شعاع نور للقيصر محمد محسن حافظ
************************
#شعاع نور# الجزء الأول
********************
…
“روبابيكيا ……يلا بيكيا”
تسمع نور هذا الصوت الذي تحبه كثيرا فتنهض مسرعة ولكن سرعان ما توقفت تنظر إلى نصفها السفلي وعلى فراشها المبتل فقد فعلتها من جديد دون ان تشعر، إلا أن الخوف من ابتعاد صاحب الصوت أخذت بلف وسطها بقطعة من القماش وجرت مسرعة تفتح الشباك شاورت بيدها محاولة ان توقفه وقد مر أمامها و هي تصدر صوتا منخفضا غير مفهوم، لم يسمعه كانت تشعر بالجنون بدأت تطرق على شباك شرفتها بكل قوة ولكن دون جدوى فانتبهت فجأة إلى كريم ثم ذهبت لتوقظه وعندما فتح عيناه وجد نور تشاور على الشباك وتجذبه فقام مفزوعا، وعندما اقترب فهم ما تريد :
-“عم رمضان يا عم رمضان تعالي نور عاوزاك”
ذهب كريم من جديد إلى فراشه بعدما أدى المهمة بنجاح و كان المقابل قبلة حنان من نور، عاد رمضان إلى نور وهو يلف حصانه المعلق بعربة خشبية مليئة بالأدوات المستعملة ابتسم رمضان في وجهها واقترب وكان يلقبها بــ ‘ست العرايس’، شاورت نور على ملابسها ففهم رمضان ما ترمي إليه فهي دائما توفر بعض النقود المعدنية البسيطة لشراء ملابس مستعملة لها و لكريم أيضا عاد رمضان بعد دقائق قليلة ذهب خلالها إلى العربة يبحث عن حقيبة سوداء يعلم ان بداخلها أشياء قد تناسبها، فتحت نور الحقيبة وأخرجت منها فستان ملون يناسبها وضعته عليها دون ان ترتديه فضحك فرحا كان مليئا بالورود، أخرجت ايضا قميص ‘كارو’ وبنطلون من الجينز الازرق حالته جيدة وكان هذا من نصيب كريم هزت نور رأسها بعد ان حكت إبهامها مع السبابة (حركة نفعلها كثيرا توحي بالمال او السعر) للاستفسار نظر إليها رمضان بعين الرأفة فهي زبونته ويعرف حالتها جيدا :
-“بصي يا نور يا بنتي الحاجه دي تمانها ميت جنيه بس انا هحسبهالك سبعين”
شاورت نور بالنفي ثم وضعت كف يدها على صدرها كاستعطاف وفردتها لتحرك جميع أصابعها لأسفل كي يخفض السعر
كادت عين رمضان تدمع من الإشفاق ونظر إليها :
-“خلاص يا بنتي اللي معاكي ادفعيه”
جرت نور من أمامه ورفعت بلاطة من أرضية الغرفة المتهالكة وأخرجت منديل ملفوف بإتقان وضعته على السرير وأخذت في عد الجنيهات المعدنية إلى ان وصلت لأخر قطعة، لقد كانت ثمانية وخمسون وضعتهم جميعا في يد رمضان وصفقت بكلتا يديها دليل على عدم امتلاكها شيئا اخر، شاور لها رمضان بالاقتراب ووضع بيدها ثمانية جنيهات وتقاضى الخمسين فقط لم تفهم نور لماذا فعل ذلك ولكنها شعرت بداخلها انه نوع من الإحسان والعطف فرفضت بشدة ولكن لم يستسلم رمضان وترك لها الباقي من النقود وانصرف مناديا ‘روبابيكيا ….يلا بيكيا..’.
ذهبت نور إلى الحمام تغتسل وتبدل ثيابها ثم خرجت وجلست بجوار كريم الذي ذهب عنه النوم وظل ناظرا إلى سقف الغرفة المليء بالعفونة جراء المياه المتسربة دون ان ترمش عيناه وكأنه يبحث عن شيء فيه يعرف جيدا ما تفعله نور لأجله ومدى حبها له وإصرارها على ذهابه إلى المدرسة التي يكرهها، غير أخته تماما التي تهوى التعليم ووصلت إلى الثانوية العامة اما فهو فواصل الرسوب في اول المراحل الإعدادية، أعطته نور ما اشترت فنظر لهم دون اهتمام وهو يهز رأسه، فقد شعر بالاختناق من هذه العيشة الكريهة وظهر تمرده في الأيام الأخيرة لم تبالي نور لما فعل فهي تعلم ما يشعر به كريم
ارتدت الفستان الملون وقد بدأت تلف جسدها به وظهرت أنوثتها بداخله وهي تقف أمام كريم تطلب رائيه لف رأسه في اتجاها وابتسم رغم عنه :
-“حلو اوي يا نور مبروك عليكي”
ضحكت نور و أخذت تقفز فرحا وكأنها امتلكت الدنيا فما أجمل الرضا في عينيها.
**************************
كان مسجل باسم ‘إسماعيل جوز اختي’، وضعت الهاتف على إذنها إلى ان سمعت :
-“السلام عليكم”
لم ترد السلام ولكنها تكلمت بنبرة قوية تعلوها الثقة :
-“اسمع يا اسماعيل انا عاوزه نور تجبهالي النهارده البنت وحشتني وانا بقالي سنين مش شفتها انا خالتها نسيت ولا ايه”
سكتت قليلا لتسمعه ولكنها قاطعته :
-“طبعا وكريم كمان يجي معاها هستناهم النهارده بعد الضهر وترجع تاخذهم بالليل هيقضوا اليوم معايا عارف لو اتأخرت هخلي عيشتك سوده”
لم تنتظر سماع الرد وكأنه أمر منها واجب التنفيذ.
-“ايه يا مامي عاملتي ايه بعتي تجيبي نور انا خلاص مش قادره من المنظر الاوضه منظرها صعب
اووي”
تضحك مشيره بعدما سمعت كلمات سالي، وتنهض وتقترب منها :
-“ايوه يا حبيبتي خلاص نور هتيجي وكمان قولت لباباها يجيب كريم معاها اهو محتاجه يجبلي شوية حاجات من تحت ويقضي كام مشوار ويغسل العربيه احسن البواب المتخلف ده مش نضيف”
تشعل سالي سيجارتها الرفيعة البنية اللون وتنظر إلى امها :
-“عارفه يامامي انا مش فاكره شكلهم خالص كريم ده انا مش شوفته تقريبا هما عندهم كام سنه”
تسحب مشيره مبرد الأظافر من احد الرفوف بعد ان نظرت إلى يدها ووجدت إحداهم مائلا قليلا ثم جلست من جديد بجوار سالي :
-“نور يا ستي عندها تمنتاشر سنه وكريم اربعتاشر”
نظرت إلى سالي وأكملت :
-“عارفه يا سالي انا كمان بقالي تمن سنين مش شوفت حد فيهم يا ترى شكلهم ايه اكيد منظارهم بشعه ربنا يستر وعاوزاكي يا سالي تعيني الدهب والحاجه بتاعتك كويس منعرفش ممكن تكون أيدهم طويله”
تنهض سالي حين سمعت هاتفها يرن ككلمات أمها التي رنت هي الأخرى بالتحذير، فتنظر إلى مشيره وقد بدا على وجهها القلق
-“حاضر يا مامي هلم كل الدهب والمجوهرات بتاعتي قبل ما يجوا مين عارف مش ممكن تكون نور دي نشاله ولا حراميه”
**************************
دق باب الغرفة الصغيرة ففتح كريم ولَم ينطق بكلمة حين رأى أباه امامه فترك الباب مفتوحا على مصراعيه ودخل دون كلمة ترحيب، دخل اسماعيل فتهلل وجه نور واحتضنته بقوة وطلبت منه الجلوس فنادرا ما يفعلها اما كريم فكان يود الهروب ولكن إلى أين فالغرفة ضيقة تماما فلم يكن بإمكانه سوى أن ذهب إلى احد الأركان واعطى ظهره لهم ولكنه سمع كلام أبيه جيدا وهو يوجهه إلى نور و له أيضا، أمسك اسماعيل بلطف ذراع نور وهو جالس بجوارها ناظرا إلى عينيها :
-“عارفين مين كلمني من شويه وعاوز يشوفكم”
رفعت نور كتفيها وارتسمت على وجهها الدهشة مما قال والدها الذي اكمل :
-“خالتك مشيره تفتكريها يا نور عاوزه تشفكوا بتقول انكم وحشتوها اوي”
فكرت نور قبل ان تبدي اي تعبير، فهي تتذكر مشيره جيدا رغم مرور سنوات طويلة ولكنها شعرت بدفيء عند سماع اسم خالتها فقد عاشت وحيدة هي وأخيها ولَم تمر دقائق حتى قفزت من مكانها وهي تهز رأسها بالموافقة اما كريم فلم يكن يعلم من الاساس بوجود أقارب له ولكنه لم يمانع تركهم أبيهم على ان يعود من جديد بعد ساعة من الزمن للذهاب الى الزمالك ذهبت نور الى كريم تعطيه الملابس التي اشترتها من رمضان كي يرتديها اما هي فارتدت فستانها ووقفت أمام مرآة شبه مهشمة تظهر اجزاءا منها ثم بحثت عن طرحة تناسب الألوان، لم تجد مما جعلها تشعر بقليل من الإحباط اقترب منها كريم وقد فهم بعد ان وضعت الطرحة بجوار الفستان وشاورت بيدها انها لا تناسبه ليسألها :
-“عاوزه الطرحه لونها ايه ؟”
أشارت على اللون الأخضر في فستانها فتركها كريم وخرج مسرعا من الغرفة ولَم تمر عشر دقائق حتى رجع وفِي يده الطرحة مما جعل نور تندهش وهي تشاور بطريقة غريبة وكأنها تفتح احد الاكر الدائرية ومعناها *جبتها ًمنين* ضحك كريم وهو يرفع نفسه قليلا من على الأرض كي يصل الى رأس نور ويضع عليها الطرحة :
-“انا جبتها من بسمه اخت راشد صحبي”
هزت نور رأسها واعتلت وجهها علامات الغضب فهي لا تحب راشد نظرا لسلوكه السيئ ولسانه سليط وكانت بسمه هي الأخرى كذلك ولكن لا يقوي احد على قول ذالك خوفا من بطش أخيها البلطجي، داهم نور الوقت ولَم تجد مفر من ارتدائها فكان وجهها كالبدر شعرت وقتها انها أجمل فتاة في العالم وعينيها سوداء ورموشها طويلة مكحلة طبيعيا وكذلك حواجبها عريضة زادتها جمالا تناسبت مع بياض وجهها سمعت كريم يغازلها :
-“انتي حلوه اوي يا نور”
ثم سحب من يديها نظارة طبية حالتها سيئة كانت تريد ان تضعها فوق انفها الصغير ابتسمت لأخيها بشفتيها الممتلئة تعلن تأييد رائيه الى ان وصل الأب بوجهه الشاحب لتسير بينهم واضعه يديها في أيديهم تكاد تطير من الفرحة والكل ينظر اليها
**************************
الزمالك
فتحت مشيره الباب وهي تبتسم علت وجهها الدهشة عندما رأت نور وكريم وقامت باحتضانهم اما إسماعيل فلم يدخل واستأذن بعد ان اطمئن عليهم جلست نور وكريم ينظرون الى المنزل في ذهول فلم يروا منازل مثل هذا سوا على شاشة التلفاز لم يدركوا ان هناك حياة أخرى غير حياتهم مليئة بالترف والعز والأموال ولكنهم ظلوا هادئين تركتهم مشيرة ثم ذهبت وأحضرت بعض الحلويات الجاهزة وعلب العصائر ووضعتها أمامهم مرحبة بهم تتذكر اختها والده نور.
طلبت مشيره منهم الكلام وعدم الخجل ونظرت الى نور ولكنها فوجئت بكريم ينظر اليها وهو يرفع حاجبه :
-“نور مش بتتكلم صوتها رايح”
فهمت مشيره ان هناك شيئا خاطئ ولكن عليها ان تصبر لكي تفهم الأمر، سمعوا احد الأبواب تفتح ورافقه صوت رقيق يأتي من الخلف :
-“هاي انا سالي وانتي اكيد نور وانت كريم”
ابتسمت نور وقد تذكرت سالي وحاولت ان تفهم سالي انها تتذكرها فوضعت إصبعها السبابة فوق صدرها اولا ثم رفعته فوق إذنها تحركه في حركة دائرية، هزت سالي كتفيها ولكن لم تمر ثواني حتى نظر لها كريم الى سالي :
-“هي بتقول انها فكراكي”
نظرت سالي الى مشيره وهي ترفع حاجبها:
-“هي نور خرسه يا مامي”
تغير لون نور وشعرت الضيق والاختناق اما كريم فاكتفى بالنظر الى سالي باشمئزاز وقتها حاولت مشيره ان تغير الموضوع وأمرت سالي ان تأخد نور الى غرفتها وانفردت هي بكريم كي يحكي لها ما حدث لأخته، فحكا لها بذكاء يفوق عمره ما حدث منذ وفاة أمه الى ان رماهم أباهم في الغرفة القذرة.
************************
دخلت نور غرفة سالي ووجدتها مليئة بالثياب والأجهزة الحديثة مثل ‘اللاب توب’ والهواتف المحمولة الغير مستخدمة وجهاز ‘البلاي استيشن’ التي لا تعلم اي شيء عنه وشاشة عملاقة ومرآة كبيرة لامعة تحتها الكثير من زجاجات ‘البرفيوم’ ومستحضرات التجميل ولكنها مبعثرة في كل مكان، نظرت لها سالي في خبث واضح ووضعت يدها على كتف نور :
-“انا بقى يا نور تعبانه ومش قادره انظم أوضتي خالص ممكن تسعديني”
ابتسمت نور وهي تخلع طرحتها مرحبة بذلك بينما جلست سالي ولَم تفعل اي شيء وسحبت سيجارة ووضعتها في فمها فتغير لون نور كثيرا من الخجل فهي لم تشاهد فتاة تدخن من قبل ولكنها اندمجت في التنظيف بمنتهى السذاجة ورفعت السجاد ونظفت من تحته وقامت بتنظيم الملابس ووضعها في أماكنها الى أن تعرقت ولكنها لم تمل وفعلت كل شيء بمنتهى الحب وأثناء التنظيف وجدت سلسلة ذهبية طويلة لم تفكر كثيرا وذهبت ووضعتها فوق قدم سالي المنهمكة في تصفح
‘الفيس بوك’ والضحك ولكن موقف نور اثار انتباهها جدا وفجأة اقتحم كريم الغرفة في غضب وهو ينظر الى اخته الجالسة تمسح البلاط ليصرخ باكيا
-“يلا بينا يا نور بتعملي ايه دول مش اهلنا دول عاوزين خدامه ومرماطون”
تقف نور وتضع وجهها في الارض ثم تقترب من اخيها وتحتضنه
*تـــــابعونــــي*