رواية “جواد بلا فارس”
غمرته السعادة و الفرحة .. ودق قلبه معلناً شغفه ولهفته لبدء حياته الجديدة .. مع تلك الزوجة التى اختارها من بين ملايين النساء .. كانت مواصفاته لزوجته المستقبليه معروفة ومحددة ..فهو رجل يعرف جيداً ما يريد .. عمل بقول النبى صلى الله عليه وسلم “فإظفر بذات الدين تربت يداك” .. فإختارها تعرف ربها .. وتمتثل لأوامره وتجتنب نواهيه .. فرآى فيها الزوجة الصالحة التى تعينه فى أمور دينه وديناه .. قذف الله بحبها فى قلبه .. ذالك القلب الذى حماه طيلة عمره من أن يخفق لإمرأة لا تحل له .. حماه كما حمى بصره من رؤية الحرام والتلذذ به كغيره من الشباب فى سنه .. ولذلك كافأة الله الآن بزوجة لا يرى فى الوجود سواها .. أحبها بأكثر مما كان يتمنى .. فكان حبها فى قلبه وحبه فى قلبها هو بركة تعففهما عن الحرام .. هى أيضاً صانت مشاعرها وعواطفها .. لم تسمح لأحد بأن يدخل قلبها .. حفظته لزوجها الذى لم تكن تعلم عنه شيئاً .. حفظته من أجل أن تهبه اياه وهو غاية فى النقاء .. دون أن يلوثه حب محرم يدخل قلبها فينشر به سواداً يطفئ بريقه اللامع .. فكافأها الله برجل من خيرة الرجال .. رأت فيه الزوج الصالح .. والحبيب الوفى .. خفق قلبها له كما لم يخفق من قبل .. واستعدت لليلة زفافها بفستانها الأبيض ناصع البياض كقلبها وقلبه .
وفى جو من البهجة والسرور أعلنا للدنيا بأسرها أنهما زوج وزوجة يجمعهما ذاك الرباط المقدس .. وهاهما يدخلان عشهما السعيد وسط فرحة الأهل والصحب .. أمسك “كريم” برأس “إيمان” بين راحتيه وقبل جبينها قائلاً :
– اللهم اجعلنى خير زوج لخير زوجة
رفعت “إيمان” كفيها لتضعهما على كفى “كريم” الممسكتان بوجهها همست له :
– اللهم اجعلنى خير زوجة لخير زوج
**************************
ترأس “آدم” ادارة القرية فى غياب “كريم” الذى استغرق اسبوعين .. استقبله الجميع بالتهانى والدعاء بالبركة فى زواجهما .. ترأس “كريم” اجتماعاً هاماً حضره “آدم” و “على” و “زياد” .. أرادت “آيات” حضور ذاك الإجتماع لكن “آدم” قال لها بحزم :
– ازاى يعني تحضرية .. أكيد مراة “كريم” مش هتحضر ..تبقى البنت الوحيدة اللى أعد وسطينا .. ازاى يعني
قالت بإستنكار :
– ما انت و “كريم” موجودين
قال “آدم” بحزم :
– لا يا “آيات” برده مينفعش .. هبقى أقولك على اللى حصل فى الإجتماع
رغم ضيقها لعدم سماحه لها بالحضور إلا أنها لا تنكر السعادة التى شعرت بها وهى تستشعر غيرته عليها
قال “كريم” بإستغراب :
– آخر حاجة كنت متوقع ان “شكرى” يعملها
قال “آدم” بثقه :
– لا على فكرة أنا مستغربتش .. “شكرى” أولاً وأخيراً رجل أعمال يعنى اللى عمله ده متوقع جدا
قال “زياد” بإستنكار :
– أيوة يا “آدم” بس بصراحة أنا متوقعتش أنا كمان .. يعني لما قل معدل الشغل عنده والحجوزات .. توقعت انه يعمل زى ما كان “عاصى” بيعمل ويغوط أوى فى السكة اللى هو عارفها .. لكن يقفل الملهى ويقلبه صالة ألعاب وكمان يمنع الخمرة من القرية ويفصل بين الرجالة والستات فى حمامات السباحة .. دى آخر حاجة توقعت ان “شكرى” يعملها
نظر اليه “آدم” قائلاً :
– زى ما قولتك يا “زياد” .. “شكرى” رجل أعمال .. أهم حاجة عنده المكسب والخسارة .. لما لقى ان فكرة القرية الحلال هى اللى بتكسب وبتجيب دخل ممتاز .. قرر انه يمشى على النظام اللى احنا ماشيين عليه
قال “على” ساخراً :
– بس لسه سامح للستات انهم يلبسوا بكيني على البيلاج
قال “آدم” :
– وده أكبر دليل انه بيحاول يعمل أى حاجة عشان يزود دخل مش أكتر .. يعني مش فكرة حاجات حرام بيمعنها خوف من ربنا .. لا هو حاول يعمل حاجة وسط بين القرية الحلال والقرية بتاعته .. يعنى من الآخر حب يرضى جميع الأذواق
قال “كريم” وهو يخط خربشات على الأورق أمامه :
– أهو ده معنى حديث النبى صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات” .. احنا نيتنا اننا نبعد عن الحرام عشان منغضبش ربنا علينا .. فبجانب الكسب المادى لينا ثواب عند ربنا .. لكن هو نبته انه يكسب أكتر ويرضى الناس وأذواق الناس .. وكده ملوش أى أجر عند ربنا
قال “على” وهو يومئ برأسه :
– فعلاً معاك حق يا “كريم” .. ياريت يا شباب نجدد نيتنا دايماً .. انها تكون خالصة لوجه الله .. عشان ميفتناش الأجر ده
قال “زياد” ضاحكاً :
– ألذ حاجة فى الموضوع اننا خلصنا من التهمة اللى اسمه “عاصى” ده هو وأبوه .. من يوم ما اتحبسوا والقرية حالها كرب خاصة بعد ما جت مراته وبنته يديروا القرية .. زودوا الطينه بله
ثم صاح بمرح :
– أنا من الاول بقول الحريم دول يحطوا بس ايديهم فى أى حاجة تتخرب على طول .. أهو اللى فشل أعداء “سراج” و “عاصى” انهم يعملوه فى سنين .. جت مراته وبنته وعملوه فى أربع شهور
نظر اليه “على” قائلاً:
– أنا سمعت انهم هيلغوا العقد مع الشركة اللى مأجرين منها القرية
هتف “زياد” :
– يكون أحسن برده .. يلا سكة اللى يروح ميرجعش
**************************
فى مطعم القرية .. نظرت “آيات” الى “آدم” لتجده شارداً مقطب الجبين يتناول طعامه بروتينيه .. سألته بإهتمام :
– سرحان فى ايه؟
أفاق من شرود قائلاً :
– لا أبداً
أكمل تناول طعامه .. فالت “آيات” بحنان :
– هو انا مش عارفاك يعني .. فى حاجة شغلاك ومضايقاك كمان
قطب جبينه مرة أخرى وقال وهو يلعب بالطعام أمامه بطرف شوكته :
– كان نفسى ظروفى تكون أحسن من كده .. كان زمانا متجوزين دلوقتى وعايشين فى بيت واحد
وضعت كفها على كفه الموضوع فوق الطاوله وهى تنظر ايه بحنان قائله :
– الحمد لله احنا أحسن من ناس كتير يا “آدم” .. وانا شاء الله الوضع يتحسن
تنهد “آدم” بضيق ثم نظر اليها قائلاً :
– أنا الفلوس اللى حوشتها متكفيش أى حاجة يا “آيات” .. أنا محتاج سنين عشان أقدر أشترى شقة وأفرشها
ابتسمت قائله بمرح :
– يعني هو ازم يعنى يا دكتور “آدم” نعيش فى شقة ملك .. ما نأجر شقة ايه المشكلة يعني .. ولما ربنا يفتحها علينا نبقى نشترى شقه
قال “آدم” بضيق :
– وفرش الشقة .. ده لوحده محتاج مش أقل من سنة سنة ونص تحويش
قالت له “آيات” على الفور :
– مش لازم كل حاجة تبقى على سنجة عشرة يا “آدم” .. يعنى مش لازم نختار أغلى حاجة واقيم حاجة .. لو فكرنا بالطريقة دى يبقى هنستنى سنين زى ما بنقول
نظر اليها بأسى وقال :
– نفسى يا آيات” أجبلك كل اللى نفسك فيه
ابتسمت له بحب ونظرت اليه بعينان شغوفتان وهى تقول :
– وأنا نفسى فى شقة صغيرة حتى لو ايجار .. وعفش على أدنا لحد ما ربنا يرزقنا نبقى نغير كل حاجة يا “آدم”
أحاطها كفها بين كفيه واقترب منها ينظر اليها بشغف قائلاً :
– بحبــك
ابتسمت بعذوبه وهمست :
– وأنا بموت فيك
ابتسم لها بحنان وقال :
– متقلقيش يا حبيبتى ان شاء الله ظروفنا هتكون أحين
اتسعت ابتسامتها وهى تقول :
– مش قلقانه .. أنا واثقة ان ربنا هيكرمنا أوى يا حبيبى
**************************
عادت “آيات” الى الشقة لتجد “زياد” جالساً مع “سمر” ووالدتها .. دخلت غرفتها .. بدلت ملابسها ووقفت فى الشرفة قليلاً .. ثـــم ما لبثت أن اندفعت “سمر” تفتح باب الغرفة وناتها قائله :
– “آيات”
خرجت “آيات” من الشرفة لتنظر الى وجه “سمر” الذى ينطق فرحاً .. اقتربت منها “سمر” وقالت بحماس الأطفال وهى تضم كفيها معاً :
– خلاص حددنا معاد الفرح
نظرت اليه “آيات” بدهشة وهتفت :
– بتهرجى
أطلقت “سمر” صيحة سعادة وهى تقول :
– لا والله بتكلم بجد
اتسعت ابتسامة “آيات” وعانقتها قائله بسعادة :
– مببروك يا حبيبتى مبروك فرحتلك أوى أوى يا “سمر” .. أنا مش مصدقة
نظرت اليها “سمر” وقالت بإبتسامة واسعة :
– أنا اللى مش مصدقة .. أنا اشترطت على “زياد” خطوبة طويلة .. بس بجد أنا طول الشهور اللى فاتت وأنا كل ما أعرفه أكتر كل ما بحس براحه أكبر .. ولما كلمنى دلوقتى فى الفرح كان متوقع جداً انى هرفض .. فوجئ انى بقوله انى موافقة بس هستخير الأول .. حسيت انه طاير من الفرحة
ضحكت “آيات” قائله :
– بركاتك يا “زياد”
ابتسمت “سمر” بتأثر وقالت :
– عارفه يا “آيات” .. ساعات كنت بتخيل انى مش ممكن هتجوز أبداً .. مش ممكن هقدر أثق فى حد أبداً .. بس “زياد” معرفش ازاى قدر يخليني أطمنله أوى كده .. يمكن عشان هو فعلاً انسان طيب أوى .. وبسيط أوى .. وواضح أوى .. من النوع اللى تقدرى تفهميه من أول مقابلة .. لا هو غامض ولا هو كتوم .. بالعكس شخصيته واضحة وصريحة وده اللى خلانى أثق فيه وأطمنله
قالت “آيات” بسعادة :
– ربنا يتمملك على خير يا “سمر”
ثم قالت :
– بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما فى خير
**************************
تم تحديد موعد كتب كتاب “على” و “أسماء” قبل موعد زفاف “زياد” و “سمر” .. كان يوماً بهيجاً .. أصر “على” على كتب الكتاب فى قاعتين للأفراح .. فلعله أراد أن يدخل السرور على قلب “أسماء” التى يعلم أنها لاقت الكثير من المآسى طوال حياتها .. وبالفعل كانت “أسماء” فى ذاك اليوم من أسعد ما يكون .. أحاطتها “مديحة” بذراعيها بأعين دامعة وهى تبتسم بسعادة .. التف حولها صديقاتها “آيات” و “إيمان” و “سمر” .. اللاتى كن يدللنها ويمرحن معها فأضفين جو من البهجة زادها سعادة فوق سعادتها .. كذلك أم “على” دمعت عيناها وهى تقبل عروس ابنها .. أحبتها “أسماء” بشخصيتها الطيبة البسيطة .. كذلك أحبتها أم “على” .. فهى صارت الآن زوجة فلذة كبدها .
عادت “مديحة” الى البيت مع “مدحت” و العروس السعيد “أسماء” .. التى قضت ليلها ساهرة تتحدث فى الهاتف لأول مرة مع زوجها وحبيبها “على” .. جلست “مديحة” فوق فراشها تلمع عيناها بالدموع .. اقترب منها “مدحت” قائلاً :
– الحمد لله اليوم عدى على خير .. عقبال ما نوصلها بيتها ان شاء الله
زرفت “مديحة” العبرات وهى تقول :
– هتوحشنى أوى يا “مدحت”
ابتسم وهو يربت على ظهرها قائلاً :
– دى سنة الحياة يا “مديحة” .. وبعدين العين السخنة مش بعيد دى كلها 3 ساعات ونكون عندها
تنهدت “مديحة” وهى تقول :
– لولا انى حبيت خطيبها فعلاً وشايفاه راجل بجد .. مكنتش خليتها تسافر .. من يوم ما رجعتلى تانى وأنا حسيت انى ضيعت سنين وأنا عامله فجوة بيني وبينها .. كان لازم أقرب منها أكتر .. هى بنتى وملهاش حد غيرى .. ياريت كنت خدتها فى حضنى من زمان .. أكيد مكنش حصلها ده كله ولا كانت نفسيتها تعبت كده
قال “مدحت” بوجوم :
– أنا كمان قصرت معاها .. بس أدينا بنتعلم من أخطائنا .. وربنا ادانا فرصة تانية نقرب من بنتنا ونحسسها اننا أهلها بجد .. سبحان الله الواحد مبيعرفش قيمة الحاجة اللى ربنا كارمه بيها إلا لما بتضيع من ايده
نظرت اليه “مديحة” وقالت :
– تفتكر ممكن نكمل حياتنا مع بعض يا “مدحت” وتبقى حياة هادية .. ولا الشهور اللى فاتت دى حلم هنصحى منه ونرجع تانى زى ما كنا
نظر اليها “مدحت” قائلاً بحزم :
-بصى يا “مديحة” الحواز ده شركة بين اتنين .. وعشان الشركة دى تنجح لازم الاتنين تكون ايديهم فى ايدين بعض .. مينفعش واحد يبنى والتانى يهدم .. مينفعش واحد يحاول انه يصلح والتانى واقف محلك سر .. لو حطيتي ايدك فى ايدك وعاهدتيني اننا نراعى الشركة دى على أد ما نقدر .. أكيد مش هنرجع لمشاكلنا القديمة اللى كانت كلها بسبب ان كل واحد شايف نفسه صح وبيرمى على الغلط على التانى
قالت “مديحة وهى تمسك بيده :
– أوعدك انى هحاول على أد ما أقدر الشركة دى تنجح .. بس انت كمان اوعدنى انك متعملش الحاجات اللى بتضايقني منك
ضحك قائلاً :
– انتى عايزه الحاية كلها بمبى ولا ايه .. أكيد هضايقك وتضايقيني .. أهم حاجة اننا نحط خطوط حمرا فى التعامل بينا محدش مننا يتخطاها .. لازم نحترم بعض يا “مديحة” حتى فى خلافاتنا مع بعض
أومأت برأسها وابتسمت قائلاً :
– وأنا موافقاك على كل اللى قولته يا “مدحت”
**************************
جلس “آدم” شارداً فى مكتبه .. لا يفتر لسانه عن ترديد :
– أستغفر الله
يعلم جيداً أنها مفتاح الرزق .. تمنى لو تمر الأيام سريعاً ليستطيع توفير عش الزوجية ويتم زفافه على عروسه التى اشتاق لقربها .. أخذ يفكر فى حلول عديدة يستطيع بها زيادة دخله ليسبق الزمن ويقلل من تلك الأيام التى تفصله عن حلمه .. سمع طرقات على الباب فاعتدل فى جلسته وأذن للطارق بالدخول .. دخل “كريم” بإبتسامته العذبه قائلاً :
– فاضى شويه
أومأ “آدم” برأسه .. جلس “كريم” قبالته ونظر اليه قائلاً :
– بص يا عم “آدم” .. انت بتعتبرنى أخ ليك ولا لأ
قال “آدم” على الفور :
– طبعاً يا “كريم” .. ده انت أكتر من أخ .. وبصرف النظر عن انك أخو “آيات” فربنا يعلم أنا بحبك ازاى وبحترمك ازاى .. وبجد بعتبرك مثل أعلى ليا
ابتسمى “كريم” قائلاً :
– ربنا يكرمك يا “آدم” .. لو اللى بتقوله ده مظبوط فعلاً يبقى هتوافقنى على طلبى
نظر اليه “آدم” بإهتمام وقال :
– أأمر يا “كريم”
قال “كريم” بخفه :
– الأمر لله .. بص بأه .. قبل ما تكون انت أخويا فـ “آيات” أختى الملزومة منى .. أنا عارف اننا متكلمناش فى أى تفاصيل مين عليه ايه وقسمنا الجهاز بينا زى ما الناس بتعمل .. انت متكلمتش فى الموضوع ده ولا حددت أى حاجة
قال “آدم” بحرج :
– عارف انى متكلمتش فى الموضوع ده بس مش زى ما انت فاهم .. أنا نفسى أنا اللى أجيب لـ “آيات” كل حاجة .. وبعدين يا “كريم” انت أكتر واحد عارف ان المفروض كل حاجة تبقى على الراجل مش الست .. زمان لما كان الصحابة بيتجوزوا مكنش حد بيطلب من مراته انها تشاركه فى الجهاز .. كان بيجهز بيته على أد مقدرته .. وبصراحة أنا شايف انى حابب أعمل كده مع “آيات” .. ان جابت هى حاجات فى البيت أهو بيتها ..تجيب اللى هى عايزاه .. لكن محبش ألزمها بحاجة وأقولها عليكي كذا وعليا كذا
اتسعت ابتسامة “كريم” قائلاً :
– على فكرة أنا فاهم كلامك ده كويس .. وعارف انك متكلمتش فى حاجة عشان كده .. بس اللى عايزه أقولهولك انى حابب أهادى “آيات”
نظر اليه “آدم” وقد عقد جبينه فأكمل “كريم” :
– الشقة اللى جمبى فاضيه .. وأنا هخدتها لـ “آيات”
قال “آدم” بحزم وتقطيبة جبينه فى تزايد :
– مفيش مشكلة هاديها زى ما انت عايز .. بس الشقة دى مستحيل نعيش فيها أنا وهى .. أنا اللى هجيب الشقة لـ “آيات” حتى لو ايجار
تنهد “كريم” قائلاً :
– انت بتعمل فرق ليه
قال “آدم” بحزم شديد :
– مش بعمل فرق بس معلش يا “كريم” الموضوع ده منتهى بالنسبة لى
قال “كريم” بعد تفكير :
– طيب المبلغ اللى كنت هحطه فى الشقة أنا ههديها بيه .. وتجيبوا كل اللى ناقصكوا
قال “آدم” بضيق :
– ودى برضة مرفوضة .. مش هخليها تفرش هى الشقة وأنا يبقى مليش لازمه خالص كده
هتف “كريم” :
– حيرتنى معاك .. طيب ايه يرضيك
قال “آدم” :
– “كريم” اقفل الموضوع ده أحسن لانه منتهى بالنسبة لى
نظر اليه “كريم” قائلاً :
– طيب عندى فكرة .. خد انت المبلغ على سبيل السلف وابقى ردهولى فى الوقت اللى يريحك
فكر “آدم” قليلاً وهو مقطب الجبين ثم هز رأسه نفياً وقال :
– لأ برده
هتف “كريم” :
– يا “آدم” متبقاش عنيد .. أقولك .. امضيلي وصل أمانه
نظر اليه “آدم” بإهتمام فقال “كريم” :
– أظن كده مناسب .. امضيليى وصل أمانه أثبت حقى بيه .. وابقى ادفع فى المعاد اللى يريحك
تنهد “آدم” وبعد تفكير لفترة قال وهو يرفع حاجبيه بحزم :
– أنا ممكن أخد الفلوس بشرط واحد .. هكتبلك وصلات أمانه مش وصل واحد .. كل وصل بمعاد محدد للدفع وبمبلغ محدد .. يناسبك كده
أومأ “كريم” برأسه مبتسماً وهو يقول :
– أيوة مناسبنى
أخرج “كريم” دفتر شيكاته ودون بياناته ثم أعطاه الى “آدم” الذى مزقه فوراً وهو يقول :
– ده لأ المبلغ ده كبير
تنهد “كريم” وهو ينظر اليه بغيظ .. ثم دون بيانات أخرى وأعطاه لـ “آدم” الذى نظر اليه بعين الرضا .. ثم اخرج عدة أوراق وكتب وصولات الأمانه وسلمها الى “كريم” .. ثم نهض والتف حول المكتب معانقاً اياها قائلاً بإمتنان :
– تسلم يا “كريم” .. انت فعلاً راجل جدع أوى
ابتسم له “كريم” وقال :
– يا عم متقولش كده .. ربنا يوفقكوا ويتمملكوا بخير
خرج “كريم” من مكتب “آدم” الذى اتسعت ابتسامته وظل يحمد الله بلسانه وقلبه وكل جوارحه .. خرج “كريم” ينظر الى وصولات الأمانه .. ثــــم .. مزقها الى قطع صغيره وألقاها مبتسماً فى أول سلة قمامة قابلته !
**************************
جلست “سمر” ليلة عرسها تنظر الى فستان زفافها الأبيض الطويل وعيونها تلمع بعبرات خفيفه وباتسامه صغيره على ثغرها .. علقته فى مكان مرتفع حتى لا يتكرمش ثم دخلت الى فراشها بعدما شربت كوباً من اللبن الدافئ .. نظرت الى فستانها بفرح .. ثم ما لبثت أن اختفت ابتسامته اتدريجياً ولمعت العبرات فى عينيها أكثر .. حتى كانت عيناها كبئر فاض بمائه على ما حوله ..مسحت عبراتها بأصابعها وهى تحاول تمالك نفسها دون جدوى .. فتحت أمها الباب فجأة مبتسمة وهى تقول بمرح :
– “سمر” .. أنا ……..
تجمدت ابتسامتها على ثغرها وهى تنظر الى “سمر” الباكية .. اقتربت منها بلوعة وقالت :
– “سمر” مالك .. اتخانقتى انتى و “زياد” ؟
هزت رأسها نفياً .. وهى تحاول أن تهدئ من روعها .. جلست أمها بجوارها وقالت وهى تمسح عبراتها بيدها :
– أمال مالك يا حبيبتى
قالت “سمر” بصوت مرتجف وهى تضم قدميها الى صدرها :
– كان نفسى بابا هو اللى يكون وليى … ويكون موجود يوم فرحى .. حسه ان مليش حد .. كان نفسى هو اللى يسلمنى لـ “زياد” ويقوله خلى بالك من بنتى .. متزعلهاش .. متضايقهاش .. كان نفسى أشوف الفرحه فى عنيه .. ويعيط ويقولى هتوحشيني يا “سمر”
أنهت كلامها لتجهش فى بكاء حار وهى تهتف :
– لكن أنا مش فارقه معاه أصلاً .. مش فارقه حتى انه يشوفنى ولا يطمن عليا .. خلفنى ليه طيب .. خلفنى ليه ؟
لم تتمالك أمها نفسها هى الأخرى ووضعت كفها على فمها لتجهش هى الأخرى فى البكاء .. قالت “سمر” بصوت باكى يئن ألماً :
– عارفه رغم كل السنين اللى فاتت دى .. أنا لسه عندى أمل انه فى يوم قلبه يحن ويسأل عليا .. عارفه لو جالى وقالى سامحيني أنا هعمل ايه ؟
نظرت اليها أمها لترى ذاك الألم الذى ينطق به وجه “سمر” ودموعها المتساقطة وهى تقول بمرارة :
– هسامحه .. والله هسامحه .. وهنسى كل حاجة ..بس هو ييجى بس .. أو حتى يسأل عليا .. ده ميعرفش حتى اذا كنت عايشة ولا ميته
تنهدت أمها بقوة عليها تطفئ من تلك النيران التى شعرت بها داخل صدرها .. ثم نظرت الى “سمر” بتردد .. بخوف .. بألم .. بخجل .. بضيق .. بحنان .. بأسف .. وقالت :
– لأ عارف
توقفت “سمر” عن البكاء لتنظر اليها دون فهم .. فأكملت أمها بصوت مرتجف :
– عارف انك عايشة .. وانك كبرتى ودخلتى المدرسة .. ومش ناقصك حاجة
اتسعت عينا “سمر” فى محجريهما بشدة .. وفغرت فاها فى دهشة وقد شلت الصدمة لسانها .. لحظات وبلعت ريقها وهى تقول بلهفة :
– يعني ايه .. وهيعرف منين .. مش فاهمة .. وانتى عرفنى منين .. انتى بتقولى ايه
قالت أمها وهى تغالب عبراتها :
– أبوكى اتصل بيا يطمن عليكي يا “سمر”
أمسكتها “سمر” من ذراعها بقوة وهى تهتف بلهفة :
– ماما انتى بتقولى ايه .. ازاى يعني .. بابا بيكلمك وانتى بتكلميه .. ازاى يعني .. ماما فهميني أبوس ايدك
هتفت أمها بألم وهى تعاود بكائها :
– أبوكى المحترم بعد ما سابنى وسابك وسافر منعرفش عنه حاجة رجع افتكر بعد 15 سنة غياب ان عنده زوجة وبنت .. اتصل على تليفون البيت القديم الى كنا عايشين فيه .. حاول يعتذر ويتأسف كان ممكن أسامحه بس ………
ثم هتفت بغضب ومرارة :
– لقيته بيقولى انه اتجوز واحدة من البلد اللى كان عايش فيها .. وخلف منها كمان .. وقالى وقتها انه رجع مصر هو ومراته وولاده وعايز يشوفنى ويشوفك
اتسعت عينا “سمر” وهى تسمع مصدومة الى اعتراف والدتها التى أكملت بحده :
– طبعاً رفضت وقولته مستحيل أخليك تشوفنى ولا تشوف بنتك .. حاول كتير واترجانى كتير .. بس احنا كنا خلاص ظبطنا حياتنا من غيره .. ومعدلوش وجود بينا
هتفت “سمر” بحده :
– ليه ما قولتليش يا ماما .. ليه لما اتصل بيكي ما قولتليش
قالت والدتها بغضب هادر :
– أقولك ليه .. ده واحد باعنى وباعك وراح عاش فى بلد تانية وكون أسره تانية .. ووقت ما حب ينزل مصر افتكر انه له بنت مخلفها .. ده واحد ميستحقش انه يكون أب
قالت “سمر” باكيه :
– وأنا قولتلك انى مستعده أسامحه .. انتى متعرفيش احساسى وأنا عايسة وعارف ان ليا أب وناسيني ومبيسألك عليا .. ليه ما قولتليش وقت ما اتصل يا ماما .. ليه .. كان من حقى أعرف
ثم قالت كأنها تحدث نفسها :
– يعني لما اتصل بيكي كنت أنا عندى 15 سنة ولا 16 سنة .. كان ممكن تريحيني وتقوليلى على الأقل انه اتصل بيا .. انه سأل عنى .. بدل ما تسيبنى أتعذب كده
ثم نظرت اليه وهتفت :
– حرام عليكى ليه تحرمينى منه
قالت أمها بغضب :
– هو اللى حرمك منه مش أنا
قالت “سمر” بعتاب :
– انت بصيتى لكرامتك يا ماما ولزعلك منه لكن مبصتيش اذا كنت أنا محتجاه فى حياتى ولا لأ .. مش من حقك تحرميني منه طالما طلب يشوفنى .. أى زوج وزوجة لما بينفصلوا عن بعض المفروض ميدخلوش ولادهم فى خلافاتهم .. هما ملهمش ذنب .. حتى لو الأم كرهت الأب والأب كره الأم ولادهم هيفضلوا يحبوهم هما الاتنين .. وهيفضلوا محتاجينلهم هما التنين .. وحرام واحد فيهم يحرم التانى من ولاده .. حرام .. كان لازم تبصيلى أنا وتهتمى بمشاعرى أنا مش بمشاعرك انتى .. كان لازم تشوفى أنا محتاجه بابا ولا لأ .. عايزه أشوفه ويشوفنى ولا لأ .. حتى لو انتى كرهتيه أما مش هقدر أكرهه أنا بحبه حتى من غير ما أشوفه .. حرام عليكي اللى عملتيه فيا
ثم قالت باكية :
– انتى كده قاطعه للرحم يا ماما .. بعدتيني عن بابا طول السنين دى .. عارفه ربنا بيقول ايه عن قاطع الرحم .. “وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ”
ثم قالت :
– عارف النبي صلى الله عليه وسلم بيقول ايه .. “إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم”
تنهدت أمها بأسها وهى مطرقة برأسها مغمضة العينين تشعر بالوهن .. ربتت “سمر” على ظهرها قائله بقلق :
– ماما انتى كويسة ؟
أومأت برأسها دون أن تفتح عينيها .. لحظات وهضت وخرجت من الغرفة .. أسندت “سمر” برأسها الذى أصابعه الصداع الى وسادتها وهى تفكر فى أسى في اعترافات والدتها التى لم تكن تتوقعها قط .. عادت والدتها حاملة هاتفها .. أعطتها لها قائله :
– ده رقمه .. احتفظت برقمه .. معرفش ليه احتفظت بيه .. بس وقتها كان التليفون فيه اظهار .. ولقيت نفسى بحتفظ بالرقم وبكتبه عندى فى ورقة
ثم قالت :
– معرفش لو اتصلتى هتلاقى حد يرد عليكي ولا لأ .. أنا مجربتش أتصل بيه أبداً
تركتها أمها وأغلقت الباب خلفها .. نظرت “سمر” الى رقم الهاتف المدون فى هاتف والدتها .. هذا هو الخيط الوحيد الذى قد يصلها بوالدها مرة اخرى ..
تُرى أتأخذ تلك الخطوة وتهاتفه .. لم تحتاج وقتاً للتفكير .. اتصلت بأيدي مرتعشة وبقلب وجل ومشاعر مضطربة .. سمعت الرنين كالطنين فى أذنها .. ممل .. رتيب .. ثــم :
– ألو
صوت رجولى .. لم تستطع أن تتبين إن كان صغيراً أم كبيراً .. رد الصوت مرة أخرى :
– ألو .. ألو
صوته أجش .. مازالت لا تستطيع تحديد سنه .. أغلق الخط ! .. حاولت الاتصال مرة أخرى :
– أيو .. مين بيتصل .. الخط مفتوح رد
تنحنحت وقالت بصوت خافت جداً :
– ألو
– أيوة .. مين ؟
لا تعرف ماذا تقول .. لا تعرف إن كان والدها أم لا .. قالت بصوت مرتجف مضطرب :
– أنا .. انا “سمر” .. ممكن أكلم …..
أرادت أن تقول بابا لكنها لم تستطع .. اغرورقت عيناها بالعبرات .. لم تنطق تلك الكلمة قط .. لم توجهها الى رجل قط .. كيف تنطقها الآن .. قال بصوت يبد وعليه آثار البكاء :
– أنا كنت عايزة أتكلم مع الأستاذ ………
لم تكمل حديثها .. قاطعها الرجل قائلاً :
– “سمر” !
حاولت السيطرة على ارتجافة صوتها وهى تقول :
– أنا .. أيوة اسمى “سمر” .. أنا لو سمحت كنت عايزه أتكلم مع الأستاذ “……..” .. هو موجود ؟
لم تجد رداً .. فقط تستمع الى صوت تنفسه المضطرب .. فقالت بتوتر :
– أنا معرفش اذا كان ده رقمه ولا لأ .. الرقم قديم يعني ……..
قطعت حديثها عندما سمعت الرجل يجهش فى البكاء وهو يهتف بإسمها قائلاً :
– “سمر” .. انتى “سمر” .. بنتى ؟
تساقطت عبراتها وعلاات الألم على وجهها .. أغمضت عينيها بشدة وصوته يسرى فى أذنيها لأول مرة .. قال بلهفة :
– “سمر” .. اتكلمى .. انتى “سمر” بنتى مش كده ؟
قالت من بين شهقاتها :
– أيوة
قال بصوت حمل كل معانى الشوق والهفة والحنين :
– يا حبيبتى .. وحشتيني أوى أوى .. “سمر” اتكلمى عايز أسمع صوتك
ثم أجهش فى البكاء مرة أخرى .. قالت :
– انا مكنتش أعرف انك اتصلت بيا .. انا كنت فاكرة ……..
قاطعها بلهفة :
– انتى فين يا “سمر” .. عايز أشوفك .. أرجوكى يا بنتى .. نفسى أشوفك .. قوليلى مكانك يا “سمر .. عشان خاطرى قوليلى مكانك
قالت بسعادة من بين بكائها ودموعها وهى لا تصدق لهفته على رؤياها وعلى الحديث معها وعلى القدوم اليها :
– أنا فى العين السخنة .. فى قرية اسمها الماسة .. أنا ……
صمتت لبرهه ثم قالت :
– أنا فرحى بكرة
ثم أجهشت فى البكاء قائله :
– ونفسى أشوفك أوى
قال بصوت مرتجف :
– وأنا كمان نفسى أشوفك .. أنا هجيلك النهاردة .. ينفع يا بنتى ؟ .. ينفع أجيلك دلوقتى ؟
قالت بلهفة :
– أيوة . أيوة ينفع .. تعالى .. هستناك
قال وضحكاته تختلط ببكائه :
– طيب ادينى رقمك .. لو معاكى موبايل ادينه رقمه
أملته “سمر” هاتفها .. فوجدت رقماً يتصل بها فقال بلهفة :
– ده رقمى .. ماشى .. عشان لو معرفتش أوصل هكلمك .. انا جايلك حالاً يا “سمر” .. ماشى يا بنتى .. حالاً هجيلك
ابتسمت قائله وهى تمسح العبرات التى تغرق وجهها :
– ماشى مستنياك
أنهت المكالمة والتفتت لتجد والدتها واقفة أمام الباب وقد استمعت للمكالمة وعبراتها فى عينيها .. نظرت اليها “سمر” بأسى ثم قامت لترتمى فى أحضانها وهى تقول :
– مش قادرة أستنى لبكرة قولتله ييجي دلوقتى .. عشان خاطرى متزعليش بس أنا بحبك وبحبه برده .. ومش عايزة أبعد عن حد فيكوا .. متزعليش منى
ربتت أمها على شعرها وقبلت رأسها قائله :
– مش زعلانه منك .. انتى اللى متزعليش منى
قبلتها مرة أخرى فنظرت اليها “سمر” بفرح وهى تقول بلهفة :
– انا مش مصدقه انى خلاص هشوفه .. ألبس ايه .. تعالى قوليلى ألبس يه .. طيب هو كان بيحب ايه عشان أعملهوله على ما ييجى
ابتسمت أمها من بين دموعها وهى تنظر الى ابنتها ولهفتها على ملاقاة أبيها .. شعرت وقتها الندم الشديد لحرمانهما من بعضهما طيلة الأعوام الماضية .. من أجل الثأر لكرامتها الجريحة .. كان يجب أن تبدى مصلحة بنتها ومشاعرها على مصحتها هى ومشاعرها هى .. تنهدت فى أسى وهى تستغفر ربها على ما فعلت فى حق ابنتها الوحيدة
**************************
وقفت “سمر” فى الشرفة تنتظره .. اتصلت به مالا يقل عن 7 مرات .. كانت تطمئن عليه على الطريق فى هذا الوقت من الليل .. وكانت تتخذها ذريعة لسماع صوته .. لم تفارقها ابتسامتها ونظرات عينيها الملهوفة .. قفز قلبها من مكانه حتى كاد أن يصم أذنيها لقوة ضرباته عندما علمت بأن على مشارف القرية .. ارتجفت يديها وشفتيها وهى تتطلع الى الطريق أسفل البناية .. لمحت سيارة تعبر الممر أمام البناية لتتوقف عندها .. خفق لبها بقوة وهى تنظر الى الأسل الى ذلك الرأس الذى خطه الشيب الذى نزل من تلك السيارة .. قبل أن يدخل البناية رفع رأسه عالياً .. تلاقت نظراتهما الملهوفة .. تأملت وجه أبهيا من ذاك الارتفاع وهى لا تتحمل تلك اللحظات التى تفلصها عن القاء نفسها بين أحضانه .. دخل البناية فاتجهت الى الباب تهرول مسرعة .. دخلت والدتها غرفتها وأغلقت الباب .. بقيت خلفه تستمع الى ما يحدث .. فتحت “سمر” الباب وعيناها معلقة على المصعد تنتظر خروده .. انفتح باب المصعد .. لظهر أماهها رجل وقور قد بلغ من الكبر عتياً .. خطت سنوات العمر بيديها فوق جبينه وعلى جانبي رقبته .. يبدو على وجهة آثار الإجهاد .. لكن عينيه تعلقتا بها فى لهفة .. شعر لوهلة بالخجل .. فذاك الرجل والدها لكنها لم تراه أبداً .. لا تذكره أبداً .. شغرت بشئ من الغربة .. لكن ذاك الإحساس تلاشى بعدما رأته يجهش فى البكاء وهو يتطلع الى وجهها بلهفة .. دمعت عيناها هى الأخرى .. لم يتنظر أكثر ليأخذها بين ذراعيه ضاماً اياها بقوة الى صدره .. شعرت بقوة ضمته اليها فأغمضت عينيها تتساقط العبارت منهما .. تلف يديها حول عنقه بقوة وكأنها تخشى أن يفارقها مرة أخرى .. كان تنفسها يتقطع من قوة ضمته .. بدا وكأنه لا يستطيع السيطرة على مشاعره التى فاضت حتى أغرقته وأغرقتها .. أبعدها عنه أخيراً لينظر الى وجهها الذى يراه لأول مرة منذ أن تركها رضيعة فى مهدها .. ارتجفت شفتاه وهو يقول :
– “سمر” .. كبرتى .. كبرتى وبقيتي وعروسة جميلة
أجهشت فى البكاء مرة أخرى .. قال بألم ومرارة :
– سامحيني أنا آسف .. والله أنا ندمان فوق مالا تتصورى .. ندمان انى سيبتك ومشيت .. ندمان انى دورت على نفسى وبس .. ندمان انى كان قلبى قاسى وجاحد .. حققت كل اللى سافرت عشانه .. بس مرتحتش .. مرتحتش أبداً .. كنت طايش لأبعد حد .. هربت من المسؤلية .. بس للأسف فوقت متأخر .. ولما حبيت أرجعك لحضنى معرفشت .. سمحيني يا بنتى
عانقته “سمر” مرة أخرى مغمضة عينيها . لم تكن تبغى العتاب .. لم تكن تبغى فى الحديث عما مضى .. لم تكن تبغى سوى ذاك الحضن والإحساس بالأمان الذى افتقدته طيلة عمرها .. لم تشعر سوى بشئ واحد .. الآن هى فى أحضان والدها .. فلا شئ يهم سوى ذلك !
**************************
ارتدت “سمر” فستان زفافها ونظرت الى نفسها فى المرآة .. كانت تحلم بذلك اليوم منذ أن كانت صبية .. كانت تعلم بأنها ستكون سعيدة فى يوم عرسها كملايين البنات .. لكنها لم تتوقع أن فرحتها يتكون بهذا الشكل .. فرحتها بزواجها ممزوجه فرحتها لوجود أبيها بجوارها .. ولياً لأمرها .. يضع يده فى يد “زياد” ليزوجها له .. حاول كثيراً تبرير ما فعل .. والحديث فيما مضى .. لكنها رفضت الحديث عن أى شئ فات أوانه .. طوت هذه الصفحة تماماً .. لم تطويها فقط بل مزقتها وألقتها خلف ظهرها .. لا يهمها ما فات .. المهم أنه معها وبجوارها .. وعدها بأن يعرفها على اخوتها من زوجته .. اخبرها أن لها أخاً وأختين .. سعدت لذلك بشدة .. لطالما حلمت بأن يكون لها اشقاء وشقيقات .. أرادت التعرف عليهم بشدة .. أرادت أن تندمج فى حياة أبيها .. دون ان يؤثر ذلك على مشاعرها تجاه أمها .. فتلك نقرة وتلك نقرة أخرى .. هذه أمها وهذا أبيها .. ليس شرطاً أن تخسر واحد منهما لتكسب الآخر .. بس تري أن تكسب كليهما .. فكل منهما تحمل نصف جيناته .. وكل منهما أعطاها سبباً للوجود فى هذه الحياة .
سعد “زياد” بشدة من أجلها .. لم يرها سعيدة بهذا الشكل .. توجها الى عشهما السعيد .. نظرت اليه “سمر” بحب وثقة وحنان كما لم تنظر اليه من قبل .. بدت مرتاحه بشكل كبير وكأنها كانت تحمل عبئاً ثقيلاً أزاحته أخيراً من فوق كتفيها .. عانقها “زياد” طويلاً يبثها حنانه .. يشعرها بأنه معها الآن وغداً وللأبد .. وبأنها شريكة حياته ونصفه الآخر الذى لا يستطيع أن ينفصل عنه قط .. فبدءا حياتهما الزوجية بفرحة وسعادة وكل منهما يعد الأخر بأن يكون الحضن الدافئ له .. ومصدر أمنه وأمانه !
**************************
فتحت “مديحة” الباب وابتسمت فى وجه “على” قائله :
– ازيك يا “على” .. اتفضل يا حبيبى
دخل “على” قائلاً :
– ازي حضرتك أخبارك ايه
قالت وهى تغلق الباب خلفه :
– كويسة يا حبيبى الحمد لله ازى ماما و “إيمان”
ابتسم قائلاً :
– بخير الحمد لله
أشارت الى حجرة الصالون فجلس واضعاً ما يحمله بيده فوق الطاولة .. دخلت “مديحة” غرفة “أسماء” قائله :
– “أسماء” على جه ومستنيكى بره
هبت من فراشها قائله بدهشة :
– “على” ! .. بس مقاليش انه جاى
ضحكت “مديحة” وقالت :
– عادى يعني هو غريب .. يلا البسى واطلعيله
ارتدت “أسماء” ملابسها .. استقبلها “على” ببشاشة .. ضحكت قائله :
– ايه المفاجأة الحلوة دى
جلست بجواره فقال :
– كنت قريب من هنا قولت أعدى عليكي وكمان أعملهالك مفاجأة
اتسعت ابتسامتها .. اخرج “على” من جيبه علبة من القطيفة واعطاها اياها قائله بإبتسامه عذبه :
– شوفى كده ذوقى هيعجبك ولا لأ
نظرت الى العلبة بدهشة ثم فتحتها لتجد خاتماً ذهبياً .. اتسعت ابتسامتها وهى تقول بسعادة :
– الله .. حلو أوى يا “على”
اتسعت ابتسامته هو الآخر وهو يرقب تلك السعادة على وجهها وقال :
– طيب الحمد لله ان ذوقى عجبك
نظرت اليه بحب قائله :
– أصلاً ذوقك بيعجبنى على طول
ثم قالت بمرح :
– مش اخترتنى يبأه لازم يكون ذوقك حلو .. هو فى أحلى منى
اختفت ابتسامته وتحدث بجدية قائله :
– انتى فعلاً يا “أسماء” جميلة .. مش بس بشكلك .. لأ كمان بروحك وبطيبة قلبك .. عارفه .. أنا كنت ببعد عن أى علاقه حرام أو أى حاجة تغضب ربنا وكنت دايماً بدعى ربنا انه يرزقنى بزوجة طيبة أحبها فى الحلال وتدخل قلبي .. والحمد لله ربنا رزقنى بيكي
اختفت ابتسامة “أسماء” وشردت وفى عيينها نظرة أسى .. قام “على” وجلس بجوارها على الأريكة ينظر بإهتمام الى لمعة عينيها قائلاً :
– مالك يا حبيبتى . أنا قولت حاجة ضيقتك
هزت رأيها نفياً وتلك اللمعة تتزايد فى عينيها .. وضع يده على ظهرها وهو يقول :
– لأ فى حاجة مضايقاكى .. كده تخبى عنى .. مش اتفقنا نكون صرحا مع بعض
نظرت اليه بأسى .. فقال متظاهراً بالغضب :
– على فكرة لو ما قولتليش مالك هزعل منك بجد .. لانك كده بتعملى فرق بينا .. مش قولنا اننا خلاص بقينا واحد يا “أسماء” .. ولا نسيتى كلامنا
قالت وعبراتها تتساقط :
– لأ منستش
ربت على ظهرها بحنان وهو يقول :
– طيب قوليلى مالك .. ايه اللى ضايقك
مسحت عبراتها وهى تنظر الى يديها قائله :
– افتكرت حاجة ضايقتنى
– ايه هى ؟
تساقطت عبراتها وجسدها ينتفض بخفوت .. أحاطها “على” بذراعه وهمس فى أذنها بحنان :
– حبيبتى اتكلمى معايا .. قوليلى مالك
نظرت اليه بأعين دامعه قائله :
– كان فى حاجة نفسى أقولهالك من زمان يا “على” .. بس “آيات” قالتلى ما أقولش .. وان دى حاجة مش ذنبى .. وانى أستر على نفسى .. بس أنا مش قادرة أخبى عليك .. مس بحب أخبى حاجه عنك
تجمدت الدماء فى عروقه وهو ينظر اليها وقد غارت عيناه .. اضطرب تنفسه وهو يسألها بخفوت :
– فى ايه يا “أسماء” .. ايه اللى كنتى مخبياه عليا
أجهشت فى البكاء وهى تنظر اليه قائله :
– فاكر لما قولتلى انك مبتعملش حاجة غلط مع أى بنت عشان ربنا يحافظلك على البنت اللى هتكون مراتك
نظر اليها دون أن يرد فأكملت باكية :
– من يوميها وأنا عايزه أقولك .. بس شوية أخاف وشوية أتردد .. خايفة من ردفعلك .. بس بجد مش قادرة أخبى عليك .. حسه انى محتجالك أوى تساعدنى انى أنسى .. محتجالك تقولى كلام يخفف عنى
جف حلقه .. ولكنه تحدث بهدوء حازم قائلاً :
– اتكلمى يا “أسماء”
أطرقت برأسها وأغمضت عينيها للحظات .. ثم .. قصت عليها ما صدر من “هانى” من تحرشات .. وما قاسته وعانت منه فى بيت جدها من خالتها واتهاماتها وطعنها فى عرضها .. انتهت من حديثها .. صمتت .. لا تجرؤ على النظر الى وجهه .. أخذت تفرك كفيها بعصبيه .. وهى تنظر أرضاً .. تعلم أنها لربما أخطأت بالحديث معه .. واخباره بكل شئ .. لكنها لم تستطع أن تخفى عنه .. وأن تكتم بداخلها تلك الذكرى التى تؤرق مضجعها .. طال صمته .. بدأت فى بكاء مكتوم .. ارتعشت يديها وهى تخشى أن تسمع منه الآن كلمة تنهى كل أحلامها .. وتحطم قلبها .. استغفرت الله فى سرها .. الى أن وجدته فجأة يجذبها الى صدره لافاً ذراعيه حولها .. أجهشت فى البكاء بصوت مرتفع وكأنها تخرج شئ حبيس بداخل
تمت بحمد الله