“كبير العيلة”بقلم احكي ياشهرزاد
كبير العيلة
الحلقة 25
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
جلست سلمى فوق فراشها عاقدة يديها حول ركبتيها، فيما غامت عيناها بغلالة شفافة من الدموع، دلفت اليها سلافة بعد أن طرقت الباب وكالمعتاد منذ أن ثلاث أيام لم تسمع جوابا لها، أغلقت الباب وراءها وسارت تجاهها بخفة لتميل جالسة بجوارها وهي تقول بإشفاق على حال أختها:
– وبعدين يا سلمى؟… وآخرة اللي انتي فيه دا ايه؟.. من يوم ما رجعنا من المستشفى وانتي على الحال دا، مينفعش حبيبتي، بابا وماما قلقانين عليكي اوي عشان خاطرهم هما على الاقل، والغلبان اللي كل يوم مرابط عندنا وانتي رافضة تطلعي له، شهاب يمكن غلط في الكلام بس من غيرته عليكي، انتي دايما بتقوليلي لازم اتعامل بعقل وهدوء وكنت دايما بتنقدي تسرعي وعصبيتي، اديه فرصة يا سلمى…
سلمى بجمود:
– واضح انه العصبية والانفعال دول اللي كنت بعايب عليهم طلعوا قلب شخصية شهاب!..
سلافة بابتسامة صغيرة:
– طيب علشان خاطري اطلعي قابليه، ما تتصوريش حالته عامله ازاي، الكل تحت مستغربين من اللي حصل، كفاية بهدلة جدي ليه هو وغيث على سكوتهم عن الموضوع كله، وليث اللي في المستشفى ربنا العالم بحالته الدكاترة بيقولوا مش هيطلع قبل اسبوع كمان وسلسبيل حبيبتي حالتها ما يعلم بيها إلا ربنا، فعشان خاطري حاولي تخرجي من اللي انتي فيه دا، شهاب بيحبك والكل عارف كدا، حقه انه يغير عليكي وخصوصا لما شاف لهفتك وقلقك عليه وهو كان خاطبك قبل كدا!
نظرت اليها سلمى بحدة هاتفة:
– يعني جبتي سيرة الكل الا هو وانتي بتعاتبيني على غضبي من شهاب؟!.. انتي ناسية انه هو كمان في المستشفى في غيبوبة بين الحياة والموت ولا دا شيء مش مهم بالنسبة لكم؟؟
سلافة باعتراض:
– لا طبعا مش قصدي بس….
قفزت سلمى واقفة وابتعدت عن الفراش وهي تقول بحزم منهية النقاش بينه وبين شقيقتها الصغرى:
– ارجوكي يا سلافة مش عاوزة اسمع حاجة تاني، ومن الآخر مقابلة شهاب مش هقابله، وياريت يحترم قراري، أنا مش عاوزه أشوفه!..
ليعلو صوت متسائل من امام الباب يقول:
– لغاية إمتى يا سلمى؟..
قالت سلافة وهي تطلع الى صاحب الصوت:
– بابا!!!
دلف رؤوف بخطوات وئيدة حتى وقف بجوار ابنته وأردف بصوت حازم حان:
– لغاية امتى القوقعة اللي انتي محاوطة نفسك بيها دي؟
سلمى وهي تسدل عينيها الى الاسفل:
– معلهش يا بابا أرجوك أنا..
قاطعها والدها بجدية:
– سلمى.. شهاب حكى لي كل حاجة من غير ما يخبي أي شيء، اعترف انه في لحظة غضب منه انفعل بكلام ما كانش ينفع انه يقوله، هو غلط واعترف بغلطه، يبقى نتعامل كناس ناضجين وتقعدوا سوى وتفهميه انه العصبية وسرعة الانفعال والغضب الجنوني دا مش هتقدري تستحمليه، داج وزك وحقه عليكي انك تتفاهمي معاه، زي تمام ما هو حقك عليه انه يحترم شعورك ويفهم وجهة نظرك..
سلمى هاتفة بانفعال حاول كتمه:
– الكلام دا يا بابا كان ينفع لو الموضوع عصبية وغيرة عادية لكن دا اتهمني أني….
وكتمت فمها براحتها ليحتويها والدها بين ذراعيه مربتا عليها لتنسحب سلافة ببطء فيما همس والدها لها:
– هششش.. خلاص حبيبتي، ما تعمليش في نفسك كدا، هو قالي انه في لحظة غباء منه قالك كلام ميعرفش طلع منه ازاي، سلمى شهاب لو عنده شك ولو واحد في المليون كان قتلك وقت ما شافك!.. دا صعيدي حبيبتي.. ما يغركيش طريقة كلامه اللي زيينا ولا لبسه، دا زي غيث وزي أي صعيدي دمه حامي على شرفه وعرضه، في ثانية كان هينسى أي تعليم ولا تحضر ويتحول لصعيدي 100% ويخلّص عليك من غير ما يطرف له جفن حتى!! .. شهاب كان موجوع يمكن اكتر منك، انتي كمان ما ادتهوش فرصة انه يستفهم منك اللي حصل منعكم انكم تتكلموا ولما جيتوا المستشفى انشغلتوا بليث وبأحمد فما سألكيش، لااازم تسمعي منه، حقه عندك انك تسمعي، جدك عبد الحميد على فكرة كان عاوز يطلع يشوفك أنا الي قلت له انك هتنزلي عشانه هو وجدتك فاطمة، الحبسة اللي انتي فيها دي مش حل، انتي يدوب تروحي المستشفى في ساعة الويارة وترجعي حابسة نفسك حتى مامتك نفسها مش بتقعدي معاها، واللي أنا اعرفه ان بنتي الكبيرة أقوى من كدا، أنا دايما أقول عليكي عاقلة وناضجة وهادية وبتوزني الأمور صح، ولما شهاب اختارك فرحت لانه لو مان اختار سلافة كان هيبقى حريقة وشبّت في البيت، كأنك بتكفي بنزين بجاز مثلا، عشان كدا جدك كان عنده بعد نظر لما قالي أول ما جينا انه نفسه بناتي ياخدوا ولاد عمهم، كان مختارك لشهاب وسلافة لغيث ولما ولاد عمك فاتحوني سألته ان كان كلمهم في الموضوع ضحك وقال يل أبدا بس هو مبسوط انه أحافده بيعرفوا يفكروا ويختاور صح، كل واحد فيهم اختار الفولة بتاعته تمام، مش بيقولوا كل فولة وليها كيّال؟!!؟
مسحت سلمى دموعها برؤوس أناملها البيضاء ورفعت عينيها الى والدها قائلة بصوت مكتوم بغصات البكاء:
– أنا تعبانة أوي يا بابا، العقل والحكمة دول منفعونيش قودام اتهامات شهاب، اللي انا شوفته الكم يوم اللي فاتوا دول وكأني عِشت حياة تانية خالص!.. فكرة انه انسان اكون انا السبب في موته تعباني اوي، أحمد فداني بروحه يا بابا، وفي الوقت اللي انا منتظرة من شهاب انه يقف قودامي ويقويني ألاقيه اول واحد بيهاجمني ومش حاسس باللي فيّا، مجرد فكرة انه فيه انسان بيموت وانا ليا يد في دا مموتاني أنا!!
نهرها روؤف برفق:
– استغفري ربنا يا بنتي، دا كله أجل ومكتوب، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. صدق الله العظيم، وبعدين الأعمار بيد الله محدش عارف فيه ايه بكرة، مش جايز جدا ربنا يكتب له النجاة ويبقى اتكتب له عمر جديد فعلا زي ما بيقولوا؟.. خلي ظنك في الله أحسن من كدا ربنا بيقول ما معناه.. أنا عند ظن عبدي بي!!
همست سلمى وقد هدأت نوبة بكائها:
– ونعم بالله… , ثم تابعت بصوت هاديء نسبيا:
– معلهش يا بابا أنا فلا مش في حالة تسمح اني اتكلم مع شهاب في أي حاجة، محتاجة وقت أحاول أتمالك فيه نفسي، وبعد إذن حضرتك انا هلبس عشان ألحق معاد الزيارة، سلسبيل من يوم اللي حصل لليث وهي قاعده مرافق معاه خصوصا بعد ما طلع في أودة لوحده، أنا كلمتها من شوية لاقيتها رجعت تبص على ولادها وتاخد هدوم ليها وراجعه تاني، فأنا بعد إذن حضرتك هروح معاها؟..
لتأتيها الاجابة بصوت واثق:
– وأنا ما أرضاش انه مراتي تروح في أي مكان مع حد تاني غيري.. بعد إذن حضرتك يا عمي!..
ابتعدت سلمى عن ذراعي والدها والذي التفت الى شهاب يقول بابتسامة صغيرة:
– مش تخبط الأول يا بني؟..
شهاب بهدوء لا يشعر بمقدار ذرة منه فيما عيناه مسلطتان على تلك التي تختبئ منه بين ذراعي والدها معتقدة أنها بوجودها بين جدران غرفتها تستطيع منعه من الوصول اليها، ولكن آن الأوان لتعلم أن لا أحد ولا أي شيء قادر على ابتعادها عنه فهي امرأته هو… وكفى!!.. شهاب ببرود وهو يدلف الى الداخل:
– معلهش يا عمي، بس أنا خفت انها ترفض تقابلني زي كل مرة، وبعدين الباب كان مفتوح وانا اعتبرت نفسي في بيتي، هو مش بيت مراتي يبقى بيتي بردو؟..
مشددا على كلمة “مراتي”.. لتحدجه سلمى بنظرة حارقة يقابلها بأخرى متحدية، لم ينتبه رؤوف لحرب النظرات الدائرة بينهما ليجيب وهو يبتعد عن سلمى:
– اكيد طبعا بيتك، عموما أنا هسيبكم عشان تتكلموا، لما تخلصي سلمى لو.. جوزك – مشددا بدوره على الكلمة – مش هيوصلك المستشفى فبابا موجود، أنا اللي هوديكي وبالمرة أزور ليث أطمن عليه وأقابل الدكتور اللي ماسك حالة أحمد أشوف آخر التطورات إيه…
انسحب رؤوف تاركا شهاب وسلمى بمفردهما فيما الباب مشرّعا خلفه، ما ان اختفى والدها حتى استدارت سلمى لتوليه ظهرها عاقدة ذراعيها أمامها، اقترب منها شهاب حتى أحست بدفء أنفاسه من خلفها، كان هو أول من خرق الصمت السائد بينهما محاولا التحدث بهدوء:
– هتفضلي مقاطعاني كدا لغاية امتى؟..
سلمى ببرود ناظرة الى النفاذة العريضة التي تحتل الحائط امامها:
– دي مش مقاطعة يا ابن عمي، دا موقف!.. انت غلط في حقي ومش غلط سهل، فبالتالي أي رد فعل مني على اللي عملته من حقي، سواء أني أرفض أشوفك أو أسمعك!..
شهاب بضيق مكتوم وهو يضغط على أسنانه:
– وأنا اعترفت بغلطي، وحكيت لعمي ومرات عمي كل حاجة وبصراحة، ما حاولتش أبرر غلطي ولا أقول أنصاف حقايق، كل اللي حصل حكيته بالظبط، وهما اتفهموا موقفي وقدروا اني بعترف بغلطتي، المفروض انك تكوني هديتي وانتي كمان تديني عذري لكن اللي انا شايفه انك بتنفسي فيا عن غضب جواكي انتي، أنا هقولهالك لآخر مرة.. أنا عمري ما أشك فيكي، ولو أنتي مش مراتي فانتي بنت عمي روؤف.. وانا عارف كويس أوي عمي رؤوف مربي بناته ازاي، واللي حصل لك دا مش ممكن كنت أخليه يعدي بالساهل فما بالك بقه وانتي مراتي؟.. يعني حتة مني؟.. ما تلومنيش على غضبي منك لما شوفتك شبه منهارة بعد اللي جراله..
سكت قليلا محاولا التماسك وهو يضغط أسنانه بقوة بينما تكورت يده في قبضة قوية حتى ابيضت سلاميات أصابعه مغمضا عينيه لثوان ليتابع بعدها وقد فتح عيناه ناظرا الى صورتها المنعكسة في زجاج النافذة أمامه فيما صوته يخرج مشروخا:
– عارفة احساسي كان ايه لما شوفت الفيديو؟.. كنت حاسس انه حد طعني بسكينة وساب السكينة في الجرح!.. ولما شوفت خوفك ولهفتك كان كأنك بتلوي السكينة في الجرح دا وبكل قوتك، أنتي ما قولتيش اللي حصل بالظبط لأنه ما كانش فيه مجال لكدا من لحظة ما شوفتك وضرب النار اللي اشتغل والبوليس اللي جه وبعدين المستشفى وانشغالنا بليث كل دا مخلناش فرصة نتكلم، مش هنكر ان غيرتي عمِّتني وانا شايفك تقريبا منهارة عشانه، سلمى أنا انسان مش ملاك.. وانتي اكتر واحدة عارفة عصبيتي عامل ازاي وأد ايه انا انفعالي بيكون سريع ومن غير عقل كمان!.. كنت منتظر منك تهدي وأكيد هتسمعيني، لكن أنتي دبحتيني بكلمتك اللي قولتيها واحنا في المستشفى…
وصمت ليمد يده يمسك بكتفها يديرها اليه ليمسك بكتفها الآخر ويميل ناحيتها هامسا بعذاب أمام وجهها الذي فقد نضارته:
– طلاق يا سلمى؟!… قدرتي تقوليها؟.. لسانك طاوعك ونطقتيها إزاي؟!.. عارفة لما سمعتها منك حاسيت بالظبط كأن رصاصة ضربتني وهنا بالظبط!!
أمسك بيدها ووضعها على صدره من الناحية اليسار حيث شعرت بدقات قوية أسفل راحتها، حاولت سحب يدها ليضغطها بقوة فوق قلبه تماما رافضا تركها بينما هربت بعينيها جانبا رافضة الكلام ليردف بحزم وغضب مكتوم:
– انسي انك تبعدي عني، الكلمة اللي لسانك نطق بيها دي أوعي أسمعك تقوليها تاني، لمصلحتك أنتي، فكرة انك عاوزة تبعدي عني مجرد الفكرة مش مسموح لك بيها، وصدقيني هتشوفي جنوني بجد لو قلِّيتي عقلك وفكرتي بس فيها ولو بينك وبين نفسك، أنتي مراتي.. ولآخر نفس عندي هتفضلي مراتي، ولا أي حد هيقدر ياخدك مني، أنا عصبي وغيور ومدب وكل حاجة بس….
ليتابع بهمس ولِه بينما عيناه تغازلان عينيها بلا هوادة لتنجح في أسر نظراتها رغما عنها بالأخير وهي تنظر ليه منتظرة سماع تتمة عبارته التي قالها بدفء غمرها بينما شعرت بحارة أنفاسه تضرب وجهها وهو يهمس أمام ثغرها الكرزي:
– بـ حـ بـ ك.. أنا بحبك، بعشقك.. دا ما يشفعليش عندك؟!.. أنا مش هقولك اني هكون عاقل وهادي بين يوم وليلة لكن أوعدك اني هحافظ عليكي أكتر من روحي كمان، وان حبك في قلبي عمره ما هيقل بالعكس دا بيزيد كل ما الايام بتمر بيننا، ممكن تدينا فرصة تانية؟.. ممكن يا سلمى؟..
لترد عليه بعد صمت طال تعاتبه بعينيها التي اغرورقت بالدموع الغزيرة فيما شفتيها ترتجف:
– أنا كنت محتاجة لك انت يا شهاب، كنت حاسة اني قوتي هستمدها من قوتك انت، لما لاقيتك بتتهمني الاتهامات البشعة دي حاسيت زي ما اكون وقعت اتخبطت في الأرض مرة واحدة وانا ببص من مكان عالي، كلامك ليا وجعني اوي، كنت منتظرة منك انك تفهمني من غير ما أضطر اني أشرح لك، تحضنني وتأكد لي انه كل حاجة هتكون كويسة، لكن مرة واحدة لاقيت نفسي لوحدي ومش بس كدا لأ انت بتتهمني بحاجات بشعة، ولاقيتني أنا اللي كنت هبلة في ظني فيك، وانك في الاول والآخر بتتصرف بمنطق الرجل الأناني الغيور بصرف النظر عن أي شيء تاني، عارف يعني ايه يكون انت اول واحد فكرت فيه اني ألجأ له عشان يطمِّني ويهديني ألاقيك انت القاضي والجلاد في نفس الوقت؟.. احساس قاسي اوي يا شهاب، انا.. حاسة اني تعبانة اوي، أرجوك لو ليا معزة عندك فعلا سيبني أقنع بابا وماما أننا نرجع مصر، أنا محتاجة أبعد عن هنا شوية!..
ليطير هدوء شهاب الذي حاول التحلي به أدراج الرياح ما ان سمعها تخبره في هدوء أنها تريد الابتعاد عنه بل وتطلب منه هو أن يتركها تقنع والديها بالرحيل عنهم، وكأنها لم تستمع الى حرف مما قاله، وعلمت سلمى بأن غضبه الأعمى على وشك الاندلاع إذ تغيرت قبضته ليدها لتصبح أقوى حتى كادت أن تفتت أصابعها بينما قبض على خصرها بيده الأخرى ضاغطا بقوة آلمتها ليهتف بنفي قاطع وهو يقربها منه:
– على جثتي!.. انتي اتجننتي أكيد؟.. سفر ايه اللي بتفكري فيه؟.. انتي رجلك مش هتخطي من هنا خطوة واحدة بس ولو نطقتي بكلمة زيادة مش هخليكي تخرجي برة البيت من أساسه!
سلمى باعتراض حانق وهي تحاول دفعه بعيدا عنها ولكنها وكأنها تدفع حائطا صلبا لا يتزحزح:
– ولا كأنك سمعت حاجة، وبردو غضبك وانفعالك هو اللي بيمشيك، بقولك ايه احنا فعلا شكلنا كدا هنصرف نظر عن الموضوع كله.. أنا فعلا تعبت!!
لتجحظ عيناه ويهتف بشراسة وهو ينظر الى غابات عينيها بضراوة:
– انا اللي تعبت منك، هو حل واحد بس عشان تتأكدي انك هتفضلي مراتي وتشيلي من دماغك الخزعبلات دي!!
همّت بالرد عليه حينما هجم على فمها يعتصر شفتيها بقوة وكأنه يعاقب ذلك الفم لنطقه تلك الكلمات التي أشعلت غضبه، حاولت مقاومته ولكنه تجاهل مقاومتها ليحتويها بين ذراعيه ضاغطا جسدها اليه في عناق متطلب قاسي، دافنا يده بين خصلات شعرها الثائر، ليدحض مقاومتها شيئا فشيئا حتى أعلنت استسلامها ورفع قلبها الراية البيضاء مجبرا عقلها على السكوت والتراجع تماما أمام اعصار شهاب الكاسح!!..
مرت فترة من الوقت قبل أن يبعدها عنه مسندا جبهته الى جبينها فيما يلتقطان أنفاسهما اللاهثة بصعوبة، قال بصوت متحشرج متقطع:
– أعملي حسابك.. أول ليث ابن عمي ما يخرج بالسلامة هنعمل الفرح على طول، أنا مش هصبر ولا نص ساعة زيادة بعد كدا!!..
ثم طبع قبلة خفيفة على جبهتها بينما لم تستطع الرد عليه فقد هرب منها الكلام، لتسمعه يقول بمرح خفيف وهو يسلط عيناه على نقطة خلفها:
– تصدقي انك طيبة فعلا؟.. يعني لو كان حد بص علينا بس كان زمان عمي مصمم اننا نعمل الفرح انهارده.. ودلوقتي لو أمكن!..
لتشهق مبتعدة عن ذراعيه متطلعة خلفها لترى الباب الذي تركه والدها مفتوحا خلفه وكان بسهولة لأي كان أن يرى ما دار بينهما منذ لحظات!!..
ابتعدت عنه تضربه بقبضتها في صدره وهي تهتف بحنق بينما طغى اللون الأحمر على وجهها حتى غدا بلون ثمرة الفراولة الطازجة خجلا و… غيظا:
– انت سافل وقليل الأدب، واتفضل بقه من هنا!
ضحك شهاب بخفة وقال غامزا لها بمكر:
– انا همشي دلوقتي، لكن لما يتقفل علينا باب واحد مش هتقدري تبعديني عنك خطوة واحدة، هستناكي بره عشان نروح المستشفى سوا…
نظرت اليه بتساؤل فاقترب منها وأمسك وجهها بين راحتيه مجيبا تساؤلها الصامت بابتسامة عذبة:
– لازم أروح أشكر الانسان اللي أنقذ حياة أغلى انسانة عندي، انا مستنيكي… اجهزي وحصليني..
************************** **
فلاش باك… قبل ثلاثة أيام:
هل كُتب عليها الفراق؟, رباه.. لن تستطيع التحمل, تقسم أنها لن تقدر على تحمل فراقه, فوجوده بجوارها في المرة الأولى هو الذي منحها القدرة على الاحتمال, ولكنها الآن لن تقدر… بدون ليثها لن تحتمل!, نظرت اليه وهو غارق في غيبوبته تناجيه بعينيها السابحتين بالدموع في صمت أن يصحو, تقسم له أنها لن تدع دقيقة تمر إلا وهي تهتف بحبه الذي تملك عليها قلبها وسائر جوارحها ولكن فليفق!, مالت عليه تقبله ظاهر يده الموضوعة بجانبه وقد تم توصيل الأنبوب المغذي اليها لترتجف شفتيها ما ان لامست يده, دست أنفها فيها تتشمم رائحته التي اختلطت برائحة المطهرات والأدوية, همست بقلب مكلوم:
– بحبك يا ليث, بحبك يا وِلد عمي, ما تفوفتنيش يا ليث, مجدراشي على فراجك يا حبة الجلب..
لتشعر باهتزازة طفيفة في أصابعه فترفع رأسها بغتة تطالعه بدهشة, فلمحت عينيه وهما مشقوقتان تنظران اليها بضعف وابتسامة واهية تكاد تظهر على محياه الشاحب فيما يقول بصوت ضعيف لا يكاد يُسمع:
– يعني.. كنت لازمن أطخ لي اعيارين عشان اسمع الكلمة اللي جعدت عمري كلاته أتمنى اني اسمعها من خشمك اللي كيف خاتم سليمان ديِه!..
شهقت بغير تصديق لتهتف بفرح طاغي:
– ليث.. انت واعي يا ليث؟!..
ليجيبها ساخرا بغمزة مكر ضعيفة:
– أني واعي لك جوي يا روح ليث, والجَسَم اللي جولتيه مش هخليك توجِّعيه!, مش هخلي دجيجة تفوت الا لمن تجوليلي بحبك يا ليث!..
شهقت سلسبيل عاليا وتلعثمت قائلة:
– انت .. انت بتجول ايه يا ليث؟, على أي حال مش وجته الحديت ديه, اني هروح اجول للدَّكتووور انك فوجت..
وطارت الى الخارج دون ان تنتظر سماع جوابه..
بعد ثلاثة أيام:
أخذت تزفر بحنق وهي ترنو اليه بطرف عينها في ضيق بينما يراقبها بعينيه في مكر, تكلم قائلا بجدية زائفة فضحتها خبث نظراته:
– عجولك جرّبي اهنه…
هزت سلسبيل كتفيها باعتراض هاتفة:
– لاه.. اني زين اكده، خليك مُطرحك ما تتحركشي كاتير، الحركة شينة عليك..
ليث وهو يعتدل في جلوسه فوق الفراش:
– اني زين والحمد لله، ما تشيليش همي، اسمعي الحديت يا سلسبيل وجرِّبي منِّي!..
عضت على شفتها السفلى في توتر لا تعلم بما تجيبه، منذ أن سمع اعترافها الغبي بحبها له وقت أن كاد قلبها يتوقف من فرط خوفها من فقده وهو يتعمد احراجها بل ويتحين الفرص للامسك بها و…..، ليحمر وجهها خجلا حينما شردت بأفكارها لما يحدث بعدها!… انها في ذهول من ليث الجديد الذي تختبره ولأول مرة، في أعظم أحلامها جموحا لم تكن تعتقد أنه عاشق ماكر بتلك الصورة!.. فهو يتعامل معها كزوج مدلّه في حب زوجته، وهي لا تعرف كيفية التصرف السليم أمام طوفان المشاعر الهادرة الذي يكتسحها به بلا هوادة!..
من العجيب أنه سبق لها الزواج، فما تختبره معه لم يسبق لها وأن مرّت به مع راضي رحمه الله والذي كان لا ينفك يبثها أشواقه في كل وقت، ولكن مع ليث تشعر وكأنها لا تزال صبية في أول أيام زواجها، فهو يكتسحها برجولته القوية والتي تشعر معها بأنوثتها كاملة، تشعر أنها قد ودعت سلسبيل تلك الفتاة التي تزوجت وهي لم تكد تبلغ السادسة عشر عاما، وكأن الست سنوات التي عاشتها زوجة لغيره لم تكن، فسلسبيل الجديد قد وُلدت على يديه هو، سلسبيله هو كما يحلو له مناداتها بعد اعترافها بحبه والذي قابله باعتراف أقوى جعلها تفقد النطق لوهلة وهي تسمع منه ولأول مرة أنها هي من كانت تقف عقبة في وجه زيجاته السابقة، وأن مقارنته اللا ارادية بينها وبين زوجاته السابقات كانت نتيجتها محسومة لصالحها ولا محالة، وكم كان يحمد الله على عدم وجود أطفال بينه وبين إحداهن فهو لم يكن يريد لرحم أن تحمل أطفالا سواها!!.. هي سلسبيله.. واحته العذبة ونبع راحته الصافي….
تكهّن ليث بما تشعر به من خجل كان يثير استغرابه في البداية ولكن ليتحول بعد ذلك شعوره الى راحة وفرح.. فزوجته.. حبيبته.. سلسبيله تشعر بالخجل منه كأي زوجة في مقتبل حياتها الزوجية، وكأنها لم يسبق لها الزواج قبلاً!!
غصّة فجائية استحكمته لذلك، ولكنه ابتلعها بصعوبة، هو لن ينكر أنه يشعر بالغيرة عندما يطرأ له ذلك الأمر ولكنه لن يدع ذلك الاحساس يسلبه حلاوة حبها الذي صرّحت له بها في غفلة منها، كان أول الأمر يشك أن اعترافها ذلك ما هو الا وليد اللحظة ولكن لتؤكده له وهي تنظر الى عينيه واضعة راحتها على وجنته متلمسة خشونة ذقنه وهي تهمس وقت أن صارحها بشكوكه:
– شفجة!!.. انت فاكر اني هشفج عليك فهجولك اني.. بحبك؟!.. لاه يا وِلد عمي.. لو شفجة كيف ما بتجول هتلاجيني قاعده جارك لانك زوجي ولازمن اكون جنبك، لكن مش هجولك عن اللي حساه جوات جلبي، الشفجة عمري ما هموت منها لكن اللي انا حاسيته وجت عمي جاللي ع اللي جرى لك حاسيت ان روحي بتنسحب منِيْ وما مجدراشي أجف على رجليِّا.. ليث.. أني هموت ولا جرالك حاجة بعيد الشر!..
ليسارع بوضع يده الحرة على فمها يقاطعها هاتفا بلهفة آمرة:
– أوعاكي تجولي إكده.. أني مجدرش اعيش من غيرك لحظة واحدة يا سلسبيلي.. عارفة أني كنت أجدر أعيش في دار لحالي وما كانش الحاج عيعترض، لكن أني فضلت أني أكون معاك في نفس المُكان.. أشاركك الهوا اللي بتتنفسيه، ولو هموت كل ثانية وأني شايفك متحرمة عليَّا وحلال لغيري.. لكن دِه كان أهون من اني أتحرم منيكي، كان شوفتك كفاية بالنسبة ليْ، وصدجيني لوما أنه كان خويْ أني كنت دفنته بمُطرحه ولا خليته يتهنى بجربك دجيجة واحدة!.. لكن يشهد ربنا انك من يوم ما دخلتي دارنا وأني عمري ما حاولت أبص لك بصة شينة، حتى ولو بفكري، لكن وجت ما أنام… كنت ببجى معاكي لوحدينا.. عشان إكده كنت بستعجل النوم عشان اكون براحتي امعاكي..
عاد من ذكرياته لتلك المتنعة التي تجلس بعيدا عنه تأبى الاقتراب منه خجلا وريبة منه، لتلمع عيناه بشقاوة وهو يهمس بتعب مصطنع:
– معلهش يا بت عمي ماعارفشي أجعد زين، ارفعي لي السرير..
لتنهض من فورها متجهة اليه لترفع ظهر الفراش فيحاول الاعتدال في جلسته فتسارع باسناده ليرتاح في جلسته ولكنها لم تنتبه الى النظرة الماكرة التي تلاعبت في عينيه، ليقبض بمعصمها فجأة ويشدها بقوة تجاهه فتسقط على صدره وهي تشهق بدهشة كتمها بشفتيه مبتلعا أنفاسها الساخنة، لتتسمر وقد أصابها الذهول أول الأمر لتحاول الابتعاد عن هجومه الهادر على حواسها كله وهي تهتف بأنفاس متقطعة:
– ليـ… ليث، لاه.. انته لساتك تعبان!!..
ليهتف بلهفة من بين قبلاته الثائرة فيما يده تتسلل أسفل وشاحها العريض تغوص في خصلات شعرها الناعم:
– اني تعبان صوح يا سلسبيلي، مشتاج لرشفة منيِّكي تحييني يا جلب ليث النابض إنتيْ..
حاولت الابتعاد عنه وفي خضم محاولاتها هذه ضربت بيدها كتفه موضع الاصابة بدون انتباه ليطلق صيحة ألم وقد تركها رغما عنه، شهقت وهي تطالعه في خوف هاتفة:
– ليث.. يجطعني.. رد عليَّا يا ليث، ما تخلعش جلبي عليك..
نظر اليها متأوها بألم ويجيبها وهو يقضم طرف شفته السفلى فيما عيناه تطالعانها بمكر خفي:
– جلبي أني اللي عيتخلع لو مطلعتش من المخروبة ديْ انهاردِه جبل بُكْرة..
اعتدلت سلسبيل واقفة وعدلت وشاحها تخفي خصلات شعرها المنفلتة، ثم مسحت وجنتيها وهي تحاول تمالك نفسها وهي تقول:
– أني عروح أنادم ع الدَّكتور ياجي يطمنّا عليك..
وسارعت بالاختفاء من أمامه ليزفر هواءا ساخنا من فمه وهو يهتف بحرارة واضحة:
– أني عاوز دَكتور جلب مش دًكتور جَرَّاح..
——————–
تسير وهي تتهادى في مشيتها, لتصل الى باب غرفته, ما ان همت بإمساك مقبض الباب حتى صاحت السيدة التي ترافقها:
– يا بنيتي اجصري الشر, اني ما عارفاشي عتدخلي عليه كييف؟, فرضا مَرَتُه امعاه هيبجى ازايْ الحال؟..
لتلتفت اليها الأخرى هاتفة بتحد وعناد شديد:
– بجولك ايه يا عمة فردوس لو خايفة بعّدي انتيْ, انما أني عشوفه يعني لازمن اشوفه, ديه ليث يا عمة… ليييث!..
وأدارت المقبض لتدخل تاركة خلفها عمتها وهي تصدر بشفتيها صوت اعتراض هامسة وهي تشير بيديها الاثنتين أمامها علامة خيبة الرجاء في ابنة اخيها:
– ادخلي يا نضري حاكم اني عارفاكي ما بتبسمعيشي غير اللي في بالك انتي وبس..
دخلت الى الجناح ضاربة بكلام مرافقتها عرض الحائط وما ان سارت خطوتين باتجاه الغرفة الملحقة بالجناح حيث يرقد ليث حتى فوجئت بمن تخرج من غرفته والابتسامة تزين محياها الفاتن, لتتسمر تلك الأخيرة تطالع من تقف أمامها بدهشة, تقدمت منها سلسبيل ووقفت أمامها تنهرها بقوة وهي في ذهول من مدى وقاحة تلك المخلوقة أمامها:
– انتي ايه اللي جابك اهنه؟..
تخصرت وداد أمامها قائلة:
– جيت أشوف سي ليث!.
سلسبيل بقوة وهي تشير الى الباب:
– كلمتي مش هتنّيها… تخرجي من اهنه وما عشوفكيشي ولو صدفة, انتي فاهمه ولا لاه؟..
وداد ببرود:
– مش من حجِّك!.
سلسبيل وهي على وشك جذبها من شعرها وإشباعها ضربا لتنفث عن غضبها:
– اومال حجْ مين يا نضري؟.. أني مرتُه انما انتيْ…
لتقاطعها وداد رافعة حاجبها بتحد بينما نظراتها يملؤها التشف والحقد:
– مَرَتُه يا…. ضرتيْ!!….
بينما وهناك في طابق الحالات الحرجة يتعالى صوت بكاءا حارّا بعد أن خرج الطبيب بكل هدوء ينعي لهما… شابًّا فقد حياته لأجل حب كان السبب في خسارته ولكنه لم يخسر حبيبته التي ضحى بروحه من أجلها!!…
– يتبع –
الحلقة 25
بقلمي/ احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
جلست سلمى فوق فراشها عاقدة يديها حول ركبتيها، فيما غامت عيناها بغلالة شفافة من الدموع، دلفت اليها سلافة بعد أن طرقت الباب وكالمعتاد منذ أن ثلاث أيام لم تسمع جوابا لها، أغلقت الباب وراءها وسارت تجاهها بخفة لتميل جالسة بجوارها وهي تقول بإشفاق على حال أختها:
– وبعدين يا سلمى؟… وآخرة اللي انتي فيه دا ايه؟.. من يوم ما رجعنا من المستشفى وانتي على الحال دا، مينفعش حبيبتي، بابا وماما قلقانين عليكي اوي عشان خاطرهم هما على الاقل، والغلبان اللي كل يوم مرابط عندنا وانتي رافضة تطلعي له، شهاب يمكن غلط في الكلام بس من غيرته عليكي، انتي دايما بتقوليلي لازم اتعامل بعقل وهدوء وكنت دايما بتنقدي تسرعي وعصبيتي، اديه فرصة يا سلمى…
سلمى بجمود:
– واضح انه العصبية والانفعال دول اللي كنت بعايب عليهم طلعوا قلب شخصية شهاب!..
سلافة بابتسامة صغيرة:
– طيب علشان خاطري اطلعي قابليه، ما تتصوريش حالته عامله ازاي، الكل تحت مستغربين من اللي حصل، كفاية بهدلة جدي ليه هو وغيث على سكوتهم عن الموضوع كله، وليث اللي في المستشفى ربنا العالم بحالته الدكاترة بيقولوا مش هيطلع قبل اسبوع كمان وسلسبيل حبيبتي حالتها ما يعلم بيها إلا ربنا، فعشان خاطري حاولي تخرجي من اللي انتي فيه دا، شهاب بيحبك والكل عارف كدا، حقه انه يغير عليكي وخصوصا لما شاف لهفتك وقلقك عليه وهو كان خاطبك قبل كدا!
نظرت اليها سلمى بحدة هاتفة:
– يعني جبتي سيرة الكل الا هو وانتي بتعاتبيني على غضبي من شهاب؟!.. انتي ناسية انه هو كمان في المستشفى في غيبوبة بين الحياة والموت ولا دا شيء مش مهم بالنسبة لكم؟؟
سلافة باعتراض:
– لا طبعا مش قصدي بس….
قفزت سلمى واقفة وابتعدت عن الفراش وهي تقول بحزم منهية النقاش بينه وبين شقيقتها الصغرى:
– ارجوكي يا سلافة مش عاوزة اسمع حاجة تاني، ومن الآخر مقابلة شهاب مش هقابله، وياريت يحترم قراري، أنا مش عاوزه أشوفه!..
ليعلو صوت متسائل من امام الباب يقول:
– لغاية إمتى يا سلمى؟..
قالت سلافة وهي تطلع الى صاحب الصوت:
– بابا!!!
دلف رؤوف بخطوات وئيدة حتى وقف بجوار ابنته وأردف بصوت حازم حان:
– لغاية امتى القوقعة اللي انتي محاوطة نفسك بيها دي؟
سلمى وهي تسدل عينيها الى الاسفل:
– معلهش يا بابا أرجوك أنا..
قاطعها والدها بجدية:
– سلمى.. شهاب حكى لي كل حاجة من غير ما يخبي أي شيء، اعترف انه في لحظة غضب منه انفعل بكلام ما كانش ينفع انه يقوله، هو غلط واعترف بغلطه، يبقى نتعامل كناس ناضجين وتقعدوا سوى وتفهميه انه العصبية وسرعة الانفعال والغضب الجنوني دا مش هتقدري تستحمليه، داج وزك وحقه عليكي انك تتفاهمي معاه، زي تمام ما هو حقك عليه انه يحترم شعورك ويفهم وجهة نظرك..
سلمى هاتفة بانفعال حاول كتمه:
– الكلام دا يا بابا كان ينفع لو الموضوع عصبية وغيرة عادية لكن دا اتهمني أني….
وكتمت فمها براحتها ليحتويها والدها بين ذراعيه مربتا عليها لتنسحب سلافة ببطء فيما همس والدها لها:
– هششش.. خلاص حبيبتي، ما تعمليش في نفسك كدا، هو قالي انه في لحظة غباء منه قالك كلام ميعرفش طلع منه ازاي، سلمى شهاب لو عنده شك ولو واحد في المليون كان قتلك وقت ما شافك!.. دا صعيدي حبيبتي.. ما يغركيش طريقة كلامه اللي زيينا ولا لبسه، دا زي غيث وزي أي صعيدي دمه حامي على شرفه وعرضه، في ثانية كان هينسى أي تعليم ولا تحضر ويتحول لصعيدي 100% ويخلّص عليك من غير ما يطرف له جفن حتى!! .. شهاب كان موجوع يمكن اكتر منك، انتي كمان ما ادتهوش فرصة انه يستفهم منك اللي حصل منعكم انكم تتكلموا ولما جيتوا المستشفى انشغلتوا بليث وبأحمد فما سألكيش، لااازم تسمعي منه، حقه عندك انك تسمعي، جدك عبد الحميد على فكرة كان عاوز يطلع يشوفك أنا الي قلت له انك هتنزلي عشانه هو وجدتك فاطمة، الحبسة اللي انتي فيها دي مش حل، انتي يدوب تروحي المستشفى في ساعة الويارة وترجعي حابسة نفسك حتى مامتك نفسها مش بتقعدي معاها، واللي أنا اعرفه ان بنتي الكبيرة أقوى من كدا، أنا دايما أقول عليكي عاقلة وناضجة وهادية وبتوزني الأمور صح، ولما شهاب اختارك فرحت لانه لو مان اختار سلافة كان هيبقى حريقة وشبّت في البيت، كأنك بتكفي بنزين بجاز مثلا، عشان كدا جدك كان عنده بعد نظر لما قالي أول ما جينا انه نفسه بناتي ياخدوا ولاد عمهم، كان مختارك لشهاب وسلافة لغيث ولما ولاد عمك فاتحوني سألته ان كان كلمهم في الموضوع ضحك وقال يل أبدا بس هو مبسوط انه أحافده بيعرفوا يفكروا ويختاور صح، كل واحد فيهم اختار الفولة بتاعته تمام، مش بيقولوا كل فولة وليها كيّال؟!!؟
مسحت سلمى دموعها برؤوس أناملها البيضاء ورفعت عينيها الى والدها قائلة بصوت مكتوم بغصات البكاء:
– أنا تعبانة أوي يا بابا، العقل والحكمة دول منفعونيش قودام اتهامات شهاب، اللي انا شوفته الكم يوم اللي فاتوا دول وكأني عِشت حياة تانية خالص!.. فكرة انه انسان اكون انا السبب في موته تعباني اوي، أحمد فداني بروحه يا بابا، وفي الوقت اللي انا منتظرة من شهاب انه يقف قودامي ويقويني ألاقيه اول واحد بيهاجمني ومش حاسس باللي فيّا، مجرد فكرة انه فيه انسان بيموت وانا ليا يد في دا مموتاني أنا!!
نهرها روؤف برفق:
– استغفري ربنا يا بنتي، دا كله أجل ومكتوب، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. صدق الله العظيم، وبعدين الأعمار بيد الله محدش عارف فيه ايه بكرة، مش جايز جدا ربنا يكتب له النجاة ويبقى اتكتب له عمر جديد فعلا زي ما بيقولوا؟.. خلي ظنك في الله أحسن من كدا ربنا بيقول ما معناه.. أنا عند ظن عبدي بي!!
همست سلمى وقد هدأت نوبة بكائها:
– ونعم بالله… , ثم تابعت بصوت هاديء نسبيا:
– معلهش يا بابا أنا فلا مش في حالة تسمح اني اتكلم مع شهاب في أي حاجة، محتاجة وقت أحاول أتمالك فيه نفسي، وبعد إذن حضرتك انا هلبس عشان ألحق معاد الزيارة، سلسبيل من يوم اللي حصل لليث وهي قاعده مرافق معاه خصوصا بعد ما طلع في أودة لوحده، أنا كلمتها من شوية لاقيتها رجعت تبص على ولادها وتاخد هدوم ليها وراجعه تاني، فأنا بعد إذن حضرتك هروح معاها؟..
لتأتيها الاجابة بصوت واثق:
– وأنا ما أرضاش انه مراتي تروح في أي مكان مع حد تاني غيري.. بعد إذن حضرتك يا عمي!..
ابتعدت سلمى عن ذراعي والدها والذي التفت الى شهاب يقول بابتسامة صغيرة:
– مش تخبط الأول يا بني؟..
شهاب بهدوء لا يشعر بمقدار ذرة منه فيما عيناه مسلطتان على تلك التي تختبئ منه بين ذراعي والدها معتقدة أنها بوجودها بين جدران غرفتها تستطيع منعه من الوصول اليها، ولكن آن الأوان لتعلم أن لا أحد ولا أي شيء قادر على ابتعادها عنه فهي امرأته هو… وكفى!!.. شهاب ببرود وهو يدلف الى الداخل:
– معلهش يا عمي، بس أنا خفت انها ترفض تقابلني زي كل مرة، وبعدين الباب كان مفتوح وانا اعتبرت نفسي في بيتي، هو مش بيت مراتي يبقى بيتي بردو؟..
مشددا على كلمة “مراتي”.. لتحدجه سلمى بنظرة حارقة يقابلها بأخرى متحدية، لم ينتبه رؤوف لحرب النظرات الدائرة بينهما ليجيب وهو يبتعد عن سلمى:
– اكيد طبعا بيتك، عموما أنا هسيبكم عشان تتكلموا، لما تخلصي سلمى لو.. جوزك – مشددا بدوره على الكلمة – مش هيوصلك المستشفى فبابا موجود، أنا اللي هوديكي وبالمرة أزور ليث أطمن عليه وأقابل الدكتور اللي ماسك حالة أحمد أشوف آخر التطورات إيه…
انسحب رؤوف تاركا شهاب وسلمى بمفردهما فيما الباب مشرّعا خلفه، ما ان اختفى والدها حتى استدارت سلمى لتوليه ظهرها عاقدة ذراعيها أمامها، اقترب منها شهاب حتى أحست بدفء أنفاسه من خلفها، كان هو أول من خرق الصمت السائد بينهما محاولا التحدث بهدوء:
– هتفضلي مقاطعاني كدا لغاية امتى؟..
سلمى ببرود ناظرة الى النفاذة العريضة التي تحتل الحائط امامها:
– دي مش مقاطعة يا ابن عمي، دا موقف!.. انت غلط في حقي ومش غلط سهل، فبالتالي أي رد فعل مني على اللي عملته من حقي، سواء أني أرفض أشوفك أو أسمعك!..
شهاب بضيق مكتوم وهو يضغط على أسنانه:
– وأنا اعترفت بغلطي، وحكيت لعمي ومرات عمي كل حاجة وبصراحة، ما حاولتش أبرر غلطي ولا أقول أنصاف حقايق، كل اللي حصل حكيته بالظبط، وهما اتفهموا موقفي وقدروا اني بعترف بغلطتي، المفروض انك تكوني هديتي وانتي كمان تديني عذري لكن اللي انا شايفه انك بتنفسي فيا عن غضب جواكي انتي، أنا هقولهالك لآخر مرة.. أنا عمري ما أشك فيكي، ولو أنتي مش مراتي فانتي بنت عمي روؤف.. وانا عارف كويس أوي عمي رؤوف مربي بناته ازاي، واللي حصل لك دا مش ممكن كنت أخليه يعدي بالساهل فما بالك بقه وانتي مراتي؟.. يعني حتة مني؟.. ما تلومنيش على غضبي منك لما شوفتك شبه منهارة بعد اللي جراله..
سكت قليلا محاولا التماسك وهو يضغط أسنانه بقوة بينما تكورت يده في قبضة قوية حتى ابيضت سلاميات أصابعه مغمضا عينيه لثوان ليتابع بعدها وقد فتح عيناه ناظرا الى صورتها المنعكسة في زجاج النافذة أمامه فيما صوته يخرج مشروخا:
– عارفة احساسي كان ايه لما شوفت الفيديو؟.. كنت حاسس انه حد طعني بسكينة وساب السكينة في الجرح!.. ولما شوفت خوفك ولهفتك كان كأنك بتلوي السكينة في الجرح دا وبكل قوتك، أنتي ما قولتيش اللي حصل بالظبط لأنه ما كانش فيه مجال لكدا من لحظة ما شوفتك وضرب النار اللي اشتغل والبوليس اللي جه وبعدين المستشفى وانشغالنا بليث كل دا مخلناش فرصة نتكلم، مش هنكر ان غيرتي عمِّتني وانا شايفك تقريبا منهارة عشانه، سلمى أنا انسان مش ملاك.. وانتي اكتر واحدة عارفة عصبيتي عامل ازاي وأد ايه انا انفعالي بيكون سريع ومن غير عقل كمان!.. كنت منتظر منك تهدي وأكيد هتسمعيني، لكن أنتي دبحتيني بكلمتك اللي قولتيها واحنا في المستشفى…
وصمت ليمد يده يمسك بكتفها يديرها اليه ليمسك بكتفها الآخر ويميل ناحيتها هامسا بعذاب أمام وجهها الذي فقد نضارته:
– طلاق يا سلمى؟!… قدرتي تقوليها؟.. لسانك طاوعك ونطقتيها إزاي؟!.. عارفة لما سمعتها منك حاسيت بالظبط كأن رصاصة ضربتني وهنا بالظبط!!
أمسك بيدها ووضعها على صدره من الناحية اليسار حيث شعرت بدقات قوية أسفل راحتها، حاولت سحب يدها ليضغطها بقوة فوق قلبه تماما رافضا تركها بينما هربت بعينيها جانبا رافضة الكلام ليردف بحزم وغضب مكتوم:
– انسي انك تبعدي عني، الكلمة اللي لسانك نطق بيها دي أوعي أسمعك تقوليها تاني، لمصلحتك أنتي، فكرة انك عاوزة تبعدي عني مجرد الفكرة مش مسموح لك بيها، وصدقيني هتشوفي جنوني بجد لو قلِّيتي عقلك وفكرتي بس فيها ولو بينك وبين نفسك، أنتي مراتي.. ولآخر نفس عندي هتفضلي مراتي، ولا أي حد هيقدر ياخدك مني، أنا عصبي وغيور ومدب وكل حاجة بس….
ليتابع بهمس ولِه بينما عيناه تغازلان عينيها بلا هوادة لتنجح في أسر نظراتها رغما عنها بالأخير وهي تنظر ليه منتظرة سماع تتمة عبارته التي قالها بدفء غمرها بينما شعرت بحارة أنفاسه تضرب وجهها وهو يهمس أمام ثغرها الكرزي:
– بـ حـ بـ ك.. أنا بحبك، بعشقك.. دا ما يشفعليش عندك؟!.. أنا مش هقولك اني هكون عاقل وهادي بين يوم وليلة لكن أوعدك اني هحافظ عليكي أكتر من روحي كمان، وان حبك في قلبي عمره ما هيقل بالعكس دا بيزيد كل ما الايام بتمر بيننا، ممكن تدينا فرصة تانية؟.. ممكن يا سلمى؟..
لترد عليه بعد صمت طال تعاتبه بعينيها التي اغرورقت بالدموع الغزيرة فيما شفتيها ترتجف:
– أنا كنت محتاجة لك انت يا شهاب، كنت حاسة اني قوتي هستمدها من قوتك انت، لما لاقيتك بتتهمني الاتهامات البشعة دي حاسيت زي ما اكون وقعت اتخبطت في الأرض مرة واحدة وانا ببص من مكان عالي، كلامك ليا وجعني اوي، كنت منتظرة منك انك تفهمني من غير ما أضطر اني أشرح لك، تحضنني وتأكد لي انه كل حاجة هتكون كويسة، لكن مرة واحدة لاقيت نفسي لوحدي ومش بس كدا لأ انت بتتهمني بحاجات بشعة، ولاقيتني أنا اللي كنت هبلة في ظني فيك، وانك في الاول والآخر بتتصرف بمنطق الرجل الأناني الغيور بصرف النظر عن أي شيء تاني، عارف يعني ايه يكون انت اول واحد فكرت فيه اني ألجأ له عشان يطمِّني ويهديني ألاقيك انت القاضي والجلاد في نفس الوقت؟.. احساس قاسي اوي يا شهاب، انا.. حاسة اني تعبانة اوي، أرجوك لو ليا معزة عندك فعلا سيبني أقنع بابا وماما أننا نرجع مصر، أنا محتاجة أبعد عن هنا شوية!..
ليطير هدوء شهاب الذي حاول التحلي به أدراج الرياح ما ان سمعها تخبره في هدوء أنها تريد الابتعاد عنه بل وتطلب منه هو أن يتركها تقنع والديها بالرحيل عنهم، وكأنها لم تستمع الى حرف مما قاله، وعلمت سلمى بأن غضبه الأعمى على وشك الاندلاع إذ تغيرت قبضته ليدها لتصبح أقوى حتى كادت أن تفتت أصابعها بينما قبض على خصرها بيده الأخرى ضاغطا بقوة آلمتها ليهتف بنفي قاطع وهو يقربها منه:
– على جثتي!.. انتي اتجننتي أكيد؟.. سفر ايه اللي بتفكري فيه؟.. انتي رجلك مش هتخطي من هنا خطوة واحدة بس ولو نطقتي بكلمة زيادة مش هخليكي تخرجي برة البيت من أساسه!
سلمى باعتراض حانق وهي تحاول دفعه بعيدا عنها ولكنها وكأنها تدفع حائطا صلبا لا يتزحزح:
– ولا كأنك سمعت حاجة، وبردو غضبك وانفعالك هو اللي بيمشيك، بقولك ايه احنا فعلا شكلنا كدا هنصرف نظر عن الموضوع كله.. أنا فعلا تعبت!!
لتجحظ عيناه ويهتف بشراسة وهو ينظر الى غابات عينيها بضراوة:
– انا اللي تعبت منك، هو حل واحد بس عشان تتأكدي انك هتفضلي مراتي وتشيلي من دماغك الخزعبلات دي!!
همّت بالرد عليه حينما هجم على فمها يعتصر شفتيها بقوة وكأنه يعاقب ذلك الفم لنطقه تلك الكلمات التي أشعلت غضبه، حاولت مقاومته ولكنه تجاهل مقاومتها ليحتويها بين ذراعيه ضاغطا جسدها اليه في عناق متطلب قاسي، دافنا يده بين خصلات شعرها الثائر، ليدحض مقاومتها شيئا فشيئا حتى أعلنت استسلامها ورفع قلبها الراية البيضاء مجبرا عقلها على السكوت والتراجع تماما أمام اعصار شهاب الكاسح!!..
مرت فترة من الوقت قبل أن يبعدها عنه مسندا جبهته الى جبينها فيما يلتقطان أنفاسهما اللاهثة بصعوبة، قال بصوت متحشرج متقطع:
– أعملي حسابك.. أول ليث ابن عمي ما يخرج بالسلامة هنعمل الفرح على طول، أنا مش هصبر ولا نص ساعة زيادة بعد كدا!!..
ثم طبع قبلة خفيفة على جبهتها بينما لم تستطع الرد عليه فقد هرب منها الكلام، لتسمعه يقول بمرح خفيف وهو يسلط عيناه على نقطة خلفها:
– تصدقي انك طيبة فعلا؟.. يعني لو كان حد بص علينا بس كان زمان عمي مصمم اننا نعمل الفرح انهارده.. ودلوقتي لو أمكن!..
لتشهق مبتعدة عن ذراعيه متطلعة خلفها لترى الباب الذي تركه والدها مفتوحا خلفه وكان بسهولة لأي كان أن يرى ما دار بينهما منذ لحظات!!..
ابتعدت عنه تضربه بقبضتها في صدره وهي تهتف بحنق بينما طغى اللون الأحمر على وجهها حتى غدا بلون ثمرة الفراولة الطازجة خجلا و… غيظا:
– انت سافل وقليل الأدب، واتفضل بقه من هنا!
ضحك شهاب بخفة وقال غامزا لها بمكر:
– انا همشي دلوقتي، لكن لما يتقفل علينا باب واحد مش هتقدري تبعديني عنك خطوة واحدة، هستناكي بره عشان نروح المستشفى سوا…
نظرت اليه بتساؤل فاقترب منها وأمسك وجهها بين راحتيه مجيبا تساؤلها الصامت بابتسامة عذبة:
– لازم أروح أشكر الانسان اللي أنقذ حياة أغلى انسانة عندي، انا مستنيكي… اجهزي وحصليني..
**************************
فلاش باك… قبل ثلاثة أيام:
هل كُتب عليها الفراق؟, رباه.. لن تستطيع التحمل, تقسم أنها لن تقدر على تحمل فراقه, فوجوده بجوارها في المرة الأولى هو الذي منحها القدرة على الاحتمال, ولكنها الآن لن تقدر… بدون ليثها لن تحتمل!, نظرت اليه وهو غارق في غيبوبته تناجيه بعينيها السابحتين بالدموع في صمت أن يصحو, تقسم له أنها لن تدع دقيقة تمر إلا وهي تهتف بحبه الذي تملك عليها قلبها وسائر جوارحها ولكن فليفق!, مالت عليه تقبله ظاهر يده الموضوعة بجانبه وقد تم توصيل الأنبوب المغذي اليها لترتجف شفتيها ما ان لامست يده, دست أنفها فيها تتشمم رائحته التي اختلطت برائحة المطهرات والأدوية, همست بقلب مكلوم:
– بحبك يا ليث, بحبك يا وِلد عمي, ما تفوفتنيش يا ليث, مجدراشي على فراجك يا حبة الجلب..
لتشعر باهتزازة طفيفة في أصابعه فترفع رأسها بغتة تطالعه بدهشة, فلمحت عينيه وهما مشقوقتان تنظران اليها بضعف وابتسامة واهية تكاد تظهر على محياه الشاحب فيما يقول بصوت ضعيف لا يكاد يُسمع:
– يعني.. كنت لازمن أطخ لي اعيارين عشان اسمع الكلمة اللي جعدت عمري كلاته أتمنى اني اسمعها من خشمك اللي كيف خاتم سليمان ديِه!..
شهقت بغير تصديق لتهتف بفرح طاغي:
– ليث.. انت واعي يا ليث؟!..
ليجيبها ساخرا بغمزة مكر ضعيفة:
– أني واعي لك جوي يا روح ليث, والجَسَم اللي جولتيه مش هخليك توجِّعيه!, مش هخلي دجيجة تفوت الا لمن تجوليلي بحبك يا ليث!..
شهقت سلسبيل عاليا وتلعثمت قائلة:
– انت .. انت بتجول ايه يا ليث؟, على أي حال مش وجته الحديت ديه, اني هروح اجول للدَّكتووور انك فوجت..
وطارت الى الخارج دون ان تنتظر سماع جوابه..
بعد ثلاثة أيام:
أخذت تزفر بحنق وهي ترنو اليه بطرف عينها في ضيق بينما يراقبها بعينيه في مكر, تكلم قائلا بجدية زائفة فضحتها خبث نظراته:
– عجولك جرّبي اهنه…
هزت سلسبيل كتفيها باعتراض هاتفة:
– لاه.. اني زين اكده، خليك مُطرحك ما تتحركشي كاتير، الحركة شينة عليك..
ليث وهو يعتدل في جلوسه فوق الفراش:
– اني زين والحمد لله، ما تشيليش همي، اسمعي الحديت يا سلسبيل وجرِّبي منِّي!..
عضت على شفتها السفلى في توتر لا تعلم بما تجيبه، منذ أن سمع اعترافها الغبي بحبها له وقت أن كاد قلبها يتوقف من فرط خوفها من فقده وهو يتعمد احراجها بل ويتحين الفرص للامسك بها و…..، ليحمر وجهها خجلا حينما شردت بأفكارها لما يحدث بعدها!… انها في ذهول من ليث الجديد الذي تختبره ولأول مرة، في أعظم أحلامها جموحا لم تكن تعتقد أنه عاشق ماكر بتلك الصورة!.. فهو يتعامل معها كزوج مدلّه في حب زوجته، وهي لا تعرف كيفية التصرف السليم أمام طوفان المشاعر الهادرة الذي يكتسحها به بلا هوادة!..
من العجيب أنه سبق لها الزواج، فما تختبره معه لم يسبق لها وأن مرّت به مع راضي رحمه الله والذي كان لا ينفك يبثها أشواقه في كل وقت، ولكن مع ليث تشعر وكأنها لا تزال صبية في أول أيام زواجها، فهو يكتسحها برجولته القوية والتي تشعر معها بأنوثتها كاملة، تشعر أنها قد ودعت سلسبيل تلك الفتاة التي تزوجت وهي لم تكد تبلغ السادسة عشر عاما، وكأن الست سنوات التي عاشتها زوجة لغيره لم تكن، فسلسبيل الجديد قد وُلدت على يديه هو، سلسبيله هو كما يحلو له مناداتها بعد اعترافها بحبه والذي قابله باعتراف أقوى جعلها تفقد النطق لوهلة وهي تسمع منه ولأول مرة أنها هي من كانت تقف عقبة في وجه زيجاته السابقة، وأن مقارنته اللا ارادية بينها وبين زوجاته السابقات كانت نتيجتها محسومة لصالحها ولا محالة، وكم كان يحمد الله على عدم وجود أطفال بينه وبين إحداهن فهو لم يكن يريد لرحم أن تحمل أطفالا سواها!!.. هي سلسبيله.. واحته العذبة ونبع راحته الصافي….
تكهّن ليث بما تشعر به من خجل كان يثير استغرابه في البداية ولكن ليتحول بعد ذلك شعوره الى راحة وفرح.. فزوجته.. حبيبته.. سلسبيله تشعر بالخجل منه كأي زوجة في مقتبل حياتها الزوجية، وكأنها لم يسبق لها الزواج قبلاً!!
غصّة فجائية استحكمته لذلك، ولكنه ابتلعها بصعوبة، هو لن ينكر أنه يشعر بالغيرة عندما يطرأ له ذلك الأمر ولكنه لن يدع ذلك الاحساس يسلبه حلاوة حبها الذي صرّحت له بها في غفلة منها، كان أول الأمر يشك أن اعترافها ذلك ما هو الا وليد اللحظة ولكن لتؤكده له وهي تنظر الى عينيه واضعة راحتها على وجنته متلمسة خشونة ذقنه وهي تهمس وقت أن صارحها بشكوكه:
– شفجة!!.. انت فاكر اني هشفج عليك فهجولك اني.. بحبك؟!.. لاه يا وِلد عمي.. لو شفجة كيف ما بتجول هتلاجيني قاعده جارك لانك زوجي ولازمن اكون جنبك، لكن مش هجولك عن اللي حساه جوات جلبي، الشفجة عمري ما هموت منها لكن اللي انا حاسيته وجت عمي جاللي ع اللي جرى لك حاسيت ان روحي بتنسحب منِيْ وما مجدراشي أجف على رجليِّا.. ليث.. أني هموت ولا جرالك حاجة بعيد الشر!..
ليسارع بوضع يده الحرة على فمها يقاطعها هاتفا بلهفة آمرة:
– أوعاكي تجولي إكده.. أني مجدرش اعيش من غيرك لحظة واحدة يا سلسبيلي.. عارفة أني كنت أجدر أعيش في دار لحالي وما كانش الحاج عيعترض، لكن أني فضلت أني أكون معاك في نفس المُكان.. أشاركك الهوا اللي بتتنفسيه، ولو هموت كل ثانية وأني شايفك متحرمة عليَّا وحلال لغيري.. لكن دِه كان أهون من اني أتحرم منيكي، كان شوفتك كفاية بالنسبة ليْ، وصدجيني لوما أنه كان خويْ أني كنت دفنته بمُطرحه ولا خليته يتهنى بجربك دجيجة واحدة!.. لكن يشهد ربنا انك من يوم ما دخلتي دارنا وأني عمري ما حاولت أبص لك بصة شينة، حتى ولو بفكري، لكن وجت ما أنام… كنت ببجى معاكي لوحدينا.. عشان إكده كنت بستعجل النوم عشان اكون براحتي امعاكي..
عاد من ذكرياته لتلك المتنعة التي تجلس بعيدا عنه تأبى الاقتراب منه خجلا وريبة منه، لتلمع عيناه بشقاوة وهو يهمس بتعب مصطنع:
– معلهش يا بت عمي ماعارفشي أجعد زين، ارفعي لي السرير..
لتنهض من فورها متجهة اليه لترفع ظهر الفراش فيحاول الاعتدال في جلسته فتسارع باسناده ليرتاح في جلسته ولكنها لم تنتبه الى النظرة الماكرة التي تلاعبت في عينيه، ليقبض بمعصمها فجأة ويشدها بقوة تجاهه فتسقط على صدره وهي تشهق بدهشة كتمها بشفتيه مبتلعا أنفاسها الساخنة، لتتسمر وقد أصابها الذهول أول الأمر لتحاول الابتعاد عن هجومه الهادر على حواسها كله وهي تهتف بأنفاس متقطعة:
– ليـ… ليث، لاه.. انته لساتك تعبان!!..
ليهتف بلهفة من بين قبلاته الثائرة فيما يده تتسلل أسفل وشاحها العريض تغوص في خصلات شعرها الناعم:
– اني تعبان صوح يا سلسبيلي، مشتاج لرشفة منيِّكي تحييني يا جلب ليث النابض إنتيْ..
حاولت الابتعاد عنه وفي خضم محاولاتها هذه ضربت بيدها كتفه موضع الاصابة بدون انتباه ليطلق صيحة ألم وقد تركها رغما عنه، شهقت وهي تطالعه في خوف هاتفة:
– ليث.. يجطعني.. رد عليَّا يا ليث، ما تخلعش جلبي عليك..
نظر اليها متأوها بألم ويجيبها وهو يقضم طرف شفته السفلى فيما عيناه تطالعانها بمكر خفي:
– جلبي أني اللي عيتخلع لو مطلعتش من المخروبة ديْ انهاردِه جبل بُكْرة..
اعتدلت سلسبيل واقفة وعدلت وشاحها تخفي خصلات شعرها المنفلتة، ثم مسحت وجنتيها وهي تحاول تمالك نفسها وهي تقول:
– أني عروح أنادم ع الدَّكتور ياجي يطمنّا عليك..
وسارعت بالاختفاء من أمامه ليزفر هواءا ساخنا من فمه وهو يهتف بحرارة واضحة:
– أني عاوز دَكتور جلب مش دًكتور جَرَّاح..
——————–
تسير وهي تتهادى في مشيتها, لتصل الى باب غرفته, ما ان همت بإمساك مقبض الباب حتى صاحت السيدة التي ترافقها:
– يا بنيتي اجصري الشر, اني ما عارفاشي عتدخلي عليه كييف؟, فرضا مَرَتُه امعاه هيبجى ازايْ الحال؟..
لتلتفت اليها الأخرى هاتفة بتحد وعناد شديد:
– بجولك ايه يا عمة فردوس لو خايفة بعّدي انتيْ, انما أني عشوفه يعني لازمن اشوفه, ديه ليث يا عمة… ليييث!..
وأدارت المقبض لتدخل تاركة خلفها عمتها وهي تصدر بشفتيها صوت اعتراض هامسة وهي تشير بيديها الاثنتين أمامها علامة خيبة الرجاء في ابنة اخيها:
– ادخلي يا نضري حاكم اني عارفاكي ما بتبسمعيشي غير اللي في بالك انتي وبس..
دخلت الى الجناح ضاربة بكلام مرافقتها عرض الحائط وما ان سارت خطوتين باتجاه الغرفة الملحقة بالجناح حيث يرقد ليث حتى فوجئت بمن تخرج من غرفته والابتسامة تزين محياها الفاتن, لتتسمر تلك الأخيرة تطالع من تقف أمامها بدهشة, تقدمت منها سلسبيل ووقفت أمامها تنهرها بقوة وهي في ذهول من مدى وقاحة تلك المخلوقة أمامها:
– انتي ايه اللي جابك اهنه؟..
تخصرت وداد أمامها قائلة:
– جيت أشوف سي ليث!.
سلسبيل بقوة وهي تشير الى الباب:
– كلمتي مش هتنّيها… تخرجي من اهنه وما عشوفكيشي ولو صدفة, انتي فاهمه ولا لاه؟..
وداد ببرود:
– مش من حجِّك!.
سلسبيل وهي على وشك جذبها من شعرها وإشباعها ضربا لتنفث عن غضبها:
– اومال حجْ مين يا نضري؟.. أني مرتُه انما انتيْ…
لتقاطعها وداد رافعة حاجبها بتحد بينما نظراتها يملؤها التشف والحقد:
– مَرَتُه يا…. ضرتيْ!!….
بينما وهناك في طابق الحالات الحرجة يتعالى صوت بكاءا حارّا بعد أن خرج الطبيب بكل هدوء ينعي لهما… شابًّا فقد حياته لأجل حب كان السبب في خسارته ولكنه لم يخسر حبيبته التي ضحى بروحه من أجلها!!…
– يتبع –