رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل التاسع عشر

أطلقت بكلمتها الأخيرة الوحش الكامن بداخله وحررته من قيده الإجباري الذي منعه من الانفلات من قيده المحكم منذ تلك الليلة المشؤومة حينما نال غرضه منها، تجسدت معاني الشر في حدقتيه، وتراقص شبح شخص مخيف في طرفيه، توحشت نظراته بدرجة مخيفة، بدت ملامحه مختلفة عن المعتاد منه، كان “أوس” كالبركان المهدد بالانفجار في لحظة مباغتة، ركز أنظاره المشتعلة على وجهها المحتقن، رأت “تقى” بأم عينيها ما أحدثته كلمتها المهينة من تأثير جلل عليه، هوى قلبها في قدميها خوفًا من ردة فعله القريبة، استجمعت جأشها لتفر من أمامه قبل أن يفعل ما لا يمكن توقعه، أولته ظهرها متجهة إلى الباب لتتركه بمفرده، لحق بها “أوس” فأمسك بمعصمها ليجبرها على الوقوف عند أعتاب الغرفة، شهقت مصدومة من مسكته المباغتة، التفتت برأسها نحوها ترمقه بنظراتٍ قلقة، دق قلبها بقوة حينما صفق الباب بعنف بيده الأخرى لتبقى معه بالداخل، توترت أنظارها من وجهه المخيف الذي تجسد عليه تعابير قاسية، كز على أسنانه متسائلاً بنبرة قاتمة:
-رايحة فين؟
تجمدت عيناها المرتاعة على وجهه المتصلب، قست تعبيراته متابعًا بلهجةٍ متشنجة:
-أنا مخلصتش كلامي معاكي!
لم يبالِ بما قد يظنه الخدم أو الحراس من شجار أسري يدور بالأعلى، فالأمور بلغت المحك، أخافها نبرة صوته، وأدركت أنها تجاوزت معه بإهانتها المتهورة، حاولت إفلات رسغها من أصابعه القابضة عليها بقوةٍ، لم تنجح في ذلك، جذبها “أوس” عائدًا بها لمنتصف الغرفة دون عناءٍ يُذكر، كانت مقاومتها واهية للغاية، خاصة مع توتر أطرافها، توقف عن السير ليستدير نحوها، ثبت حدقتاه على وجهها دون أن يرف له جفن، ارتعدت كثيرًا من طريقته في التعامل معها، شعرت ببرودة تسري في أوصالها من منظره المهدد بعنفٍ وشيك، ولما لا تخاف وهي المتسببة في تأزم الموقف بالهجوم المهين عليه؟ شدد من إمساكه بمعصمها لتتأوه متألمة من قوة ضغطه على عظامها، صرخت به:
-سيب إيدي
جاهدت لتتملص منه رافضة التطلع إلى وجهه المشحون بدموية غاضبة، قبض “أوس” على كومة من شعرها المنسدل ليجذبها منه للأعلى مجبرًا عينيها على النظر إليه، لعقت شفتيها المرتجفتين بخوفٍ، هتف بخشونةٍ قاصدًا الضغط على حروف كل كلمة يتلفظ بها:
-مش لازم تسمعي الحيوان اللي اتجوزتيه الأول قبل ما تسبيه وتمشي!
هربت الدماء من وجهها ليحل شحوب مرتعد على ملامحها وهي تستمع إليه ينطق بنفس الكلمة التي ربما ستفتح عليها أبوابًا من الجحيم، رفع يده عاليًا في الهواء بعد أن تركت خصلاتها مهددًا بصفعها، اتسعت مقلتاها رعبًا وهي تتوقع الصفعة في أي لحظة، كور قبضته بعنف وهو يخفضها ليمسك بفكها، تأوهت بأنة موجوعة، نظر في حدقتيها دون أن يطرف جفناه ومزيدًا في نفس الوقت من ضغطه على عظام وجهها، لو كان كالسابق لما كانت تلك ردة فعله، سيطر “أوس” بدرجة لا تتخيلها “تقى” على أعصابه حتى لا يخرج عن سكونه الزائف فيذيقها ألوانًا من العنف جراء تهورها الأحمق لتختبر المعنى الحرفي لمرادف كلمتها الهوجاء، النظرة التي رمقها بها كانت كافية لإسكات قلبها من فرط الفزع، تمسك “أوس” ببقايا أعصابه ليتابع بقسوةٍ جافية:
-مليون مرة قولتلك أنا اتغيرت، بقيت واحد تاني، ليه مش عاوزة تصدقي ده؟
ارتجفت وهي بين براثنه، عجزت عن النطق أو حتى تبرير اندفاعها في الإساءة إليه، صرخ منفعلاً وقد بدت أنفاسه حارقة لبشرتها المرتجفة:
-أنا عمري ما أنكرت إني كنت حيوان زي ما قولتي، بس إنتي ليه حطاني في القالب ده؟ مش عاوزة تنسي اللي فات مع إني سامحت أكتر حد أذاني!
اختنقت الكلمات في جوفها وهي تعلل:
-أنا .. مش ..
هدر مقاطعًا:
-إنتي مع أي مشكلة تقابلك بتنسي كل حاجة حلوة عملتها عشانك وتفتكري بس الوحش مني
رفض “أوس” تمرير الأمر هكذا دون عقابٍ حتى لو كان معنويًا، تشنج صوته وهو يضيف مهددًا:
-لو كنت حيوان زي ما بتقولي يا “تقى”، كنت عرفتك الحيوانات بتعمل إيه
حل أصابعه عن فكها ليحني نفسه عليها ممررًا ذراعه أسفل ركبتيها ليحملها، صرخت متوقعة تنفيذ تهديده الصريح باختبار تجربة لم تكن بالبعيدة عنها، ركلت بساقيها في الهواء وحاولت ضربه في صدره ليتوقف، لكنه تسلح بجموده المفزع للأبدان، ألقاها على الفراش دون أن يحررها، جثا فوقها مثبتًا رسغيها أعلى رأسها، نظر لها بعينين خاليتان من الحياة قائلاً لها بشراسةٍ:
-الحيوان اللي اتجوزتيه عمره ما ندم في حياته إنه ذل واحدة ولا خلاها تركع عند رجليه
انتفضت بجسدها مع حقيقة ما يردده، قاومته لتتحرر من قيده الإجباري لكنه ازداد في ضغطه على يديها، حملت نظراته رغم القسوة التي تغلفها لمحة من العتاب، اختنقت نبرته المتشنجة وهو يضيف:
-إلا إنتي يا “تقى”
تدريجيًا خبت حدة انفعاله ليكمل بنبرة تحمل الألم:
-من وقت ما عرفتك والقدر ربطني بيكي، اتغيرت وندمت وعرفت يعني إيه أنسى وأسامح وأغفر لغيري، وده كانت حاجة مستبعدة عني!
اغرورقت عيناها الزرقاوتان بالعبرات الكثيفة، انتحبت بنشيجٍ خافت باحثة عن المناسب من الكلمات لتبرر موقفها، عاد “أوس” ليقسو عليها مكملاً بعدائية أخفت تلك اللمحة المتألمة من عينيه:
-لو كنت لسه زي ما أنا كنت أذيتك فوق ما عقلك يصورلك، وده مش صعب عليا، أنا أقدر أعمل أضعاف اللي عاوزاه معاكي، ومحدش هيمنعني
حملقت فيه بنظرات ضائعة مرتعدة خاصة حينما نطق عن قصدٍ:
-وخصوصًا إنك مراتي!
أحس بتلك الرجفة القوية التي أصابت بدنها، وبخوفها المضاعف لمجرد توهم الأمر في مخيلتها، تراجع بثقل جسده مبتعدًا عنها ومرخيًا قبضتيه عن رسغيها، وقف على قدميه موليًا إياها ظهره قائلاً بجمودٍ مليء بالجفاء:
-بس للأسف ماينفعش، لأني بأذي روحي مش بس هأذيكي
زحفت “تقى” متكومة على نفسها دون أن تبعد نظراتها المرتاعة عنه، التفت برأسه ناحيتها ليطالعها بغرابةٍ، ورغم قسوة ما يبوح به إلا أنه تعمد أن تكون نبرته خالية من أي ذرة إشفاق وهو يكمل:
-وعلى أد ما أنا بأحبك يا “تقى” بس ليا لي طاقة استحمال
تشجعت للنطق أخيرًا مرددة بتلعثمٍ:
-إنت.. مش فاهم حاجة، أنا …
هدر بقوة خشنة أخرستها:
-ومش عاوز أفهم
ضمت ركبتيها إلى صدرها وقد تضاعفت رجفتها من تعسفه القاسي، لم يقترب “أوس” منها، ظل متيبسًا في مكانه يحدجها بنظراته النارية وكاظمًا ما يخالجه من نزعات تحثه على تأديبها، لولا شغفه الصادق بها وتغيره الحقيقي لما سكت أبدًا عن ذلك وارتكب أبشع التصرفات، أشار بسبابته معنفًا بغلظة:
-إنتي اللي اختارتي تظلميني وتحكمي عليا زي تملي، واعتبرتي إن حبي ليكي مالوش قيمة ولا لازمة!
أجهشت “تقى” بالبكاء وارتفع نحيبها بسبب عنف كلماته، بدا وجهه متحجرًا لا يكسوه سوى القسوة والجمود، استدار متحاشيًا النظر إليها فألمها ذلك كثيرًا، همست باسمه من بين بكائها:
-“أوس”
أحس بغليان يفتك برأسه مع نبرتها التي تسترق قلبه، بسخونة حارقة تلهب جلده وتحثه على التراجع، لكنه لن يلين تلك المرة، هي بحاجة لإدراك خطئها وتقييم الأمور بمنظور أوسع عن ذلك المنظور الضيق المحدود الذي تحدد به علاقتهما، كان بحاجة للخروج من الغرفة ليبعد عن تلك التوترات المشحونة والمهددة بتحطيم كل شيء، خلت نبرته من العطف وهو يفرض عليها قانونه الجديد:
-من النهاردة معاملتي ليكي زي الأغراب، مش هتزيد عن كونك أم بنتي وبس!
انكوت من قسوة حديثه اللاذع فاحترق قلبها كمدًا، لو فقط تريثت للحظة وحكمت عقلها لأدركت أنها خسرت الكثير تلك الليلة حينما أقدمت على مجابهته بالإهانة والنكران لشغفه الصادق، استعطفته بنهنهة واضحة:
-اسمعني بس
رفع كفه للأعلى دون أن يستدير نحوها هادرًا بحزمٍ:
-خلص الكلام!
اتجه “أوس” نحو الشرفة ضاربًا بقبضته بعنف على النافذة الزجاجية حتى ظنت أن الزجاج سيتحطم من شراسة الضربة، انتفضت باكية وهي تلوم نفسها بشدة على طيشها، دارت بعينيها في الغرفة وكأنها تبحث عن وسيلة تسعفها في إنقاذ الموقف، توقف بؤبؤاها عند هاتفها المحمول، لابد أن يعلم بالرسائل التي زرعت الشك بينهما وأوصلت الأمور إلى تلك النقطة المؤسفة، فلولا ذلك لما جرت المشاكل على نفسها، حركت جسدها ببطءٍ على الفراش حتى وصلت إلى حافته، التقطت هاتفها بيدها من على الكومود ومسحت باليد الأخرى دمعاتها الملتهبة، سارت “تقى” صوب الشرفة ووقفت خلفه مترددة في الاقتراب منه، شعرت بتصلب جسده، بتشنج عضلاته وصوت أنفاسه يكاد يكون مسموعًا، هو لم يلمسها أو يتطاول باللفظ أو الفعل عليها، لكن كلماته كانت كافية لتنهش من روحه قبل روحها، بل وأحدثت شرخًا عميقًا في حبهما أكثر من أضرار الإيذاء البدني، ما أقسى التجاهل ممن تحب وكأن أمره لا يعني لك شيئًا!
قدمت قدمًا وأخرت الأخرى وهي تدنو منه، فرت عبارات طلب المغفرة من رأسها، كان عقلها خاويًا إلا من مشاعر الأسف والندم، خجلت من غبائها الذي جعلها تنسى ما عايشته معه على فترات بذل أقصى ما يستطيع لتنعم بترف الحياة معه، غفلت عن توبته وندمه وسعيه الدؤوب ليظهر بذرة الخير الكامنة فيه، أطرقت رأسها بخزيٍ وهي تلوم نفسها عن حق، شعر بها “أوس” تقترب منه، ومع ذلك لم يلتفت نحوها، أحس بقبضتها الناعمة تلامس ذراعه، نبذها متحركًا للجانب ليبقي على مسافة بينهما وكأن الأمور انعكست لتتحول هي إلى الجانية وليس المجني عليها، أضناها فعلته العفوية والمبررة، اهتزت شفتاها قائلة بندمٍ:
-غصب عني أظلمك، أنا .. أسفة
وكأنها تحدث الفراغ، لم يظهر تأثره بعبارات الاعتذار، تابعت بصوتها الباكي:
-بس إنت لو كنت مكاني وقريت وعرفت اللي بيتقال عنك.. كنت هتشك حتى لو واحد في الـ 100 إن في حاجة بتحصل
التفت بغتة ليرمقها بنظرة قاتمة قائلاً لها:
-أنا غيرك يا “تقى”، ثقتي بيكي وبحبنا مالهاش حدود، بس خلاص إنتي اختارتي، وأنا قررت!
توسلته بنحنحة واضحة في نبرتها:
-اديني فرصة أدافع عن نفسي
أشاح بوجهه ليحدق في الفراغ المظلم أمامه مرددًا بعدم مبالاة:
-مالوش لازمة، سيبني لوحدي
انهمرت عبراتها بغزارة وهي ترجوه:
-“أوس”
أمرها بجمود قاسٍ برع في إظهاره:
-امشي يا “تقى”
ابتلعت تلك المرارة اللاذعة في حلقها لتقول بخفوتٍ قبل أن تنسحب من جواره:
-أنا .. أسفة!
أسندت هاتفها على الطاولة القصيرة من خلفه وهرولت خارجة من الشرفة كاتمة بيدها شهقة موجوعة، استندت بظهرها بجوار نافذة الشرفة لتسمع صوته يقول:
-ليه ضيعتي كل حاجة حلوة بينا يا “تقى”
ازداد إحساسها بالخذلان والأسف، هزت رأسها بهيسترية نادمة على رعونتها، اتجهت إلى الحمام لتبكي بداخله، لكن انزلقت قدمها فلم تستطع التحكم في خطواتها أو الحفاظ على اتزانها، حبست صرختها في جوفها وهي تحاول منع نفسها من السقوط، ولأن رؤيتها كانت مشوشة بسبب دمعاتها الكثيفة فأمسكت بالفراغ لتزل قدمها وتُطرح أرضًا، حدث كل شيء في أقل من لحظة؛ حيث ارتطم جانب رأسها بالبلاط الصلب فأصابته بعنفٍ مما أفقدها الوعي.
ظن أن ذلك الصوت الذي وصل إلى أذنيه ما هو إلا مزهرية قذفت بها لتفرغ عن إحساسها المتألم، وماذا عنه ألا يحق له أن يغضب؟ تقوس فمه بتكشيرة مزعوجة وهو يجاهد لتجاوز شعوره الحانق نحوها، استدار بجسده ناويًا النوم في غرفة أخرى ليشعرها بفداحة ظلمها له، رأى هاتفها على الطاولة، كان على وشك تجاهله لولا رنين الرسائل الذي آثار فضوله، انحنى ليمسك به، فتح الرسالة الموجهة إليها ليقرأ ما فيها، تناطح كل شيء في رأسه، وأطلت شرارات الغضب بقوة من حدقتيه وهو يتابع الكلمات المستفزة والمرفقة بصور تخصه والتي كانت كفيلة بإحراق الأرض ومن عليها، إذًا اتهام زوجته بكونه يخونها ويرتكب الفواحش المريضة مع غيرها لم يكن من فراغ، هناك من استغل جموحه السابق ليعبث بعقلها ويفسد حياتهما، لم يحتاج إلى فطنة وذكاء ليدرك من يقف وراء ذلك الأمر، ربط أطراف الخيوط معًا وتمتم بغيظ مستشاط:
-“رغد”
ضغط “أوس” بأصابعه المتصلبة على الهاتف وقد شحذ حنقه المتقد بداخلة ليهدر عاليًا بصوت رن صداه بقوة في أرجاء المكان:
-“تقــى”!
اندفع إلى خــارج الشرفة ليتلاشى في لحظة غضبه المحتدم مع رؤيتها ملاقاة عند أعتاب الباب وبركة صغيرة من الدماء تحاوط رأسها، جزع قلبه وشعر بأن روحه تقتلع من صدره، أخذ ما حدث لها على محمل الخطورة والجد، تحولت نبرته من الشراسة للخوف الشديد وهو يناديها:
-“تقــى”!
ركض نحوها ليجثو على إحدى ركبتيه بجوارها، لم يفهم ما الذي أصابها، لكن المشهد المفزع أخافه كثيرًا وذكره بنفس الحالة التي رأها عليها قبل أشهر حينما نهش إنسانيتها وتركها في حالة بين الحياة والموت، احتضن “أوس” وجهها بين كفيه ليتفقده هاتفًا بصوتٍ مرتجف:
-ردي عليا، “تقى”!
ضمها إلى صدره ثم مد ذراعيه ليحملها، استقام واقفًا وسار بها بخطوات أقرب للركض ليضعها على الفراش، ضرب وجنتيها بقوة طفيفة صائحًا بتوجسٍ زائد:
-“تقى”، فوقي يا “تقى”، حصلك إيه؟ ردي عليا!
تركها راقدة في مكانها وانتفض باحثًا عن هاتفه المحمول في جيب سترته، أخرجه سريعًا ليعبث بأزراره، وضعه على أذنه قائلاً بتلهفٍ مذعورٍ ونظراته الخائفة مركزة على وجهها النازف:
-د. “مؤنس”، تعالالي بسرعة!
……………………..……………………..……….
ذرع الرواق جيئةً وذهابًا وهو ينتظر بالخارج بجوار مدبرته التي رفضت الرحيل دون الاطمئنان على من تعدها ابنتها، خاصة أن صراخهما المحتدم قبل برهة أرعبها للغاية، طالعت “عفاف” سيدها بنظرات قلقة حملت الإشفاق أيضًا، فإن كان محنكًا في إظهار جانبه القاسي، إلا أن خوفه على أحبته يفوق بكثير ما يظهره للآخرين من قلب متحجر ومشاعر لا تعرف الرحمة، دنت منه محاولة إزالة توتره وهي تستطرد قائلة:
-إن شاء الله هاتبقى كويسة!
لم يعلق عليها “أوس”، ظلت عيناه مثبتة على باب الغرفة الموصد، انتصب في وقفته حينما رأه يُفتح، اقترب من طبيبه المخلص متسائلاً بتلهفٍ:
-مالها يا “تقى”
رسم “مؤنس” ابتسامة هادئة على ثغره وهو يجيبه بارتياح:
-كل خير يا “أوس” باشا، مافيش داعي للقلق ده كله
سأله بعينين قلقتين:
-هي كويسة؟
أومأ برأسه مؤكدًا بسلاسة:
-أيوه، وفاقت كمان
اندفع “أوس” بلا تفكير دافعًا إياه من كتفه ليتأكد مما يقول، توقف أمام فراشها ليتأملها عن قرب، تنفس الصعداء لكونها قد عادت إلى وعيها، تبعه كلاً من “مؤنس” و”عفاف” ليضيف الأول بجدية:
-الهانم محتاجة ترتاح الفترة الجاية وتبعد عن أي ضغوط نفسية، وخصوصًا إن الفترة الأولى من الحمل ….
قاطعه مصدومًا وقد تركت الكلمة الأخيرة وقعها على قلبه قبل أذنيه:
-حمل!
رد موضحًا ببساطة:
-أيوه، “تقى” هانم حامل، واللي حصلها من حالة إغماء أعراض عادية ومعروفة
انفرجت أسارير “عفاف” عن فرحة كبيرة لذلك الخبر الســار الذي حتمًا سيبدد أي خلاف بين الزوجين المتشاحنين، صدق حدسها ورأت بقلبها الحاني تبدل حال “أوس”، حيث تبخر في لحظة ما وضعه من قواعد صارمة لتحدد العلاقة بينهما، وكأن جدالها المثير للفزع لم يكن له أساس، سعادة لا توصف غمرته من رأسه لأخمص قدميه، فحبيبته التي عشقها بجنون تحمل في أحشائها بذرة وليد آخر له، استوى بجوارها على الفراش ممسكًا بكف يدها، رفعه إلى فمه ليقبله هامسًا بنبرة جمعت بين الفرحة والبكاء المكتوم:
-“تقى”
ردت بنبرة منكسرة وقد تجنبت النظر إليه بسبب خزيها:
-أنا أسفة.. مكانش لازم أشكك في حبك ليا
تحرجت “عفاف” من وجودها في ذلك التوقيت الحرج الذي يتطلب لحظة من الخصوصية يعبر فيها الزوجان عن سعادتهما دون متابعة أو مراقبة من أحد، أشارت للطبيب “مؤنس” بيدها ليتفهم الأخير الموقف دون التفوه بكلمة، تحرك في اتجاه الباب وتبعته مغلقة إياه فور خروجهما، تأملها مليًا وهو يكاد لا يصدق ما سمعه، أزعجه انحناءة رأسها لتمنعه من رؤية وجهها كاملاً، وضع “أوس” إصبعيه أسفل ذقنها ليديرها إليه، رمقها بنظراتٍ حنون حملت أسمى معاني الحب والإخلاص معلقًا عليها بصوته العذب الذي فقد قسوته:
-انسي اللي فات
ترقرقت الدمعات في طرفيها لتحجب عنه التطلع إلى زرقة عينيها، مال عليها ليقبلها من جبينها ثم تراجع لبضعة سنتيمترات عنها لتظل أنفاسه قريبة منها، ردد متوعدًا بلهجته الصارمة:
-واللي عمل كده أنا عارف هحاسبه إزاي
سألته مستفهمة وقد تلاحقت دقاتها:
-قصدك إيه؟
أجابها بهدوءٍ وهو يطوق جانب عنقها براحته:
-أنا عرفت باللي موجود في موبايلك
شعرت بدفء لمسته عليها فهمست بارتباكٍ:
-يعني …
قاطعها مشددًا بابتسامة مغترة لا تظهر على جانب شفتيه إلا عند ثقته التامة في التعامل مع الأمور بشكل لا يشكك أبدًا في قدراته:
-يعني هاتصرف بطريقة “أوس الجندي” ……………………..…….. !!
……………………..……………………..

error: