شعاع نور للقيصر محمد محسن حافظ
**************************
مرت دقائق كأيام طويلة كانت تفكر فقط في الخروج من هذا المنزل و بأسرع ما يمكن تريد أن تعود للحياه وتسحب نفسا طويلا يريح قلبهاـ تنسي ما حدث وكأنه لم يكون. وحين انتهت ابتسمت وهي تنظر إلى سالي التي شعرت بالخجل ولَم تستطيع الصمود امام نظرات نور الهادئة فلم تري فيها كرها او عتابا او حتى ندما ولكنها رغم ذلك قذفت العذاب والآلام في قلبي سالي وكأن نور بهذه النظره تشكرها على ما فعلت، خرجت من غرفه سالي وأمسكت بيد كريم لكن في طريقهم سمعت خالتها مشيره وهي تقترب من كريم ثم ترفع بيدها وجهه إليها وتنظر له :
-م”تعرفش اني خالتك والمفروض تسمع كلامي زي مامتك بالظبط يعني لو امك طلبت منك حاجه هتقولها انتي عاوزه مرماطون”.
ثبت كريم عينيه في وجه مشيره وألقي بكلمات حين سمعتها تلاشت ملامح الصرامة من وجهها :
-“بس انا امي ماتت يا خالتي وانتي مش زيها سمعت عن حنيه الخاله وحبها لولاد اختها بس انتي كدابه”
في هذه اللحظة ضغطت نور على يده كي يصمت وفعل، عندما هم كريم كي يفتح باب المنزل وجد داغر امامه مباشرة، كلاهما لا يعرف الآخر ترقب داغر أن يتكلم احدهم، لكن كل من كريم ونور لم تفارقهما علامات الحزن والأسى، اقتربت مشيره عندما رأت داغر امام الباب وعرفته بنور وكريم وحكت له ما حدث. فما كان منه الا أن اخرج منديلا ومسح جبين نور ودموعها حاولت أن تبتعد لكن بعدما وضع يده الاخرى على كتفها شعرت بأحساس غريب حين فعل ذلك نظر لها داغر ولَم ينطق بكلمة فكان الوضع خارج السيطره وضع منديله في جيبه وكذلك يده ووقف في منتهي الثقة أمامهم ينظر لكلاهما :
-“ان مقدر اللي انتوا فيه طبعا وسؤ التفاهم اللي حصل ده والغلط وارد في كل حاجه بس لو اتكرر انما نحاسب بعض واحنا عيله واحده من اول غلطه مينفعش انا مش بقول كده علشان انتم غلطنين على العموم سالي هتعتذرلك يا نور وانت يا كريم اقبل اعتذار خالتك”.
يصمت كريم ونور عند سماعهم هذه الكلمات المتزنه فيكمل داغر ناظرا إلى مشيره
-“حضري الغدا علشان نتغدي كلنا مع بعض”
تبتسم مشيره وتعلن موافقتها وتأتي سالي تقدم اعتذارا إلى نور، شعرت نور خلالها بشيء غريب فظلت تتعقب خطوات داغر بعينيها إلى أن غاب عنها وضعت يدها على كتفها الذي لامسه داغر بيده منذ دقائق، تغيرت حالتها فهي الان لا تريد الخروج من هذا المنزل حتى لو عملت خادمه.
**************************
عندما علمت نرجس من زوجها بأن مشيره تريد رؤية أبناء اختها تملكها الغيظ، كانت تعتقد أن خالتهم ستغدق عليهم المال والهدايا والطعام الجيد كان هذا الشعور ينخر جسدها مثل النار فهي لا تريد أن تري نور وكريم مبتسمين يزداد كرهها يوم بعد يوم ولكنها لم تنسي كلمات كريم ابدا ولَم تعتبرها كلام طفل صغير فقد قال ما هو اكبر من ذلك فكيف سيصبر كل هذه السنين كي يستمد قوته وتضعف هي وحينها يثأر من ما فعلته ولكنها حاولت أن تتسم بالهدوء فما زال الكثير من الوقت قد تتغير خلاله أشياء كثيرة.
حاول اسماعيل زوجها أن يقنعها أنها مجرد ساعات سوف يقضيها الطفلين مع خالتهم وتعود الامور إلى طبيعتها من جديد ولكن خوفها كأن يتجدد من استمرار الوضع وكانت تخاف أن يحكوا لمشيره عن معاملتها لهم لعدة اسباب وكرهها أن تلتحق نور بالثأنوية العامة معللة ذلك بأن النفقات ستزيد حملا أكبر على الأسرة و لن يقووا على تحمل نفقاتها، لكن شرحت لهم نور أنها لن تكلفهم شيئا و ستتدبر أمرها فكانت تذهب إلى اصدقائها مذلولة لاقتراض كتاب في المساء وترده في الصباح الباكر لذلك طالما كأنت تنام فوق الكتب وهي تلتهمها حتى لا يضيع منها شيء، اي معأناة رأت هذه الفتاة.
نعود إلى نرجس التي كأنت تنتظر ذهاب اسماعيل لإحضارهم من جديد كي تقف في الشرفة و تراقبهم عند عودتهم وتري ما تحمله ايديهم ولكن مازال هناك وقت لم يكن بالكثير ولكن عليها أن تصبر فأحضرت الطعام إلى ابنتيها الصغيرتين نجوى التي أنجبتها فور زواجها من اسماعيل وعمرها تسعة سنوات وكريمة التي تصغرها بخمس سنوات وقد نجحت في حقنهما جرعة الكره تجاه نور وكريم فقد باعدت بينهم تماما وامتلاء قلب الصغيرتين بمشاعر الظلام مثل والدتهم، فكانت تشتري لهم افخر أنواع الثياب وألحقت نجوى بأحد المدارس الخاصة رغم ارتفاع مصاريفها و أخذت نصيب نور وكريم من ميراث امهم لكي تنفق على بنتيها، و لا زالت تتوعدهم بالكثير من الأذى.
**************************
على مائدة طويلة فاخرة دهنت ارجلها بماء الذهب محاطة بثماني كراسي متشابهة، امتلأت عن اخرها بالطعام المعتاد للعائلة والغريب عن نور وكريم الذين جلسوا غير مصدقين اعينهم فهم لم يروا طعاما قط مثل هذا فكانت اول مرة يأكلوا لدرجة الشبع وأن لم يظهروا ذلك لتتذوق السنتهم شيء جديد وزادت سعادتهم عندما قالت خالتهم أن ما تبقي من طعام سوف يحملونه إلى منزلهم ولكن قاطعها داغر بعد أن لاحظ نظرات نور المتكررة له اثناء وضعه الكثير من الطعام امامها باهتمام واضح ثم ينظر إلى مشيره وهو يمسح فمه بمنديل السفرة
-“أنا محتاج اقعد اتكلم معاهم الاول يا مشيره في حاجات عاوزه اعرفها منهم”
فداغر لم يعقب إلى الأن على سكوت نور فهو دكتور في القانون ومن اشهر المحامين يحب أن يسمع كثيرا قبل أن يتكلم ويحكم فالقأنون في دمائه حتي لو استخدمه بطريقة ملتوية واللعب على ثغراتة الكثيرة جاء صوت كريم وهو ينظر إلى داغر ويسأله باحترام غير معهود منه
-“هو حضرتك بتشتغل ايه؟”
ابتسم داغر ونظر له واكتفي بكلمة واحدة دون غرور:
-“محامي”
أندهش كريم وهو ينظر إلى المنزل الفخم قبل أن يعود النظر إلى داغر ويتكلم هذه مرة بطريقة مستفزة وذكية في نفس الوقت :
“بس احنا يا عموعندنا محامي في الحته بتاعتنا اسمه استاذ بيومي العتر راجل كبير هو كمأن محامي ليه معندوش بيت زي ده وغني زيك”
أنتفض داغر عند سماعه اسم بيومي العتر ولاحظت مشيره ذلك ورفع كوب من الماء كي يبلع كلام كريم ثم رفع رأسه ونظر إلى كريم بعد أن تمالك نفسه من جديد وضع كلتا يديه على المائدة واستعد برد لجذب أنتباه الجميع :
-“شوف يا كريم البلد دي فيها دكاترة ومهندسين ومحامين ومدرسين بالملايين مفيش واحد زي التأني فيهم الغني والفقير مع أنهم اخدين نفس الشهادات اللي ملهاش لزمه علشأن فيه الأهم منها”
رفع سبابته ووضعها بين حاجبه واذنه في اشارة إلى المخ ثم اكمل :
-“بص يا كريم دماغك هي اللي هتوديك للمكان اللي أنت عاوزه لازم تشغلها علشأن توصل هحكيلك حكايه غريبه شويه في دكتور جراح كبير وده بيشتغل بأيده مع مرور السنين بدأ سنه يكبر واديه تترعش قرر يجيب دكتور شاب يشتغل بأيده وهو يقف جنبه أتقدم اتنين دكاترة علشأن يشتغلوا مع الجراح ده واحد اتخرج وكأن جايب امتياز مع مرتبه الشرف والتأني دكتور نجح بالعافيه تفتكر اختار مين”
أندهش الجميع لمعرفتهم الاجابة الأكيدة وهي الدكتور الحاصل على درجة الامتياز الا نور التي رفعت يدها بالنفي مما جعل داغر ينظر لها في ترقب محاولا فهم إشارتها وهي تشاور على عروق يديها وهي تقبض يديها وتفتحها لم يفهم حتي كريم ماذا تريد أن تقول نور إلى أن ضحك داغر وهو يصفق بيديه لها فينظر الجميع له كي يشرح لهم ما فهمه من إشارات نور ظل داغر ينظر إلى نور في إعجاب شديد بعينين تلمعأن فرحا بينما نور ظهر عليها الخجل الواضح واحمرت وجنتيها فزادتها جمالا عقب داغر على إشارات نور بعد أن نهض من مكانه :
-“نور قالت أن الجراح الكبير اختار الدكتور اللي نجح بالعافيه وده صح فعلا هقولكم ليه علشان عمل اختبار عملي للاتنين لقي أن الدكتور اللي جايب امتياز ايده مهزوزه اما التأني أعصابه حديد ايده ثابته فأختاره”
كانت كلمات داغر تأخذ حيزا في عقل كريم وأعجب بها لدرجة تبين انه يتساءل عن كيفية استغلها، فتح داغر غرفة مكتبه وتحدث إليهما وكان كريم هو من يقوم بالرد على الأسئلة و الاستفسارات، استوعب داغر روايات كريم جيدا وفهم ما يعانونه من شوء معاملة نرجس لهم و ابيهم ضعيف الشخصية، أشعل سيجارا ضخما كعادته ووعدهم بحل قريب لهذه المشاكل كانت نور تراقب جميع تحركات داغر وأيضا بيئة مكتبه، نظرت اليه و أشارت له أنها تريد أن تصبح مثله محامية ولكنها بدون صوت ليذكرها داغر بالجراح، فهمت ما يريد أن يقول فعليها أن تعمل على القضايا و عليها أن تستعين بمحامي صغير، وعدها أنه سوف يقف الى جانبها من البدايه، امتلاء صدر نور بالفرح وازداد إعجاب داغر بها ولَم يكن إعجابا بذكائها فقط بل لجمالها أيضا.
دخلت سالي المكتب عليهم حاملة حقيبة مليئة بملابسها القديمة أعطتها إلى نور ثم نظرت لوالدها وتحكي له عن السلسلة الذهبية التي وجدتها نور اثناء ترتيبها الغرفة فيأمرها داغر بإحضارها، ذهبت سالي إلى غرفتها دون ان تسأل عن السبب ولتحضر السلسلة ثم يأخذها داغر من يدها بعد ان نهض من مكانه ولفها حول رقبة نور ووعد سالي بشراء اخرى لها ولكن ظهر على وجهها الغيرة الواضحة من فعلة والدها ولكنها لم تعلق وامتثلت له، حضر اسماعيل في موعده المحدد ليأخذ ابنائه وطلب منه داغر ان يأتي بهم كل يوم جمعة لقضاء اليوم معهم ابتسمت نور عند سماعها ذلك وزادت فرحتها عندما ودعها داغر بعد ان قبلها على خدها شعرت كأنها تطير في سماء عالية وان ما يحدث حلم بكل المقاييس ظلت نور شاردة طول الطريق تضع يدها فوق صدرها تمسك السلسلة ليس لقيمتها بل تتذكر حين لفها داغر حول عنقها وظلت تحلم بيوم الجمعة القادم.
ظلت نرجس تراقب باهتمام حتى ظهروا امامها وطلبت منهم الصعود مباشرة مما جعل نور تشعر بالقلق ولكن كريم طمأنها ولكنها علمت ان فرحتها لن تطول وسوف تنتهي بكابوس.
*تــــابعونـــــي*