رواية صعيدية غيرت حياتى بقلم أميرة السمدونى

الفصل الرابع

فى طنطا

توترت الاجواء وحلت الغيوم فوق منزلنا ،حينما هبطت رضوى من شقتها للأسفل لتحضر بعض مستلزمات المنزل ،رمقتها بسخط والدتي وهي تمصمص شفتيها بحسرة على حظ ولدها الوحيد ،تحاوط كنتها بعبارات غاية فى القسوة والجفاء ،بينما أبي فى حقل قريب يحرث الأرض، كانت رائحة الثوم الشهي مع الزيت والكمون تملأ المكان ،وأمي تقلب بمعلقة التقديم الكبيرة الثوم لتمزجه ولتفوح رائحته وهى تحادث رضوى التى وقفت على عتبة المطبخ وهي تجيب:_
_ التلاجة فاضية فوق ،هعدى على السوق ،مش عاوزة حاجة يا ماما…؟

أمسكت بالمقلاة وهي ترفع ما بها فى الهواء قبل أن تضيف حساء الدجاج الساخن ،وتمنحها ما تريده ،مٌجففة يديها فى عباءتها الريفية البسيطة ،لتنزع مبلغاً يتجاوز ال 500 جنيه وهي تأمرها :_
_ متنسيش تجيب له فراخ و2 كيلو لحمة ولا حاجة،لاحسن الواد يا حبة عيني وشه راح قد اللقمة

أطبقت على جفنها بألم قبل أن يرتسم شبح إبتسامة مٌزيفة على شفتيها :_
_ كله من خيرك يا ماما ،عن إذنك عشان ألحق اجي قبل عمر ما يرجع من شغله

طالعتها بإشمئزاز قبل أن تواصل:_
_ هو أيه ال عن إذنك ..وواخدة ديلك فى سنانك وماية..خدي هنا عملتي أيه فى الموضوع ال عمر قالك عليه….؟

أطرقت فى التفكير قبل أن تستطرد:_
_ لو تقبلي وليد يجبر إسراء تعمل كده،ويشك فى أخلاقها وعرضها ،فأنا موافقة

أتسعت حدقتي عينيها وهي تشهق بفزع من جرأة رضوى :_
_ ما هي العايبة تلهيك وتجيب ال فيها فيك..فشر ده أنا بناتي متربين أحسن تربية ومتجوزين وهما بنات ،وقريب هشيل أحفادهم مش زي ناس خبرة

تهاوت عبراتها وهي ترتعش :_
_ الله يسامحك…مش هرد بس إحتراماً لعمر…ابنك ال محترمتهوش ولا صونتي غيابه…عن إذنك

لوت ذراعها بحدة خلف ظهرها وهي تتأوه ،ووالدتي تكز على أسنانها :_
_ جرى أيه يا بت يامنة هتبكتيني….؟ أه ليكي حق ما أنتي مش لاقية راجل يلمك

جهشت فى البكاء كطفلة صغيرة ،وتوردت وجنتيها وجسدها الهزيل ينتفض ،لتتابع بحزم:_
_ العملية هتتعمل والنهاردة…يا كده يا ملكيش أكل عيش فى البيت ده،ما هو أنا لازم أضمن أنك مش هتخونيه زي ما عملتي قبل كده،وطالما بتحبي الرجالة كده ،وفرحانة لي بنفسك،يبقى تطاهري عشان تتهدي

لم يخلص رضوى من يديها سوى عودة والدى للتناول الغداء ،وهو يهتف بإنفعال:_
_ أيه ال بتعمليه ده،أتجننتى …؟؟

صعدت كنتها إلى الأعلى لتغلق باب شقتها بإحكام ،وهي تصيح كالمجنونة فى أرجاء الشقة وبهستيريا ،والغصة تحرق حلقها قبل أن يدُس عمر مفاتيحه فى ثقب الباب ،ليجدها مغشياً عليها وفى حالة إنهيار نفسي وجسدي حاد

فى الصعيد

حاولت اللحاق ب”نوارة “على السلم الرخامي لكنني خشيت أن توبخني ،أو تلومني ،كما إنها لم تعد تثق بي أنا الأخرى ،ولن تستمع بحال من الأحوال لنصائحى ،وقفت فى حيرة من أمري ،قطعتها الخالة يامنة وهي تدفع الباب على نوارة بعنف،لمحتها من خلف الباب النصف مفتوح، وهي تسجد فى خشوع وتضرع وتوسل لله ،إن يقف إلى جوارها ،تبث له همومها وإستبداد الحياة بها ،وقسوة جودة عليها،جلست حماتي على كرسي أثير ،ونظرات التحدي تكاد أن تقفز من عينيها ،أشفق كثيراً على سلفتي فهي أكثر من ظٌلم فى هذا المنزل ، أنهت التحيات وقد أحست بدخول الخالة لتقول دون إن تلتفت لها:_
ال هنعيده هنزيده…؟ …ما جولنا لو اتحتحي من هنه ،ورجة طلاجك هتوصلك ،ضيفي على إجده هجوزه ،ولكاملة بت أختي وهجهر جلبك العمر كله

أطبقت على جفنيها والألم يحاوط قلبها قبل أن ترد بضيق:_
_ لوي دراع يا خالة تجصدي…عموماً فايتة .وهخلعه…منيش ريداه…مهواش املة يعني،وإن كان على حرجة الجلب هتجوز انا كومان

علقت بوعيد وبنظرات حادة:_
_ ووواه،يا عيب الشوم اتجننتي إياك …!

ردت بقوة لا يستهان بها:_
_ كيف يعني…؟ شرع ربنا بجى جنان

بررت الخالة وهي تنهض عن مقعدها:_
_ لاه… وشرع ربنا والجانون فى صفي..جربي تعملي إكده وعيالك قسماً بربي ما هتشوفيهم تاني أبدأ،لو أنجلعت عين إكده

صمتت لثوان ،لانت فيها نبرتها لتقول بلهجة أشبه بالترجي:_
_ أحب على يدك يا خالة أعتجيني أنا والولد لوجه الله

قالت حماتي بحنان وهي تطالع الصغار:_
_ مجدرش..ولادك هما أول فرحتى ..كيف ما بيجول المثل أعز الولد ولد الولد يا نوارة

قوست شفتيها بأسى وبإنزعاج قبل أن تضيف:_
_ همليني ولو ليومين ..أعيد حساباتي وهرجع لكم

عقبت السيدة يامنة بعبائتها السمراء وبعيون لامعة:_
_ موافجة بس على شرط

تهلل وجه نوارة وهي تمسح عبراتها مٌتسائلة عنه ،لتجيب:_
_ تمشي من إهنه لوحدك،لأجل ما أضمن رجوعك

دقائق من الصمت،والتفكير قبل أن تعلن موافقتها ،برغم عدم توافر مكان ستبات فيه ،غادرت الخالة تاركة نوارة وهي تسجد لله حمداً وشكراً ،بعد وقت طويل منالتردد طرقت الباب وفتحته برفق ،رمقتني بعدم إكتراث وهي تطفأ الأنوار ::
_ دماغي هتنفجر من الصوداع ،أنجلعي من هنه،مش نجصاكي عاد

قطبت ما بين حاجباي بحزن على تدنى مستوى المعاملة بيننا،لكن خطرت لى فكرة ستجذبها فواصلت:_
_ نوارة ،أنا عندي المكان ال هتباتي فيه،ومحدش هيعرف لك طريق جرة،بيت أهلي كلهم فى العمر ،تقدري ترتاحي هناك يومين ولما اعصابك تهدى أرجعي

إغتصبت إبتسامة صغيرة شفتيها ،قبل أن تدفعني للخارج وهي تصفق الباب فى وجهي بقوة عنف ،هبط إلى الأسفل بوجوم ،لكنني لمحت دخاناً مٌتصاعداً من إحدى الغرف ركضت بصوبها فوجدتها شبه مفتوحة ،وصدمني للغاية رؤية كاملة وجودة حتى شهقت بتلقائية فضحت أمري حين رأيتها وهي …!

فى القاهرة

بعد أن مالت الشمس للغروبفى الطابق الأول ،تواجدت الأرائك العربية المريحة ،المنزوعة الأرجل وضعتها سماح بالقرب من التلفاز ، والحاج عبد العزيز يجلس فى المقدمة وزوجته تحية وياسين وكذلك رضا زوج ابنته مٌلتفين حوله ،لم يكن متعنتاً تجاه هند كما كانت حماتها،ربما لإنها ابنه صديقه كما كان يرى تحامل زوجته عليها ،أستقرت صنية الفواكه الطازجة على الطاولة ذات الأرجل القصير،تتوسط لوحة قرأنية مٌزخرفة الحائط ،تتألق الحوائط بلون نبيتي هادىء ، نزع عبد العزيز القشر عن الموزة وهو يعلق بعد أن تلقى ياسين إتصال زوجى الهاتفي به ودعوته للغداء فى الغد :_

_ليميها بقى يا تحية متبقاش رأسك ناشفة..عيلة وغلطت ..هنعلق لها حبل المشنقة يعني….؟،وأنت يا ياسين يا ابني كلم مراتك وهديها بكلمتين …الستات سهل يتاكل بعقلهم حلاوة صدقني …المهم تكون أذكى وأكبر من أى موقف

شاركت سماح بسكينتها الحادة وهي تلوح بها ،أثناء تقشير البرتقال :_
_ لا طبعاً…أتقل شوية ..ميبقاش نجمك خفيف كده..هيجرى لها إيه يعني هتتقمص وتتلوي شوية..؟ مصيرها فى يوم ترجع…بس لما ترجع هتبقى تحت طوعك وزى العجينة سهل تشكلها…لكن دلقتك عليها دي هتجيب لك الكافية وهيخليها تركب وتدلدل كمان

تدخل رضا بلطف وهو ينكشها كعادته:_
_ ما تخليكي محضر خير يا موحة….وتبطلي شغل الأسافين من تحت لتحت دي

مصمصت شفتيها بضيق:_
_ الحق عليا عاوزة مصلحته …ومصلحة ماما الغلبانة ال محتاجة ال يرعاها ولا هي جاية تاخده على الجاهز..؟

إنضمت حماة أختي للحديث وهي ترتشف كوب من الشاى الساخن :_
_ بقولك إيه متحطيش أمك فى جملة مفيدة يا سماح ..وأنت يا ياسين الجوازة دي من البداية مش مرتاحة لها البت دي لسانها سليط ..ومش محترمة …وده كان باين لما ردحت لي وأنتوا مخطوبين…وسيادتك مخدتش موقف ..

قاطعها ياسين ،وهو يطوي الجريدة :_
_ يا ماما ما أنا ضربتها بالقلم قدامك يوميها….وكنا بننهي كل حاجة ..وأنتي ال أصريتي نرجع عشان الشبكة ال ب30 ألف

استطرد عبد العزيز وهو يأخذ قضمة من الموز:_
_ وبعدين بقى هتقعدوا تقلبوا اى ال فات كتير،خلاص الفأس وقعت فى الرأس وأتجوزها ..وبقينا قدام أمر واقع..وبصراحة بقى أنا شايف إنكم متحاملين عليها

فتحت سماح فمها بإستهجان وهي على أبواب”الردح”:_
_ نعم …؟ مت إي..؟ ليه ما أنا من أول يوم عند حماتي كاحة تراب وماسحة بكرامتي الأرض ..وراضية وساكتة عشان المركب تمشي ..ولا هي بنت الوزير وأنا بنت غفير، ،بلاش والنبي تكيل بمكيلين يا بابا

نفخ زوجها بعصبية لإقحامها لوالدته فى الحوار:_
_ ملكيش دعوة بأمي..مش معاكي فى حوار..بالإضافة إنك عارفة ظروفي وكنت صريح مع أهلك من أول يوم …وعارفة إنك هتعيشي فى شقة أهلي بشكل مؤقت لغاية ما ألاقي شغلانة ثابتة

عقبت بسخط مٌتنهدة:_
_ المؤقت بقى دايم …والإتفاق ده بقى ضحك على الدقون ..دي خامس سنة وأحنا مع بعض وأنت مشترتش حتى قشاية فى شقتنا

حذرهم بلين أبيها :_
_ الخصوصيات دي متتفحش على العام كده، وبعدين ده مش موضوعنا …ها قولت أيه يا ياسين هترجع مراتك…؟

أومأ ياسين بالإيجاب وهو يبتسم لتذره هيئتها المُضطربة ومشاكستهم سوياً:_
_ أكيد يا بابا…مرضاش لحد يلسن عليها بكلمة وحشة ..أنا بس هقرص ودنها شوية ..عشان تفكر بعد كده قبل ما تتكلم وترمي دبش

مصمصت تحية شفتيها بضجر وخبث تريد تحريض ابنها فيه :_
_ حصرة عليا أنا عارفة يا ربي كان مالها بنت خالتك بياض وحلاوة ونسب عالي وأدب، وقطة ناعمة مش بجحة زى المعفنة ال جيبهالنا على الأقل كان زمانها شالتني فى كبري وراعت سني

نهض ياسين عن مجلسه بلا مبالاة ،هو يرتدى سترته إستعدادً للمغادرة

error: