـ طريقة اللي زيك ميستحملهاش..بس أنا جنبك وهفضل جنبك طول ما فيا نفس..طول ما أنا عايش..مش هعيش غير ليكِ…

أحس بـ تلك الرطوبة على صدره ليعقد حاجبيه..ولكنه تلاشى ما أن سمع صوتها يهتف بـ ألم

-بابا مات يا رائف..بابا قتلوه
-ضم رأسها إلى صدره أكثر وقال بـ حنو:هششش..متحمليش نفسك فوق طاقتها
-ضربت صدره بـ ضعف وقالت:أخدوه مني لما رجعت..كانوا مستنين الفُرصة عشان يكسروني…

تحشرج صوتها بـ بُكاء عنيف بـ آخر حروفها..ليُقبل جبينها عدة مرات هامسًا بـ ألم على ما آلت إليه حالتها

-عشان عارفين إني هتكسر لما يكسروكِ…

إزداد بُكاءها عُنفًا حتى تحول إلى صرخات جعلته ينتفض من مجلسه فـ جلس على الفراش جاذبًا إليها إلى صدره..وصله ألمها و خوفها من القادم..ضمها بـ قوة حتى يمتص صراختها التي لم تزداد إلا عُنفًا

إنهيارها كان مُفاجئًا إليه ولكنه لم يستطع الصمود أمامه..حاوط وجهها بـ كفيه الكبيرين ليصرخ بـ صوته حتى تفيق

-زهرة!!..اللي بتعمليه دا غلط..فوقي عشان خاطر مامتك حتى وابنك…

صرخاتها لم تهدأ بل تتحول إلى أُخرى مذبوحة..وتعجب رائف من إنهيارها فـ هي لم تكن بـ ذلك القُرب من والدها ليضمها إليها بـ قوة ثم ضرب على الزر الموجود بـ جانب فراشها لتأتيه بعد دقائق مُمرضة هدر بها رائف بـ عنف

-مُهدئ..عاوز مُهدئ بسرعة…

أومأت المُمرضة لتركض خارج الغُرفة..أما رائف فـ ظل يُهدئ زوجته ولكن دون فائدة

حضرت المُمرضة ومعها ذلك المُهدئ..ليطلب منها رائف أن تضعه بـ ذلك المحلول المُغذي..فـ فعلت ما طلبه رائف..ثم خرجت بعدها بـ هدوء

أما هو ظل يحتضنها مُكبلًا لتحرُكاتها العشوائية حتى خفتت تدريجيًا لتهدئ بعدها ثم سقطت في سُباتٍ عميق..تنهد رائف بـ قلة حيلة ثم وضعها على الفراش بـ حنو..دثرها جيدًا ثم نهض من جوارها و جلس على الأريكة يُراقب معالمها المُنكمشة بـ ملامح تشتد قسوة و عُنف

***********************************

خرجت من المرحاض وهى تترنح..لتجد يجلس خلف مكتبه وبـ يده لُفافة تبغ تُثير إشمئزازها..ضمت يديها إلى صدرها خوفًا من هيئته و وقفت تتكئ على الباب خلفها تستمد منه قوتها

وجدها تفتح باب المرحاض وتخرج مُتكئة على الباب خلفها فـ إلتوى فمه بـ شبه إبتسامة زافرًا سحابةً رمادية ثم أطفئ لُفافة التبغ مُشيرًا لها بـ يده أن تأتي..حركت رأسها نافية ليقول بـ نبرةٍ ذات مغزى

-تعالي يا نوجة عشان مجيش وأجيبك أنا..وساعتها هتزعلي مني
-تمتمت بـ قهر:حسبي الله ونعم الوكيل…

تحركت بـ بطء أثار إستفزازه ولكنه حافظ على هدوءه إلى أن وقفت أمام مكتبه بـ عدة خطوات ليقول بـ صوته الهادئ

-إقعدي…

إبتلعت ريقها بـ صعوبة ثم همست وهي تُمسك جانبي ثوبها تعتصره بين قبضتيها

-مرتاحة كدا
-أشاح بـ يده وقال:وماله..كل اللي يهمني راحتك…

تراجع بـ ظهره حتى إستند على ظهر مقعده ثم قال وهو يُشبك يده خلف رأسه يتأرجح يمينًا و يسارًا

-اللي حصل هنا دا هيفضل بيني وبينك…

إنتفخت أوداجها بـ غضب وخوف لتشعر بـ تيار كهربائي عنيف يضرب جسدها ولكنها آثرت الصمت وقبضيتها تشتد على ثوبها حتى لا تفقد ثباتها الزائف أمامه ليعود ويُكمل

-أنا هسيبك تستريحي كام يوم عشان عاوزك فـ مصلحة
-سألته بـ إهتزاز:عـ..عاوز إيه!
-إبتسم وقال بـ إريحية:سبيها لظروفها..دلوقتي كل اللي عليكِ تستريحي..ومن ناحيتي!!..إطمني مش هخلي حد يشغلك .. يعني هتقعدي برنسيسة محدش يقدر يقولك نص كلمة..أنتِ فـ حمايتي…

نظرت إليه بـ إشمئزاز ولم ترد عليه..بل أشاحت بـ وجهها بعيدًا عنه ..وقبل أن يتفوه بـ كلمة سمعا طرقًا على الباب ليتنحنح بـ خشونة هادرًا

-أدخل…

دلف أحد الحرس ثم قال بـ نبرة عادية

-عاوزينك يا باشا
-تساءل بـ ملل:مين؟!…

لم يرد الحارس بل حمحم وهو ينظر إلى نجلاء فـ فهم الأمر..إلتوت عضلات فكه بـ غضب ثم قال وهوينظر إليها

-خدها وديها أوضتها..تقف عليها متتحركش..هي مش هتنزل الشغل لحد أما أنا أسمح
-إتجه الحارس إلى نجلاء وقال:حاضر يا باشا…

ثم أمسك ذراع نجلاء ليسحبها خلفه ولكنها إنتفضت وإبتعدت عنه على الفور..نظر إليها الحارس بـ غضب ثم هدر

-إنجري يا بت أنتِ قدامي…

إنتفض على ضربة جهاد لمكتبه بـ قبضته ثم هدر بـ عنف

-متلمسهاش..سيبها تمشي قدامك..يلا غور أنت وهي…

أومأ الحارس ليُشير إلى نجلاء كي تتقدمه فـتحركت وهي تنظر إلى جهاد نظرات مُبهمة ولكنه قابلها بـ أُخرى جامدة لتختفي عن الأنظار خلف الباب وهو يُغلق

ما أن أُغلق الباب حتى أطاح بـ كل ما هو موضوع على سطح المكتب صارخًا بـ غضب ثم سحب سترته وإرتداها وخرج

سمعت صرخته وهي تسير بـ الممر لترتعد فرائصها من صرخته التي خرجت وكأنها زئير..لتلتفت إلى الخلف فـ إلتقت نظراته بـ نظراتها ما أن خرج من غُرفته ليتجمد مكانه من تلك النظرة..نظرة شبيه كان ينظر بها إلى “مُغتصبه”

ضم قبضته بـ قوة ثم تحرك بـ إتجاهيهما ناظرًا إليها بـ شراسة جعلتها تنكمش على نفسها..ليتركها بعد ذلك دون حديث مُكملًا طريقه وكأنه يلتهم الأرض بـ خطواته

**********************************

طرق الباب بـ قوة وكأنه يُريد تحطيمه ليسمع صوته الثقيل من الداخل يأذن له بـ الدلوف..صر على أسنانه ثم فتح الباب ودلف

نظر إلى أرجاء الغُرفة التي تُشبه غُرف النُزل بـ رُقيها وتنظيمها..فـهي تحتوي على فراش ذهبي كبير وأريكتين أسفل نافذة عملاقة تطل على المُحيط الخارجي..وحوض إستحمام يتميز بـ تصميمه الإيطالي الأنيق

وقعت عيناه على الفراش الكبير فـ وجده يتكئ بـ نصفه العلوي على الفراش وبـ جانبه إحدى الفتيات اللاتي تعملن لديه..نظر إليه بـ حقد وغضب ثم سمع صوته الخبيث يهتف

-تعالَ…

عض على شِفاه السُفلى وهو يراه يتلاعب بـ خُصلات الفتاة الشقراء بـ غضب ثم تقدم منه وجلس على أحد المقاعد القريبة من الفراش ليضع ساق على أُخرى وتساءل بـ جمود

-عاوز إيه يا.. يا باشا!!
-إبتسم بـ خبث وقال:وهكون عاوزك ليه!…

لم تتغير ملامحه مقدار إنش وبقى جامدًا كـ قطعة من الرخام ثم هتف بـ برود جليدي

-ما أنت متكيف أهو..عاوزني ليه؟!…

مسح على وجنته المشوه بـ جرح أُصيب به على يد ذلك الغُر الذي أمامه ثم قال بـ نبرةٍ ذات مغزى

-أنت اللي بتكيفني..من صغرك يا حبيبي..مش ناوي تحن لأيام زمان؟!!
-إلتوى فمه بـ إزدراء وقال:بطّل قرف بقى…

نهض جهاد عن مقعده بـ عنف وقال بـ غضب

-أنا مش فاضي للكلام دا..عندك حاجة قولها معندكش يبقى معطلكش عن اللي بتعمله…

كاد أن يخطو خطوة ولكن صوته أوقفه قائلًا بـ برود

-عملت إيه مع عبدالله!…

إلتفت إليه جهاد ينظر إليه وهو جالس على الفراش..ذلك الجسد الضخم الذي هشم عظام جسد الطفل بـ داخله لا يزال كما هو بل إزداد ضخامةً عما سبق..وجهه الغليظ المُزين بـ قطع يبدأ بـ حاجبه لينتهي أسفل صدغه قد أصابه به عند عُمر الحادية عشر..عندما فاقت قدرته على التحمل ما يُصيبه من إنتهاك جسدي ونفسي

قبض على فكه بـ عنف مُؤلم بـ هدف إقصاء تلك الذكرى البشعة عن عقله الذي لم ينسها أبدًا..ثم قال بـ نبرته الجامدة

-بعتله حد يتصرف معاه
-والبت!!..مرات رائف؟!
-رد عليه قائلًا:لسه دورها جاي…

مال يُقبل منكب الفتاة ثم قال بـ نبرة مُستثارة

-طب روح أنت دلوقتي…

نظر إليه جهاد بـ إشمئزاز ورحل

ما أن خرج حتى ضرب الحائط بـ قبضته وجسده يرتعد غضبًا وقسوة..بعدما أصبح بـ تلك القوة ولم يعد يخشاه..إلا أنه لا يزال عبده وقريبًا سيعود عبدًا لرغباته الحيوانية ما أن يعلم بـ تعلقه بـ الفتاة الجديدة “نجلاء”..إن أراد أن تُصبح له فـ ليخضع إليه..هذا هو مبدأه..لا شئ مجانًا

************************************

جالسة بـ منزل والديها تحتضن والدتها التي لم تكف عن العويل مُنذ يومين وهي أصبحت جامدة لا تبكي ولا تصرخ..فـ قد إكتفت بـ إنهيارها بـ المشفى ورائف يُراقبها بـ حزنٍ شديد..لا يقدر على فعل شئ فـ هي ما أن إستيقظت صباح اليوم التالي حتى أخبرته أنها بخير ويجب أن تكون بـ جانب والدتها

وها هي تجلس تستقبل عزاء السيدات..الجميع يواسيها يُخبرها أنها الحائط والسند الأخير لوالدتها بعد والدها وهي تستقبل حديثهم بـ جمود دون أن تُكلف عناء الرد..أو تُكلف نفسها عناء مواساة والدتها

أما بـ الأسفل فـ رائف يقف يستقبل هو و والده عزاء عبدالله حاملًا لطفله بين يديه..فـ حالة زوجته ليست على ما يُرام ويخشى منها على نفسها وعلى طفليهما من عدم إتزان حالتها النفسية..تنهد بـ حرارة ثم سمع والده يهتف

-أخر الأخبار إيه؟!
-رد عليه رائف وهو يحتضن صغيره:مفيش..شوفنا كاميرات المراقبة بتاع المنطقة كلها..مشوفناش اللي سايق بس العربية شوفنا ارقامها
-سأله مُحي بـ إهتمام:وعرفته إيه؟!
-أجابه رائف بـ إحباط:طلعت العربية مسروقة وصاحب العربية كان مبلغ عن السرقة قبل الحادثة بـ ساعتين بس…

صافح أحد الرجال الذي دلف إلى سُرداق العزاء وأكمل

-ولما حاولنا نعرف مين اللي سرقها لاقينا العربية إمبارح متفحمة بـ حد فيها..على ما أظن إنه اللي نفذ الحادثة
-ودا يوصلنا لإيه يا رائف!!
-رد عليه بـ نبرة قاسية:يوصلنا إني أنا ومراتي فـ دماغهم وموت أبوها مجرد بداية لـ اللي هيحصل بعد كدا
-أمسك مُحي ذراع ولده وقال:يبقى لازم تاخد مراتك وتسافر
-زاد من ضمه لصغيره وقال بـ شراسة:مش ههرب أبدًا من الحرب دي..أنا وعدت زهرة إني هجيب حق أبوها..فـ مش هخلف وعدي معاها…

هدر مُحي من بين أسنانه وهو يقف بـ مواجهه رائف

-أنت إتجننت!!..رائف حياتك أنت وعيلتك على المحك..متخاطرش بيهم
-ومين قال إني هخاطر بيهم!..أنا هسفرهم بعيد عن هنا وحتى مش غلاسكو..مراتي لازم تختفي
-همس مُحي بـ شراسة:وأنت
-مش قبل أما أنهي الموضوع دا يا دكتور…

قالها بـ حزم ونبرة لا تقبل الجدال ليتنهد مُحي بـ يأس و عاد يقف بـ جانب رائف

************************************

إنتهى العزاء ليصعد رائف إلى منزل عبدالله ليجد زوجته تخرج من غُرفة والدتها ثم أغلقت الباب..إلتفتت لتجده يحمل غيث النائم فـ همس

-نام
-أومأت وقالت:وماما كمان نامت
-طيب أنا هدخله الأوضة وأجي…

أومأت بـ رأسها ثم إتجهت إلى المطبخ تُحضر عشاءًا خفيف له فـ هو لم يأكل..ثم وضعته على الطاولة لتجده يخرج من الغُرفة

توجه رائف إليها ثم قال وهو ينظر إلى المائدة

-إيه دا!
-أشارت إلى الطعام وقالت:زي ما أنت شايف..أكل
-حاوط ذراعيها وقال:منا عارف..بس لمين؟!
-ردت عليه وكأنه كائن فضائي:لمين!..ليك يا حبيبي
-وأنتِ مش هتاكلي؟!…

حركت رأسها نافية ليقول وهو يُجلسها بـ جانبه

-مفيش حاجة اسمها لأ..هتاكلي معايا يا زهرة
-حاولت النهوض قائلة بـ رفض:مليش نفس يا رائف…

قام بـ وضع قطعة خُبز بـ طبق الجُبن ثم قربها من فِيها وقال بـ صرامة

-معلش تعالي على نفسك..لما تاكلي دي هتلاقي نِفسك إتفتحت لوحدها
-ضربت الطاولة بـ يدها ثم هدرت بـ عنف:قولت مش عاوزة..هو بـ العافية
-حافظ على نبرته الهادئة وهو يقول:أيوة بـ العافية يا زهرة..وصوتك ميعلاش عشان الناس اللي نايمة…

نظرت إليه بـ غضب وهى تزم شفتيها..فـ قرب يده منها واضعًا قطعة الخُبز على طرف شفتيها هامسًا بـ مرح

-إفتحي بوقك وكُليها لأني بقرف آكل من ورا حد
-نظرت إليه بـ إمتعاض وقالت:دمك مش خفيف على فكرة
-إبتسم وقال:مش مهم هبقى أزوده مايه..يلا إفتحي بوقك…

فتحت فمها مُجبرة ليقول بـ نبرته المازحة

-همم يا جمل…

رفعت أحد حاجبيها بـ دهشة وهى تنظر إليه بـ غرابة ثم قالت بـ سخرية

-والله!!!
-والله…

تناولا الطعام بـ صمت..بل حقيقةً هو من أطعمها بـ الإجبار..حتى إنتهيا ليقول رائف وهو يمسح فمه

-عاوز أتكلم معاكِ يا زهرة
-ردت بـ لامُبالاة:إتكلم…

تغاطى عن نبرتها اللامُبالية ثم أمسك يديها بـ يديه وتشدق

-أنتِ لازم تسافري مع غيث و والدتك قريب
-رفعت أحد حاجبيها وتساءلت:ليه!
-تعجب قائلًا:هو إيه اللي ليه؟!!..زهرة الموضوع مش هزار..أنتِ عارفة كويس مين اللي ورا الموضوع دا…

سحبت يديها من بين يديه وقالت بـ نبرة قوية

-وطالما عارفة..مش هرتاح اللي لما أجيب حق بابا..عشان يرتاح فـ تربته…

مسح رائف على وجهه صعودًا إلى خُصلاته البُنية يستدعي الهدوء فـ حالتها والأوضاع حولهما لا تتحمل المزيد من العنف والغضب..ليقول بـ نبرةٍ جاهد أن تخرج هادئة

-أنا وعدتك يا زهرة..أنا اللي هجيب حق أبوكِ
-ضربت صدرها وهمست بـ قهر:بس دا أبويا أنا..أنا اللي حاسة بـ نار بـ تكوي صدري..أنا اللي حاسة بـ وجع فـ قلبي..مش أنت…

نهض عن مقعده ليجثو أمام مقعدها..تناول يديها بين يديه ثم رفعهما يُقبلهما بـ حنو عدة مرات وتشدق بـ نبرة صادقة ناظرًا إلى بُنيتها الغائرة

-مين قالك إني مش حاسس بـ وجعك!..أنا حاسس بـ نارك هي اللي بتكوي صدري..أنا اللي حاسس بـ الوجع اللي فـ قلبك..ويمكن أكتر يا زهرة..والله أكتر مش يمكن..أنتِ مش حاسة بـ حالتك دي عاملة فيا إيه!..مش عايش وأنا شايفك بتنهاري…

لمعت عينيها بـ عبرات لم تستطع كبحها فـ إنهمرت على وجنتيها بـ التتابع ليرتفع رائف إليها أكثر ثم جذبها إلى صدره وهمس بـ خفوت

-عيطي يا زهرة..عيطي فـ حضني…

تمسكت بـ قميصه بـ قوة ودفنت وجهها بـ صدره تكتم بُكاء إتخزنته ليومين..ضمها رائف إلى صدره بـ قوة ويده تربت على خُصلاتها ثم قَبّلها عدة مرات وهمس

-متخافيش يا حبيبتي..أنا هنا..هجيب حقك يا زهرة..أوعدك هجيبلك حقك…

ظل مُعانقًا لها حتى نامت بين يديه..إبتسم بـ حنو ليُقبل جبينها ثم حملها وإتجه بها إلى غُرفتها بـ ذلك المنزل

وضعها على الفراش بـ حرص ثم جثى بـ جانبها يُبعد خُصلاتها عن وجهها ليدنو منها ويُقبل شفتيها بـ رقة وعذوبة هامسًا بـ خفوت

-مش هقدر أضحي بيكِ يا زهرة..مش هقدر بعد أما بدأت حياتي معاكِ..بس برضو مش هسيب حقك..أنا اللي دخلتك الدايرة السودة دي وأنا اللي هخرجك منها…

عاد يُقبل جبينها ثم نهض وإتجه إلى الصالة وبدأ بـ تنظيف الطاولة بعدها قام بـ تحضير كأسًا من الشاي

إتجه إلى الشُرفة وجلس على مقعد خشبي وظل ينظر إلى السماء يُقرب الكأس من فمه ليرتشف منه قليلًا ثم بدأ يُفكر بـ خطواته وكيفية إخراج عائلته من مصر قبل أن يبدأ بـ خطته في القضاء على من عكروا صفو حياته

***********************************

عكصت خُصلاتها البُنية على هيئة ذيل حُصان ثم إستدارت تسحب سترتها من خامة الجينز ترتديها على كنزتها البيضاء..وضعت حقيبتها بـ وضع مُتعاكس ثم إتجهت إلى باب غُرفتها

نظرت حولها بـ الممر ولكنها لم تجد أحد..تنهدت بـ راحة ثم إرتدت حذائها الرياضي ذو اللون الأبيض وتحركت حتى وصلت إلى بوابة المنزل

خرجت وأغلقت الباب بـ هدوء ثم تسللت إلى الخارج دون أن تُحدث أي صوت حتى خرجت تمامًا..تنفست بـ إريحية و تحركت إلى الطريق حتى وجدت سيارة أُجرة..نظرت إلى سائقها..كان رجلًا كبير بـ السن مُلتحي يبتسم بـ بشاشة طمأنتها قليلًا ولكنها ظلت على تحفظها وهي تسأله

-ممكن توصلني لو سمحت
-طبعًا يا بنتي إتفضلي…

صعدت نهلة السيارة ثم تحركت بهم..كانت نظراتها مُعلقة بـ السائق الذي لم يفته نظراتها التي ترمقه بها..كانت مزيج من الخوف والشراسة جعلته يُحاول طمأنتها فـ هي تبدو كـ قط مُبلل بـ طقس الشتاء..فـ حمحم قائلًا بـ إبتسامة بسيطة

-تعرفي إنك أد بنتي!!…

نظرت إليه بـ رهبة وأمسكت حقيبتها بـ قوة تستمد منها بعض الدعم ليُكمل حديثه

-هي دكتورة أطفال..ما شاء الله عليها متفوقة وطيبة..تعبت والله يا بنتي عما ربيتها..عما علمتها وكبرتها و وصلت لـ اللي هي فيه دلوقتي..عشان متشتغلش و تتمرمط..الدنيا مبقتش أمان و أولاد الحرام بقوا أكتر من ولاد الحلال…

نظر إليها من المرآة فـ وجدها تنظر إليه بـ نفس النظرة الزائغة ليُكمل بـ نبرته العميقة

-متخافيش يا بنتي..أنا بقولك كدا عشان متخرجيش فـ الوقت دا تاني..عادةً أنا مبفضلش شغال ع التاكس لحد دلوقتي..بس أكيد ربنا له حكمة فـ إني ألف فـ المنطقة دي عشان أقابلك
-عقدت حاجبيها بـ دهشة وقالت:تقابلني؟!
-ضحك وقال:أيوة..عشان أوصلك بدل أما حد تاني يوصلك والله أعلم ممكن يكون كويس ولا لأ
-إبتلعت نهلة ريقها وقالت بـ خفوت:حضرتك لو كدا بطمني فـ أنت قلقتني أكتر…

ضحك السائق ثم قال وهو ينظر إليها

-أسف والله..بس كل دا عشان خايف عليكِ يا بنتي..زي ما قولتلك الدُنيا مبقتش زي زمان..حتى الراجل يخاف يمشي بعد العشا لوحده..بس شكلك بنت حلال عشان كدا ربنا بعتني ليكِ…

تبادلا أطراف الحديث وقد بدأ حديثه يستهويها فـ نبرته عميقة و تُريح القلوب..يتحدث بـ وقار وحنو أبوي يُشبه حنو أبيها..إبتسم السائق وقال بـ مزاح

-أهو الكلام خدنا ومعرفتش أنتِ رايحة فين؟
-أجابته بـ تلقائية:رايحة لأخويا
-سألها بـ نفس الإبتسامة:وأخوكِ قاعد فين!…

أملته العنوان ليصلا إليه بعد خمسة عشر دقيقة..لوحت إلى السائق ثم إتجهت إلى منزل زهرة..والتي علمت عنوانه من والدتها..صعدت الدرج القديم بـ حرص حتى وصلت إلى الطابق المنشود

طرقت الباب وإنتظرت..أخذت تحك يديها بـ بعضهما بـ توتر فـ هي أول خطوة تخطوها بـ علاجها النفسي الذي بدأته حديثًا مع طبيب أوصى به أحمد عندما لاحظ إستجابتها الضعيفة..وكانت أول نصيحة قدمها الطبيب

-لازم تبدأي من أول حد إتأذى
-تساءلت بـ إهتمام:أحمد!
-لأ رائف أخوكِ..هو أول حد إتأذى منك ومن جدتك..أنا عارف إنه مش بـ إيدك بس أنتِ كنتِ طرف فـ خراب حياته..خصوصًا إنه أخد خطوة قبل كدا وكلمك
-طب لما أكلمه إيه اللي هيحصل؟!!
-إبتسم الطبيب وقال:لما تكلميه هتحسي بـ اللي هيحصل…

وها هي تقف أمام المنزل بـ خوفٍ بالغ..تخشى رد فعل أخيها..لم يراها مُنذ أن أتى لرؤيتها بـ غُرفتها..هي يجب أن تعتذر..يجب أن تجد راحتها ولو قليلًا

إنتظرت لحظات ولم يفتح أحد..تنهدت بـ إحباط وإستدارت تنوي الرحيل..ولكنها توقفت عندما سمعت صوت الباب يُفتح..إلتفتت بـ بُطء حتى واجهت رائف الذي نظر إليها بـ دهشة هاتفًا

-نهلة!!!…

 

error: