رواية صعيدية غيرت حياتى بقلم أميرة السمدونى

فى حجرة نومي المٌطلة على الباحة الخلفية للمنزل،صعد وليد وهو يغلق الباب ببطء شديد،يتلمس فيه الحذر،كي لا يوقظنى،نزع عنه رابطة عنقه فى ظلام،تشقه تنهيداته الحارة المٌتعبة ،أشعلت الأباجورة الصغيرة ذات الضوء الخافت ،قائلة بعتاب لإهماله لي مع علمه بحالتى الصحية :_

_ ما لسه بدري..؟

شهق بفزع..قبل أن يطبق على جفنيه بشدة،لحظات قصيرة وأرخى أهدابه ،وهويخلع عنه حذائه مٌبرراً:_

_ معلش يا حبيبتي ….أنتي لو تعرفي ال حصل هتعذريني ….زينة ملحقناش نمضيها على حاجة….تعبت وحمدان أضطر ينقلها المستشفى

تربعت على الفراش،أعقد أذرعتى في سأم من تلك اللعبة السخيفة :_

_ وليد..أنا قرفت..وطهقت من دايرة الإنتقام المٌفرغة دي…تقدر تقولي هنستفيد أيه لما هى ترجع لجودة أرضه…؟،ليه نخلق عدوات لنفسنا أحنا فى غنا عنها….

أتجه إلى الحمام الداخلى ،يفتح صنبور المياه بهدوء:_

_ أنتي شايفة كده…؟

أجبت بإقتضاب:_

_ لو على ال شيفاه…فأنت عارفه من زمان..

قاطعنى وهو يرغى الصابون على وجنتيه برفق:_

_أظن هتقولي لي…نسافر القاهرة وأسيب العيادة ليامنة وأتنازل عن العز ده كله…بالساهل كده..وأرجع أبدأ من الأول….؟

أخذت نفساً عميقاً قبل أن أواصل بسخط ،ألوح بكفي بإعتراض في الهواء :_

_الحاجة ال من وشهم تغور في ستين داهية……أنا خلاص ..أستويت….وقربت أنفجر…..ألبيت هنا بقى لا يطاق..كله مؤامرت وخبث وغل…..نفسي أعيش عيشة هادية زي خلق الله…لو على شغلك فأبدأ …في أي مستشفى يا وليد…وخليك فى الحكومي لحد ما تعمل برايفت..عيادة يعني خاصة بيك..مش لازم تبدأ كبير.

قهقه بصوت عال،حتى كادت عينيه أن تدمع ،وبمرارة قال:_

_ وأنتي فكرك ال 1200 ال بيترموا لي كل أول شهر دول هيقضونا…؟يا ترى دواء ولا أكل ولا شرب ولا فسح….البلد دي ال ملوش فيها مشروع…خاص …قولي عليه يا رحمن يا رحيم….

رددت بإستغراب:_

_ وليد…إيه ال جرى لك أنت عمرك ما كنت طماع ولا إنتهازي…لقمة عيش ايه ال بتتكلم عنها دي ومغموسة بالذل والعار……وبعدين من أمتى والراجل الحر بيعيش على قفا واحدة ست….ومش اي ست يامنة…وكأنك عويل…ومن قبل يامنة …كلمة قبلتها 4 سنين عشان بس الست هانم الكبيرة متغضبش عليك وتطردك……

صرخت بألم..حينما صفعني بكفه الخشن..على وجنتاى….بغضب…وهو يقول بعصبية يدفعني فيها إلى الفراش بعنف:_

_ أخرسي…..مسمعش حسك ده نهائى……أنا ال غلطان أني مكبر بيكي وبحاورك كواحدة ناضجة وعاقلة زي خلق الله…بس الظاهر أن كلكم من عجينة نوارة……ملكمش غير ال يديكم على دماغكم….

صفع الباب من خلفه بإنفعال…وشفتيه تحتضنان السجائر بنهم…ممزوج بالغيظ…وكأنني أوقظت جراحاً كامنة فى أعماقه…..أما أنا فقد عزمت على مغادرة هذا البيت الكئيب ….وهممت بجمع ملابسي فى حقيبة ظهري الصغيرة…….سأبيت الليلة فى منزل أهلى لا محالة….فقط سأنتظر خروج زوجي ..ذلك الأبله المعتوه……ها هو يتحدث فى هاتفه…..سيخرج الآن وسأنال حريتي..من هذا السجن الموحش……….

فى قصر مهجور على أطراف القرية

أوقف حمدان محرك سيارته ببطء…..يحمل بين ذراعيه جثة تكاد أن تكون هامدة….لولا خروج أنات متقطعة….تداعبها الأمطار الغزيرة………ترتطم يديها الناعمتين بمقدمة صدره…المكشوف من أسفل القميص…المفكوك …..وهو يتحدث فى الهاتف ..على عجل…..قائلاً :_

_ لا..مش هينفع….أجي لك المستشفى….تعالى لي.بس…ما يولع الشفت…طيب خلاص خلاص..أنا هشوف دكتور تاني……

إرتقى درجات السلم الترابية….بسرعة..وخوف…..ليضعها على السرير ذات الأرجل الحديدية برفق ولين…والخادمة تفيدة تتبعهم…وهو يبحث عن زر الإنارة …بإضاءة هاتفه النقال…..ليضغط عليه..عدة مرات بلا جدوى…فقالت تفيدة.صاحبة ال 50 عاماً…بعبائتها الريفية البسيطة…:_

_يوه…يخيبني ..نسيت أجولك ..الكهربا جاطعة يا بيه…ألا صحيح مين الهانم

فرد بغيظ وسخرية:_

_ وسيباني بحاول ليه….جك حل رقبتك من على وسطك….وبعدين مالك أنتي……بالضيوف ….ال بجيبهم…وفاتحة لي تحقيق س وجيم…..أنتي نسيتي نفسك يا تفيدة….؟ فهزت رأسها بأسف:_

_لا العفو يا بيه

فأضاف بإنزعاج من تدخلاتها الزائدة:_

_ طيب فزي هاتي لنا حطب ولا حاجة…بدل التلج ده…..وشوفي لنا حاجة نشربها

أردفت وهي تتلفت حولها بتردد وشفتيها ترتعشان:_

_ وواه…ورايدني أنزل لوحدي….جبر جدك…!! دلوجيت…؟

كز على أسنانه بحنق:_

_لا هبعت معاكي 2 مخبرين..خبر أيه عاد…..عتتعاملي وكأنك مبتعشيش لوحدك هنه…!…عموماً هنزل معاكي وأمري لله..أنا عارف هي ليلة مش فايتة

هبط السُلم وهو يمط شفتيه……ودخل إلى قبو صغير مٌتصل بباطن الأرض…ليحضر منه فأساً وبعض من الأخشاب….ومنحهم لتفيدة…..ومن ثم إتجه إلى المطبخ باحثاً عن عود ثقاب ….وأثناء إرتقائه لدرجات السُلم….تناهت إلى مسامعه صوت نشيج بكاء….مخلوط بتنهيدات مٌتسارعة ….قفز الدرجات ..مهرولاً….وضربات قلبه مٌتتابعة….وهو يضىء هاتفه….ليجدها تبكي …وتهزو بكلمات غير محددة ولا واضحة…فطلب من الخادمةالخروج.ووضع كفه على جبينها ليتحسس حرارتها فوجدها مرتفعة ….فأضافت بحدقتي عينين مٌتسعتين:..وهي تبعد يده عنها:_

_لا…لأا…أبوس أيدك متضربنيش….أنا…هخلع…أهو…عمو رشاد….لالااااااااااااااااا…….

إقتحمت عليهم تفيدة الباب فجأة..وهي تقول بتحذير:_

_ جلع …لا …الجصر ده طاهر من أيام جدك الكبير …وهيفضل إجده……إنما المياصة وجلة الحيا مش إهنه يا ولد يامنة..لأحسن يمين بعظيم…..أتصل بأمك..و….

مد أنامله ناحية وجهها المٌجعد..وهو يقول من بين أسنانه …بوجوم…وعصبية :_

_لو عملتي كده..هيبقى أخر يوم في عمرك…..سمعاني….البت دي مرتي….على سنة الله ورسوله..أنا جايبها هنا ..عشان أدوايها…..من العيار الغلط ال صابها…..

تركتهم وهي تخبط كفاً على كف فى تساؤل ودهشة….تحادث وليد عبر الهاتف بحذر……أما زينة فلا زالت تهزو ….وتتمتم….فوجدها تنزع عنها ثيابها …فى حالة فقدان للوعي…وبعينين تائهتين..وجسد يحيا حالة من الهذيان والصراع…..فتح فاهه بإندهاش….ومن ثم نهض….ليشعل الحطب ..بعود الثقاب……وعاد إليها وهو يغض بصره عنها…..وهو يخلع عنه سترته الجلدية..ويمنحها إياها …وبدنها الهزيل…يرتجف….ويتزلزل من الهذيان المصحوب بحرارة مرٌتغعة وجسد كالثلج فى آن واحد……كانت تبكي وكأنها لم تبك أبداً…تتهاوى مٌقلتيها بالعبرات الساخنة…لأحزان وضغوط مٌتراكمة……عينيها تتنقلان فى أرجاء الغرفة بذعر وهي تهذو باسم ذلك المدعو رشاد…..بهستيريا…ضمها إلى أحضانه…بحنو…مٌقبلا كفيها ..وهو يضع رأسها على صدره ..ويمرر أصابعه من بين خصلات شعرها بدلال…..يهدأ من روعها فيه….لحظات قصيرة …وهدأت…..فجلب قماشة ووعاء به بعض من المياه….ليقوم بعمل”كمادات”..لتخفيض حرارتها…..وبيده آلة حادة يفتح بها الجرح الغائر …ليخرج الرصاصة ….لتعود لثورتها من جديد…………

سويعات قليلة تفصلهم عن الصباح…وعلى وصول الطبيب المختص …الذي ما أن رأها…..حتى قال وهو يحسب أنه يزٌف خبراً ساراً وليس قنبلة مدوية:_

_ مبروك…المدام حامل….!!

إمتعض وجه حمدان…بعدم تصديق….وهو يرفع حاجبيه….بدهشة….وحيرة …متسائلاً:_

_ حضرتك مٌتأكد..؟

فأجاب الطبيب وهو يغلق حقيبته:_

_ وأنا يعني هغفل عن حاجة زي دي…عيب عليك….أنا دكتور…ودي شغلتي..وبعدين أنا مستغرب أنت إزاي مش عارف لغاية دلوقتي …….دي حتى المدام….فى الشهر ال 3…!!

ودع الطبيب و الصدمة مٌتملكة من ملامحه..ومن قواه الجسدية…والعقلية…فألقى بجسده على الأريكة ….وهو يحدق بتلك النائمة ..على الفراش..بحنق…وإنزعاج …..وغضب…وعصبية ….وفى رأسه تدور عشرات الأسئلة …..فقام بعمل شيء غريب ….و كانت المفاجأة حين إستيقظت. زينة ….لتجد ذراعها مكشوفاً….وباقي جسدها مستور بملاءة خفيفة …وحمدان يجلس …بطريقة مريبة على الأريكة المواجهة للفراش…..وهو يضع ساقيه فوق بعضهما….وهو ينفث دخان سيجارته للأعلى ………ونظراته ماكرة ممزوجة بالغموض…..

فى طنطا

وفى شرفة المنزل ….

” أمممممممم …أأأأأأأأأه….أمممممممم…أأأأأه”

عبارات مٌتقطعة لفظتها هند وهي تلقي بنفسها من فوق السرير بعنف….فى محاولات مٌستميتة لإجهاض ..طفل لم يعلم بوجوده أبيه..بينما ياسين يهاتفها ….لتفتح له باب المنزل الواقف أمامه بلا جدوى……..سمعتها والدتي بالصدفة وهي تعد أكواب القهوة بالمطبخ…فركضت صوب حجرتها ذات الألوان الوردية…..لتفتح الباب بهلع…..مٌتسائلة ……بخوف….تقترب فيه من هند:_

_ أنتي أكيد أتجننتي…..بتموتي طفل…روح ربنا زرعها جواكي يا هند….

واصلت بصوت ضعيف …مكسور:_

_مبقتش عوزاه… يا ماما…ده مش طفل..دي لعنة هتربطني براجل لعبي وبتاع ستات…راجل خان ثقتي وحبي ليه…..وأحنا لسه ملناش 5 شهور متجوزين….عرسان…..عوزاني أعمل أيه….أفضل أهتم بحتة منه….طول عمري…..الجنين ده لازم يموت

هتفت شكرية بحنق بينما هاتف هند يتعالى بالرنين”الحقني يا برعي…….يالهوتىىىىىىىىىى…!!”

أتى أبي بنظارته الطبية بذعر ،يستفسر فيه عما يحدث ……ونبضات قلبه غير مٌنتظمة….:_

_ خير …..فى أيه…يا شكرية….هند جرى لها حاجة..؟

أجابت….وهي تسحب الهاتف من يد صغيرتها،وهند تشده منها……بسخط….وإنفعال...فضغط على زر الرد………وأختي تصيح بحدة:_

_ أنتي فاكرة أنك كده بتمنعيني يا ماما…..بتهدديني انك هتكلمي أبوه…..ال**** …….الولد ده لو كبر وعرف أن ياسين يبقى أبوه هيلعني ليوم الدين…على إختياري الغلط……….وأنا مش هسمح بده…….

ثم تابعت وهي تركل بكفيها معدتها بشدة..وتصرخ……بينما ياسين على الطرف الأخر للخط……وقد تهاوى الهاتف من يديه أرضاً…قبل أن يدفع الباب الخارجي الكبير…….عدة مرات……مٌتجهاً لحجرتها ……بذعر….وإضطراب…..ي….!

فى شوارع القرية المٌعتمة

إنقطع التيار الكهربائى …وانا أسير فى الطرقات …والبرد يتسلل إلى ملامحي….إصتك من برودة الطقس…..متلفحة بثوب صعيدي..لا تظهر منه سواء عيناي…..لا يشق صمت الليل الطويل …الغائب فيه القمر…سوى صوت الذئاب والكلاب الضالة…أو قاطعي الطرق….ضللت الطريق إلى المحطة عدة مرات….وأخذت أستفسر من المارة….كيف السبيل إلى الهروب من هذه البلدة…السيئة….فقد عشت أسوء كابوس في هذا المكان….لم أعد إسراء القديمة…بطيبتها ومحبتها للجميع…فقدت شيئاً ما….ربما جزءاً من روحي..ومن طهارة أعماقي……مرور الأيام هنا أشبه بمرور الأعوام..لهول المواقف …وغلظة القلوب………وأثناء سيري فى الطريق الموحل وتحت زخات المطر….أحسست وكأن أحدهم يراقبني ..ألتفت لأرى..فكممت يده فمي بشدة ..وهو يجرني إلى مكان شديد العتمة…قبل أن…………..!!

 

error: