رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل السادس
تلقت تكريمًا جديدًا وتشجيعًا من معلمي الصف في مدرستها لنبوغها وتفوقها الدراسي، شعرت “هالة” بالفخر من نفسها لمقدرتها على تحدي الصعاب وشق طريقها وسط ما تجابهه، عادت إلى منطقتها الشعبية وهي مليئة بالحماس والغبطة، قررت ألا تخبر والدتها بما حققته من إنجازات حتى لا تفسد فرحتها بما ينغص يومها ويكدرها، صعدت الدرج وهي تلهث بتعبٍ بعد يومٍ شاق من الاستذكار وملاحقة وسائل المواصلات لترجع إلى منزلها، وما إن وصلت أمام الباب حتى انتزعت حجاب رأسها ودست المفتاح في القفل لتدخل إلى الصالة، كانت مرهقة فلم تنتبه للضيف غير المرحب به والمتواجد في انتظارها، اعتلتها دهشة مصدومة حينما رأت “منسي” يُجالس والدتها وابتسامته الصفراء المستفزة تعلو ثغره، تنبهت لكونها بدون حجابها فوضعته بإهمال على خصلاتها لتخبئه، اكتست ملامحها بتعابير مزعوجة لمجرد التطلع إلى وجهه البائس، هتفت والدتها بحماسٍ وكأن ضيفها أحد المشهورين:
-تعالي يا “هالة” سلمي على “منسي”، ده مش غريب!
نظرت له شزرًا من طرف عينها قبل أن ترد على مضضٍ:
-أهلاً
مدحته “أم بطة” قائلة بابتسامة متسعة:
-والله ما في زيه في شهامته وجدعنته، مخلصوش جاية من السوق شايلة الطلبات طلعهالي لحد هنا، لأ وكمان صلحلي جلدة الحنفية البايظة!
تركزت أنظار “منسي” على وجه “هالة” بجرأة بائنة ومع ذلك لم تبادله إلا النظرات المتأففة المستنكرة لوجوده، ردت على والدتها باقتضابٍ مستهجن:
-كتر خيره، عن إذنكم
ارتفع حاجب أمها للأعلى صائحة فيها بحدةٍ طفيفة:
-ما تقعدي شوية يا بت، متسربعة على إيه؟!
ردت عليها بعبوسٍ:
-جاية تعبانة من المدرسة وعندي مذاكرة كتير
علقت عليها قائلة بتهكمٍ وهي تشير بيدها:
-هما الـ 5 دقايق دول اللي هيعطلوكي
زفرت بضيق كبير فأضاف “منسي” ببرود محترف ليبدو متقبلاً لأمر ذهابها:
-سيبها على راحتها يا ست “أم بطة”، الله يكون في عونها
ردت عليه بسخطٍ:
-هي بتعملي إيه يعني؟!
لم تجد “هالة” بدًا من الرفض أمام هجوم والدتها المستمر، فإن أصرت على موقفها لنالت من الكلمات الموبخة ما سيضايقها طوال اليوم وربما على مدار عدة أيام، نفخت بصوت مسموع لتشعره بضيقها منه لتقول بعدها باستسلام ممتعض:
-حاضر يا ماما أديني أعدت
وما إن تأكدت من جلوس ابنتها ولاحظت نظرات “منسي” المتطلعة إليها حتى هتفت متسائلة بنزقٍ وكأنها بذلك تتيح له الفرصة للتفكير فيها من منظور آخر غير كونها طالبة صغيرة:
-هاقوم يا خويا أعلقلك على الشاي، تحب كام معلقة سكر؟
فهم حركتها المفتعلة واعتلى ثغره ابتسامة انتشاء معقبًا عليها:
-تلاتة يا ست الكل
ضحكت عاليًا قائلة له بحماسٍ مريب:
-عينيا
انتظر بصبرٍ مدروس انصرافها ليحرك جسده على الأريكة العريضة متعمدًا الاقتراب من الأريكة الجالسة عليها “هالة”، انكمشت الأخيرة على نفسها خوفًا وانزعاجًا منه، سألها مبتسمًا بسماجةٍ:
-عاملة إيه؟
لم تنظر له وركزت بصرها على نقطة ما بالفراغ قائلة له بتبرمٍ:
-كويسة
وبوقاحة جريئة منه –مستغلاً عدم تطلعها إليه – مـد يده ليتلمس حجاب رأسها، جذبه فجأة ليكشف عن خصلات شعرها غير المرتبة قائلاً بمكرٍ:
-مغطية شعرك ليه، هو إنتي بتكسفي مني؟
التفتت نحوه كالملسوعة وهي تهب واقفة من مكانها بعد حركته المستفزة تلك لتنظر له باستنكار كبير، استشاطت نظراتها من عبثه بحجابها باستمتاعٍ لم يخفه ثم انحنت نحوه لتجذبه منه عنوة وهي تنهره بغلظةٍ:
-إيه الي بتعملوه ده؟
نهض واقفًا ليحدق فيها بنظرات متفحصة لها أشعرتها بالحرج والنفور، غطت سريعًا رأسها وتراجعت خطوة للخلف لتتجنب اقترابه منها، فرك “منسي” طرف ذقنه بحركة متكررة قائلاً لها:
-يا بت ده أنا كنت بأخدك على حجري وإنتي لسه طول كده، نسيتي ده
منحته “هالة” نظرة حانقة رافضة لذلك الحق الذي يمنحه لنفسه فيما لا يخصه، أولته ظهرها لتبتعد عنه عائدة إلى غرفتها صافقة الباب خلفها بقوة وهي تبرطم بكلمات غاضبة، أخفض “منسي” يده ودسها في جيبه وقد التمعت حدقتاه بوميضٍ شرير محدثًا نفسه:
-وماله، إتقل على الحلو لحد ما يجيلك برجليه
خرجت “أم بطة” من المطبخ حاملة صينية صغيرة موضوع بها كوب من الشاي، سألته باستغرابٍ وهي تدنو منه:
-الله! رايح فين يا سي “منسي”؟
أشاح بيده مدعيًا بالكذب:
-ورايا كام مصلحة كده بأقضيها، أهوو نطلع منها بقرشين
-طب والشاي
اعتذر منها بضيقٍ مصطنع:
-مرة تانية
أخرجت تنهيدة آسفة من صدرها معلقة عليه:
-ربنا يفتحها عليك يا ابني
رد عليها قاصدًا استغلال تلهفها للحصول على زوجٍ لابنتها الثانية:
-بالله عليكي تدعيلي ربنا يرزق بالحلال عشان اتأهل كده وأكمل نص ديني، أديني جبت الشقة بس ناقصني أوضبها واشوف بنت ناس طيبين ترضى بيا وبظروفي!
تهدجت أنفاسها مرددة بحماسٍ انعكس على وجهها وحدقتاها الناظرتين إليه:
-يا رب يسعدك عن قريب
هز رأسه مضيفًا:
-تسلمي يا ست الكل، متؤمريش بحاجة؟
ردت عليه:
-ميأمرش عليك عدو، مع السلامة
ودعته باهتمام أكبر حتى هبط على الدرج فأغلقت الباب وعادت إلى غرفة ابنتها لتعنفها بتذمرٍ:
-كان لازم يعني تقابليه بالبوز ده، فيها إيه لما تكلميه عدل؟!
عقدت “هالة” شعرها جديلة والتفتت نحوها ترمقها بنظرات مستنكرة، ثم ردت عليها بحدةٍ:
-هو مين ده أصلاً عشان أعمله اعتبار ولا أهمية؟!
اقتربت أكثر من والدتها لتتابع بنفس النبرة المحتدمة:
-ده واحد صايع وبلطجي، وطول اليوم متلأح على القهاوي
ردت عليها “أم بطة” بغيظٍ لاكزة إياها في كتفها بقسوة:
-إنتي اللي حاطة مناخيرك في السما، اللي زي “منسي” بيعرفوا يجيبوا القرش من حنك السبع
صاحت بها بنرفزةٍ جلية:
-واحنا مالنا بيه من الأساس؟ ما يشوف حاله بعيد عننا
حدجتها أمها بنظرة غامضة قائلة لها بغموض أربكها:
-جايز يبقلنا مصلحة، محدش عارف النصيب مودي على فين!
تلبكت “هالة” من حديث والدتها الذي جعل بدنها يقشعر ونظراتها تتوتر، حاولت تغيير مجرى الحديث كي تسد عليها أي محاولة لمدحه فهتفت متسائلة:
-هي “بطة” مش هاتجي الأسبوع ده؟
أجابتها والدتها بفتورٍ:
-لأ، جوزها رجع وهتفضل معاه، لما يسافر تاني هتبقى تعدي علينا
أومأت برأسها مرددة:
-طيب
ثم اتجهت نحو الفراش لتجمع ثيابها المدرسية وقامت بتعليقهم على الشماعة الخارجية الملتصقة بخزانتها القديمة راجية الله في نفسها ألا يكون ما تفكر فيه والدتها وتلمح إليه جادًا وبخصوصها هي تحديدًا.
……………………..
أسند علب الطعام الجاهز التي اشتراها في طريق عودته على الطاولة التي تنتصف الصالة في منزله الجديد، تأمل “يامن” أرجاء المكان بنظرات شاملة متفحصة لكل ركن فيه، لم تكن مساحته تصل تقريبًا إلى ربع مساحة فيلا والده، لكنه مضطر للقبول بها كما أبلغه ابن عمه، خاصة أن ظروفه المادية لن تسمح له بتأجير ما يعادلها أو حتى أقل تكلفة منها ودفع نقودها مقدمًا، استدار للخلف حينما سمع تلك النحنحة المتحشرجة، وجد حارس البناية يقف ورائه مطأطأ الرأس ومنتظرًا لتلقي التحية المادية منه، أخرج من جيبه بضعة نقود ووضعها في راحته، تناولها الأخير مرددًا بامتنان قبل أن يدسها على الفور في جيب جلبابه القديم:
-تُشكر يا بيه؟ أي أوامر تانية؟ محسوبك ….
قاطعه “يامن” بفتورٍ:
-لأ، اتفضل!
-ماشي يا بيه
قالها الحارس وهو يستدير خارجًا من المنزل ليغلق الباب خلفه، زفــر “يامن” مطولاً ثم تأمل المكان من حوله بنظراتٍ أكثر دقة، قطع تأمله رنين هاتفه، كان يتوقع المتصل قبل أن ينظر إلى الشاشة، ضغط على شفتيه وهو يرد:
-أيوه يا “رغد”
سألته دون انتظارٍ:
-عملت إيه؟
أجابها نافخًا:
-مافيش
بدا صوتها حادًا وهي تسأله بعصبيةٍ:
-يعني إيه مافيش؟ قابلت بابا ولا لأ؟
رد بوجه باهت التعبيرات مستعيدًا في عقله مقابلته الفاترة له:
-ايوه قابلته واتكلمت معاه
سألته بفضولٍ:
-واتفقت معاه على إيه؟ ها ظبطت مع المحامي عشان نعرف ناخد حقنا من “أوس” و….
لم يعرف “يامن” المراوغة فقرر مصارحتها بما عقد العزم عليه لتكون الصورة واضحة أمامها فقاطعها دون تهملٍ:
-بصراحة أنا قررت أشتغل معاه
صرخت فيه باهتياجٍ كبير:
-إنت اتجننت؟ إزاي تعمل كده مع اللي حبس بابا وخد كل حاجة مننا؟!
دافع عنه قائلاً بحذرٍ:
-إنتي مش فاهمة حاجة، “أوس” قالي آ…..
قاطعته رافضة الإصغاء لكلمة يبرر بها تصرفه الذي اعتبرته دنيئًا من وجهة نظرها:
-طول عمرك غبي ومتخلف، مش همك إلا نفسك وبس
استاء من هجومها الشرس عليه ورجاها بتريثٍ علها تترك له الفرصة لإيضاح كل شيء لها:
-يا “رغد” اسمعي
صاحت به بانفعالٍ أشد:
-أنا غلطانة إني اعتمدت على واحد زيك، كان المفروض أنا اللي أرجع مكانك، وقال إيه دفعتلك ديونك على أمل تساعدني، كان حقي أسيبك تتسجن مع المشردين والمجرمين اللي شبهك، إنت فعلاً غبي و…
احتقن وجهه بحمرةٍ مغتاظة من تطاولها بالسباب عليه وتحقيرها من شأنه بذلك الأسلوب القاسي، زفر منهيًا الحديث معها:
-سلام
ألقى “يامن” بالهاتف إلى جواره لاعنًا طريقتها في التعامل معه، لم تجعله يومًا يشعر بإمكانية الاعتماد عليه أو بأنه قادر على التصرف في الأزمات، لذا لم يكترث بردة فعلها عندما يخطئ ويرتكب الحماقات، فربما في تلك التفاهات التي يفعلها الفرصة لإثبات أنه موجود.
……………………..
رجَّت “ماريا” زجاجة الرضيعة “حياة” بعد أن ملأتها باللبن الاصطناعي وأعدته ليصير جاهزًا للتناول، انحنت لتقدمه لـ “تقى” التي تولت مهمة إرضاعها وهدهدتها بحنوٍ زائد، ثم تركتها بصحبة ضيفتها وانصرفت لتكمل أعمال المنزل مع “عفاف”، داعبت “ليان” قدم ابنة أخيها ببراءةٍ، ثم اعتدلت في جلستها مرددة بمرحٍ:
-كبرت “حياة”
ردت عليها “تقى” قائلة:
-الوقت بيعدي بسرعة، قريب هتكمل سنة
-واو، العمر كله يا رب
-تسلمي
أخرجت “ليان” تنهيدة عميقة من صدرها لتقول بعدها بتعبٍ:
-أنا بجد زهقت، مش قادرة من كتر الضغط، شركة ودراسة وبيت، نفسي أخد بريك طويل معملش فيه حاجة غير إني استجم وأسافر أغير جو
نظرت لها “تقى” قائلة بتشجيعٍ:
-هانت، فاضل حاجة بسيطة على الامتحانات
سألتها “ليان” بفضولٍ:
-طب إنتي مش بتفكري تكملي دراستك؟ اللي أعرفه إنك كنتي في معهد، وآخر سنة تقريبًا
هزت رأسها بالإيجاب موضحة:
-ايوه، واقترحت على “أوس” ده، وهو معندوش مانع، بس شارط عليا أحضر الامتحانات وبس!
أومأت برأسها معلقة:
-أها، مذاكرة منزلية يعني!
-حاجة زي كده
تابعت تساؤلاتها المهتمة:
-كويس، بس هتقدري توفقي بين ده وبين “حياة”؟ أنا ملاحظة إنها أخدة كل وقتك، يعني هتعرفي تذاكري وتخدي بالك منها؟
صمتت للحظات قبل أن تجيبها:
-هاحاول، واللي هاقدر عليه هاعمله!
-أوكي
غمزت لها “تقى” متسائلة بابتسامة عابثة:
-المهم إنتي مش بتفكري تخلفي دلوقتي؟
أجابتها بنفيٍ قاطع:
-لأ طبعًا، أنا الموضوع ده مش في بالي، ده غير إنه مش وقته خالص
تفاجأت من ردة فعلها الغريبة وسألتها مستفهمة:
-و”عدي”؟ رأيه زيك؟
ردت عليها بتوترٍ:
-ده قرار مشترك، استحالة نعمل ده وإنتي شايفة يومي عامل ازاي، ناقصة عيال أنا، لالالا، الفكرة مرعبة أصلاً، بليز مانتكلمش في الموضوع ده
لم تضف المزيد فاكتفت بقول:
-ربنا يقدملك اللي فيه الخير
ثم التفتت إلى رضيعتها تداعبها بحنو وتغمغم معها بكلمات مبهمة جعلتها تضحك، شردت “ليان” في ضحكاتهما البريئة، تصلب جسدها إلى حد ما حينما تسلل إليها إحساسًا بالارتباك والتوتر لغفلها عن شيء هام ربما لم تعره الأمر في البداية، لكنه أشعل تفكيرها قلقًا لمجرد توهم حدوثه نظرًا لمرور وقت طويل على غياب ضيفتها الشهرية، بهتت ملامحها وضاقت نظراتها، شعرت بجفاف مريب يصيب جوفها، وبدون أي مقدمات هبت واقفة لتعلق حقيبة يدها على ذراعها قائلة بجمودٍ:
-أنا هامشي يا “تقى”
استغربت الأخيرة من حالة التوتر التي اعترتها بصورة فجائية وسألتها بتعجبٍ:
-هو في حاجة؟ مش المفروض احنا هنقضي اليوم سوا
ردت عليها بتلعثمٍ:
-أصلي افتكرت مشوار كده مش عملته، ده غير إني وعدت مامي هاعدي عليها في الدار قبل ما أرجع
حركت “تقى” جسدها لتنهض وهي حاملة صغيرتها بين ذراعيها، رسمت بسمة رقيقة على ثغرها قائلة لها:
-براحتك، وأنا هستناكي في أي وقت تجيلي
لوحت لها بيدها ثم أحنت رأسها على الرضيعة متمتمة:
-أكيد، باي يا “تقى”، باي بيبي!
ثم خطت مسرعة إلى الخارج وهي تفكر في الذهاب إلى الصيدلية لشراء إحدى عبوات كشف الحمل المنزلي متمنية في نفسها أن تكون شكوكها خاطئة.
……………………..
على غير عادته، قرر المجيء مبكرًا لتناول طعام الغذاء مع زوجته، وتمضية باقي اليوم بصحبة رضيعته تاركًا ما لديه من أعمالٍ على عاتق رفيقه ليمنح نفسه بعض الفسحة والراحة، ولج “أوس” إلى داخل غرفة نومه باحثًا عن “تقى”، لم يجدها فخمن على الفور مكانها، بالفعل كانت جالسة تلاعب الصغيرة “حياة” على الأرضية، تأملهما بنظرات حانية تعبر عن حبه القوي لقطعتين غاليتين تتربعان على عرش قلبه، لم يقاطع ما تفعلاه وظل مرابطًا في مكانه لبعض الوقت، رفعت “تقى” رأسها للأعلى لتتفاجأ بوجوده عند باب الغرفة ومحدقًا بها بتلك الطريقة الرومانسية التي تحبها منه، تورد وجهها قليلاً من نظراته، أخفضت عينيها متسائلة بنعومةٍ:
-إنت رجعت النهاردة بدري؟ معندكش شغل ولا إيه؟
أجابها بهدوءٍ وهو يقترب من الاثنتين:
-الشغل مابيخلصش، بس أنا عاوز أقضي اليوم معاكو
لمعت نظراتها بوميض سعيد وهي ترد بارتياح:
-ماشي
جثا على ركبته بجوارهما متابعًا بنبرته الهادئة:
-عاوزين نفكر هانعمل إيه في عيد ميلاد “حياة”
ترددت في إخباره بعدم رغبتها في إقامة حفل كبير يُدعى لحضوره الكثير من الضيوف ممن لا تستطيع التعامل معهم، خاصة من معارفه ذوي السلطة والتعقيدات الطبقية الذين قد يضايقوا بتلميحاتهم المستترة والعلنية أفراد عائلتها بتنمرهم أو سخريتهم، عبست تعبيراتها قليلاً وهي تسأله بتوجسٍ:
-أنا حاباه يكون عائلي شوية؟ إنت إيه رأيك؟
رد مبتسمًا مانحًا إياها حرية الاختيار:
-اللي يعجبك، أنا معاكي في أي حاجة
لاحت ابتسامتها الرقيقة من جديد على وجهها فزادته إشراقًا ووهجًا لاستجابته دون جدال لطلبها، استرخى “أوس” في جلسته أمام رضيعته يداعب رأسها بأنامله، تمددت “حياة” على ركبته مستسلمة لرغبتها في النوم، استمر والدها في المسح على خصلاتها الخفيفة برفقٍ حذر حتى أغمضت عينيها وغفت، ثم ركز بصره على “تقى” متسائلاً بمكرٍ:
-مش ناوية تغلطي تاني؟
ضاقت نظراتها والتهبت بشرتها حرجًا من تلميحه العابث والمشير إلى عقابه المتسلي معها، ادعت العبوس قائلة بصرامةٍ تخالف طبيعتها:
-لأ طبعًا، أنا اتعلمت الدرس، مش هاتكرر تاني، اطمن!
غمز لها قاصدًا الابتسام وهو يرد:
-كويس، ده اللي يهمني، لأني مش بأسامح بسهولة!
ردت عليه بربكة خفيفة ظهرت في نبرتها:
-ما أنا عرفت وجربت!
مد “أوس” يده ليتلمس جانب عنقها فارتعشت قليلاً من لمساته الخبيرة على بشرتها والتي توقظ فيها مشاعرًا جميلة ورغبات مشتعلة تحتاج للإخماد، تراجعت عنه ببطء لتتجنب ذلك الإحساس المغري الذي يحثها دومًا على تذوقه متسائلة بجدية زائفة:
-أجهزلك الغدا؟
استند على مرفقيه ليرمقها بنظرة مطولة ذات مغزى قبل أن يجيبها:
-ماشي، وأنا هانيم “حياة” في سريرها
أومأت برأسها موافقة، ثم نهضت واقفة على قدميها لكنها لم تتحرك قيد أنملة، بدت متشنجة إلى حد كبير، سألها “أوس” مستفهمًا:
-في إيه مالك؟
أجابته بصعوبة وهي تكز على أسنانها:
-الظاهر رجلي نملت!
تحركت “تقى” بتمهلٍ لتستند على أقرب أريكة حتى تخف حدة التنميل الذي سيطر على قدمها لجلوسها بطريقة خاطئة لفترة طويلة، في حين حمل “أوس” رضيعته ووضعها في فراشها ليقف بعدها خلف زوجته وهو يجوب بنظراته تفاصيل جسدها وقد اشتعلت الرغبة بداخله، انتفضت مع لمسه لخصرها، واستدارت نحوه تحذره بوجهها المشدود:
-مش وقته يا “أوس”؟
سألها بعبثٍ:
-هو إنتي عارفة أنا عاوز إيه؟
علقت عليه بضيقٍ بسبب ذلك الألم الذي يزعجها:
-مش محتاج تقول
مال عليها برأسه ليطبع قبلة عميقة على وجنتها أحست فيها بأنفاسه الحارة، قاومت ما يفعله معترضة:
-بلاش
عمق أكثر من قبلته التي كادت تلامس شفتيها متسائلاً بخفوت:
-طب وكده؟
توترت أنفاسها وخرجت نبرتها شبه مهزوزة وهي تجيبه:
-لأ
اعتبر امتناعها تحديًا يستفزه، وهذا ما لن يقبل له، التفت ذراعاه حول خاصرتها ليحاوطها ويقربها منه، كانت شبه مستسلمة لتأثيره الطاغي الذي يعرف جيدًا كي يغزو حصونها، ارتجفت أكثر مع لمساته الماهرة، ألصقها به هامسًا لها بغرور صريح:
-محدش يقول لـ “أوس” الجندي لأ!
……………………..
-مش ممكن
رددتها “ليان” بصدمة وهي تمنع شهقة مذعورة من الخروج من جوفها بعد أن قرأت نتيجة اختبار الحمل المنزلي، كانت النتيجة إيجابية، تأكدت من طريقة الفحص بقراءة إرشادات الاستخدام لأكثر من مرة، زاد ذعرها وتوترها وهي لا تصدق حدوثه، كيف غفلت عن الانتباه لذلك؟ انحنت لتجمع محتويات العبوة وألقت ما فيه في القمامة قبل أن يرى زوجها ذلك، خرجت من الحمام وحالة من الارتباك الخائف مسيطرة عليها، صرخت بفزعٍ حينما رأت “عدي” أمامها، نظر لها الأخير باندهاش عجيب من ردة فعلها وكأنها قد رأت شبحًا للتو، سألها وقد قطب جبينه:
-في إيه يا “ليوو”؟
ازدردت ريقها وهي تحملق فيه بنظرات جمعت بين الخوف والتوتر، تنفست بعمق لتضبط اضطرابها المثير للريبة لترد بابتسامة باهتة:
-مافيش حاجة
لاحظ “عدي” ذلك الشحوب المريب الذي غطا تعابير وجهها، اقترب منها متحسسًا بشرتها وهو يسألها باهتمام أكبر:
-شكلك مش طبيعي؟ في حاجة حصلت وإنتي مخبياها؟
ادعت كذبًا:
-لأ أبدًا، أصلي نسيت أعمل sheet كان مطلوب مني
رد عليها بتنهيدة ارتياح محاولاً بث الطمأنينة لها:
-ولا يهمك يا “ليوو”، قوليلي اللي إنتي عاوزاه وأنا هساعدك فيه
بادلته ابتسامة فاترة قائلة له:
-ثانكس بيبي
ثم أبعدت رأسها عنه لتتملص من حصار نظراته وأولته ظهرها متابعة:
-أنا هاطلب بيتزا، تحبها بإيه
رد عليها بتثاؤب:
-كلي إنتي يا حبيبتي، أنا هاخد دش وأريح شوية، أخوكي نافخني في الشغل، ده غير إني مطلوب مني أدرب “يامن” ابن عمك
سألته بجمود مفتعل:
-هو “يامن” رجع من برا؟
-أه بقاله فترة، واتقابل مع “أوس”، واتفق إنه يدرب معانا في الشركة
هزت رأسها معلقة:
-تمام، لكن مافيش أخبار عن “رغد”
أجابها وهو ينزع قميصه:
-لأ لسه
وقفت “ليان” عند باب الغرفة لتستدير برأسها نصف استدارة لتضيف بعدها مبتسمة:
-ارتاح إنت يا حبيبي
ألقى بثقل جسده المنهك على الفراش مستلقيًا عليه، أغمض عينيه مرددًا بنبرة شبه ناعسة:
-ماشي، وصحيني لو وقفت معاكي حاجة
أومأت برأسها قائلة:
-اوكي
تنفست الصعداء لكونه لم يكتشف أمر ذعرها الحقيقي، أسرعت مهرولة من الغرفة وهي بالكاد تسيطر على أعصابها المنفلتة، شل تفكيرها مؤقتًا فبدت تائهة وعاجزة عن إيجاد حلاً لما أسمته بـ (الكارثة) التي حلت على رأسها ……………………..
……………………..
يتبع >>>>>