رواية روضت الذئب بقلم اسراء على/كاملة
رواية روضت الذئب بقلم اسراء على الفصل العاشر
ساعتنا في الحب لها أجنحة…
ولها في الفراق مخالب…
“قبل الحادث بـ أربعٍ وعشرين ساعة”
طرق رائف باب الغُرفة قبل أن يدلف ليسمع صوت زهرته تأذن له بـ الدلوف..فتح الباب فـ وجدها تجلس على الفراش ورأس والدتها بـ أحضانها كما كانت تفعل معه..إبتسم وهمس كي لا يُفيق والدتها
-تعالي عاوزك…
أومأت بـ خفة ليخرج هو..وضعت رأس والدتها فوق الوسادة ثم دثرتها وقَبّلتها لتخرج بعدها مُغلقة الباب خلفها
بحثت عنه فـ لم تجده بـ صالة المنزل ولكنها سمعت صوته يُناديها من داخل غُرفتها
-أنا فـ الأوضة يا زهرة تعالي…
توجهت إلى غُرفتها لتجده يلعب مع الصغير فوق الفراش..لتبتسم بـ خفة ثم إتجهت إليهما تُشاركهم اللعب
إبتسم رائف ما أن وجدها تتفاعل معهم لينحني إلى وجنتها ثم لثمها بـ حب وهمس
-وحشتيني
-نظرت إليه بـ تعجب وقالت:وحشتك إزاي!..ما إحنا على طول مع بعض…
أخذ اللُعبة من يد صغيره يُطالب بـ إصلاحها ثم تشدق وهو يُعيد تركيب ذراعها
-بس مش زهرة اللي إتعودت عليها
-مش فاهمة
-تنهد وقال:مش مهم..أنا عاوزك فـ حاجة أهم…
إعتدل بـ جلسته على الفراش و إعتدلت هي بـ المثل..أمسك يديها وأردف بـ جدية
-إمبارح بالليل أحمد حجزلكوا على طيارة طالعة باريس بكرة الصبح
-ضيقت عينينها وقالت:حجزلكوا!..وباريس!..أنا مش فاهمة حاجة
-شدد على يدها وقال:أنتِ ومامتك
-طب وأنت؟..مش هتيجي معانا…
تشدقت بها بـ نبرةٍ مُرتجفة وعينان تترقب إجابته والتي حتمًا لن تنال على إعجابها..أبتسم رائف وهو ينظر إلى عينيها المُترقبتين ثم قال بـ هدوء
-هحصلكوا يا حبيبتي..بس مش لازم كلنا نروح مع بعض..حتى غيث مش هيجي معاكوا
-هدرت بـ سرعة:أومال هيفضل هنا؟!
-لأ طبعًا أنا هبعتوا مع طارق أخويا لعندكوا..لأن فيه خطر لو سافرنا كلنا مرة واحدة..أنا مش عاوزهم يعرفوا إحنا سافرنا فين
-تساءلت بـ سخرية:وهما مش هيعرفوا يجيبوا إحنا سافرنا فين!..مش سجلات السفر برضو سهل عليهم يجيبوها!!…
نظر إلى صغيره الذي ينظر إليهما بـ براءة فـ إبتسم إليه وعاد ينظر إلى زوجته ثم أردف
-هما أجبن من إنهم يعملوا خطوة زي دي..لما العين فتحت عليهم بقت مصادرهم مُحددة..دا غير إنهم خايفيين يكون ما بينهم جواسيس عشان كدا هما بيتعاملوا بـ المسطرة والقلم
-طب وليه منسافرش كلنا مع بعض!!
-رد عليها بـ بديهية:أنا عارف إني متراقب..ومش بعيد أنتِ كمان..فـ ظهورنا كلنا مع بعض في نسبة خطر كبيرة علينا..عشان كدا هنسافر متفرقين…
أخفضت نظرها وسحبت يدها من يده وحكت جبهتها ثم قالت بـ حزن
-أنا مش عارفة هنعيش طبيعي أمتى!
-وضع يده الحُرة على وجنتها وتشدق:لما أخلص من الكابوس اللي أجبرتك ترتبطي بيه…
أمسكت بـ يده الموضوعة على وجنتها تتمسك بها بـ قوة وأردفت بـ نبرةٍ عميقة
-أنا مش عاوزة أخسرك يا رائف
-إبتسم وقال:مش هتخسريني..خليكِ واثقة فيا
-واثقة فيك…
إنحدرت يده إلى عُنقها يجذبها إليه بـ بُطء لتهمس هي بـ إستنكار
-غيث!!
-أدرف بـ نبرة ناعسة:لسه مش فاهم حاجة…
وقتل إعتراضها قبل أن يولد بـ شفتيه التي تعرف طريقها لحبيبتيه..يُقلبها بـ عُمق أدهشها وكأنه حقًا إشتاقها وهي تُجافيه مُنذ مُدة
إنتفضا على دلوف نهلة الإعصاري هاتفة بـ مرح
-أنا جبـــت..الــأ..كــل…
تقطعت حروفها وهى تعي ما يحدث بين شقيقها و زوجته لتُخفض رأسها بـ خجل وقلب ينبض بـ عُنف..ليمسح رائف على وجهه ثم هدر من بين أسنانه
-مش تخبطي يا جحشة!
-عضت باطن شفتيها وقالت:أسفة والله..بس أنا نزلت جبت الأكل وجيت عشان أنادي ليكم
-أشار إليها بـ يده وقال:طب روحي وإحنا جايين…
تقدمت منه ثم رفعت غيث بين ذراعيها وقالت
-طب أنا هاخد غيوثي بقى عما تيجوا
-إلتوى شدقه بـ تهكم وقال:غيوثك؟!..طب روحي أنتِ وغيوثك يا بيبي…
أومأت بـ إبتسامة ورحلت..لينظر رائف إلى زوجته التي أخفضت وجهها خجلًا من ذلك المشهد البغيض الذي وُضعا به..رفع ذقنها وقال بـ إبتسامة
-نهلة إتحسنت
-إبتسمت بـ إهتزاز وقالت:مبسوطة أوي عشانها..ربنا يخليكوا لبعض…
مسح بـ إبهامه على ذقنها ثم أردف بـ نبرةٍ صادقة وهو ينظر إلى بحر الشيكولاتة بـ عينيها
-ربنا يخليكِ أنتِ ليا..لولاكِ كان زمان حالي هو الحال..وكنت كرهتها أكتر
-بس أنت كان عندك إستعداد…
إنحنى يُقبل ذقنها ثم أردف بـ نبرته العذبة
-بس برضو لولاكِ مكنش الإستعداد دا ظهر…
إبتسمت بـ حنو لينهض هو ثم شابك يدها وسحبها هاتفًا بـ مرح
-طب يلا نطلع ناكل..أحسن ست نهلة تطُب علينا تاني…
في صباح اليوم التالي كانت زهرة تُعانق صغيرها بـ حرارة وتبكي..فـ هتفت وسط بُكاءها
-قلبي مش مطاوعني أسيبه…
عانقهما رائف بـ شدة ثم أردف وهو يُقبل جبينها
-معلش يا حبيبي..كلها يوم أو أتنين وأبعته مع طارق
-هتفت بـ نشيج:هتوحشوني أوي
-وأنتِ أكتر يا حبيبتي..خلي بالك من نفسك ومن والدتك تمام!!…
أومأت بـ رأسها ثم أمسكت بـ ذراع والدتها وإتجهتا إلى الخارج..وبـ ذات الوقت كانت نهلة تقف مع أحمد الذي يضع الحقائب بـ السيارة لتسأله
-هما هيقعدوا هناك على طول ولا إيه!
-رفع منكبيه وقال:مش عارف والله..المهم أنتِ كمان إستعدي عشان يومين أو تلاتة بـ الكتير وهنحصلهم
-أومأت بـ إحباط:أه قالي…
وضعت يديها خلف ظهرها وتلاعبت بـ قدميها بـ حجر..أغلق أحمد حقيبة السيارة وإتجه إليها تنحنح وتساءل بـ جدية
-مالك!..شكلك مش مبسوط
-رفعت منكبيها بـ فتور وقالت:عادي
-لو فيه حاجة مضيقاكي عرفيني..مش بسوطة ليه!!…
رفعت أنظارها إليه ونظرت بـ عينين تائهتين ثم أردفت بـ حزن
-لما بدأت أتحسن..هبعد عن رائف وعيلتي..مع إني كنت حابة أفضل معاهم وجنبهم..عشان أحس بـ نفسي وسطهم…
إبتسم أحمد بـ حنو وبقى ينظر إلى ملامحها البريئة والطفولية إلى حدٍ كبير ثم أردف بـ نبرةٍ لطيفة
-كل دا هيحصل فـ الوقت المُناسب يا نهلة..بس أنتِ خفي وملكيش دعوة بـ الباقي…
إرتسمت إبتسامة على شفتيه ليبتسم هو الآخر ثم أكمل بـ مرح
-وبعدين هتشوفي ملك كتير لما نسافر
-تساءلت بـ دهشة:أنت كمان هتسافر؟!
-أومأ قائلًا:أها..بس هوصل ملك ليكِ وهرجع على طول…
أكد بـ حديثه على كلمة “ليكِ” وكأنه يُحملها مسؤولية الصغيرة فـ رمشت بـ عينيها عدة مرات لتتساءل بـ تلعثم
-أنت هتسيبها معايا أنا!
-رد عليها بـ تأكيد:طبعًا..مش أنتِ أد المسؤولية ولا إيه!
-أجابته بـ لهفة:طبعًا..أدها أوي
-وأنا واثق فيكِ…
أسبلت جفنيها بـ خجل فـ ها هو يضع ثقته بها مرةً أُخرى..ولكن مذاق تلك المرة مُختلف عن سابقتها..عادت تنظر إليه وهمست بـ خفوت
-نسيت أقولك شكرًا على الدكتور..حقيقي هو شاطر
-إلتوى فمه بـ إبتسامة وقال:بسطتيني إنك بتتحسني…
إبتسمت بـ خفة ثم أشاحت بـ نظرها بعيدًا عنه..أما هو إتكئ على سيارته وأخذ يتلاعب بـ مفاتيحه وهو يتأملها من طرف عينه دون أن تلحظه..ضحك بـ خفة وهو يرى تبادل تعابير وجهها وفقًا لمل تراه..وكم كانت لطيفة !
إلتفتت نهلة على صوت أخيها وهو يحضتن طفله و يده الأُخرى يطوق خصرها
-يلا يا أحمد عشان متتأخروش
-طيب..يلا يا مدام زهرة…
أومأت بـ خفوت لتلتفت إلى رائف تُقبل وجنته ثم صغيره هامسة
-خلي بالك منه ومنك..لا إله إلا الله
-رد عليها وهو يرد قُبلتها:سيدنا مُحمد رسول الله…
صعدت السيارة وكذلك والدتها بعدما ودعت نهلة..ثم أردفت وهي تنظر إلى رائف
-متنساش صلاتك يا رائف..هي اللي هتقربنا من بعض وإحنا بعيد
-إبتسم بـ دفء وقال:حاضر يا زهرة..مش هنساها…
“عودة إلى الوقت الحالي”
كانت آخر وصية تتفوه بها بـ آخر وداع لهما..أخفى وجهه بين يديه ثم أردف بـ قهر
-معقول ربنا متقلبش توبتي وأخدها مني عقاب على اللي عملته؟!…
ضرب الأرضية الصلبة وخلفه نهلة تضع كِلتا يديها على فمها تبكي بـ صمت وقلبها يرتعش من هول الموقف..و ضعف أخيها الغير مسبوق..تابعته وهو يضرب الأرض عدة مرات ثم صرخ بـ ألم
-ليه يارب ليه؟!..كانت الحاجة الوحيدة اللي مخلياني عايش..خدني أنا بدالها ورجعالي..أنا مش هقدر أعيش بعدها…
تقدمت منه نهلة وجثت على رُكبتيها تجذبه إلى أحضانها فـ تشبث بها وأخذ يصرخ بـ قوة مزقت نياط قلبها..ربتت على خُصلاته ثم همست بـ نبرة مُتحشرجة
-هششش..خلاص يا رائف كفاية..إدعيلها بـ الرحمة أحسن..بلاش اللي بتعمله دا…
لم يرد عليها بل بقى يصرخ بـ قوة حتى خارت قواه وسكن بين يديها..تنفسه وعيناه المتسعتان عن آخريهما كانتا الدليلين على أنه لا يزال على قيد الحياة
هي لم تتركه بل تركته يتشبث بها بـ قوة حتى أحست أن عظامها ستتهشم بين ذراعيه ولكنها لم تمنعه..وبقى هو على تلك الحالة تتوافد على عقله ما قاساه وعاشاه معًا
وعلى الجانب الآخر رفع أحدهم يده وقام بـ تصوير ما يحدث ثم هاتف أحدهم
-أيوة يا جهاد بيه..كله تمام..مرات رائف بيه ماتت وشبعت موت…
أغلق جهاد الهاتف و وضع يده خلف رأسه مُتراجعًا بـ جسده إلى الخلف فوق مقعده يُطلق الصفير بـ ظفر
-كدا يا سي رائف هترجع زي الكلب…
طرق أحدهم باب غُرفته ودلف دون أن ينتظر أذنه بـ الدلوف..نظر جهاد إلى ذلك المُتطفل لينعقد حاجبيه بـ غضب..وظل ينظر إليه وهو يتحرك بـ إريحية بـ غُرفته..حتى إستقر عند نُقطة مُعينة..طاولة صغيرة موضوع عليها قطعة ثياب مُمزقة تخص “نجلاء”..رفع حاجبه بـ خبث ثم تشدق
-حلوة!
-صر جهاد على اسنانه ولكنه أردف بـ جمود:شئ ميخصكش
-رفع حاجبيه أكثر وأكمل بـ عبث:دا إحنا طلعلنا لسان..وبتخبي عليا اللي هعرفه غصب عنك
-وضع جهاد يده أسفل ذقنه وقال:وطالما هتعرفه بتسأل ليه؟!
-كنت حابب أختبرك…
تأفف جهاد لينهض ويتجه إلى رُكن خاص بـ المشروبات..ليضع بـ كأسين زُجاجين بعض الشراب الكحولي ليُعطي أحدهم إلى “زوج والدته”والآخر له ثم سأله بـ جفاء
-جاي ليه!
-إرتشف من كأسه ثم أردف بـ عبث:جاي أطمن على ابن مراتي..الحق عليا يعني؟!
-أغمض جهاد عينيه وقال بـ نفاذ صبر:عاوز إيه رحيم!
-عملت ايه فـ رائف!…
وضع جهاد كأسه على المكتب ثم أدرف وهو يتكئ عليه بـ ظهره
-لسه جايلي تليفون إن مراته ماتت
-متأكد من اللي بتعمله!
-أجابه بـ جمود:ملكش دعوة..أنت عاوز نتيجة..وأنا هفرجك على النتيجة
-أومأ بـ رأسه وقال:ماشي..أما نشوف..سلام يا بن الغالية…
بـ لحظة إندفع إليه جهاد يقبض عليه من تلابيبه وحركه بـ شراسة هادرًا بـ عنف
-متجبش سيرة أمي على لسانك النجس دا..ولا تحب أكمل على اللي باقي من وشك!…
إبتسم رحيم بـ شدة ثم تشدق وهو يربت على منكبه بـ خفة
-مش كدا يا بطل..أنا بس بفكرك بيها لتكون نسيتها
-نفض جهاد يده عنه وهدر:بره يا ***..ومتعتبش هنا وإلا هكسر رجلك…
إبتسم رحيم بـ إستهجان قبل أن يقترب منه ويهمس بـ خُبث جعل جهاد ملامحه تنكمش بـ غضب وحقد يزداد بـ مرور الزمن
-متفكرش تعمل عليا راجل يا جهاد عشان أنت مش أدي..أنا اللي قهرت طفولتك وقادر أقهر شبابك..مهما حاولت تبان قوي فـ أنت أضعف واحد ممكن تتخليه..ومهما وصلت من قوة فـ أنا اقوى منك…
ثم تركه ورحل..ليضرب جهاد المقعد القريب من بـ قدمه..إنتظر عدة دقائق يستعيد أنفاسه المسلوبة ثم خرج من الغرفة صافقًا الباب خلفه بـ عنف
كانت جالسة على الفراش تضم ساقيها إلى صدرها تبكي رثاءًا لحالها وإلى ما آلت إليه نفسها..كانت قبل شابة بـ مُقتبل الحياة..مُبتسمة الثغر تتأمل خيرًا بـ الغد..والغد خذلها بـ قوة ليُلقي بها بـ هوة عميقة لا قاع بها ولا سطح تستطيع النفاذ منه
إنكمشت أكثر وهي ترى الباب يُفتح بـ عُنف فـ أغلقت عينيها خوفًا من قوة صفق الباب وقد علمت من هو الضيف
جذبت الملاءة سريعًا إليها ليبتسم بـ تهكم وهو يجلس على طرف الفراش ثم أردف بـ لامُبالاة
-متخافيش..أنا قولت مش هقربلك وأنا عند وعدي…
لم ترد عليه بل إنكمشت أكثر على نفسها..تنهد جهاد بـ حرارة ثم نظر إلى الطعام الموضوع أعلى طاولة بجوار الفراش..ليقول وهو يُشير بـ رأسه إلى الطعام
-مكلتيش ليه؟
-رددت بـ إهتزاز:مـ..مليش..نفـ..نفس
-لأ لازم تاكلي..عشان شغلك قرب…
إرتعدت مما قاله وتساقطت عبراتها بـ غزارة أكبر..ليجذب هو الطعام ويضع الملعقة بـ حصن الأرز ثم رفعه إلى مستوى فهما وأردف بـ صرامة
-إفتحي بوقك…
ضمته أكثر وأشاحت بـ رأسها بعيدًا عنه..لتصرخ بعدها بـ لحظة إذ ألقى الملعقة بـ الصحن وأمسكها من فروة رأسها يُديرها إليه ليهدر بـ شراسة أفزعتها
-بصي بقى..أنا مش ناقص نكد وعند..هتسمعي الكلام ولا أستخدم أسلوب تاني!
-أجابته وهى تُحرك رأسها بـ هستيرية:حـ..حاضر…
دفع رأسها لتتراجع إلى الخلف لتعود تجلس مرةً أُخرى..وبكت بـ صمت..صرخ بها
-بطّلي زفت على عينك…
مسحت وجهها سريًعا وأجبرت نفسها على إبتلاع عبراتها وألمها..ليعود هو ويضع الملعقة بـ الصحن ويرفعه إلى فِيها..إزدردت ريقها بـ خوف ثم فتحت فمها بـ تردد ليدس الطعام به..بقيا هكذا حتى إنتهى ليقول بعدها وهو يضع الطعام إلى مكانه الأول
-شوفتي لما تسمعي الكلام..هنتفادى حاجات كتير…
إلتفت إليها ليجدها تُخفض رأسها إلى أسفل..مدّ يده يُزيح خُصلاته عن وجهها فـ أجفلت..ليردف بـ هدوء
-هششش..متتحركيش…
توقفت عن التنفس ليُكمل عمله بـ إبعاد خُصلاتها عنهت..ليتشدق بعدها بـ جدية
-خليكِ جاهزة عشان فـ أي وقت ممكن أحتاجك..رغم إني بحاول أخلي أي حد مكانك..لأني مش عاوز حد غيري يلمسك…
أغمضت جفنيها بـ شدة تعتصرهما تُجبر نفسها على التحمل وعدم التقيؤ الآن..فـ أكمل حديثه وإبهامه يدور على وجنتها المتوردة من بُكاءها
-كنت محتاج أشوفك..أنتِ شكلك بقيتي هوس…
رفع ساقيه عن الأرض ليقترب منها ويجلس أمامها..ضمت يديها إلى صدرها وإهتز بدنها بـ قوة جعلته يُبعد يده عنها هامسًا
-أنتِ ليه خايفة مني كدا!..أنا مش وحش..بُصيلي…
شدت على جفنيها أكثر وضمت يديها بـ قوة..فـ إنتفضت على صوته الذي إخترقها
-بقولك بُصيلي…
فتحت عينيها سريعًا إتقاءًا لما قد يحدث ليُكمل بـ خفوت وكأن شيئًا لم يكن
-وشي مش متشوه زيه..هو اللي ضربته وهو اللي بقى مشوه
-همست بـ عدم تصديق ونبرة مُرتجفة:أنت مريض نفسي
-إبتسم بـ سُخرية وقال:كلنا مرضى نفسيين..وكلنا ضحايا لمُجتمع ميؤمنش إن الضحية من كتر القهر والظلم بيتحول لشيطان..الغلط مش على الجاني..الغلط على اللي سايبين الجاني من غير عقاب…
ملس على وجنتها ثم ضحك وقال بـ مرح
- إيه اللي بقوله دا!..يظهر تقلت فـ الشُرب..مع إني مشربتش غير كاس واحد…
جذب يدها على حين غُرة لتصرخ بـ خوف..كمم فمها وقال بـ تحذير
-أسكتي..مش عاوز أسمع صوتك…
تمدد على الفراش وجذبها معه..كان ظهرها مواجه لصدره ليُعانقها واضعًا أنفه بـ عنقها..لترتجف هي بـ شدة واضعة يدها على فمِها كي لا تبكي فـ يغضب..سمعته يقول بـ نبرةٍ ناعسة
-مش هعملك حاجة..أنا محتاج أنام بس…
-رائف عامل إيه!…
أجابته رحمة وهي تضع عقار طبي بـ المحلول المُغذي
-دخل فـ حالة صدمة..وهو نايم دلوقتي
-ربت مُحي على خُصلاته وأردف بـ تعاطف:حاجة صعبة..كان متعلق بيها أوي..إزاي فجأة كدا يخسرها؟
-قَبّلت جبين إبنها وقالت:حسبي الله ونعم الوكيل فيهم..كانوا خلاص مسافرين…
جلس مُحي فوق الأريكة بـ أحد أركان الغُرفة وتبعته رحمة ليقول وقد بدت عليه الحيرة
-اللي مجنني..هما عرفوا منين؟!
-جايز قال لحد
-حرك مُحي رأسه نافيًا وأكمل:مُستحيل..رائف عارف خطورة الموضوع…
نظرت إليه رحمة نظرة ذات مغزى لينفي تلك النظرة وهو يقول بـ قوة
-لأ يا رحمة..مش أحمد..أحمد عمره ما يعمل كدا..أنتِ ناسية إنه كمان هيتأذي منهم!
-ما يمكن عمل كدا عشان يضمن أذاهم بعيد عنه
-تشدق مُحي بـ صرامة وتحذير:رحمة!!..الموضوع دا منتكلمش فيه أحمد مش عيل عشان يعمل كدا..وأنا واثق مليون فـ المية إنه مش هو…
عقدت حاجبيها بـ تفكير ثم أردفت وهي تنظر إلى رائف النائم
-قصدك فيه حد
-دون أن يسمح لها بـ الإكمال:أيوة..وهعرفه قريب…
بعدما إنتهى من دفن زوجته إتجه إلى المنزل الخاص بـ عائلتها ليتلقي واجب العزاء..مُنذ خمسة أيام كام يستقبل عزاء والدها والآن هو يقف بـ عزاءها هي
فكرة خسارتها وبُعدها القصري عنه تجعله يظن أن كل ما يحدث هو مجرد عرض مسرحي سخيف سينسدل الستار وتُعلَن نهاية المشهد وتستيقظ هي ليأخذها بـ أحضانه
قبض على كفيه المضمومتين أمامه بـ قوة..وعيناه تحتقن بـ قسوة وغضب..يرتدي حلة سوداء حالكة السواد كـ عينيه المُظلمتين..كان جسده يرتعد بـ غضب إستشعره شقيقه طارق..ليُمسك ذراعه هامسًا
-إطلع ريح أنت يا رائف..أنا وبابا هناخد مكانك
-رد عليه بـ قسوة:دا عزا مراتي..أنا اللي هاخده ومحدش غيري…
كان طارق يتوقع إنهيار أخيه ولكنه تفاجئ بـ صلابة و قسوة تلبسته فجأة..ليس قويًا ولن يكون بعدها..هو فقط ما يُحركه فكرة الإنتقام..أن ينتقم لها هو ما يجعله حي يتنفس..لن يلومه فـ زوجته الراحلة كانت كـ حبل النجاة بـ النسبةِ إلى رائف..وها هو الحبل إنقطع تاركًا إياه يسقط دون أن يجد ما يتمسك به للنجاة
تنهد وصمت لينظر إلى الجمع الكبير من الناس..قاطني الحي وجيرانها..والأخرون من الطبقة المخملية..ورائف بـ المُنتصف يقف دون أن ينظر لأحدهم..عيناه لا تريان سوى دماء زوجته ونيران الإنتقام
-البقاء لله يا رائف باشا…
رفع رائف بصره الجامد إلى ذلك الأربعيني الذي يقف أمامه يمد يده ونتظر مُصافحته..كانت عيناه سوداوين كـ ظلام الفضاء تنظر إليه بـ شئ من الإنتصار والشماتة..فـ أخفض نظره إلى يده السمراء الممدودة للمصافحة..ليرفع يده ويُصافحه هادرًا بـ جمود
-ونعم بالله
-عرف الأربعيني عن نفسه:أنا جهاد الطليمي…