“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد
بقلمي/ احكي ياشهرزاد
الحلقة (37) الجزء الثاني
دلفت الى الداخل ما ان فتحت لها الخادمة لتنطلق في خطوات مهرولة تتلهف لرؤية ولديّها و… أمها!!!..، اندهشت حالما صرّح لها ليث أن أمها لدى أبيه في المنزل، لجيبها على تساؤلها الذي لم يتعد عينيها بقوله أن أبوه من أصر على ذلك لمرض أمها الشديد، لتتقبل هذا التبرير غافلة عن السؤال الأهم.. أين أخويها وزجاتهما؟… بل كيف وافق والدها من البداية على أن تنتقل أمهم لدى شقيقها؟.. ولكن كان كل ما يهمها هو الاطمئنان على صحة والدتها والتي طمأنها ليث أنها تعاني من أعرض برد شديد!!!!…
كان ليث يلحق بها بخطواته السريعه وهو يشتم في سره فهو يكاد يجب قلقا مما سيحدث لها عندما تعرف… وحتما سوف تعرف!… ومع أنه قد اتخذ كافة الاحتياطات ليضمن ألا يتسرب أي خبر اليها عمّا جرى الى أن تصبح في حالة صحية أفضل يستطيع هو معها أن يخبرها بكل ما حدث، إلا أن حدسه الداخلي ينبئه بأنها ستعلم.. كيف لا يدري.. ولكنها طالما وطئت بقدميها نفس المكان الذي تمكث فيه والدتها فهي ستعلم، كن يريد ادخالها الى المصحة النفسية تماما كما أوصى الطبيب ولكن فاجأه والده بأن طلب من الطبيب إحضار ممرضة ملازمة لها فهو لن يرمي بشقيقته الى مستشفى الامراض العقلية طالما أن حالتها ليست من النوع الخطر بل نتاج صدمة عصبية شديدة، لذا فقد قرر علاجها بالمنزل تحت اشراف طبي على مدار الأربع وعشرين ساعة!!…
هتف بها وكانت قد وصلت الى غرفة الجلوس:
– سلسبيل.. ، ولكنها لم تنتظر واندفعت الى الداخل للسلام على عمها وعمتها واللذان قابلاها بحفاوة كبيرة، كانت لا تزال تحدث بسرور معهما حينما انطلقت كتلة بشرية صغيرة اليها لتنحني على ساقيها هاتفة بحب وهي تفتح ذراعيها:
– شبل!!! ، وتلقفته بين ذراعيها تضمه اليها وتقبله بكل حب وهي تستنشق رائحته الطفولية، ليلحق به شقيقه الأكبر وهو يخطو اليها بخطوات متلهفة فتنحني ترغب بحمله هو الآخر حينما يهتف بها ليث وهو يحمل عنها شبل بين ذراعيه تاركا الفرصة لعدنان للتنعم بأحضان والدته:
– واه… عتشيليهم التنييين؟!!!.. هاتي عنك الشبل…
واحتضن شبل مقبلا له، لترفع هي عدنان بين ذراعيها تشبعه قبلا وأحضانا…
لاحقا وبعد صعودها مع أطفالها الى غرفتهما حيث طلبت منها عمتها الخلود الى الراحة حتى يعين موعد الغداء رافضة رغبتها برؤية أمها التي تنام الآن بعد أن تناولت الدواء، فلا يجوز إقلاقها في نومها!!!!… وبينما رأى ليث ضرورة انصرافهم كي تنال قسطا من الراحة، أصرت هي على المكوث لرؤية أمها بعد أن تصحو، فما كان من ليث الا أن وافق وإن كان على مضض….
تركت طفليها يلهوان بألعابهما واتجهت الى خزانتهما وتحديدا الى صندوق موضوع أعلاها، لتجلب كرسيّا خشبيا وتقف عليه لتتناول الصندوق، جلست في زاوية بعيدة وهي تفتح الصندوق تتطلع الى محتواه بابتسامة شاردة، مدت يدها بتردد وقبل أن تلمس محتويات الصندوق قبضت عليها وسحبتها سريعا قبل أن تعيد غلق الصندوق ثانية وهي تهمس في نفسها:
– ماعنساكيش أبد يا ابن عمي… مكانك عيفضل جوّاتي وجوّات لعيال.. لكن اعذرني عمري ما فكِّرت واني ماراتك ولا عفكّر في غيره وأني امعاه… ليث عطاني كتيير جوي يا راضي.. ومش معنى كلامي ديه إني ممكن في يوم أنساك.. لاه… انت كان ليك يد في سلسبيل دلوك… سلسبيل اللي حبيتك وهي صبية بنت ستاشر سنة… وحبيت ليث وهي بنت تلات وعشرين سنة… بيننا عشره حلوه وعيال كيف الورد… الله يرحمك يا ولد عمي.. واطمّن علينا أنا ولعيال.. الليث عمريه ما عيفرّط في حدا منينا واصل….
ثم أعقبت كلماتها الخافتة بقراءة الفاتحة على روحه البريئة التي اغتيلت غدرا ليذهب صاحبها شهيدا على يد الخسة والحقارة، ليكسب هو آخرته ويخسر المجرم دنياه وآخرته….
أعادت الصندوق مكانه أعلى الخزانة، ثم التفتت تلاعب صغيريها حينما قال عدنان ببراءة طفولية:
– ماعاوزينش دوكة يا شبل، جدتي تعبانه…
داعبت سلسبيل شعر صغيرها وهي تقول بابتسامة:
– عفارم عليك يا عدنان، جدتك تعبانه وناميه ولمنّن تكون ناميه ما نجلجوهاش، دلوك لمّن تصحى عاخدكوم ونروحو نجعدوا امعاها اشويْ…
عدنان ببساطة:
– لاه.. احنا ما نجدروشي انروحو لجدتي، بوي عدنان وبوي ليث امنبّهين علينا ما نروحيش نواحيها واصل..
قطبت سلسبيل وسألته:
– ليه يا عدنان؟.. هي تعبانه جوي إكده؟…
حرك كتفيه علامة الجهل وأجاب بتلقائيته البريئة لا يعلم أنه يلقي بقنبلة من العيار الثقيل على والدته:
– ماعارفشي.. لكن اني سمعتهوم بيجولوا ان جدتي… اتجننت!!!!!…
لتتسمر سلسبيل في مكانها هتافة بذهول:
– إييييه؟…
ثم هبّت واقفة من مكانها وحينما لحق بها الولدان حاولت رسم ابتسامة صغيرة ولكنها فشلت بينما تقول:
– خليكو أهنه حبايبيْ.. اني رايحه أشوف حاجه وراجعالكو…
وانطلقت الى الليث…. فهناك أسئلة كثيرة تدور ببالها وحان الوقت لتعلم أجوبتها كاملا وأولها… هل فعلا جُنّت والدتها؟؟؟؟؟…..
زفر الليث بأسى وهو يقول بضيق:
– ما عارفشي لو سلسبيل عرفت عجولها إيه، كان لازمن اتدخلوها المصحة كيف ما جال الدّكتووور، اجعادها اهنه غلط… انتو داريين باللي عيجرى لو سلسبيل عُرفت؟… أني ما صدجت انها رجعت وجفت على رجليها من تاني…
عدنان بجدية لليث الذي يروح ويجيء في المكان تماما كالليث المحبوس:
– اهدى يا ليث يا ولدي مش إكده..
الليث بيأس:
– أهدى كيف يا أبويْ؟.. ، ليكمل بشراسة قوية:
– الله في سماه لومنّ انها عمتي وأم الغالية ما كان منعني عنها حاجه أو حد.. كنت بيدي – ليرفع قبضته أمامه هاتفا من بين أسنانه – جدرت أنجد الناس من شرّها…
قالت كريمة والدته وهي تشعر بحزن على حال ابنها وزوجته تلك الكنّة التي منذ أن دخلت منزلهم من أكثر من سبع سنوات وهي بمثابة الابنة لها:
– طب ما تجولها انت يا ليث بدل ما تِعرف من حدا اكده ولا اكده… عرّفها انت يا ولديْ..
ليهتف الليث بغضب قوي:
– أعرّفها ايه يا أماه؟.. أجولها إيه بالظبِّطْ؟.. أجولها ان أمك هي اللي سمَّتِكْ بعد ما كات رايده اتسمّ مرات اخوكي شهاب وجات فيكي بالغلط؟.. ولا ان امها كانت رايده تجتل مرات عمها لولا ان ربنا بعت لها سلافة بتّها في آخر لحظة؟!!!… ولا بلاش.. ايه رايكم أجولها ان امها السبب ان غيث ولد عمي ايطلج ماراته وشهاب ماراته اتفوته والعيلة كلاتها تتفركش من تحت راسها؟… أجولها انه آخرة المتمة أمها اتجننت وانها ممكن تدخل الصرايا الصفرا في أي وجت؟!… أجولها ايه ولا ايه.. حد يجولي؟!!!!!!…
لتأتيه الاجابة من خلفه.. بصوت ميّت لا روح فيه قالت صاحبته بخواء تام:
– ماعادلوش لزوم اتجولي حاجه بعد اكده يا ابن عمي.. كفايه اللي سمعته منيك دلوك!..
لفتح عينيه على وسعهما شاهقا بقوة قبل أن يلتفت اليها هاتفا اسمها بلوعة:
– سلسبيل!!!!….
طالعته بوجه شاحب كشحوب الموتى، اقترب منها بينما كانت تنقل نظراتها بينه وبين والديه اللذان أخفضا رأسهما حزنا وأسفا، وقف أمامها وم يديه ليقبض على كتفيها ليفاجأ بأنهما ترتعشان حتى أمسك بهما كتفيها جيدا ليقول محاولا تمالك أعصابه:
– سلسبيل اسمعيني زين.. أني ما…
لتقاطعه بعينين تذبحانه بنظرات الرجاء التي تطالعه بهم، همست بصوت مشروخ مذهول:
– اللي اني سمعته ديه حصل صوح؟.. أمي عِملت إكده فعلا؟.. هي السبب اني خسرت ولدي؟.. هي اللي خربت على خواتي وكل واحد فيهم ماراته فاتته؟.. هي… هي اتجننت صوح يا ليث؟…
حاول ضمّها بين ذراعيه لتدفعه وهي تصيح بهستيرية حيث انهارت مع آخر كلمة خرجت منها:
– جولي يا ابن عمي ديه صوح؟.. أمي أني عملت كل ديه؟.. ساكت ليه يا ليث اتكلّم وريّحْني…
ليهتف بها ليث بعد أن احتواها بقوة تفوق مقاومتها بمرّات وهو يحكم قبضته عليها كمن يخشى هروبها منه:
– اهدي يا سلسبيل.. اللي بتعمليه ديه عِفِشْ عشانك…
ضربته بقبضتيها الصغيرتين في صدره وهي تصيح بشهقات بكاء عالية بينما دموعها تغرق وجهها:
– مش امهم… لمهم أعرف الحجيجة… ريّحني يا ليث ربنا يّريّح جلبك… الحديت ديه صوح؟…
سكون ساد المكان بعد سؤالها الباكي الأخير، قطعه صوت ليث القوي، الباتر وهو يجيبها بكلمة واحدة… ولكنها صاااادمة:
– صوح!!!!!! ، لتنهار بين يديه وهي تصرخ عاليا بـ “لااااااااااا”، وهو يحاول احتوائها بين ذراعيه يكاد يبكي لبكائها الأقرب للنواح، انتبه بعد برهة أن والديه قد تركا لهما المكان، أبعدها عنه قليلا لتطالعه بعينين ذابلتين وهي تقول بهمس مسموع وأنف أحمر من شدة البكاء:
– عاوزه أشوفها يا ليث؟..، ليقطب في لحظتها وهو يهز برأسه بقوة رفضا في حين تابعت بشبه رجاء وتوسل:
– عشان خاطري يا ليث.. رايده أشوفها.. ديه مهما كان….. أمـ… أميّ!..
ونطقتها بتلعثم بطيء ولكنها لم تستطع سوى النطق بها وهي يرن في أذنها أن أمها أصبحت.. مجنونة!!! ، الليث بغلظة:
– لاه يا سلسبيل، أني ما أضمنشي عتملي إيه لمّن تشوفيها؟…
سلسبيل بهلفة:
– ماتخافيش يا ليث، بس.. أشوفها يا ليث.. بترجاك يا ولد عمي…
لينهرها الليث في حزم ولكن… حانٍ بقوله:
– اوعاكي… إياك تترجي أي حد حتى لو كنت أني… مارات الليث تؤمر.. ما تترجاشي!…
مسحت دموعها براحتيها فكانت أشبه بالاطفال، ليقبض على كفها بيده ويسحبه معه وقد استقر رأيه وهو يهتف بها:
– تعالي…
وسار معها حتى اتجها إلى غرفة في آخر الرواق من الجانب الشرقي، كانت تلك الناحية من المنزل متطرفة بعيدة عن سكانه، أوقفها أمام الغرفة قبل أن يطرق الباب فخرجت له ممرضة خمسينية العمر بعد أن حياها طلب منها أن تدع ابنة المريضة تراها، لتنظر اليه سلسبيل في رجاء قائلة:
– تعالى امعاي يا ليث..
وخطت بقدميها بتردد تقدم رجل وتؤخر أخرى، وحدها يد الليث المتشبثة بها ما تمنحها القوة، وقفت تطالع الجسد المستكين فوق الفراش في وسط الغرفة، تقدمت بوجل حتى اذا ما وقفت أمامها وطالعها وجهها شهقت واضعة يدها فوق فمها لتكتم شهقتها الحزينة، طالعتها بعينين مذهولاتان، فمن ترقد أمامها ليست بأي حال من الأحوال أمها!!.. ليست هي تلك السيدة القوية المتفاخرة دوما بنفسها وأولادها، ليست هي من لا يظهر عليها عمرها الحقيقي أبدا، فأمها كانت دائما تشع جمالا رغما عن مرور الزمن، أبعدت يدها عن فمها وانحنت تلمس وجنتها بقبلة رقيقة قبل أن تبتعد، لتفتح راوية عينيها بغتة فتصعق سلسبيل من تلك النظرة الزائغة التي طالعتها بها، ابتعدت سلسبيل الى الخلف لتصطدم بليث الذي كان خلفها.. دوما معها.. يحميها حتى من أقرب الناس إليها، جلست أمها في الفراش وطالعت سلسبيل والليث بنظرات مشوشة قبل أن تهتف ويه تشير اليهما باصبعها:
– انتوم مين ها؟.. جيتوا ليه؟.. ألفت باعتاكوم عشان تخلّصوا عليّ صوح؟.. لكن جولولها ديه بُعدها… أني اللي كسبت.. بناتها ورجعوا لها… وأني اخدت بتاري منيها… خدت حلمي زمان… جتلت حلم بناتها دلوك!!!!!!…
ثم أرجعت ظهرها الى مسند السرير خلفها وهي تتابع بابتسامة جذلى بينما تتراقص عينيها بنظرات مجنونة:
– أني اللي فزت… أني اللي فزت….
وتعالت ضحكاتها العالية الهستيرية، لتدلف الممرضة سريعا وتحضر الدواء لتكشف ذراعها وتحقنها به كل هذا تحت سمع وبصر سلسبيل الغير مصدقة مما يجري أمامها، لتهمس لليث بعدها وقد بدأت تشعر بدوار:
– الليث… خرِّجْني من إهنه!..
ليسارع بإخراجها وما أن أبصرت النور خارج غرفة أمها حتى وقعت أسيرة الظلام مرحبة به لتتلقفها ذراعي ليث وهو يهتف باسمها بلوعة قبل أن يبتلعها الظلام في بئره السحيق!!!!!!..
************************** ************************** ***********************
كانت تجلس الى حاسوبها تعمل على رسالتها حينما سمعت نغمة الرسائل في هاتفها المحمول، فرفعته حيث كان بجوار الحاسوب، فوجدت رسالة في صندوق الرسائل الواردة لتضغط على زر الفتح فتفاجأ بكلمات بسيطة ولكنها قوية في معناها، كان فحواها يقول:
– الوضع اللي احنا فيه دا غلط، لازم حل، هستناكي بكرة في….. عشان لازم نتكلم..
أعادت قراءتها مرارا وتكرارا، لقد ذكر اسم مطعم قريب من محل سكنها، قطبت في استغراب، لما لا يأتي اليها في منزل والدها ليتكلما؟.. لما اختار مكانا آخر؟.. وكأنه يقرأ أفكارها اذ سرعان ما سمعت نغمة تدل على وصول رسالة أخرى فسارعت لفتحها ليطالعها جواب سؤالها:
– عارف انتي اكيد مستغربة ليه ماجتش البيت عندكم.. لكن انا عاوز أتكلم معاكي لوحدينا.. دي حياتنا أنا وأنت وطفل جاي في السكة.. وأعتقد ان احنا الاتنين ناضجين كفاية اننا تقدر نحل مشاكلنا من غير تدخل من أي حد مع احترامي للجميع…
عضت على شفتها وشردت وهي تفكر” هل تذهب في الموعد أم تصر على أن يكون اللقاء ببيت والدها؟!!!”….
في اليوم التالي كانت تدخل الى المطعم حيث طلب منها شهاب موافاته، لم تخبر سوى سلافة فقط بمقابلتها له واكتفت بأن بررت نزولها لرغبتها في الترويح عن نفسها قليلا…
تنقلت بعينيها بين الموجودين بعد ان اعتادت عيناها على المكان حيث الاضاءة الخافتة تتنافى مع ضوء الشمس المبهر بالخارج، لتعثر عيناها في الآخر على ضالتها حيث كان يجلس الى مائدة منزوية، كانت هي أول من انتبه اليه، لتقودها قدماها بدون وعي اليه، بينما كان ينظر حوله ليسقط بصره عليها فيقف بدون ارادة منها وهو يتشرب ملامحها وكامل هيئتها التي كلما اقتربت منه زادت وضوحا، حتى اقتربت منه فوقفت مقابلة له فكان هو أول من تحدث بحشرجة خفيفة قائلا:
– أزيك يا سلمى….، ثم أشار لها بالجلوس فجلست يتبعها هو في الممقعد المواجه لها، حضر النادل لتسجيل طلباتهما، فنظر الى سلمى بتساؤل لتجيب الأخيرة بهدوء لا تشعر به حيث كامل جسدها ينتفض اضطرابا:
– أي عصير فريش….
قال شهاب وعيناه مسلطتان عليها:
– دا وقت غدا… أعتقد نتغدى الأول…. ، وبدون أن ينتظر سماع جوابها أملى على النادل طلباتهما لتفاجأ بأنه لم ينسى طعامها المفضل من السمك المشوي وحساء فواكه البحر، ليطلب لنفسه شرائح اللحم المشوية بدلا من السمك، ما ان انصرف النادل حتى مال تجاهها وقال بابتسامة صغيرة:
– خفت أطلب سمك ليّا وألوص بعد كدا فيه، انتي عارفاني مبعرفش أفصص السمك!!…
لتشرد في ذاك اليوم.. حيث دعاهما والد كريم الى الغذاء والذي كان عبارة عن السمك حيث اندهشت بادئ الامر من عدم تناول شهاب لطعامه لتعلم بعد ذلك انه لن يستطيع فصل اللحم عن العظام الرقيقة فتقوم هي بالمهمة ليجهز على سمكته تماما!!!!!!….
ابتسامة خائنة ارتسمت على فمها المكتنز أخبرت شهاب أنها تشاطره ذات الذكرى، قال شهاب بابتسامة حانية:
– عامله ايه يا سلمى؟… ، قالت بهدوء بابتسامة صغيرة:
– الحمد لله، الرسالة ماشية تمام بعد ما كنت اتأخرت فيها شوية، وجددت طلب الاجازة لغاية ما الفترة الاولانية دي تعدي، ويعني… – وهزت كتفيها متابعة – كله ماشي الحمد لله…
لينظر اليها عميقا وهو يقول بصوت أجش:
– أنا بقه ما فيش حاجة ماشية عندي!… الشغل ما بقيتش عارف أروحه ولا عاوز أساسا، البيت معظم اليوم تقريبا وانا بره.. يا مع عزت صاحبي يا غيث في الكوخ بتاعه للي على أول البلد اللي قاعد فيه من يوم ما رجع مصر بعد ما طلّق سلافة، تقدري تقولي انه كل حاجة عندي واقفة.. حالي ومالي وكله.. دا حتى جدي اللي عمره ما عاتبني ولا لامني على حاجة وقفني قودامه زي العيّل الصغير يلومني ويعاتبني وهو لأول مرة أشوفه بالغضب دا كله مني أنا وغيث…
سلمى بتنهيدة عميقة:
– شهاب.. اللي حصل قاسي على الكل، أنا طبعا في الأول كنت متضايقة جدا من اللي حصل وانه كله كان من تخطيط وتنفيذ والدتك، لكن لما هديت لاقيت انه سلافة معاها حق!..
ليزدرد ريقه بصعوبة وهو يقول بريبة وشك:
– معها حق!!.. معها حق في ايه بالظبط؟…
سلمى بابتسامة حزن صغيرة:
– أنه والدتكم مهما عملت هتفضل والدتكم… اللي مش هتقبلوا عليها أي كلمة… ومهما حصل هتفضل الست اللي حاولت تخرب بيتي ونجحت انه اخوك يطلق أختي ومش بس كدا… لا… دي كرهت أمي لدرجة انها حاولت فعلا تقتلها!!.. تفتكر بعد كدا في احتمال ولو بسيط ان علاقتنا مع بعض تستمر؟!.
هتف بغضب:
– اللي بيننا ما اسمهاش علاقة.. اسمه جواااااز… ، ليقاطعه حضور النادل حاملا طعام الغذاء والذي انتظر شهاب بشق الأنفس حتى وضع الصحون على المائدة قبل أن ينصرف أو بمعنى أصح يصرفه شهاب بنزق بينما يسألهما بابتسامة هادئة عما إذا كان يطلبان شيئا آخر!!!..
نظرت سلمى اليه بعتب بعد انصراف النادل وقالت:
– ما كانش يصح اللي انت عملته دا، ذنبه ايه الجرسون تتكلم معاه بقرف كدا؟.. الراجل بيشوف شغله وبيسأل عاوزين حاجة تانية قول له لا وخلاص انما…
لينهرها مزمجرا:
– بقولك ايه يا سلمى هو ما جابكيش محامي له، سيبك منه دلوقتي وخلينا فينا احنا..
سلمى بزفرة عميقة:
– مافيش احنا يا شهاب.. خلاص مابقاش ينفع!!!..
ليكشر شهاب عن أنيابه قائلا:
– وايه اللي خلّاه ما ينفعش ان شاء الله؟… يا ترى فعلا عشان اللي انتي قلتيه دا ولا عشان البيه اللي شوفته معاكي امبارح انتي وسلافة؟!!!..
قطبت سلمى وتساءلت باستهجان:
– بيه مين؟….
شهاب بحدة وحنق:
– البيه اللي كان خرج معكم من المستشفى ووقف معاكي رغي وضحك، مين الراجل دا يا سلمى؟…
هتفت سلمى وقد فتحت عينيها على وسعهما:
– مين.. علاء؟!!!.. انت بتقول إيه؟!!…
أجاب ساخرا:
– هو المحروس اسمه علاء؟…
سلمى بحنق شديد:
– مش هتبطل اندفاع وتهور أبدا يا شهاب، دايما الفعل عندك سابق العقل، يعني بعد اللي حصل معنا دا كله وبردو انت زي ما انت!!!!!!!!..
وتناولت حقيبتها اليدوية الموضوعه على المائدة بجوارها وهمت بالوقوف حينما قبضت على يدها يده بقوة وهتف من بين أسنانه:
– أقسم بالله لو اتحركت خطوة واحده لا تشوفي العصبية والانفعال بجد يا سلمى…
انتبهت سلمى الى أنهما قد بدآ يلفتان الانظار فآثرت العودة الى مكانها وهي تتأفف بنزق وهتفت بغضب مكتوم:
– ممكن أعرف انت عاوز مني ايه بالظبط؟.. عاوز نتكلم فعلا ونصفي اللي بيننا ولا عاوز تعرف مين اللي كان واقف معانا؟…
هتف شهاب بصوت منخفض:
– افهمي.. انا لو كنت مندفع زي ما بتقولي كنت طبقت في رقبته على أضعف الايمان.. أو كنت قلت لغيث ييجي يشوف اللي بيحصل من وراه وهو على شعره من أختك.. ومش هكدب عليكي .. فير لحظة فكرت أقوله لكن في التانية غيرت رأيي.. سؤالي مالوش غير معنى واحد مين دا ؟.. خصوصا وانه كلامك دلوقتي عن اننا مينفعش نكمل مع بعض خصوصا وفيه طفل جاي في السكة يخليني أسأل نفسي.. ليه؟…
سلمى بأسف:
– بردو طبعك ما اتغيّرش… من أول أحمد الله يرحمه.. لغاية علاء… وفي النص بقه مرة كريم دا غير مامتك اللي كانت حافظاك وعارفة انه الشك فيك طبع فلعبت على كدا ونجحت للأسف لولا جدتي هي اللي هدّت الموضوع بيننا يومها، انت الشك دا في دمك يا شهاب، وانا آسفة.. أنا ممن أستحمل عصبية… انفعال.. أي حاجة.. إلّا الشكّ… دا الشي اللي مالوش علاج أبدا!!!!! .. عن إذنك!!…
وتناولت حقيبتها وانسحبت في هدوء وتركته يلاحق ظلها المبتعد وسكينة الأسى والغضب تحفر في نفسه عميقا!!!!!!!…
كانت تقف في انتظار سيارة أجرة عندما وقفت أمامها سيارة تعرفها جيدا وسمعت صوتا بداخلها يأمرها قائلا:
– اركبي!…. ، تجاهلته وأولته ظهرها لتسمع صوت صفق باب السايرة ثم فوجئت به أمامها يطالعها بنظرات غامضة وهو يهتف بها من بين أسنانه مشيرا الى سيارته:
– اركبي بدل ما أشيلك قودام الناس وأركّبك غصب عنك…
علمت بل وتأكدت الى وصوله الى أقصى درجات ضبط النفس، لتزفر في حنق وتصعد الى السيارة فأغلق الباب وراءها ثم صعد الى مقعد السائق قبل أن يدير المحرك منطلقا بأقصى سرعة!!..
وقف بمحاذاة كورنيش النيل، قال بصوت هادئ نسبيا:
– تعالي نتمشى شوية على الكورنيش، من الحاجات اللي كنت بحبها في مصر أيام ما كنت في الجامعه التمشية على الكورنيش، لما بكون غضبان أو متضايق كنت بقف هنا وأرمي همومي كلها في النيل، ياللا.. تعالي…
وترجل لتلحق به وهي تحاول تهدئة نفسها لترى ما نهاية هذا اليوم الطويل؟…
سارا سوية قليلا قبل أن يتوقفا لدى بائع كيزان الذرة المشوي، ليبتاع شهاب لهما اثنين، أعطاها أحدهما وانشغل بتناول الآخر، لم يكونا قد تناولا طعام الغذاء الذي اضطر شهاب لدفع ثمنه دون أن يهتم بتوضيح أي شيء للنادل المذهول، فقد كان مسرعا في اللحاق بسبب أرقه وانعدام راحته!!…
جلست جنبا الى جنب على المقاعد الحجرية المنتشرة بطول الكورنيش، كان شهاب هو من خرق الصمت بقوله :
– أنا… آسف…
لتلتفت برأسها اليه تطالعه بدهشة، فنظر اليها بدوره يتابع بصدق لمسته في نبرات صوته ورأته في عينيه:
– آسف… والله العظيم آسف، وعمري ما أشك فيكي، الموضوع مش شك أبدا الموضوع…
وسكت لتسأله بمرارة خفيفة:
– الموضوع إيه يا شهاب؟… ، ليقترب منها جالسا أقرب اليها ويجيبها وعينيه قد أسرتا عينيها ليضيع في غابات الزيتون خاصتها:
– جنان!!!… تقدري تقولي عليه.. جنان… غيرة جنونية زايدة… ما فيش عقل، أي حاجة.. انما شك… لا وألف لأ كمان.. ولو عاوزاني أحلف لك على مصحف أنا مستعد!!…
لم تستطع التصديق، هل من يجلس أمامها الآن يكاد يبكي بين يديها هو نفسه شهاب النزق الانفعالي الذي لا يقبل بأي كلمة ولو من بعيد تمس كرامته والذي كان يرى ان الرجل لا يذل نفسه لمرأته مهما بلغت درجة حبه لها؟!… انه يكاد يبكي لنيل مسمحتها!!، قالت بصوت متحشرج:
– شهاب اسمعني… احنا حصل بيننا حاجات كتير اووي، صدقني مهما حصل عمري ما حسيت بالندم لأي لحظة عشناها سوا، لكن للأسف الظروف اللي بتحطنا في مواجهات قاسية وعنيفة، لو فكرت معايا ورجعت فلاش باك لكل اللي مر بينا هتلاقي انه كلامي صح، وانه لو حد تاني في مكاني كان قال عليك شكّاك ومن الدرجة الاولى كمان، أنا مش بكدبك… انا بوضح لك وجهة نظري.. شهاب أفعالك هي اللي بتدي الانطباع عن شخصيتك للي حواليك، وللأسف كل ما اتكررت الأفعال دي كل ما الانطباع اترسخ عند اللي قودامك أكتر، ودا اللي حصل معايا يا شهاب، افتكر كدا من أول مرة خالص… – ثم ضحكت ضحكة خفيفة ساخرة وتابعت – دا حتى سبب ارتباطنا من الأساس خالص عشان كلام الناس!!!!!… يبقى بعد دا كله طبيعي جدا انه الشك يبقى شريك تالت لينا في شيء يربط بيننا…
قاطعها شهاب هاتفا بيأس:
– اللي بيننا مش شيء.. اللي بيننا حاجة مالهاش اسم، ما تتوصفش، حاجة أكبر من أي صفة… اسم واحد ممكن نقوله عليها وبردو مش هيوفيها حقها… اللي بيننا… عشق!!… عشق خام صافي، حب عمري ما عشته ولا في أحلامي حتى، يبقى لما ألاقيه لازم أمسك بيه بإيديا وأسناني، وأحارب أي حاجة أو أي حد ممكن يتسبب في أني أفقده، ودا اللي حصل لي، خوف يا سلمى… خوف من جوايا رهيب اني أخسرك… خوف كنت بداريه في غيرة مجنونة وعصبية زايدة، أيام الحادثة إياها كان خوفي عليكي وقلقي بينهشوني، وغيرة فوق الوصف، أنه قدر يخليكي تحسي من ناحيته ولو بالعطف، يفضل اسمه احساس منك لواحد تاني!!…. شيء كان بيموتني، تصدقي لو أقولك أني للحظة اتمنيت أني أكون أنا اللي فديتك بعمري كله!!!… أيوة يا سلمى ما تسغربيش كدا… يمكن أنا مش بعرف أتكلم الكلام بتاع الشباب اللي بيخلي الواحده تقوم تنام تحلم بيه، يمكن طبعي عصبي وانفعالي بزيادة، غيور ولساني سابق تفكيري، يمكن أنا كدا وأكتر كمان.. لكن اللي بيوصلني لمرحلة الجنوووون اني أحس ولو مجرد إحساس أني ممكن.. أخسرك!… بيخليني أتصرف خارج حدود العقل…. عشان كدا يوم كريم ما جه البلد وأمي قالت لي اتجننت.. رجل قريب منك ولو بكيلو متر واحد بيجنني، عارفك كويس أوي وعارف انتي مين ومش ممكن تعملي أي حاجة غلط، لكن غيرتي عليكي مالهاش عقل.. غيرة عامية مش بتشوف قودامها..
سلمى وقد ارتعشت شفتيها وغامت عينيها بغلالة من الدموع:
– كلن غيرتك دي قاسية أوي يا شهاب، بتخليني أفقد احترامي لنفسي، لما بجس بنظراتك ليا بالشك او حتى الريبة بتخليني أحس بمرارة فظيعة، أنه معقولة حبي ليك يوصلني أني أقبل الاهانة للدرجة دي؟.. أقبل شكك وغيرتك الفظيعه دي؟.. أقبل انك تصدق فيّا الخيانة لدرجة أنك تمد ايدك عليّا؟…. مش ممكن يا شهاب مش ممـ….
وانهارت مقاومتها وانسابت دموعها تغسل وجهها، ليسارع شهاب باحتواء وجهها بين راحتيه هاتفا بلوعة:
– سلمى حبيبتي عشان خاطري هدِّي نفسك، سلمى أنا ما استاهلش دموعك دي، صدقني يا سلمى، اتخانقي معايا، خاصميني ، اعملي اللي انتي عاوزاه.. لكن.. إلا دموعك يا سلمى!.. إلا دموعك يا حبيبتي!!…
رفعت عينيها إليه وقد هدأت نوبة بكائها بينما ابهاميه تمسحان وجنتيها لتفاجأ بدمعة وحيدة تناسب فوق…… وجنته هو!!!!!!! ، شهقت هاتفة بغير تصديق وهي تمد يدها تلمس وجهه الخشن:
– شـ.. شهاب… أنت… لا يا شهاب… لا…. اوعى أشوف دموعك دي تاني مرة… اوعى…
ولكنه لم ينصت اليها بل قال برجاء:
– مصدقاني يا سلمى؟.. مصدقة أنه مش شك، وانه أي حاجة غير أنه يكون شك؟.. وأني عشان انتي أكبر من اللي كنت بحلم بيها فحاسس اني في يوم هنام وأقوم ما ألاقيكيش جنبي، مصدقاني؟!..
لتبتسم من وسط دموعها قائلة:
– مصدقاكي انه مش شك… وانه…. جنوووون!!!..
لهمس لها وقد انتقلت عدوى الابتسام اليه:
– أعملك إيه….. مجنووووون سلمى!!!…
ضحكت بخفة، بينما طفق شهاب يمهل من عذب ملامحها ثم تلفت يمينا ويسارا وقال:
– عارفة المكان اللي احنا قاعدين فيه دا اسمه ايه؟..
أجابته باسمة:
– لا.. ايه؟…. ، أجابها بابتسامة :
– كوبري العشّاق!!!!…
نظرت اليه في ريبة وقالت:
– وانت عرفت منين انه اسمه كدا؟… شكلك كدا كنت من العشاق يا باش مهندس وانا معرفش!!!…
ابتسم شهاب ومال عليها هامسا أمام وجهها:
– بتغيري عليّا يا دكتورة قلبي؟…
حركت سلمى كتفيها بغرور وقالت:
– هاه… أغير ليه ان شاء الله؟… دي مش غيرة يا أستاذ…
ليتساءل مقطبا:
– مش غيرة؟… أومال تبقى ايه يا مدام؟…
سلمى بسخرية وهي تهز برأسها:
– تبقى شك يا جوز المدام!!!..
ونهضت واقفة فيما تسمر في مكانه لثوان قبل أن يقفز لاحقا بها وهو يناديها قائلا:
– شك.. خدي هنا!!!!!!!!..
وصلت الى السيارة قبله، لتستند الى حافتها وهي تلهث، لحق بها ووقف بجوارها يلهث بدوره قبل أن يهتف بها معنّفا بجدية زائفة:
– انتي مش المفروض حامل؟… تجري بالشكل دا وتجريني وراكي!!!…
سلمى بابتسامة واثقة:
– وانت زعلان عشان أنا جريت ولا عشان انت جريت ورايا؟…
مال عليها شهاب وقال:
– انا لو جريت وراكي عمري كله عمري ما أتعب ولا أزعل، اتفضلي بقه أدخلي العربية عشان شكلنا بقه مريب…
صعدت الى السيارة ولحق بها، لينطلقا في طريق العودة، وقبيل وصولهما الى وجهتهما قالت سلمى:
– شهاب انا عندي معاد مع الدكتورة انهرده.. تحب…
هتف بها بسعادة:
– أحب.. أحب أوي.. أحب جداااا.. أحب خالص!!..
جلسا في الاستراحة الملحقة بعيادة طبيبة النساء والولادة التي تتابع معها سلمى، وحين نادت المساعدة اسمها نهضت ثم نظرت الى شهاب قائلة بابتسامة:
– تيجي معايا؟… ، وهي تمد يدها اليه، فقبض على كفها الصغير الممدود اليه وقال بابتسامة وهو ينهض بدوره:
– معاكي يا حبيبتي، ودايما معاكي….
كانت سلمى ترقد فوق سرير الفحص، وكانت الطبيبة تضع الذراع المعدني لفحص حالة الجنين، قالت الطبيبة بابتسامة:
– ما شاء الله، الجنين بتاعنا حالته كويسة أوي، انتي كدا دخلت نص التالت تقريبا، نبضه ما شاء الله كويس..
ثم أدارت شاشة جهاز الأشعة اليها وهي تتابع:
– شوفي.. أهو …
لتدمع عينا سلمى وهي تنظر الى شاشة الجهاز، بينما سأل شهاب وقد افترشت ابتسامة واسعة وجهه الغير حليق:
– أنا مش شايف كويس يا دكتورة…
أشارت الطبيبة لنقطة صغيرة تنبض وقالت:
– أهو… دا الجنين… شهر ولا اتنين كدا بمشيئة الله ونقدر نعرف نوعه إيه…. ربنا يقومها بالسلامة….
خرجا من العيادة النسائية، لم ينطق شهاب بحرف واحد، مما أدهشها، سارع بادخالها الى السيارة ولحق بها لينطلق من فوره الى منزل عمه رؤوف، بعد وصولهما ركن السيارة في مكان مظلم، فقالت سلمى والتي تكلمت لأول مرة منذ خروجهما من العيادة فكلما حانت منها نظرة اليه كانت تراه زاما شفتيه كمن يحل مسألة مستعصية عليه:
– كنت ركنت في الجراج تحت يا شهاب انت عا… آآآآآآآآآه….
فقد باغتها باعتصارها بين أحضانه وسلبها أنفاسها بقبلة ضارية بينما تعتصر يديه جسدها حتى كاد يزهق روحها!!!!!!!!….
ابتعدت عنه بعد برهة وشفتيها منتفختين تحملان أثر هجومه الضاري عليهما، نظرت اليه في دهشة وقالت:
– شهاب…
ليقاطعها هاتفا بحرقة:
– ما عدتش قادر يا سلمى، والله ما عدت قادر أعيش بعيد عنك دقيقة واحده حتى، ارحميني، كل دقيقة بتعدي وانتي مش معايا بتكون سنة في بعدك، أنا مستعد لأي حاجة بس ترجعيلي..
سلمى بأسف:
– شهاب انت عارف انه صعب أرجع أعيش..
قاطعها بلهفة:
– عارف والله، اللي انتي عاوزاه أنا هعمله، مع ان ماما مش في البيت دلوقتي عندي خالي عدنان، لكن اللي تقولي عليه هعمله، حتى لو عاوزة اننا نعيش هنا في مصر أنا معنديش مانع..
سلمى بابتسامة متسائلة:
– بس انت شغلك في البلد؟..
شهاب بصدق:
– انتي عندي أهم من شغلي ومن أي حاجة تانية، انتي وابننا اللي جاي في السكة ان شاء الله…
ابتسمت سلمى وقالت:
– طيب تعالى نطلع دلوقتي وبعدين نتفق مع بابا، انت ناسي انك لازم تصفي معاه هو كمان كل حاجة؟…
فوافقها بحماس وترجلا من السيارة متجهان الى الأعلى.. الى عمه روؤف…
فرحت ألفت كثيرا بعودة المياه الى مجاريها بين ابنتها الكبرى وبني زوجها، وكانت فرحة سلافة بانتهاء أزمة شقيقتها الوحيدة كبيرة، وحينما قالت سلمى لها بهمس:
– عقبالك يا سولي، على فكرة بقه.. شهاب قاللي انه غيث من يوم ما كان عندنا هنا وهو قاعد في الكوخ بتاعه مش عاوز يرجع البيت، بيقول انه حالف ما يرجعش من غير مراته!!
وغمزتها بمكر لتقول سلافة ببرود مغيظ:
– والله!!.. طيب مبرووك مقدما، ربنا يوفقه في بنت الحلال اللي تستحمل… أمه!!!!!!!!
سلمى بعتاب:
– سلافة انتي عارفة انه أمهم دلوقتي ربنا يعافينا فقدت عقلها، دا غير انها اتكشفت قودام الكل، شهاب يقول لي انه سلسبيل رقدت فيها يومين لما عرفت وليث كان هيتجنن، اديلو فرصة تانية يا سلافة.. انتي أكتر واحده عارفة غيث بيحبك ازاي!!
هتفت سلافة راغبة في انهاء النقاش:
– بقولك ايه.. هو عشان انتي وجوزك رجعتوا لبعض يبقى خلاص؟.. طيب انتو فيه بينكم اللي يستاهل انكم تدوا بعض فرصة واتنين وتلاتة، ابنكم اللي جاي دا.. بصي.. انا ما اتعودتش أقلب في دفاتر قديمة…..
سلمى بتنهيدة عميقة:
– ربنا يهديلك الحال يا سلافة..
سلافة رغبة منها في تغيير دفة الحديث:
– بس انتى عجبتيني لما شهاب عرض انكم تعيشوا في مصر وانتى رفضت..
سلمى بجدية:
– طبعا كان لازم أرفض، شغله وحاله وكله هناك، دا غير ان جدي كان هيزعل جدا لو كنا عشنا هنا، فكرة الاستراحة اللي جنب المستوصف اللي هناك بصراحة نطيت في بالي، الاستراحة كبيرة اودتين نوم غير صالة كبيرة وحمامين ومطبخ، هعوز إيه اكتر من كدا؟..
سلافة بابتسامة:
– ربنا يروق بالكم..
قاطع حديثهما الهامس صوت شهاب الضاحك:
– عمي.. طيب أنا هاخد سلمى وأرجع امتى؟..
رؤوف بابتسامة:
– لما الاستراحة تجهز.. ولغاية ما دا يحصل..
هتف شهاب يقاطعه:
– الموضوع كله مش هياخد أسبوع، أنا هكلمهم في البلد، وبعد إذنم لغاية دا ما يحصل أنا هاخد سلمى وننزل في فندق..
قاطعته ألفت هاتفة في لوم:
– تنزل في فندق وبيت أبوها موجود؟..
شهاب باعتذار:
– لا والله يا مرات عمي ما أقصد.. انا قصدي فرصة نعمل شهر عسل تاني قبل البيه ما يشرّف!!..
وأشار الى بطنها، ليكون نصيبه لكمة خفيفة في كتفه ثم دفنت وجهها في ظهره وقد احمرت وجنتيها خجلا في حين تعالت الضحكات……
دلفا الى غرفتهما التي حجزها شهاب في الفندق ذو الخمس نجوم، وكان قد أصر أن ترافقه سلمى فهو لن يتركها للحظة واحدة بعد، أوصد شهاب الباب خلفهما واضعا حقيبتها الصغيرة جانبا والتي تحتوي على بعض الملابس اللازمة لها للفترة التي سيقضيانها بالفندق…
وقفت في منتصف الغرفة تدور بعينيها في أرجائها، ليأتي من خلفها ويحيط خصرها بذراعيه وهو يهمس في أذنها:
– وحشتيني…
ابتسمت واستندت برأسها الى صدره العريض وهمست:
– وانت كمان…
همس يسألها:
– جعانه أطلب عشا؟..
لتهز رأسها نفيا وتقول وهي مغمضة عينيها تستشعر دفء أنفاسه فوقها:
– لا… مش جعانه…
ليهنس في أذنها بعد أن قرص شحمتها بأسنانه:
– ولا أنا…. دا في مواضيع كتير جدا عاوز أحكيهالك… كلمة كلمة وحرف حرف…..
وهو يغمزها بمكر، فاحمر وجهها خجلا وضربته بخفة على يده، فأدارها أمامه ليحتويها بين ذراعيه مغيبا لها في عناق رقيق ليتحول تدريجيا الى آخر متطلب، ليتوها بعدها منفصلين عن واقعهما وقد ارتميا بين أحضان عالمهما الوردي!!..
************************** ************************** *****************
– انتي بتقولي ايه يا سلافة؟.. ازاي يعني فهميني؟…
هتفت سلمى بعبارتها بنزق وهي تحدث أختها بالهاتف، ليدخل اليها في نفس اللحظة شهاب، فأشارت له بيدها ملوحة، ثم قطبت وأعادت انتباهها الى سلافة هاتفة بحدة:
– سلافة بقولك ايه.. مش ناقصة جنان… بابا وماما موافقينك على كدا؟.. ايه؟.. يعني ايه حياتك انتي دي؟… انتي عارفة انه دا غلط؟.. سلافة لآخر مرة بقولك ما تصلحيش غلط بغلط أكبر منه.. ألو.. ألو….
ثم أبعدت الهاتف عن أذنها وهمست بيأس:
– قفلت السكة!!!!!!!!..
اقترب منها شهاب مقطبا وهي يقول بقلق:
– فيه ايه يا سلمى، صوتك جايب أخر العيادة بره.. حتى الواد مغاوري وانا داخل قال لي الدكتورة شكلها زعلان.. سلافة قالت لك ايه ضايقك بالشكل دا؟..
رفعت عينيها اليه وهتفت بقنوط وغيظ:
– سلافة زميل ليها عاوز يتقدم لها..
شهاب وهو يحرك كتفيه بعدم فهم قائلا:
– طيب إيه المشكـ…..؟!!!!!!
ليبتر عبارته ويفتح عيناه على وسعهما هاتفا بغير تصديق:
– اوعي تقولي انها…….
لتكمل عبارته وهي على وشك البكاء:
– وافقت… الغبية وافقت يا شهاب….
شهاب بحيرة عميقة:
– وافقت إزاي وهي لسه في العدة؟..
سلمى بيأس:
– قالت لي مش فاضل في العدة إلا إسبوعين… وهي مش هتتجوز دلوقتي يعني!!!!
شهاب وهو يتخيل ردة فعل غيث النارية والذي انقلب حاله من النقيض الى النقيض منذ طلاقه وسلافة:
– المصيبة مش في كدا، الكارثة لو غيث عرف!!!!!!!!
ليتبادلا النظرات وقد وصلت رسالة شهاب الى سلمى بوضوح… فإن كان شهاب فيه صفة الجنون بالنسبة لها.. فغيث هو الجنون ذاته بالنسبة لسلافة!!!!!!!!!!!..
– يتبع-
الحلقة (37) الجزء الثاني
دلفت الى الداخل ما ان فتحت لها الخادمة لتنطلق في خطوات مهرولة تتلهف لرؤية ولديّها و… أمها!!!..، اندهشت حالما صرّح لها ليث أن أمها لدى أبيه في المنزل، لجيبها على تساؤلها الذي لم يتعد عينيها بقوله أن أبوه من أصر على ذلك لمرض أمها الشديد، لتتقبل هذا التبرير غافلة عن السؤال الأهم.. أين أخويها وزجاتهما؟… بل كيف وافق والدها من البداية على أن تنتقل أمهم لدى شقيقها؟.. ولكن كان كل ما يهمها هو الاطمئنان على صحة والدتها والتي طمأنها ليث أنها تعاني من أعرض برد شديد!!!!…
كان ليث يلحق بها بخطواته السريعه وهو يشتم في سره فهو يكاد يجب قلقا مما سيحدث لها عندما تعرف… وحتما سوف تعرف!… ومع أنه قد اتخذ كافة الاحتياطات ليضمن ألا يتسرب أي خبر اليها عمّا جرى الى أن تصبح في حالة صحية أفضل يستطيع هو معها أن يخبرها بكل ما حدث، إلا أن حدسه الداخلي ينبئه بأنها ستعلم.. كيف لا يدري.. ولكنها طالما وطئت بقدميها نفس المكان الذي تمكث فيه والدتها فهي ستعلم، كن يريد ادخالها الى المصحة النفسية تماما كما أوصى الطبيب ولكن فاجأه والده بأن طلب من الطبيب إحضار ممرضة ملازمة لها فهو لن يرمي بشقيقته الى مستشفى الامراض العقلية طالما أن حالتها ليست من النوع الخطر بل نتاج صدمة عصبية شديدة، لذا فقد قرر علاجها بالمنزل تحت اشراف طبي على مدار الأربع وعشرين ساعة!!…
هتف بها وكانت قد وصلت الى غرفة الجلوس:
– سلسبيل.. ، ولكنها لم تنتظر واندفعت الى الداخل للسلام على عمها وعمتها واللذان قابلاها بحفاوة كبيرة، كانت لا تزال تحدث بسرور معهما حينما انطلقت كتلة بشرية صغيرة اليها لتنحني على ساقيها هاتفة بحب وهي تفتح ذراعيها:
– شبل!!! ، وتلقفته بين ذراعيها تضمه اليها وتقبله بكل حب وهي تستنشق رائحته الطفولية، ليلحق به شقيقه الأكبر وهو يخطو اليها بخطوات متلهفة فتنحني ترغب بحمله هو الآخر حينما يهتف بها ليث وهو يحمل عنها شبل بين ذراعيه تاركا الفرصة لعدنان للتنعم بأحضان والدته:
– واه… عتشيليهم التنييين؟!!!.. هاتي عنك الشبل…
واحتضن شبل مقبلا له، لترفع هي عدنان بين ذراعيها تشبعه قبلا وأحضانا…
لاحقا وبعد صعودها مع أطفالها الى غرفتهما حيث طلبت منها عمتها الخلود الى الراحة حتى يعين موعد الغداء رافضة رغبتها برؤية أمها التي تنام الآن بعد أن تناولت الدواء، فلا يجوز إقلاقها في نومها!!!!… وبينما رأى ليث ضرورة انصرافهم كي تنال قسطا من الراحة، أصرت هي على المكوث لرؤية أمها بعد أن تصحو، فما كان من ليث الا أن وافق وإن كان على مضض….
تركت طفليها يلهوان بألعابهما واتجهت الى خزانتهما وتحديدا الى صندوق موضوع أعلاها، لتجلب كرسيّا خشبيا وتقف عليه لتتناول الصندوق، جلست في زاوية بعيدة وهي تفتح الصندوق تتطلع الى محتواه بابتسامة شاردة، مدت يدها بتردد وقبل أن تلمس محتويات الصندوق قبضت عليها وسحبتها سريعا قبل أن تعيد غلق الصندوق ثانية وهي تهمس في نفسها:
– ماعنساكيش أبد يا ابن عمي… مكانك عيفضل جوّاتي وجوّات لعيال.. لكن اعذرني عمري ما فكِّرت واني ماراتك ولا عفكّر في غيره وأني امعاه… ليث عطاني كتيير جوي يا راضي.. ومش معنى كلامي ديه إني ممكن في يوم أنساك.. لاه… انت كان ليك يد في سلسبيل دلوك… سلسبيل اللي حبيتك وهي صبية بنت ستاشر سنة… وحبيت ليث وهي بنت تلات وعشرين سنة… بيننا عشره حلوه وعيال كيف الورد… الله يرحمك يا ولد عمي.. واطمّن علينا أنا ولعيال.. الليث عمريه ما عيفرّط في حدا منينا واصل….
ثم أعقبت كلماتها الخافتة بقراءة الفاتحة على روحه البريئة التي اغتيلت غدرا ليذهب صاحبها شهيدا على يد الخسة والحقارة، ليكسب هو آخرته ويخسر المجرم دنياه وآخرته….
أعادت الصندوق مكانه أعلى الخزانة، ثم التفتت تلاعب صغيريها حينما قال عدنان ببراءة طفولية:
– ماعاوزينش دوكة يا شبل، جدتي تعبانه…
داعبت سلسبيل شعر صغيرها وهي تقول بابتسامة:
– عفارم عليك يا عدنان، جدتك تعبانه وناميه ولمنّن تكون ناميه ما نجلجوهاش، دلوك لمّن تصحى عاخدكوم ونروحو نجعدوا امعاها اشويْ…
عدنان ببساطة:
– لاه.. احنا ما نجدروشي انروحو لجدتي، بوي عدنان وبوي ليث امنبّهين علينا ما نروحيش نواحيها واصل..
قطبت سلسبيل وسألته:
– ليه يا عدنان؟.. هي تعبانه جوي إكده؟…
حرك كتفيه علامة الجهل وأجاب بتلقائيته البريئة لا يعلم أنه يلقي بقنبلة من العيار الثقيل على والدته:
– ماعارفشي.. لكن اني سمعتهوم بيجولوا ان جدتي… اتجننت!!!!!…
لتتسمر سلسبيل في مكانها هتافة بذهول:
– إييييه؟…
ثم هبّت واقفة من مكانها وحينما لحق بها الولدان حاولت رسم ابتسامة صغيرة ولكنها فشلت بينما تقول:
– خليكو أهنه حبايبيْ.. اني رايحه أشوف حاجه وراجعالكو…
وانطلقت الى الليث…. فهناك أسئلة كثيرة تدور ببالها وحان الوقت لتعلم أجوبتها كاملا وأولها… هل فعلا جُنّت والدتها؟؟؟؟؟…..
زفر الليث بأسى وهو يقول بضيق:
– ما عارفشي لو سلسبيل عرفت عجولها إيه، كان لازمن اتدخلوها المصحة كيف ما جال الدّكتووور، اجعادها اهنه غلط… انتو داريين باللي عيجرى لو سلسبيل عُرفت؟… أني ما صدجت انها رجعت وجفت على رجليها من تاني…
عدنان بجدية لليث الذي يروح ويجيء في المكان تماما كالليث المحبوس:
– اهدى يا ليث يا ولدي مش إكده..
الليث بيأس:
– أهدى كيف يا أبويْ؟.. ، ليكمل بشراسة قوية:
– الله في سماه لومنّ انها عمتي وأم الغالية ما كان منعني عنها حاجه أو حد.. كنت بيدي – ليرفع قبضته أمامه هاتفا من بين أسنانه – جدرت أنجد الناس من شرّها…
قالت كريمة والدته وهي تشعر بحزن على حال ابنها وزوجته تلك الكنّة التي منذ أن دخلت منزلهم من أكثر من سبع سنوات وهي بمثابة الابنة لها:
– طب ما تجولها انت يا ليث بدل ما تِعرف من حدا اكده ولا اكده… عرّفها انت يا ولديْ..
ليهتف الليث بغضب قوي:
– أعرّفها ايه يا أماه؟.. أجولها إيه بالظبِّطْ؟.. أجولها ان أمك هي اللي سمَّتِكْ بعد ما كات رايده اتسمّ مرات اخوكي شهاب وجات فيكي بالغلط؟.. ولا ان امها كانت رايده تجتل مرات عمها لولا ان ربنا بعت لها سلافة بتّها في آخر لحظة؟!!!… ولا بلاش.. ايه رايكم أجولها ان امها السبب ان غيث ولد عمي ايطلج ماراته وشهاب ماراته اتفوته والعيلة كلاتها تتفركش من تحت راسها؟… أجولها انه آخرة المتمة أمها اتجننت وانها ممكن تدخل الصرايا الصفرا في أي وجت؟!… أجولها ايه ولا ايه.. حد يجولي؟!!!!!!…
لتأتيه الاجابة من خلفه.. بصوت ميّت لا روح فيه قالت صاحبته بخواء تام:
– ماعادلوش لزوم اتجولي حاجه بعد اكده يا ابن عمي.. كفايه اللي سمعته منيك دلوك!..
لفتح عينيه على وسعهما شاهقا بقوة قبل أن يلتفت اليها هاتفا اسمها بلوعة:
– سلسبيل!!!!….
طالعته بوجه شاحب كشحوب الموتى، اقترب منها بينما كانت تنقل نظراتها بينه وبين والديه اللذان أخفضا رأسهما حزنا وأسفا، وقف أمامها وم يديه ليقبض على كتفيها ليفاجأ بأنهما ترتعشان حتى أمسك بهما كتفيها جيدا ليقول محاولا تمالك أعصابه:
– سلسبيل اسمعيني زين.. أني ما…
لتقاطعه بعينين تذبحانه بنظرات الرجاء التي تطالعه بهم، همست بصوت مشروخ مذهول:
– اللي اني سمعته ديه حصل صوح؟.. أمي عِملت إكده فعلا؟.. هي السبب اني خسرت ولدي؟.. هي اللي خربت على خواتي وكل واحد فيهم ماراته فاتته؟.. هي… هي اتجننت صوح يا ليث؟…
حاول ضمّها بين ذراعيه لتدفعه وهي تصيح بهستيرية حيث انهارت مع آخر كلمة خرجت منها:
– جولي يا ابن عمي ديه صوح؟.. أمي أني عملت كل ديه؟.. ساكت ليه يا ليث اتكلّم وريّحْني…
ليهتف بها ليث بعد أن احتواها بقوة تفوق مقاومتها بمرّات وهو يحكم قبضته عليها كمن يخشى هروبها منه:
– اهدي يا سلسبيل.. اللي بتعمليه ديه عِفِشْ عشانك…
ضربته بقبضتيها الصغيرتين في صدره وهي تصيح بشهقات بكاء عالية بينما دموعها تغرق وجهها:
– مش امهم… لمهم أعرف الحجيجة… ريّحني يا ليث ربنا يّريّح جلبك… الحديت ديه صوح؟…
سكون ساد المكان بعد سؤالها الباكي الأخير، قطعه صوت ليث القوي، الباتر وهو يجيبها بكلمة واحدة… ولكنها صاااادمة:
– صوح!!!!!! ، لتنهار بين يديه وهي تصرخ عاليا بـ “لااااااااااا”، وهو يحاول احتوائها بين ذراعيه يكاد يبكي لبكائها الأقرب للنواح، انتبه بعد برهة أن والديه قد تركا لهما المكان، أبعدها عنه قليلا لتطالعه بعينين ذابلتين وهي تقول بهمس مسموع وأنف أحمر من شدة البكاء:
– عاوزه أشوفها يا ليث؟..، ليقطب في لحظتها وهو يهز برأسه بقوة رفضا في حين تابعت بشبه رجاء وتوسل:
– عشان خاطري يا ليث.. رايده أشوفها.. ديه مهما كان….. أمـ… أميّ!..
ونطقتها بتلعثم بطيء ولكنها لم تستطع سوى النطق بها وهي يرن في أذنها أن أمها أصبحت.. مجنونة!!! ، الليث بغلظة:
– لاه يا سلسبيل، أني ما أضمنشي عتملي إيه لمّن تشوفيها؟…
سلسبيل بهلفة:
– ماتخافيش يا ليث، بس.. أشوفها يا ليث.. بترجاك يا ولد عمي…
لينهرها الليث في حزم ولكن… حانٍ بقوله:
– اوعاكي… إياك تترجي أي حد حتى لو كنت أني… مارات الليث تؤمر.. ما تترجاشي!…
مسحت دموعها براحتيها فكانت أشبه بالاطفال، ليقبض على كفها بيده ويسحبه معه وقد استقر رأيه وهو يهتف بها:
– تعالي…
وسار معها حتى اتجها إلى غرفة في آخر الرواق من الجانب الشرقي، كانت تلك الناحية من المنزل متطرفة بعيدة عن سكانه، أوقفها أمام الغرفة قبل أن يطرق الباب فخرجت له ممرضة خمسينية العمر بعد أن حياها طلب منها أن تدع ابنة المريضة تراها، لتنظر اليه سلسبيل في رجاء قائلة:
– تعالى امعاي يا ليث..
وخطت بقدميها بتردد تقدم رجل وتؤخر أخرى، وحدها يد الليث المتشبثة بها ما تمنحها القوة، وقفت تطالع الجسد المستكين فوق الفراش في وسط الغرفة، تقدمت بوجل حتى اذا ما وقفت أمامها وطالعها وجهها شهقت واضعة يدها فوق فمها لتكتم شهقتها الحزينة، طالعتها بعينين مذهولاتان، فمن ترقد أمامها ليست بأي حال من الأحوال أمها!!.. ليست هي تلك السيدة القوية المتفاخرة دوما بنفسها وأولادها، ليست هي من لا يظهر عليها عمرها الحقيقي أبدا، فأمها كانت دائما تشع جمالا رغما عن مرور الزمن، أبعدت يدها عن فمها وانحنت تلمس وجنتها بقبلة رقيقة قبل أن تبتعد، لتفتح راوية عينيها بغتة فتصعق سلسبيل من تلك النظرة الزائغة التي طالعتها بها، ابتعدت سلسبيل الى الخلف لتصطدم بليث الذي كان خلفها.. دوما معها.. يحميها حتى من أقرب الناس إليها، جلست أمها في الفراش وطالعت سلسبيل والليث بنظرات مشوشة قبل أن تهتف ويه تشير اليهما باصبعها:
– انتوم مين ها؟.. جيتوا ليه؟.. ألفت باعتاكوم عشان تخلّصوا عليّ صوح؟.. لكن جولولها ديه بُعدها… أني اللي كسبت.. بناتها ورجعوا لها… وأني اخدت بتاري منيها… خدت حلمي زمان… جتلت حلم بناتها دلوك!!!!!!…
ثم أرجعت ظهرها الى مسند السرير خلفها وهي تتابع بابتسامة جذلى بينما تتراقص عينيها بنظرات مجنونة:
– أني اللي فزت… أني اللي فزت….
وتعالت ضحكاتها العالية الهستيرية، لتدلف الممرضة سريعا وتحضر الدواء لتكشف ذراعها وتحقنها به كل هذا تحت سمع وبصر سلسبيل الغير مصدقة مما يجري أمامها، لتهمس لليث بعدها وقد بدأت تشعر بدوار:
– الليث… خرِّجْني من إهنه!..
ليسارع بإخراجها وما أن أبصرت النور خارج غرفة أمها حتى وقعت أسيرة الظلام مرحبة به لتتلقفها ذراعي ليث وهو يهتف باسمها بلوعة قبل أن يبتلعها الظلام في بئره السحيق!!!!!!..
**************************
كانت تجلس الى حاسوبها تعمل على رسالتها حينما سمعت نغمة الرسائل في هاتفها المحمول، فرفعته حيث كان بجوار الحاسوب، فوجدت رسالة في صندوق الرسائل الواردة لتضغط على زر الفتح فتفاجأ بكلمات بسيطة ولكنها قوية في معناها، كان فحواها يقول:
– الوضع اللي احنا فيه دا غلط، لازم حل، هستناكي بكرة في….. عشان لازم نتكلم..
أعادت قراءتها مرارا وتكرارا، لقد ذكر اسم مطعم قريب من محل سكنها، قطبت في استغراب، لما لا يأتي اليها في منزل والدها ليتكلما؟.. لما اختار مكانا آخر؟.. وكأنه يقرأ أفكارها اذ سرعان ما سمعت نغمة تدل على وصول رسالة أخرى فسارعت لفتحها ليطالعها جواب سؤالها:
– عارف انتي اكيد مستغربة ليه ماجتش البيت عندكم.. لكن انا عاوز أتكلم معاكي لوحدينا.. دي حياتنا أنا وأنت وطفل جاي في السكة.. وأعتقد ان احنا الاتنين ناضجين كفاية اننا تقدر نحل مشاكلنا من غير تدخل من أي حد مع احترامي للجميع…
عضت على شفتها وشردت وهي تفكر” هل تذهب في الموعد أم تصر على أن يكون اللقاء ببيت والدها؟!!!”….
في اليوم التالي كانت تدخل الى المطعم حيث طلب منها شهاب موافاته، لم تخبر سوى سلافة فقط بمقابلتها له واكتفت بأن بررت نزولها لرغبتها في الترويح عن نفسها قليلا…
تنقلت بعينيها بين الموجودين بعد ان اعتادت عيناها على المكان حيث الاضاءة الخافتة تتنافى مع ضوء الشمس المبهر بالخارج، لتعثر عيناها في الآخر على ضالتها حيث كان يجلس الى مائدة منزوية، كانت هي أول من انتبه اليه، لتقودها قدماها بدون وعي اليه، بينما كان ينظر حوله ليسقط بصره عليها فيقف بدون ارادة منها وهو يتشرب ملامحها وكامل هيئتها التي كلما اقتربت منه زادت وضوحا، حتى اقتربت منه فوقفت مقابلة له فكان هو أول من تحدث بحشرجة خفيفة قائلا:
– أزيك يا سلمى….، ثم أشار لها بالجلوس فجلست يتبعها هو في الممقعد المواجه لها، حضر النادل لتسجيل طلباتهما، فنظر الى سلمى بتساؤل لتجيب الأخيرة بهدوء لا تشعر به حيث كامل جسدها ينتفض اضطرابا:
– أي عصير فريش….
قال شهاب وعيناه مسلطتان عليها:
– دا وقت غدا… أعتقد نتغدى الأول…. ، وبدون أن ينتظر سماع جوابها أملى على النادل طلباتهما لتفاجأ بأنه لم ينسى طعامها المفضل من السمك المشوي وحساء فواكه البحر، ليطلب لنفسه شرائح اللحم المشوية بدلا من السمك، ما ان انصرف النادل حتى مال تجاهها وقال بابتسامة صغيرة:
– خفت أطلب سمك ليّا وألوص بعد كدا فيه، انتي عارفاني مبعرفش أفصص السمك!!…
لتشرد في ذاك اليوم.. حيث دعاهما والد كريم الى الغذاء والذي كان عبارة عن السمك حيث اندهشت بادئ الامر من عدم تناول شهاب لطعامه لتعلم بعد ذلك انه لن يستطيع فصل اللحم عن العظام الرقيقة فتقوم هي بالمهمة ليجهز على سمكته تماما!!!!!!….
ابتسامة خائنة ارتسمت على فمها المكتنز أخبرت شهاب أنها تشاطره ذات الذكرى، قال شهاب بابتسامة حانية:
– عامله ايه يا سلمى؟… ، قالت بهدوء بابتسامة صغيرة:
– الحمد لله، الرسالة ماشية تمام بعد ما كنت اتأخرت فيها شوية، وجددت طلب الاجازة لغاية ما الفترة الاولانية دي تعدي، ويعني… – وهزت كتفيها متابعة – كله ماشي الحمد لله…
لينظر اليها عميقا وهو يقول بصوت أجش:
– أنا بقه ما فيش حاجة ماشية عندي!… الشغل ما بقيتش عارف أروحه ولا عاوز أساسا، البيت معظم اليوم تقريبا وانا بره.. يا مع عزت صاحبي يا غيث في الكوخ بتاعه للي على أول البلد اللي قاعد فيه من يوم ما رجع مصر بعد ما طلّق سلافة، تقدري تقولي انه كل حاجة عندي واقفة.. حالي ومالي وكله.. دا حتى جدي اللي عمره ما عاتبني ولا لامني على حاجة وقفني قودامه زي العيّل الصغير يلومني ويعاتبني وهو لأول مرة أشوفه بالغضب دا كله مني أنا وغيث…
سلمى بتنهيدة عميقة:
– شهاب.. اللي حصل قاسي على الكل، أنا طبعا في الأول كنت متضايقة جدا من اللي حصل وانه كله كان من تخطيط وتنفيذ والدتك، لكن لما هديت لاقيت انه سلافة معاها حق!..
ليزدرد ريقه بصعوبة وهو يقول بريبة وشك:
– معها حق!!.. معها حق في ايه بالظبط؟…
سلمى بابتسامة حزن صغيرة:
– أنه والدتكم مهما عملت هتفضل والدتكم… اللي مش هتقبلوا عليها أي كلمة… ومهما حصل هتفضل الست اللي حاولت تخرب بيتي ونجحت انه اخوك يطلق أختي ومش بس كدا… لا… دي كرهت أمي لدرجة انها حاولت فعلا تقتلها!!.. تفتكر بعد كدا في احتمال ولو بسيط ان علاقتنا مع بعض تستمر؟!.
هتف بغضب:
– اللي بيننا ما اسمهاش علاقة.. اسمه جواااااز… ، ليقاطعه حضور النادل حاملا طعام الغذاء والذي انتظر شهاب بشق الأنفس حتى وضع الصحون على المائدة قبل أن ينصرف أو بمعنى أصح يصرفه شهاب بنزق بينما يسألهما بابتسامة هادئة عما إذا كان يطلبان شيئا آخر!!!..
نظرت سلمى اليه بعتب بعد انصراف النادل وقالت:
– ما كانش يصح اللي انت عملته دا، ذنبه ايه الجرسون تتكلم معاه بقرف كدا؟.. الراجل بيشوف شغله وبيسأل عاوزين حاجة تانية قول له لا وخلاص انما…
لينهرها مزمجرا:
– بقولك ايه يا سلمى هو ما جابكيش محامي له، سيبك منه دلوقتي وخلينا فينا احنا..
سلمى بزفرة عميقة:
– مافيش احنا يا شهاب.. خلاص مابقاش ينفع!!!..
ليكشر شهاب عن أنيابه قائلا:
– وايه اللي خلّاه ما ينفعش ان شاء الله؟… يا ترى فعلا عشان اللي انتي قلتيه دا ولا عشان البيه اللي شوفته معاكي امبارح انتي وسلافة؟!!!..
قطبت سلمى وتساءلت باستهجان:
– بيه مين؟….
شهاب بحدة وحنق:
– البيه اللي كان خرج معكم من المستشفى ووقف معاكي رغي وضحك، مين الراجل دا يا سلمى؟…
هتفت سلمى وقد فتحت عينيها على وسعهما:
– مين.. علاء؟!!!.. انت بتقول إيه؟!!…
أجاب ساخرا:
– هو المحروس اسمه علاء؟…
سلمى بحنق شديد:
– مش هتبطل اندفاع وتهور أبدا يا شهاب، دايما الفعل عندك سابق العقل، يعني بعد اللي حصل معنا دا كله وبردو انت زي ما انت!!!!!!!!..
وتناولت حقيبتها اليدوية الموضوعه على المائدة بجوارها وهمت بالوقوف حينما قبضت على يدها يده بقوة وهتف من بين أسنانه:
– أقسم بالله لو اتحركت خطوة واحده لا تشوفي العصبية والانفعال بجد يا سلمى…
انتبهت سلمى الى أنهما قد بدآ يلفتان الانظار فآثرت العودة الى مكانها وهي تتأفف بنزق وهتفت بغضب مكتوم:
– ممكن أعرف انت عاوز مني ايه بالظبط؟.. عاوز نتكلم فعلا ونصفي اللي بيننا ولا عاوز تعرف مين اللي كان واقف معانا؟…
هتف شهاب بصوت منخفض:
– افهمي.. انا لو كنت مندفع زي ما بتقولي كنت طبقت في رقبته على أضعف الايمان.. أو كنت قلت لغيث ييجي يشوف اللي بيحصل من وراه وهو على شعره من أختك.. ومش هكدب عليكي .. فير لحظة فكرت أقوله لكن في التانية غيرت رأيي.. سؤالي مالوش غير معنى واحد مين دا ؟.. خصوصا وانه كلامك دلوقتي عن اننا مينفعش نكمل مع بعض خصوصا وفيه طفل جاي في السكة يخليني أسأل نفسي.. ليه؟…
سلمى بأسف:
– بردو طبعك ما اتغيّرش… من أول أحمد الله يرحمه.. لغاية علاء… وفي النص بقه مرة كريم دا غير مامتك اللي كانت حافظاك وعارفة انه الشك فيك طبع فلعبت على كدا ونجحت للأسف لولا جدتي هي اللي هدّت الموضوع بيننا يومها، انت الشك دا في دمك يا شهاب، وانا آسفة.. أنا ممن أستحمل عصبية… انفعال.. أي حاجة.. إلّا الشكّ… دا الشي اللي مالوش علاج أبدا!!!!! .. عن إذنك!!…
وتناولت حقيبتها وانسحبت في هدوء وتركته يلاحق ظلها المبتعد وسكينة الأسى والغضب تحفر في نفسه عميقا!!!!!!!…
كانت تقف في انتظار سيارة أجرة عندما وقفت أمامها سيارة تعرفها جيدا وسمعت صوتا بداخلها يأمرها قائلا:
– اركبي!…. ، تجاهلته وأولته ظهرها لتسمع صوت صفق باب السايرة ثم فوجئت به أمامها يطالعها بنظرات غامضة وهو يهتف بها من بين أسنانه مشيرا الى سيارته:
– اركبي بدل ما أشيلك قودام الناس وأركّبك غصب عنك…
علمت بل وتأكدت الى وصوله الى أقصى درجات ضبط النفس، لتزفر في حنق وتصعد الى السيارة فأغلق الباب وراءها ثم صعد الى مقعد السائق قبل أن يدير المحرك منطلقا بأقصى سرعة!!..
وقف بمحاذاة كورنيش النيل، قال بصوت هادئ نسبيا:
– تعالي نتمشى شوية على الكورنيش، من الحاجات اللي كنت بحبها في مصر أيام ما كنت في الجامعه التمشية على الكورنيش، لما بكون غضبان أو متضايق كنت بقف هنا وأرمي همومي كلها في النيل، ياللا.. تعالي…
وترجل لتلحق به وهي تحاول تهدئة نفسها لترى ما نهاية هذا اليوم الطويل؟…
سارا سوية قليلا قبل أن يتوقفا لدى بائع كيزان الذرة المشوي، ليبتاع شهاب لهما اثنين، أعطاها أحدهما وانشغل بتناول الآخر، لم يكونا قد تناولا طعام الغذاء الذي اضطر شهاب لدفع ثمنه دون أن يهتم بتوضيح أي شيء للنادل المذهول، فقد كان مسرعا في اللحاق بسبب أرقه وانعدام راحته!!…
جلست جنبا الى جنب على المقاعد الحجرية المنتشرة بطول الكورنيش، كان شهاب هو من خرق الصمت بقوله :
– أنا… آسف…
لتلتفت برأسها اليه تطالعه بدهشة، فنظر اليها بدوره يتابع بصدق لمسته في نبرات صوته ورأته في عينيه:
– آسف… والله العظيم آسف، وعمري ما أشك فيكي، الموضوع مش شك أبدا الموضوع…
وسكت لتسأله بمرارة خفيفة:
– الموضوع إيه يا شهاب؟… ، ليقترب منها جالسا أقرب اليها ويجيبها وعينيه قد أسرتا عينيها ليضيع في غابات الزيتون خاصتها:
– جنان!!!… تقدري تقولي عليه.. جنان… غيرة جنونية زايدة… ما فيش عقل، أي حاجة.. انما شك… لا وألف لأ كمان.. ولو عاوزاني أحلف لك على مصحف أنا مستعد!!…
لم تستطع التصديق، هل من يجلس أمامها الآن يكاد يبكي بين يديها هو نفسه شهاب النزق الانفعالي الذي لا يقبل بأي كلمة ولو من بعيد تمس كرامته والذي كان يرى ان الرجل لا يذل نفسه لمرأته مهما بلغت درجة حبه لها؟!… انه يكاد يبكي لنيل مسمحتها!!، قالت بصوت متحشرج:
– شهاب اسمعني… احنا حصل بيننا حاجات كتير اووي، صدقني مهما حصل عمري ما حسيت بالندم لأي لحظة عشناها سوا، لكن للأسف الظروف اللي بتحطنا في مواجهات قاسية وعنيفة، لو فكرت معايا ورجعت فلاش باك لكل اللي مر بينا هتلاقي انه كلامي صح، وانه لو حد تاني في مكاني كان قال عليك شكّاك ومن الدرجة الاولى كمان، أنا مش بكدبك… انا بوضح لك وجهة نظري.. شهاب أفعالك هي اللي بتدي الانطباع عن شخصيتك للي حواليك، وللأسف كل ما اتكررت الأفعال دي كل ما الانطباع اترسخ عند اللي قودامك أكتر، ودا اللي حصل معايا يا شهاب، افتكر كدا من أول مرة خالص… – ثم ضحكت ضحكة خفيفة ساخرة وتابعت – دا حتى سبب ارتباطنا من الأساس خالص عشان كلام الناس!!!!!… يبقى بعد دا كله طبيعي جدا انه الشك يبقى شريك تالت لينا في شيء يربط بيننا…
قاطعها شهاب هاتفا بيأس:
– اللي بيننا مش شيء.. اللي بيننا حاجة مالهاش اسم، ما تتوصفش، حاجة أكبر من أي صفة… اسم واحد ممكن نقوله عليها وبردو مش هيوفيها حقها… اللي بيننا… عشق!!… عشق خام صافي، حب عمري ما عشته ولا في أحلامي حتى، يبقى لما ألاقيه لازم أمسك بيه بإيديا وأسناني، وأحارب أي حاجة أو أي حد ممكن يتسبب في أني أفقده، ودا اللي حصل لي، خوف يا سلمى… خوف من جوايا رهيب اني أخسرك… خوف كنت بداريه في غيرة مجنونة وعصبية زايدة، أيام الحادثة إياها كان خوفي عليكي وقلقي بينهشوني، وغيرة فوق الوصف، أنه قدر يخليكي تحسي من ناحيته ولو بالعطف، يفضل اسمه احساس منك لواحد تاني!!…. شيء كان بيموتني، تصدقي لو أقولك أني للحظة اتمنيت أني أكون أنا اللي فديتك بعمري كله!!!… أيوة يا سلمى ما تسغربيش كدا… يمكن أنا مش بعرف أتكلم الكلام بتاع الشباب اللي بيخلي الواحده تقوم تنام تحلم بيه، يمكن طبعي عصبي وانفعالي بزيادة، غيور ولساني سابق تفكيري، يمكن أنا كدا وأكتر كمان.. لكن اللي بيوصلني لمرحلة الجنوووون اني أحس ولو مجرد إحساس أني ممكن.. أخسرك!… بيخليني أتصرف خارج حدود العقل…. عشان كدا يوم كريم ما جه البلد وأمي قالت لي اتجننت.. رجل قريب منك ولو بكيلو متر واحد بيجنني، عارفك كويس أوي وعارف انتي مين ومش ممكن تعملي أي حاجة غلط، لكن غيرتي عليكي مالهاش عقل.. غيرة عامية مش بتشوف قودامها..
سلمى وقد ارتعشت شفتيها وغامت عينيها بغلالة من الدموع:
– كلن غيرتك دي قاسية أوي يا شهاب، بتخليني أفقد احترامي لنفسي، لما بجس بنظراتك ليا بالشك او حتى الريبة بتخليني أحس بمرارة فظيعة، أنه معقولة حبي ليك يوصلني أني أقبل الاهانة للدرجة دي؟.. أقبل شكك وغيرتك الفظيعه دي؟.. أقبل انك تصدق فيّا الخيانة لدرجة أنك تمد ايدك عليّا؟…. مش ممكن يا شهاب مش ممـ….
وانهارت مقاومتها وانسابت دموعها تغسل وجهها، ليسارع شهاب باحتواء وجهها بين راحتيه هاتفا بلوعة:
– سلمى حبيبتي عشان خاطري هدِّي نفسك، سلمى أنا ما استاهلش دموعك دي، صدقني يا سلمى، اتخانقي معايا، خاصميني ، اعملي اللي انتي عاوزاه.. لكن.. إلا دموعك يا سلمى!.. إلا دموعك يا حبيبتي!!…
رفعت عينيها إليه وقد هدأت نوبة بكائها بينما ابهاميه تمسحان وجنتيها لتفاجأ بدمعة وحيدة تناسب فوق…… وجنته هو!!!!!!! ، شهقت هاتفة بغير تصديق وهي تمد يدها تلمس وجهه الخشن:
– شـ.. شهاب… أنت… لا يا شهاب… لا…. اوعى أشوف دموعك دي تاني مرة… اوعى…
ولكنه لم ينصت اليها بل قال برجاء:
– مصدقاني يا سلمى؟.. مصدقة أنه مش شك، وانه أي حاجة غير أنه يكون شك؟.. وأني عشان انتي أكبر من اللي كنت بحلم بيها فحاسس اني في يوم هنام وأقوم ما ألاقيكيش جنبي، مصدقاني؟!..
لتبتسم من وسط دموعها قائلة:
– مصدقاكي انه مش شك… وانه…. جنوووون!!!..
لهمس لها وقد انتقلت عدوى الابتسام اليه:
– أعملك إيه….. مجنووووون سلمى!!!…
ضحكت بخفة، بينما طفق شهاب يمهل من عذب ملامحها ثم تلفت يمينا ويسارا وقال:
– عارفة المكان اللي احنا قاعدين فيه دا اسمه ايه؟..
أجابته باسمة:
– لا.. ايه؟…. ، أجابها بابتسامة :
– كوبري العشّاق!!!!…
نظرت اليه في ريبة وقالت:
– وانت عرفت منين انه اسمه كدا؟… شكلك كدا كنت من العشاق يا باش مهندس وانا معرفش!!!…
ابتسم شهاب ومال عليها هامسا أمام وجهها:
– بتغيري عليّا يا دكتورة قلبي؟…
حركت سلمى كتفيها بغرور وقالت:
– هاه… أغير ليه ان شاء الله؟… دي مش غيرة يا أستاذ…
ليتساءل مقطبا:
– مش غيرة؟… أومال تبقى ايه يا مدام؟…
سلمى بسخرية وهي تهز برأسها:
– تبقى شك يا جوز المدام!!!..
ونهضت واقفة فيما تسمر في مكانه لثوان قبل أن يقفز لاحقا بها وهو يناديها قائلا:
– شك.. خدي هنا!!!!!!!!..
وصلت الى السيارة قبله، لتستند الى حافتها وهي تلهث، لحق بها ووقف بجوارها يلهث بدوره قبل أن يهتف بها معنّفا بجدية زائفة:
– انتي مش المفروض حامل؟… تجري بالشكل دا وتجريني وراكي!!!…
سلمى بابتسامة واثقة:
– وانت زعلان عشان أنا جريت ولا عشان انت جريت ورايا؟…
مال عليها شهاب وقال:
– انا لو جريت وراكي عمري كله عمري ما أتعب ولا أزعل، اتفضلي بقه أدخلي العربية عشان شكلنا بقه مريب…
صعدت الى السيارة ولحق بها، لينطلقا في طريق العودة، وقبيل وصولهما الى وجهتهما قالت سلمى:
– شهاب انا عندي معاد مع الدكتورة انهرده.. تحب…
هتف بها بسعادة:
– أحب.. أحب أوي.. أحب جداااا.. أحب خالص!!..
جلسا في الاستراحة الملحقة بعيادة طبيبة النساء والولادة التي تتابع معها سلمى، وحين نادت المساعدة اسمها نهضت ثم نظرت الى شهاب قائلة بابتسامة:
– تيجي معايا؟… ، وهي تمد يدها اليه، فقبض على كفها الصغير الممدود اليه وقال بابتسامة وهو ينهض بدوره:
– معاكي يا حبيبتي، ودايما معاكي….
كانت سلمى ترقد فوق سرير الفحص، وكانت الطبيبة تضع الذراع المعدني لفحص حالة الجنين، قالت الطبيبة بابتسامة:
– ما شاء الله، الجنين بتاعنا حالته كويسة أوي، انتي كدا دخلت نص التالت تقريبا، نبضه ما شاء الله كويس..
ثم أدارت شاشة جهاز الأشعة اليها وهي تتابع:
– شوفي.. أهو …
لتدمع عينا سلمى وهي تنظر الى شاشة الجهاز، بينما سأل شهاب وقد افترشت ابتسامة واسعة وجهه الغير حليق:
– أنا مش شايف كويس يا دكتورة…
أشارت الطبيبة لنقطة صغيرة تنبض وقالت:
– أهو… دا الجنين… شهر ولا اتنين كدا بمشيئة الله ونقدر نعرف نوعه إيه…. ربنا يقومها بالسلامة….
خرجا من العيادة النسائية، لم ينطق شهاب بحرف واحد، مما أدهشها، سارع بادخالها الى السيارة ولحق بها لينطلق من فوره الى منزل عمه رؤوف، بعد وصولهما ركن السيارة في مكان مظلم، فقالت سلمى والتي تكلمت لأول مرة منذ خروجهما من العيادة فكلما حانت منها نظرة اليه كانت تراه زاما شفتيه كمن يحل مسألة مستعصية عليه:
– كنت ركنت في الجراج تحت يا شهاب انت عا… آآآآآآآآآه….
فقد باغتها باعتصارها بين أحضانه وسلبها أنفاسها بقبلة ضارية بينما تعتصر يديه جسدها حتى كاد يزهق روحها!!!!!!!!….
ابتعدت عنه بعد برهة وشفتيها منتفختين تحملان أثر هجومه الضاري عليهما، نظرت اليه في دهشة وقالت:
– شهاب…
ليقاطعها هاتفا بحرقة:
– ما عدتش قادر يا سلمى، والله ما عدت قادر أعيش بعيد عنك دقيقة واحده حتى، ارحميني، كل دقيقة بتعدي وانتي مش معايا بتكون سنة في بعدك، أنا مستعد لأي حاجة بس ترجعيلي..
سلمى بأسف:
– شهاب انت عارف انه صعب أرجع أعيش..
قاطعها بلهفة:
– عارف والله، اللي انتي عاوزاه أنا هعمله، مع ان ماما مش في البيت دلوقتي عندي خالي عدنان، لكن اللي تقولي عليه هعمله، حتى لو عاوزة اننا نعيش هنا في مصر أنا معنديش مانع..
سلمى بابتسامة متسائلة:
– بس انت شغلك في البلد؟..
شهاب بصدق:
– انتي عندي أهم من شغلي ومن أي حاجة تانية، انتي وابننا اللي جاي في السكة ان شاء الله…
ابتسمت سلمى وقالت:
– طيب تعالى نطلع دلوقتي وبعدين نتفق مع بابا، انت ناسي انك لازم تصفي معاه هو كمان كل حاجة؟…
فوافقها بحماس وترجلا من السيارة متجهان الى الأعلى.. الى عمه روؤف…
فرحت ألفت كثيرا بعودة المياه الى مجاريها بين ابنتها الكبرى وبني زوجها، وكانت فرحة سلافة بانتهاء أزمة شقيقتها الوحيدة كبيرة، وحينما قالت سلمى لها بهمس:
– عقبالك يا سولي، على فكرة بقه.. شهاب قاللي انه غيث من يوم ما كان عندنا هنا وهو قاعد في الكوخ بتاعه مش عاوز يرجع البيت، بيقول انه حالف ما يرجعش من غير مراته!!
وغمزتها بمكر لتقول سلافة ببرود مغيظ:
– والله!!.. طيب مبرووك مقدما، ربنا يوفقه في بنت الحلال اللي تستحمل… أمه!!!!!!!!
سلمى بعتاب:
– سلافة انتي عارفة انه أمهم دلوقتي ربنا يعافينا فقدت عقلها، دا غير انها اتكشفت قودام الكل، شهاب يقول لي انه سلسبيل رقدت فيها يومين لما عرفت وليث كان هيتجنن، اديلو فرصة تانية يا سلافة.. انتي أكتر واحده عارفة غيث بيحبك ازاي!!
هتفت سلافة راغبة في انهاء النقاش:
– بقولك ايه.. هو عشان انتي وجوزك رجعتوا لبعض يبقى خلاص؟.. طيب انتو فيه بينكم اللي يستاهل انكم تدوا بعض فرصة واتنين وتلاتة، ابنكم اللي جاي دا.. بصي.. انا ما اتعودتش أقلب في دفاتر قديمة…..
سلمى بتنهيدة عميقة:
– ربنا يهديلك الحال يا سلافة..
سلافة رغبة منها في تغيير دفة الحديث:
– بس انتى عجبتيني لما شهاب عرض انكم تعيشوا في مصر وانتى رفضت..
سلمى بجدية:
– طبعا كان لازم أرفض، شغله وحاله وكله هناك، دا غير ان جدي كان هيزعل جدا لو كنا عشنا هنا، فكرة الاستراحة اللي جنب المستوصف اللي هناك بصراحة نطيت في بالي، الاستراحة كبيرة اودتين نوم غير صالة كبيرة وحمامين ومطبخ، هعوز إيه اكتر من كدا؟..
سلافة بابتسامة:
– ربنا يروق بالكم..
قاطع حديثهما الهامس صوت شهاب الضاحك:
– عمي.. طيب أنا هاخد سلمى وأرجع امتى؟..
رؤوف بابتسامة:
– لما الاستراحة تجهز.. ولغاية ما دا يحصل..
هتف شهاب يقاطعه:
– الموضوع كله مش هياخد أسبوع، أنا هكلمهم في البلد، وبعد إذنم لغاية دا ما يحصل أنا هاخد سلمى وننزل في فندق..
قاطعته ألفت هاتفة في لوم:
– تنزل في فندق وبيت أبوها موجود؟..
شهاب باعتذار:
– لا والله يا مرات عمي ما أقصد.. انا قصدي فرصة نعمل شهر عسل تاني قبل البيه ما يشرّف!!..
وأشار الى بطنها، ليكون نصيبه لكمة خفيفة في كتفه ثم دفنت وجهها في ظهره وقد احمرت وجنتيها خجلا في حين تعالت الضحكات……
دلفا الى غرفتهما التي حجزها شهاب في الفندق ذو الخمس نجوم، وكان قد أصر أن ترافقه سلمى فهو لن يتركها للحظة واحدة بعد، أوصد شهاب الباب خلفهما واضعا حقيبتها الصغيرة جانبا والتي تحتوي على بعض الملابس اللازمة لها للفترة التي سيقضيانها بالفندق…
وقفت في منتصف الغرفة تدور بعينيها في أرجائها، ليأتي من خلفها ويحيط خصرها بذراعيه وهو يهمس في أذنها:
– وحشتيني…
ابتسمت واستندت برأسها الى صدره العريض وهمست:
– وانت كمان…
همس يسألها:
– جعانه أطلب عشا؟..
لتهز رأسها نفيا وتقول وهي مغمضة عينيها تستشعر دفء أنفاسه فوقها:
– لا… مش جعانه…
ليهنس في أذنها بعد أن قرص شحمتها بأسنانه:
– ولا أنا…. دا في مواضيع كتير جدا عاوز أحكيهالك… كلمة كلمة وحرف حرف…..
وهو يغمزها بمكر، فاحمر وجهها خجلا وضربته بخفة على يده، فأدارها أمامه ليحتويها بين ذراعيه مغيبا لها في عناق رقيق ليتحول تدريجيا الى آخر متطلب، ليتوها بعدها منفصلين عن واقعهما وقد ارتميا بين أحضان عالمهما الوردي!!..
**************************
– انتي بتقولي ايه يا سلافة؟.. ازاي يعني فهميني؟…
هتفت سلمى بعبارتها بنزق وهي تحدث أختها بالهاتف، ليدخل اليها في نفس اللحظة شهاب، فأشارت له بيدها ملوحة، ثم قطبت وأعادت انتباهها الى سلافة هاتفة بحدة:
– سلافة بقولك ايه.. مش ناقصة جنان… بابا وماما موافقينك على كدا؟.. ايه؟.. يعني ايه حياتك انتي دي؟… انتي عارفة انه دا غلط؟.. سلافة لآخر مرة بقولك ما تصلحيش غلط بغلط أكبر منه.. ألو.. ألو….
ثم أبعدت الهاتف عن أذنها وهمست بيأس:
– قفلت السكة!!!!!!!!..
اقترب منها شهاب مقطبا وهي يقول بقلق:
– فيه ايه يا سلمى، صوتك جايب أخر العيادة بره.. حتى الواد مغاوري وانا داخل قال لي الدكتورة شكلها زعلان.. سلافة قالت لك ايه ضايقك بالشكل دا؟..
رفعت عينيها اليه وهتفت بقنوط وغيظ:
– سلافة زميل ليها عاوز يتقدم لها..
شهاب وهو يحرك كتفيه بعدم فهم قائلا:
– طيب إيه المشكـ…..؟!!!!!!
ليبتر عبارته ويفتح عيناه على وسعهما هاتفا بغير تصديق:
– اوعي تقولي انها…….
لتكمل عبارته وهي على وشك البكاء:
– وافقت… الغبية وافقت يا شهاب….
شهاب بحيرة عميقة:
– وافقت إزاي وهي لسه في العدة؟..
سلمى بيأس:
– قالت لي مش فاضل في العدة إلا إسبوعين… وهي مش هتتجوز دلوقتي يعني!!!!
شهاب وهو يتخيل ردة فعل غيث النارية والذي انقلب حاله من النقيض الى النقيض منذ طلاقه وسلافة:
– المصيبة مش في كدا، الكارثة لو غيث عرف!!!!!!!!
ليتبادلا النظرات وقد وصلت رسالة شهاب الى سلمى بوضوح… فإن كان شهاب فيه صفة الجنون بالنسبة لها.. فغيث هو الجنون ذاته بالنسبة لسلافة!!!!!!!!!!!..
– يتبع-