رواية روضت الذئب بقلم اسراء على/كاملة
رواية روضت الذئب بقلم اسراء على الفصل الحادى عشر
ولقد لَقِيتُ الحادثاتِ فما جرى.. دمعي كما أجراه يومُ فراق
ِ وَعَرَفْتُ أيامَ السرور فلم أجدْ.. كرجوعِ مُشْتاقٍ إِلى مُشْتاقِ.
هبط أحمد الدرج بعدما سلَم صغيرته بـ اليد إلى نهلة..كان بـ ساقه عرج طفيف إثر الحادث الذي تعرض إليه معهما..مسد على ذراعه المُجبرة بـ ألم ثم أكمل الهبوط بـ حنق..من فعل ذلك كان يستهدف زوجة رائف الأسيوطي..تذكر ذلك اليوم وهو يُحاول تفادي الحادثة
“عودة إلى وقتٍ سابق”
كان يتحدث مع إسراء عما ستفعلانه ما أن تطئ قدمها هي و والدها أرض فرنسا بـ إهتمام و جدية
-بصي يا مدام زهرة..أول لما تنزلي من الطيارة وتخلصي الإجراءات..هتلاقي فـ صالة الإستقبال بنت و معاها إتنين حُراس..هخليكِ تشوفي شكلهم دلوقتي…
أخرج هاتفة وفتح معرض الصور ليظهر لها صورة تجمع الثلاث أشخاص ثم أكمل
-البنت هتوصلك لبيت والحراس دول هيفضلوا قدامه..أي حاجة تُطلبيها هما هينفذوها..رائف محذر من خروجك برة البيت لوحدك
-زفرت بـ قنوط وقالت:رائف خواف أوي..أنا فـ بلد تانية
-أردف أحمد بـ نبرة خافتة:إسأليني أنا..كنت شغال معاهم وعارف هما ممكن يوصلوا لإيه..متستخفيش بيهم يا مدام
-ربنا يعديها على خير
-أمن على حديثها:يارب…
إلتفتت إسراء إلى والدتها تطمأن عليها لتجدها صامتة تنظر من النافذة تُتابع الطريق بـ إهمال..لم تكن تعلم أنها تُحب والدها لتلك الدرجة فـ هما كانا دائمي التشاجر
لفت أنظارها تلك السيارة المُسرعة التي تتجه إليهما..وقبل أن تُحذر أحمد كانت قد إصطدمت بهم بـ الخلف
إصطدم رأسها بـ مسند المقعد بعدما تشبثت به..ثم نظرت إلى والدتها التي تأوهت بـ ألم إثر إصطدامها بـ النافذة..إلتفتت سريعًا إلى أحمد الذي كانت رأسه تنزف بـ شدة وهو يسب ويلعن..كُشف أمرهم..صرخت بـ جزع
-إيه اللي بيحصل؟!…
جأر أحمد بـ صُراخ حاد وهو يتلقى الصدمة الثانية ليأمر كِلاتيهما بـ صرامة
-وطي راسك يا زهرة بسرعة..وأنتِ كمان يا ست صفاء…
إمتثلا لما أمرهما به..ولكن تلك المناورة لم تتوقف عند ذلك الحد بل تطور الأمر إلى إستخدام الأسلحة لتكون أول إصابة بـ إطار السيارة وبـ ظل السرعة التي كان يقود بها حتى يتفادى السيارة..أدى إلى إنقلاب السيارة بهم جميعًا..حتى توقفت بعد عدة ثوان
دقائق مرت بـ سكون حاد حتى إستعاد أحمد وعيه ليجد نفسه عالق بـ السيارة هو زوجة رائف و والدتها..نظر حوله بـ الطريق الخالي حتى من السيارة التي كانت تُطاردهم قبل أن يستعيد أنفاسه ويخرج من السيارة ليعاونهما على الخروج وهما فاقدتين الوعي تمامًا
بعدها هاتف الإسعاف ثم رائف يُخبره بما حدث
“عودة إلى الوقت الحالي”
ومسح على وجهه صعودًا إلى جبهته المُضمدة ليتجه إلى سُرداق العزاء
توقف بـ أنفاسٍ مقطوعة وعينين مُتسعتين وهو يرى هوية المُتحدث مع رائف..وبلا أدنى تفكير توجه إليهما مُسرعًا يُمسك بـ تلابيب جهاد هادرًا بـ صوتٍ جهوري إسترعى إنتباه الجميع
-قتلتوا مراتي وجيتوا تخلصوا على مراته..مش هتنضفوا بقى يا *****…
ثوان لينجلي الجمود عن رائف لتشتعل عيناه كـ جمرتين مُشتعلتين من النيران الحارقة وهو يستوعب ما يتفوه به أحمد
وعلى الجانب الآخر إبتسم جهاد بـ إستفزاز ثم أردف وهو يُحاول إزاحة يد أحمد عنه
-عيب كدا يا أستاذ..أنا جاي أعزي فـ حرم رائف باشا الأسيوطي
-هزه أحمد بـ قوة وهدر:أنا مش هسيبكوا…
إتسعت عينا جهاد وهو يتلقى تلك اللكمة التي أطاحت به أرضًا..ثم رائف يفقد وقاره و هدوءه وينهال عليه بـ الضرب والسباب بـ أقذع الشتائم..لينتفض جميع الحضور وهم يروا ذلك العرض المُثير
حاول طارق و والده فض الإشتباك بل الحقيقة هجوم رائف على جهاد الضاري حتى تمكنا بـ شق الأنفس..أشار رائف بـ تحذير بـ يده وقال
-نهايتك على إيدي..هخليك تندم ع اليوم اللي فكرت فيه تلعب مع رائف الأسيوطي..هخليك تبكي بدل الدموع دم على اللي عملته فـ مراتي…
نهض جهاد ونفض ثيابه ثم أردف وهو يمسح الدماء عن فمه المُلطخ بـ ذرات الأتربة
-أنا مقدر اللي أنت فيه يا رائف باشا..عشان كدا هعذرك ومش هعمل حاجة..البقاء لله…
ثم إستدار على عقبيه راحلًا وإبتسامته الشامتة تكاد تشق وجهه
كانت تنظر من نافذة تلك الغُرفة..سجنها القسري الذي حُبست به رُغمًا عن أنفها..تنهدت بـ حزن وعينيها لا تتوقفان عن البُكاء جاذبة الملاءة المُتلحفة بها أكثر على جسدها علها تُخفي عري جسدها..ولكن ماذا عن عري روحها!..عن ألمها النازف بـ شدة!..عن حق عيشها بـ الحياة!..عن الأمانة التي وُضعت بـ عُنقها!..أجهشت بـ بُكاء وهي تُتمتم
-والله تعبت أوي يا ربنا..أنا عارفة إنك هتفرج عليا كربي..بس أمتى!..أنا مش عارفة هفضل مستحملة أد إيه!…
مسحت عبراتها وهمست بـ قسوة
-لازم أكون قوية عشان أقدر أهرب من المكان دا..لازم أعرف أنا هعمل إيه!..يارب قويني…
ثوان و سمعت صوت القفل يُفتح والباب يُدفع بـ خفة..إنتفضت واقفة تضم الملاءة على جسدها المُنكمش بـ خوف وإشمئزاز من لمسات حقيرة سيتنعم هو بها..ويحرق جسدها بها
ولكنها حدقت بـ صدمة من ذلك الشخص الغريب الذي يدلف إليها ومعه تلك الفتاة الشقراء..أغلق الباب خلفهما وحدق بها بـ جرأة ووقاحة رادفًا
-أنتِ بقى الوجه الجديد!!…
إزدردت ريقها بـ خوف وهى تتضرع بـ الدُعاء..ليقترب هو منها ويدور حولها..توقفت أنفاسها وهو يهمس بـ جانب أُذنها
-دايمًا بيعجبني ذوق جهاد..فيكِ حاجة غريبة لأ وجديدة…
ملس على جانب وجهها ثم عُنقها لتُبعد يده عنها بـ إشمئزاز بـ قوة ليُقهقه قائلًا
-لأ وشرسة كمان…
جلس على المقعد المُقابل لها ثم أشار إلى الفتاة لتجلس على قدمه بـ وقاحة وأردف بـ هدوء
-أنتِ بقى اللي مخبيكِ عني!..خايف عليكِ مش كدا!..خايف مني…
عضت نجلاء على شِفاها السُفلى ولم تتحدث بل قبضت أكثر على الملاءة وإستمعت إلى حديثه الوقح
-ما تسيبي الملاية دي..عاوز أشوف الجمال الشعبي..طول عمري بيجذبني الجمال دا…
وأيضًا لم ترد عليه..ليُحيط خصر الفتاة يُقربها منه ثم أردف
-مش ناوية تُردي عليا!!…
نظرت إليه بـ إزدراء وأشاحت بـ وجهها بعيدًا عنه..ليدفع الفتاة ثم يتجه إليها..أدار رأسها إليه وهو يقبض على فكها بـ قوة لينطلق منها أنين مُتألم ثم هدر هو بـ شراسة
-مش من عادتي أكون هادي كدا مع حد..بس أنتِ تُخصي الغالي وأنا مش عاوز أوريكِ مين هو رحيم..فـ ردي عليا كويس يا شاطرة…
دفعها بـ خفة ثم عاد إلى مقعده يضع ساق على أُخرى والفتاة تقف خلفه و تقوم بـ تمسيد كتفيه ليقول بـ إسترخاء
-عاوز أعرف سبب إهتمامه بيكِ!
-أجابته بـ تحشرج وألم:مـ. .معرفش
-ضرب ذراع المقعد وهدر:قولت إيه أنا؟
-صرخت بـ قهر:والله ما أعرف…
عاد يسترخي بـ جلسته لتعود الفتاة وتُكمل عملها ليردف
-هو قال عنده ليكِ مُهمة..تعرفي إيه؟!…
حركت رأسها نافية..لبيتسم بـ خُبث ثم تشدق بـ نبرته الثقيلة
-أنا عارف إنك تحت رحمته دلوقتي..وإنك إتأذيتي منه ومش عايز أوضح إزاي…
أحست بـ رجفة قاتلة تسري بـ جسدها بدءًا من عمودها الفِقري حتى أصابع قدميها..ليُكمل بـ خُبث
-أنا هطلب طلب صغير وليه مُقابل كبير…
لم يبدُ عليها الإهتمام بل كل ما خرج منها إبتسامة مُتهكمة وهي تستنبط المُقابل الكبير الذي يتحدث عنه..أما تجاهل سُخريتها ليُكمل عرضه
-هتوصليلي أخبار جهاد كلها..الصغيرة والكبيرة مع البنت الأمورة دي والمُقابل…
صمت وكأنه يُثير فضولها وبـ الفعل نجح في ذلك لينهض ويتجه إليها هامسًا أمام وجهها بـ طريقة أثارت إمشئزازها
-الحُرية…
ثم إبتعد عنها..لم تفهم ما يعني لتسأله بـ خفوت يأمل الحُرية التي تطلبها
-حُرية بأي مفهوم!!
-ضحك وقال:مش اللي فـدماغك..أنا قصدي تبدأي شُغل فـ الشوارع زي “المومس” كدا..يعني تشوفي الشارع بدل الحبسة دي…
رأى معالم وجهها تتوالى عليها المشاعر..بدءًا من الحزن والكره..حتى الحقد والقسوة ليردف وهو يُمسك يد الشقراء ويتجه إلى الخارج
-الحُرية اللي فـ دماغك من المكان دا يا إما تكوني سلمتي بـ الأمر الواقع وتشتغلي عشان حابة اللي بتعمليه..أو الموت…
سقطت على الأرض الباردة وهي تستمع إلى صوت القفل يُعاد غلقه لتجهش بـ بُكاء مرير تُخفي وجهها خلف يديها تصرخ بـ قهر وهي تُعاني من الظلم والقسوة التي تتلاقها من أهل وطنها ومن المفترض أنهم “حاميتها” ضد أي ظَلم تتعرض له ولكن هل يزرع الله النخوة بـ القلوب بعدما أُچتثت أصول دينها وأخلاقها!..حتى مبادئ النخوة تم ركلها بعيدًا
صعد رائف إلى منزل زوجته بـ الحي الشعبي دون أن يكتمل العزاء..غير سامحًا لأحد غير شقيقته بـ المكوث معه
توجه إلى غُرفتها ليجد صغيره يبكي..رفعه إلى صدره وأخذ يربت على صدره يُهدأه..ليُقبل جبينه هامسًا بـ ألم
-وأنا كمان وحشاني ماما أوي يا غيث..الدُنيا ضلمت معايا بعدها..بُعدها عني مخليني ناقصني حاجات لأ مش ناقص..أنا إنتهيت…
أبعد الصغير يُزيل عبراته بـ إبهاميه ثم أردف
-أنا هتوه من غيرها يا غيث…
ربت على ظهر الصغير و سار به الغُرفة ذهابًا وإيابًا حتى غفى..وضعه بـ الفراش بـ رفق ثم نزع سترته وقميصه حلّ أزراره وتركه مفتوحًا
فحص الغُرفة لأول مرة بـ تدقيق رائحتها تعبق بها..ضحكتها تملأ أُذنيه..تلك الضحكة الذي كان السبب بـ إنحسارها عن شفتيها..أخبرته أكثر من مرة عشقها لتلك الغُرفة التي مُلِئت بـ أحاديثها هي وجدها
توجه إلى مكتب قديم وُضع أسفل نافذة تطل على الحي..ليبدأ بـ تفحص محتوياته..كانت عبارة عن العديد من الكُتب العلمية..لتخصصات الطب والعلوم والهندسة والعلوم الإسلامية..إبتسم وهو يجد بـ كل صفحة المقطع المُفضل بـ النسبةِ لها
هبطت عبرة وحيدة على وجنته اليُسرى وهو يُردد أخر مقطع بـ تهدج
“دي ليلة حب حلوة..بـ ألف ليلة وليلة”…
جلس على المقعد واضعًا يده على جفنيه يفركهما بـ ألم هامسًا بَ ضعف
-ليه سبتيني وروحتي!..ليه سبتيني أرجع وحيد؟!..ليه سبتيني من تاني ليه!!…
وضع جبهته على حافة المكتب وأكمل
-مش قولتيلي إنك هتفضلي معايا لنهاية..ليه خلفتي بـ وعدك يا زهرتي؟!..ليه مسبتيش وراكِ غير شوك؟…
وأجهش بعدها بـ بُكاء إختزنه بـ الأمس حتى إستعاد وعيه وهو يتذكر أخر ما تفوهت به
-متنساش صلاتك يا رائف..صلاتك هي اللي هتقربنا من بعض…
نهض بـ قلبٍ ملكوم ليتجه خارج الغُرفة..ليتوضأ ثم أدى فريضته جالسًا على الأرض عدة دقائق ونهض بعدها
إتجه إلى صغيره النائم بـ هدوء ملائكي أسر قلبه ليحتضنه واضًعا أنفه بـ عُنقه هامسًا بـ ألم
-معلش هنام من غير ماما…
وضع مفاتيحه بـ الباب الخشبي ثم فتحه ودلف إلى المنزل القديم الذي لم يره مُنذ فترةً طويلة..تجعدت أنفه بـ إشمئزاز وذكريات ذبح طفولته مِرارًا و تكرارًا تعود وتُداهمه ليضع يده حول رأسه هامسًا بـ قسوة
-بس..خلاص كل دا ماضي..أنت أقوى يا جهاد..بقيت أقوى…
سمع صوتًا من الداخل يردف
-أنت جيت يا جهاد!!!…
بقى جهاد واقفًا بـ مكانه حتى سمع صوت باب الغُرفة يُفتح وتطل منه سيدة قد تمكن العُمر منها..بـ الكاد تسير على قدميها بـ مُساعدة عصاه تتكئ عليها وعينين غائرتين سوداوين كـ عينيه
تقدم منها سريعًا وهو يجدها تبتسم قائلة
-حبيبي..واقف عندك ليه؟!…
قَبّل جهاد يدها وإتجه بها إلى الأريكة ثم أردف بـ هدوء
-معلش أعذريني يا حبيبتي..أنتِ عارفة إني مبجيش هنا غير عشانك
-ربتت على يده وقالت بـ أسى:عارفة إنه صعب يا ابني..بس دا من ريحة أبوك مينفعش أتخلى عنه
-عارف..عارف…
نظرت إليه بـ عينيها لتشهق قائلة بـ صوتها المبحوح
-إيه اللي حصلك يا جهاد!..مالك متشلفط كدا ليه؟…
تذكر جهاد هجوم رائف الضاري ليقول بـ وجوم
-شوية عيال كدا شاربين طلعوا عليا وكانوا عاوزين يقلبوني
-إرتفع حاجبيها بـ دهشة وقالت:وبعدين؟!
-ضحك وقال:قلبوني وضربوني كمان…
ضحكت والدته ثم ضربت منكبه قائلة وهى تُعاتبه بـ لُطف
-يعني دا وقت هزار!..شايف منظرك يا جهاد؟!
-محصلش حاجة يا ست الكل..المهم إتعشيتي؟
-أجابته نافية:لأ مستنياك…
نهض جهاد عن الأريكة ثم أردف بـ عتاب وهو يتجه إلى المطبخ
-طب يعني ينفع تتأخري كدا ودواكِ تتأخري عليه!…
ذهب إلى المطبخ وعاد بـ الطعام الذي أعدته الخادمة التي أحضرها جهاد لمُساعدة والدته العجوز..تناولا الطعام بـ صمت حتى قطعته والدته مُتساءلة بـ تردد
-أنت لسه بتشوفه؟!…
تجمدت يده جهاد على الملعقة بـ جمود وعينين تشعان كره ونظرة مُميتة ولكنه حاول التحكم بـ إنفعالاته وأردف بـ جفاء
-وشوف وشه بتاع إيه..ياكش يولع بـ ****جاز ينهش لحمه وعضمه ويريحنا منه
-خلاص خلاص يا جهاد..مكنش سؤال
-نهض جهاد بـ حدة وتشدق:أوعي تكوني لسه بتدافعي عنه!..أوعي تكوني لسه بتحبيه بعد اللي عمله فيا وفيكِ..بعد أما قتل أبويا قدام عيني وأجبرك على الجواز منه
-هدرت والدته بما يسمح لها صوتها:حُب إيه وزفت إيه؟!..لو كنت أعرف إنه اللي قتل أبوك مكنتش بصيت فـ وشه أصلًا..كنت قطعت لحمه بـ إيديا..أنت مش عارف أنا حاسة بـ الذنب ناحيتك أنت بالذات إزاي…
إلتوى فمه بـ تهكم وهي تعتقد أن ما ناله منه لم يكن سوى بضع جلدات بـ حزامه تركت أثرها حتى الآن..أو حتى تعنيفه بـ السباب وإرساله إلى العمل لإحضار المال من أجله..بل يتعدى الأمر ذلك..ذبح براءته..طفولته..حقه بـ الحياة كـ باقي الأطفال
أردف بـ نبرة جامدة وهو يتحرك إلى غُرفته
-متشيليش نفسك ذنب أنتِ أصلًا مش أده..اللي حصل حصل واللي فات مش هيرجع..أنا داخل أنام..متنسيش دواكِ…
صفق الباب بـ قوة خلفه تاركًا والدته تُحدق بـ إثره بـ حُزن
وضعت الطعام على الطاولة ثم إتجهت إلى المطبخ لكي تُنهي إعداد الشاي..مُنذ الصباح ووالدتها و والدها لم يكُفا عن الإتصال بعدما إنتقل العزاء إلى قصر العائلة ليُزيح والده الحِمل عن كتف ولده فـ تأخرت هي بـ إعداد فطور بسيط بـ معاونة بعض الإرشادات من شبكة الإنترنت حتى إنتهت
وضعت الكؤوس و أفرغت الشاي الساخن بهما ثم إتجهت إلى الغُرفة..طرقت الباب بـ رفق عدة مرات ثم دلفت
وجدت رائف لا يزال نائمًا وغيث مُستيقظ يُحرك يديه وكأنه يلعب..إبتسمت نهلة وهى تتقدم منه ثم حملت الصغير وهمست بـ حنو
-صباح الخير يا قلب عمتو..جعان!…
أخرج الصغير صوت زقزقة رقيقة جعلته تُقبل وجنته بـ قوة قائلة بـ همس حتى لا يستيقظ رائف
-طب تعالا أفطرك الأول وبعدين نصحي بابي…
سمعت صوت رائف الأجش وهو ينهض ماسحًا وجهه
-أنا صحيت
-إبتسمت نهلة قائلة:صباح الخير…
أومأ بـ رأسه..ليجلس على الفراش يُحدق بـ الأرض لتتنحنح نهلة قائلة بـ رقة
-مش هتفطر!
-بـ جمود أجابها:مليش نِفس
-عبست وقالت:مينفعش يا رائف..أنت مكلتش حاجة من إمبارح…
نهض رائف عن الفراش لينزع قميصه فـ أجفلت نهلة وإستدارت تحتضن الصغير إلى صدرها لتسمعه يقول
-مش هاكل يا نهلة..أكلي غيث وملكيش دعوة بيا
-تشدقت بـ توتر:آآ أنا..أنا هنا أخد بالي..مـ..منك ومن غيث
-تحرك بجوارها وتشدق:أنتِ هنا عشان غيث..وبلاش تتكلمي معايا كتير يا نهلة عشان دا غلط عليكِ وأنا مش عاوزك تزعلي مني…
تركها وخرج من الغُرفة..رفت بـ جفنيها عدة مرات وهي ترى تحوله السريع..مُنذ يومين كان يُعاملها بـ حنو و دفء لم تشعر به قبلًا..أما الآن!..نفس القسوة والجفاء اللذان خافت منهما بـ أول لقاء
ضمت الصغير إليها أكثر تُقبل رأسها هامسة
-هو بابا حصله إيه!!!…
وضع المنشفة حول عنقه ثم رفع الهاتف يُجيب على أحدهم
-أيوة..عملت اللي قولتلك عليه؟
-أتاه الرد:أيوة يا باشا..دبة النملة هعرفها عنه إن شاء الله
-كويس خليك بقى وراه لحد أما أشوف أخرتها معاهم…
قذف المنشفة بـ إهمال على الأريكة وجلس بجوارها ثم أردف بـ جدية
-والرجالة اللي قولت عليهم!
-رد عليه الآخر:ساعة زمن ويكونوا عندك يا باشا..عنيهم هتكون على الباشا الصغير والهانم الكبيرة
-تمام…
قالها رائف بـ عدم إهتمام وأغلق الهاتف ثم قذفه على الطاولة..رفع فنجان قهوته الذي أعدته شقيقته وتناوله بـ شرود..حتى أنهاه وإتجه إلى غُرفته
أما نهلة إتجهت تفتح باب المنزل وهى تستمع إلى الطرق لتقول بـ صوتٍ متوجس
-مين؟!
-أتاها صوت أحمد:أنا يا نهلة إفتحي…
فتحت نهلة بعدما زفرت بـ راحة لتُقابله بـ إبتسامة قائلة
-إتفضل يا أحمد أدخل…
إبتسم بـ خفوت ودلف..أشارت إليه ليتجه إلى الأريكة فـ جلس عليها واضعًا أمامه بعض الحقائب البلاستيكية..لتسأله نهلة
-إيه دا؟!
-أجابها بـ هدوء:دي شوية حاجات كدا هتحتاجوها
-إبتسمت بـ رقة وقالت:مرسيه..تحب تشرب إيه؟
-أجاب نافيًا:لأ أنا جاي أطمن على رائف وماشي..هو عامل إيه!…
إكتسى وجهها بـ حُزن لتُرجع خُصلاتها البُنية خلف أُذنها ثم قالت بـ نبرة يائسة
-ورجعت ريما لعادتها القديمة
-عقد حاجبيه وقال:مش فاهم
-وضحت له بـ نبرة حزينة:موت زهرة أثر عليه جامد
-حك ذقنه وقال:رجع زي الأول يعني…
أومأت بـ أسى ليتنهد هو بـ حرارة..يتأكد أن الوضع قد تأزم بـ شدة وأن رائف ينحدر بسرعة لم يكن يتخيلها إلى تلك الهوة مُجددًا
إستفاق من تفكيره على صوت نهلة تسأله بـ تردد
-وأنت عامل إيه!
-رفع منكبه السليم وقال:الحمد لله ماشية..قدامي تلات أسابيع وأفك الجبس..الكدمات دي هتاخد كام يوم وتروح
-أومأت وقالت:ألف سلامة
-الله يسلمك…
إلتفتا على صوت رائف الذي هدر من خلفهما بـ قوة
-خير يا أحمد!..قاعد مع أختي ليه؟!
-نهض أحمد وتنحنح قائلًا:أنا جيت أطمن عليك…
رمقه رائف بـ نظرات مُطولة قبل أن يقول بـ جمود
-كويس عشان أنا عاوزك أصلًا…
ثم نظر إلى نهلة وهتف بـ صرامة
-خشي لـ غيث جوة يا نهلة
-لوت شدقها وقالت:طيب…
توجه إلى أحمد وإنتظر شقيقته حتى أغلقت الباب خلفها وقبل أن يسأل صديقه كان قد سبقه
-أنا عارف أنت هتسأل فـ إيه..فـ أنا هقصر عليك الطَرق وأقولك
-حك رائف ذقنه وأردف بـ جفاء:ويُستحسن بـ التفصيل
-أومأ أحمد وقال:جهاد أعرفه لما إشتغلت..بس مكنش بيظهر كتير لأنه الأيد اليمين لـ الفرع اللي هنا..فـ ظهوره كتير غلط عشان كدا تعاملي معاه أنا وسوزي كان عن طريق الفون…
صمت يأخذ عدة أنفاس ثم أكمل وهو يُحدق بـ ملامح رائف التي لم يزل جمودها بل تحولت إلى معالم صخرية
-ولما إعترفت بـ كل اللي أعرفه..إتقبض على ناس كتير..فـ إضطر جهاد يشتغل بـ نفسه وبقى ظهوره أكتر من الأول بـ كتير
-وأنت عرفت كل دا منين؟!
أشار بـ يده بـ معنى إنتظر وأكمل حديثه وقد تحولن نبرته إلى أُخرى قاسية
-كنت بتابع اللي بيحصل هناك من شوية ناس كدا كانوا بيشتغلوا معايا..عشان كدا لما مراتي ماتت عرفت إنها إتقتلت مماتتش..دا غير إني شوفت جهاد لآخر مرة يوم الدفن من بعيد بس مركزتش أوي فيه..وبعدها شوفته إمبارح فـ العزا فـ إفتكرته على طول…
عاد رائف بـ جسده إلى الخلف وقال
-حلو..أنا بقى وفاضيله..أما أشوف أخرتها إيه
-ناوي على إيه؟!
-نظر إليه رائف بـ قوة وقال:الأول معايا!
-دون تردد وقد فهم ما يرمي إليه:طبعًا معاك..فهمني بقى…
قص عليه رائف ما سيفعلانه بـ تدقيق وأن سفر شقيقته وأخيه يجب أن يتم بـ أسرع ما يُكمن حتى يستطيع البدء بـ مُخططه دون خوف..وافقه أحمد بـ كل ما قاله وهو يعي حجم المُخاطرة التي سيوضعان بها ولكن “الثأر” هو ما يُحركهم
وبعدما إنتهى رائف قال أحمد وهو يربت على ساق صديقه
-هنجيب حقهم يا رائف…
أومأ رائف وعينيه تلتهبان بـ لهيب أسود من الغضب والتصميم على الثأر لمقتل زهرته..تنحنح أحمد وقال بـ نبرة خافتة
-حيث كدا..أنا عاوز أقولك على حاجة مهمة…
بعد مُضي سبعةَ أيام تمهل بهم رائف بـ التحرك كما أخبره أحمد حتى يسمح له بـ التوجه إلى ذلك المكان
بـ مدينة الفيوم الساعة الرابعة فجرًا بعدما أدى رائف صلاته بـ المسجد توجه إلى المرحاض وبدّل ثيابه إلى عباءة سوداء و خرج من باب أخر بـ المسجد وسط الزحام حتى يصل إلى وجهته
ترجل من السيارة التي إتخذها بـ الطريق من أجب تمويه من يُراقبه..كما أخبره أحمد مُنذ ثلاثة أيام..وهُناك سيارة غريبة تقف أمام منزله وتترصد جميع تحركاتهم
وها هو يصل إلى وجهته بـ شق الأنفس بعد صبر دام سبعة أيام لم يعرف كيف مروا عليه..صعد تلك البناية بـ أحد المناطق الهادئة..حتى وصل إلى الطابق الأخير
طرق الباب بـ طريقة مُحددة لتفتح الباب سيدة بـ أواخر عقدها الخامس..مُقتضبة الوجه صارمة الملامح فـ أخذت تُحدق به ثوان قبل أن تُفسح له المجال ليدلف
أغلقت الباب خلفه لتُشير إلى أحد الغُرف قائلة بـ صوتها المبحوح
-الدكتور مُحي كان هنا الصبح ومشي من ساعتين
-نظر إليها رائف وقال بـ إهتمام:والحالة؟!
-مُستقرة…
أومأ لتلك السيدة..والتي كانت تعمل كـ مُمرضة بـ مشفى الأسيوطي..ولكنها تركت العمل دون إبداء أسباب..وها هي تعود ويطلبها مُحي من أجل خدمة صغيرة وحين تحدث معه رائف يومًا ما
-أنت واثق فـ الست دي!..يعني مش هيجي يوم وتخونا؟!!
-أجابه والده:الست دي أنا أنقذت إبنها من الموت مرة وهي شايلة الجميل لحد دلوقتي..إبنها مسافر وهي تفدينا بروحنا متخافش يا رائف..أنا عارف حساسية الموضوع وخطورته عشان كدا مش هجيب أي حد..واللي يعرف بيه أنا وأحمد بس حتى رحمة معندهاش خبر…
فاق من شروده ثم قال وهو يتجه إلى الغُرفة المنشودة
-طيب أنا هدخل شوية
-تشدقت بـ صرامة:متتأخرش جوه عشان لازم ترجع قبل أما الشمس تطلع..وتروح على المقابر على طول…
أومأ رائف ثم إتجه إلى الغُرفة بـ تهلف..فتح الباب بـ هدوء ليتجه إلى الداخل وأغلق الباب خلفه
وقف أمام الفراش يُحدق بـ تلك المسجية على الفراش بلا حول أو قوة..فاقدة الوعي بما حولها بـ لهفة وحنو كبيرين..تقدم منها حتى أمسك يدها لتتصاعد ضربات فؤاده بـ عُنف وكأنه مُراهق
إبتلع ريقه بـ صعوبة وعيناه تجد صعوبة بـ تصديق ما يراه..جثى على رُكبتيه ليُقبل وجنتها الباردة بـ عمق ثم همس بـ تحشرج وعيناه تلتمع بـ العبرات
-زهرة!!!….