رواية الحبُ.. أَوْس

 

الفصل الثاني
احتدمت النظرات، وغلت الدماء، وتبدلت الأجواء الحذرة إلى تهديدات منذرة بانفجارات وشيكة بين قطب عائلة “الجندي” وابن عمه الصغير، انتصب “أوس” في وقفته ليبدو أكثر مهابة وطولاً، ضيق عينيه الصارمتين نحوه رامقًا إياه بنظرات لا تبشر بخيرٍ، كور “يامن” قبضة يده ضاربًا بعنف على السطح الزجاجي من جديد ليهدر بعدها بتشنجٍ:
-إنت مفكر نفسك مين؟
رمقه بنظرة احتقارية مليئة بالنقم والسخط وهو يتابع بصوته المحتقن:
-إله محدش يقدر عليه؟!
تحرك “أوس” من خلف مكتبه ليغدو قبالته بخطاه المتريثة وكأنه حيوانًا ضاريًا يتأنى في خطواته ليوقع بطريدته، كان يعلم في قرارة نفسه أن ابن عمه الصغير مرفه لا يعي من مصائب الحياة شيئًا سوى أن تكون طلباته مجابة حتى لو تكلفت الكثير، نفسه أولاً هكذا وصف الأمر باختصار، ناهيك عن كونه دائم الوقوع في المشاكل المادية التي تحتاج لحل فوري قبل أن يزج به في السجن، رد بابتسامته التي عكست عنجهيته المتغطرسة رافعًا حاجبه للأعلى:
-لأ.. “أوس الجندي”
ثم دس كلتا يديه في جيبي بنطاله ليزيد من حنق ابن عمه الذي اشتعل واحترق مائة مرة ولم تهتز شعرة واحدة لـ “أوس”، أضاف الأخير ببرودٍ قاسٍ:
-وقبل ما تبعبع بكلام إنت مش أده، اعرف اللي ليك واللي عليك
تحرك بؤبؤاه بعصبية متوترة، في حين استأنف ابن عمه معلقًا:
-“سامي” بيه “الجندي” عمي المحترم.. نصــاب
استشاط “يامن” غضبًا، وجد صعوبة في كبح مشاعره من الثورة في وجهه والهجوم عليه، ربما لأن تلك الحقائق كانت مخفية عنه فأبطأت من ردة فعله، بذل مجهودًا مضاعفًا ليضبط نفسه، لاحظ “أوس” التحول الرهيب في تعابيره التي أعلنت بصراحة عن قرب انفجاره، أخرج يده من جيبه ليحك طرف ذقنه بإصبعيه وقد أطرق رأسه قليلاً للأسفل، عاد ليرفعها مضيفًا بنظرات ذات مغزى:
-أو نقول حرامي، كان بيسرقني وأنا سبته بمزاجي، ولما كشفته قال يخلص مني وأهوو إدارة كل حاجة تبقى تحت إيده، وناسي إن اللي يجي على حاجة تخصني مابرحموش!
قست نظراته أكثر قائلاً:
-إنت وأختك “رغد” كنتوا عايشين من خيري أنا، يعني ماسورة الفلوس اللي كانت مغرقاكو من جيبي!
انحرف برأسه للجانب قليلاً ليسأله بغموضٍ:
-مسألتش نفسك ليه كل مصيبة والتانية بتطلع منها زي الشعرة من العجينة، من قبل حتى ما تتحاسب؟ أكيد مش بسبب أبوك!
كان محقًا في ذلك، فـ “يامن” كغيره من الشباب الأهوج الطائش كان يتصرف برعونة غير مبالٍ لتبعات ما يقوم به لتأكده من وجود من يسانده دومًا ومن سيخرجه من المصائب إن حلت على رأسه، ارتخت تعابيره بدرجة ملحوظة وزاد توتر نظراته، في حين اشتدت نبرة “أوس” قوة وتهديدًا وهو يحذره:
-فقبل ما تقول حاجة أندمك عليها راجع نفسك، ودي فرصة مابديهاش لحد!
جف حلقه تمامًا، كان “يامن” بحاجة لإفراغ الشحنة المكبوتة بداخله، عفويًا أخرج سيجارة من علبة سجائره الملقاة بإهمال على المكتب ليشعلها دون تفكير، نظر له “أوس” بحدةٍ وهو ينفث دخانها في الهواء، فقد كان محظورًا على من بمؤسسته التدخين تحت أي ظرف وخاصة في حضوره، وها هو ابن عمه اليوم يكسر قاعدته الصارمة، حذره آمرًا باقتضابٍ ومشيرًا بمقلتيه اللاتين تحولتا للإظلام:
-اطفيها
نظر له “يامن” ببلاهةٍ، بدا كمن لم يستوعب أمره الواضح حقًا، ردد باستغراب كبير:
-افندم؟
رد عليه بغموضٍ يحمل الشراسة:
-مابعدش كلامي مرتين!
وضع “يامن” السيجارة في فمه ليستنشق دخانها معلنًا بذلك عن تحديه له، وقبل أن يكمل سحب دخانها الذي يلهب صدره المتأجج مسبقًا، كانت قبضة “أوس” في طريقها إلى عنقه لتضربه بقوة وبصورة مباغتة وفجائية، اختنق الأخير وسعل بتحشرجٍ محاولاً التقاط أنفاسه التي انحبست في صدره من شدة الضربة، ترنح جسده بالكامل وتحولت بشرته لكتلة مكتومة من الدماء المحتقنة، لم يكن “يامن” قد أفاق من صدمته بعد حتى طرحه “أوس” أرضًا ليرتطم ظهره بعنفٍ بالأرضية الصلبة، ثم التفت الأخير نحو المقعد ليمسك به بيديه قبل أن يرفعه ويضعه فوقه ليشل حركته كليًا في ثوانٍ معدودة ومحاصرًا لرأسه بين أرجل المقعد، تفاجأ ابن عمه الصغير من تقييده له بتلك الصورة المهينة، عجز عن التحرك أو التنفس، حدجه “أوس” بنظراته النارية قائلاً له بخشونةٍ:
-أنا مبهزرش
رد عليه “يامن” بصوته المتحشرج وهو يتنفس بالكاد:
-إنت اتجننت!
رفع “أوس” ساقه ليضعها على المقعد ثم استند بقبضتيه على مسنديه ليلقي بثقل جسده عليه، بدا “يامن” كالفأر المذعور وهو يحاول التحرر من بطشته المهلكة، هو يعرف طباعه جيدًا، ولا يخفى عليه نزعاته الانتقامية الشرسة، هتف بتحدٍ رغم ضعف موقفه:
-مش هاسكت على المهزلة دي يا “أوس”
حرك ابن عمه شفتيه لينطق لكن ألجم لسانه دخول “تقى” غير المتوقع لغرفة مكتبه، بالطبع لن تفهم أبدًا طبيعة الشجار بينهما، فغرت شفتيها مصدومة حينما وقعت عيناها على ذلك الشاب المحتجز من قِبل زوجها، نظرت بذعر إلى “أوس” وتحول وجهها للشحوب، خشيت من عودته لطباعه العنيفة التي وضعت حياتهما على المحك قبل أشهر معدودة، وبلا وعيٍ منها ركضت نحوه لتدفعه من صدره هاتفة بهلعٍ:
-سيبه يا “أوس”
رد عليها بغلظةٍ رافضًا اهتزاز صورته أمام من يحاول تلقينه درسًا في اتباع أوامره دون نقاشٍ:
-مايخصكيش
صُدمت من رده القاسي الذي أوقظ فيها إحساسها الغريزي بالخوف منه، ومع ذلك تسلحت بشجاعتها التي اكتسبتها من مواجهتها له لترد بإصرارٍ:
-وأنا مش هاسيبك تأذي حد
حاولت “تقى” إزاحته وتحريكه بعيدًا عن المقعد لتمنح ذلك الشاب الغريب عنها الفرصة للنجاة ببدنه، لكزته بيديها بكل ما أوتيت من قوة في كتفيه وصدره علها تزحزحه من مكانه، لكن سبقها ذراع “أوس” الذي التف حول كتفيها وأدارها في الاتجاه العكسي ليتمكن من إلصاق ظهرها بصدره، قبض على رسغها وقيد حركتها كليًا، تلوت بفزعٍ مبرر من طريقته التي أنعشت ذاكرتها بما حاولت التغلب عليه من ذكريات لا تزال قريبة منها، همس لها من بين أسنانه المضغوطة:
-اخرجي من هنا حالاً!
ردت “تقى” رافضة بعنادٍ:
-لأ
أدرك “أوس” أنه أخطأ بإحضارها إلى مؤسسته وهو على علم مسبق بوجود ابن عمه الأرعن فيها، لم يكن عليها رؤية ما سيحدث بينهما من مشاحنات وتهديدات، وربما أمور أسوأ بكثير، وقبل أن يمنحها الفرصة للرد أو حتى الاعتراض، شدد من قبضته عليها، أجبرها على السير معه وهو يدفعها برفق نحو باب الغرفة ليخرجها قسرًا منها، غلبها بقوته الذكورية المعروفة لها، وتركها في حالة ما بين الصدمة وعدم التصديق، أضاف “أوس” بجمودٍ:
-المرادي مش هاينفع يا تقى!
ثم أوصد الباب عليهما ليعود إلى “يامن” الذي استغل الفرصة ليهب على قدميه واقفًا، نظر إلى “أوس” بعينين كالجمرتين صائحًا به:
-مش هاسكت عن البهدلة دي
ضبط ابن عمه الكبير من هيئته ليبادله نظرات عدائية مخيفة معلقًا عليه:
-أنا حذرتك
لوح “يامن” بسبابته مهددًا:
-هنتحاسب يا “أوس”
رد عليه ببسمة متهكمة وهو يشير بيده:
-وماله، بس اتعلم تقف رجليك الأول قبل ما تفكر تناطح الكبار
……………………..……………………..…….
في تلك الأثناء، اندفعت “تقى” ووجهها محتقن بغضبها المفهوم من عنف “أوس” الذي طفا على السطح من جديد لتنحني نحو الخادمة “ماريا” متناولة رضيعتها منها، ضمتها إليها وهرولت خارجة من مكتب السكرتارية وهي تكافح انهمار عبراتها التي احتلت حدقتيها بصعوبةٍ، وقبل أن تصل إلى المصعد قابلها “عدي” في الرواق، اعتلته دهشة بسيطة لرؤيتها، فقد كان من النادر حضورها، حتمًا هي أتت بصحبة “أوس” لأمر يخص الرضيعة، نظر لها مبتسمًا ومرحبًا بها:
-مش معقول، إنتي بنفسك هنا، إيه الشرف العظيم ده
ردت باقتضاب وقد بدا صوتها مختنقًا:
-شكرًا، عن إذنك!
تجاهلته مضطرة وأكملت سيرها المتعجل نحو المصعد، قطب “عدي” جبينه متعجبًا من حالتها فعادةً كانت تقابله بودٍ ولطفٍ رقيق تسأله عن “ليان” وأحوالهما سويًا، لكن تلك المرة بدت مزعوجة من شيء ما، لم يكن بحاجة للبحث عن تفسير مقنع لحالتها، أسرع في خطاه متجهًا نحو مكتب رفيقه ليتفاجأ بوجود ابن عمه الصغير به، تساءل مدهوشًا:
-“يامن”، إنت رجعت امتى؟
التفت الأخير نحو “عدي” الذي كان يعرفه لصداقته المقربة من “أوس”، تمتم بحنقٍ وهو يضغط على شفتيه:
-عقل صاحبك!
ثم لكزه بقسوة ليندفع مبتعدًا عنهما وهو يوشك على الانفجار غضبًا وغيظًا، سيطرت الحيرة على “عدي” الذي التفت برأسه للخلف ليحدق فيه متسائلاً:
-ماله ابن عمك؟
رد بعدم اهتمام:
-سيبك منه، وخلينا في شغلنا
أومأ برأسه معلقًا:
-أوكي، بس “تقى” ماشية زعلانة ليه؟
تحول وجهه للضيق الشديد بعد جملته تلك، ردد مصدومًا:
-هي مشيت؟
أكد له دون تفكيرٍ:
-أيوه
اتجه “أوس” سريعًا إلى مكتب السكرتارية ليجده خاليًا منها، استشاطت نظراته واندفعت دمائه الحانقة في عروقه بقوة، هبت السكرتيرة واقفة من مكانها تطالعه بنظرات متوترة، تنحت للجانب حينما رأته يمسك بسماعة الهاتف الأرضي ليتصل بأحدهم، هدر “أوس” صائحًا بلهجة الآمر الناهي:
-خلي الأمن يمنع “تقى” هانم تخرج من الشركة فورًا!
وضع السماعة في مكانها ولم يضف المزيد ثم خطا بتعجلٍ في اتجاه الرواق المؤدي للمصعد، لحق به “عدي” متسائلاً بجدية:
-إنت رايح فين؟
لوح له بيده دون أن يستدير نحوه مكملاً سيره المتعصب، توقف “عدي” في مكانه ليحك مؤخرة عنقه باستغراب كبير، تساءل مع نفسه بحيرةٍ:
-ماحد يفهمني في إيه بالظبط؟!
……………………..……………………..
تنفست بعمق لأكثر من مرة لتمنع دمعاتها من الانسياب فتثير فضول من يتطلع إليها، أحنت “تقى” رأسها لتقبل رضيعتها بحنانٍ كبير ثم عادت لتحدق في باب المصعد بنظرات قلقة، وما إن انفتح على مصراعيه حتى خرجت منه متجهة إلى بهو الاستقبال، توقفت فجأة عن السير حينما اعترض طريقها ثلاثة من ذوي الأجساد الرياضية الضخمة، كتمت شهقة عفوية كادت تخرج من بين شفتيها لرؤيتهم يتحركون في اتجاهها بتلك الطريقة المريبة، رمقتهم بعينين غاضبتين وهي تصيح بهم بصوتٍ شبه مختنق:
-إنتو مين؟ وسعوا من سكتي!
رد أحدهم برسمية وكأنه إنسان آلي:
-مش هاينفع يافندم
صرخت به بعصبيةٍ:
-عاوزة أمشي من هنا، ابعد من قدامي
أضاف بنفس النبرة الخالية من أي تعاطف:
-عندنا أوامر يا فندم
حاولت “تقى” تجاهل تحذيراته والتقدم للأمام لتجاوزه لكنه سد عليها الطريق بجسده فأجبرها على التراجع تلقائيًا للخلف، اشتعلت بشرتها بدموية غاضبة مزعوجة من حصارها، تلفتت حولها باحثة عن مخرج آخر لها، فسدت خطتها قبل أن تكتمل في رأسها بظهور “أوس” على الساحة، رفع إصبعيه مشيرًا في صمت لأفراد حراسته بالابتعاد، تحركوا بانصياع كامل لأمره غير المنطوق لتستدير “تقى” ببطءٍ نحو زوجها، رمقته بنظرة مستاءة حزينة، ثم أشاحت بوجهها مستعدة للسير، استوقفها على الفور بالإمساك بذراعها، شعرت بقبضته تؤلمها، رمقته بنظرة حادة من طرف عينها، ثم كزت على أسنانها هامسة تحذره:
-سيب دراعي!
أرخى قبضته دون أن يفلتها قائلاً بصوت عميق وصارم:
-مش هاتمشي يا “تقى”
ردت منفعلة رغم خفوت صوتها:
-بلاش تستقوى عليا زي زمان
أزاح يده كليًا عنها لينظر لها بعتابٍ، ثم هتف مدافعًا عن نفسه:
-إنتي فاهمة الموضوع غلط
اختنق صوتها نسبيًا وهي ترجوه:
-خليني أمشي لو سمحت
رد بصرامته المعهودة:
-ماشي، بس مش لوحدك
أيقنت “تقى” في قرارة نفسها أنه لن يسمح لها بالذهاب تحت أي ظرف حتى لو صرخت وبكت وفعلت ما تجيده النساء، استسلمت لرغبته الآمرة وسارت بتمهلٍ إلى جواره، حاول محاوطتها من كتفيها لكنها نأت بنفسها بعيدًا عنه، ألمه بشدة جفائها الظالم معه ورمقها بنظرة مستنكرة، سارا كالغرباء في اتجاه سيارته المصفوفة أمام مدخل مؤسسته، ترجل السائق منها مستقبلاً إياه بخنوع، هتف فيه بلهجته الخشنة:
-أنا اللي هاسوق
تنحى على الفور بعيدًا عن باب السيارة ليترك له مكانه ليشغله، ولحق بطاقم الحراسة المرابط له في أي مكان يتوجه إليه، ركبت “تقى” إلى جواره بالمقعد الأمامي مضطرة، وضعت رضيعتها في حجرها وأحاطتها بذراعيها، تعمدت عدم النظر إلى “أوس” الذي لم يتوقف عن التحديق بها طوال قيادته للسيارة، زفر مطولاً قبل أن يقطع حاجز الصمت المفروض عليه قائلاً باقتضاب عابس:
-أسف
قاومت رغبتها الملحة في التطلع إلى قسمات وجهه والتفرس فيه وهو يعتذر لها رغم جبروته وهيمنته المعروفة للجميع، أزعجه عدم ردها عليها والتزامها للصمت، سألها بنرفزة شبة واضحة:
-عاوزاني أعمل إيه يا “تقى” عشان ترضي عني؟
أجابته بخفوت حذرٍ دون التطلع إليه:
-ولا حاجة
استعطفها بصعوبةٍ بدت واضحة عليه:
-طب بصيلي
ضغطت على شفتيها رافضة التعليق عليه بالقبول أو الرفض مما استفزه على الأخير، ضغط “أوس” على المكابح فجأة لتتوقف السيارة فارتدت “تقى” للأمام ومعها الرضيعة، التفتت نحوه تعنفه بحدةٍ:
-خد بالك وإنت سايق، إنت مش لوحدك!
بكت الرضيعة “حياة” لصراخها المرتفع، فحاولت هدهدتها برفق لكنها لم تتمكن من ضبط انفعالاتها، تنهد بعمق ثم مد يده ليداعب وجنة وحيدته الغالية برفقٍ، عاتبته “تقى” بضيقٍ:
-مبسوط دلوقتي؟
سألها بجمود حاول إخفاء ضيقه خلفه:
-إنتي متعصبة ليه؟ ده شغلي يا “تقى”، واللي شوفتيه عندي ابن عمي “يامن”
صاحت مستنكرة بحدةٍ طفيفة:
-وعشانه ابن عمك تبهدله كده؟!
رد مبتسمًا:
-هو أنا عملت فيه حاجة أصلاً، أنا بس بأعرفه أصول الأدب على طريقتي
اغتاظت من رده الذي تضمن إيحاءً صريحًا بالتسلط والقوة، وعلقت بنظرات متنمرة:
-يا سلام
تابع مضيفًا:
-“يامن” ده ممكن تقولي عليه لسه عيل طايش، ولو موقفتلوش من الأول وعرفته مقامه هايتفرعن زي أبوه، وطبعًا “رغد” مستنية اللحظة دي عشان تركب الليلة كلها!
لم يتمكن عقلها من استيعاب طبيعة ما يقول، أو ربط أسماء التي تفوه بها بصلتهم به، ومع ذلك ردت بإصرار رافضة لجوئه للعنف كحل أساسي لجميع مشاكله:
-هو أو غيره مايفرقش معايا، إنت عاوز ترجع زي زمان
تجمدت نظراته عليها فأكملت بنفس اللهجة الحادة:
-أنا مابحبش أفتكر الفترة دي من حياتنا، واللي عملته النهاردة خلاني….
قاطعها فجأة متلمسًا بيده بشرتها:
-حقك عليا
ارتجفت من لمسته الحنون على وجهها، شعرت به كالبلسم المسكن لألمها المعنوي، تمالكت نفسها كي لا تنهار، تراجعت بوجهها بعيدًا عنه لتتابع بجمود مزعوم:
-مش كل مرة هاتقول كده
زفر بضيق كبير لم يخفه، نظرت له بقلقٍ، ثم لانت نبرتها وهي تتوسله باستعطافٍ رقيق:
-عشان خاطري بلاش عنف
لم يكن مقتنعًا على الإطلاق بالتساهل فيما يخص عمله أو أسلوب تعامله مع الأقرباء قبل الغرباء، سكت “أوس” كي لا يعدها بما لا يستطع تنفيذه، سألته بجديةٍ:
-قولت إيه؟
رد على مضضٍ:
-طيب
أعاد تشغيل محرك السيارة ليعاود القيادة بحذرٍ، شعرت بالانتشاء لانتصارها في مسعاها الجاد لكبح جماح غضبه، ضمت رضيعتها إليها مانحة إياها حبها الأمومي وهي تضيف قائلة:
-أنا عاوزة أروح لبابا أشوفه وأطمن عليه
بدا مزعوجًا من طلبها البسيط بسبب ذهابها لتلك المنطقة الشعبية بما فيها من مظاهر لا يحب أبدًا أن تراها رضيعته، ناهيك عن العاطلين ومعتادي الإجرام المتسكعين في المقاهي القريبة من منزلها، ركزت نظراتها عليه مترقبة إجابته عليها، طال صمته فسألته بضيقٍ:
-إنت مش موافق؟
نفخ معقبًا:
-لأ بس هارتب جدولي وأجي معاكي
رد بتبرمٍ:
-مش لازم على فكرة
نظر لها من طرف عينه قبل أن يعاود التحديق في الطريق أمامه ليقول بصرامةٍ:
-خلاص روحي يا “تقى”، بس الحراسة هاتكون معاكي!
رفعت حاجبها للأعلى مستنكرة ما قاله لترد بسخطٍ مقروءٍ في وجهها:
-إنت بتهزر صح؟
رد ببرودٍ:
-ده الطبيعي
اغتاظت من كونه يلاحقها في كل خطوة بسيطة تقوم بها، وكأنها لا تستطيع التصرف بمفردها، كما زاد الطين بلة هو إصراره على إحضار طاقم حراسته الخاصة عند زيارتها لأهلها ليشعرها بالإهانة وعدم الثقة، رفضت تلك المرة بشدة فعل هذا وهتفت معترضة:
-هو كل مرة نتخانق على الموضوع ده؟
التفت نحوها ليرد بنبرة شبه حادة:
-يعني عاوزاني أسيبك تروحي لوحدك هناك وإنتي عارفة كويس المكان ده مليان بمين؟
دافعت مستنكرة تلميحه الضمني بكون المنطقة وكرًا للشغب والأعمال المنافية للقانون:
-والله اللي عايشين فيه أعرفهم كلهم، ناس في حالهم، ده غير إنهم أهلي، واستحالة حد يأذيني
تقوس فمه بابتسامة باهتة شبه متهكمة من كلماتها الأخيرة تحديدًا، ألم تقم والدتها بتدبير خطة ماكرة لاستدراجها وإجهاضها في إحدى الوحدات الصحية الوضيعة والبعيدة عن أعين الرقابة والمسئولين، تمتم من بين شفتيه قائلاً:
-شكلك نسيتي
فهمت مقصده على الفور وسألته بوجهٍ ممتقع:
-وضح كلامك يا “أوس”
رد بحذرٍ تجنبًا لغضبتها:
-بنتي معاكي، وأنا لازم أحميها
سألته بعدم اقتناعٍ:
-من مين بالظبط؟ من أبويا ولا أمي؟
استدار ليرمقها بنظرة تحمل الكثير مما يمنع حلقه من البوح به ليقول باقتضاب ذي مغزى:
-إنتي أدرى!
علقت عليه محذرة:
-بلاش نتكلم في حاجات هتضايقنا احنا الاتنين، لأن الكل طرف فيها، حتى أبوك
قست نظراته من تذكيرها بموقف والده “مهاب” والذي كان ضلعًا رئيسيًا في محاولة التخلص من “تقى” وطفلته، حدق أمامه مسلطًا أنظاره على حركة السيارات لينتهي النقاش الحاد بينهما بصمت متوترٍ مشحون على الأخير، كلاهما تحفز للآخر، وأصبح الوقت مناسبًا لاصطياد الأخطاء والمحاسبة على مات فات، لذا كان الخيار الأنسب حاليًا هو السكوت.
……………………..……………………..……….
عادت إلى المنزل بعد فحص الرضيعة عند طبيب الأطفال المتخصص وهي مشحونة ضده بغضب مفهوم، هو يقيد حريتها وإن كان يدعي العكس ويفرض عليها قيودًا تجعلها نصب عينيه أغلب الأوقات حتى وإن كانت بعيدة عنه، لم تحبذ “تقى” تلك الطريقة التي تشير إلى تحكم “أوس” بها وفرضه لسيطرته عليها وكأنها ما زالت خاضعة له وليست زوجته التي تشاطره حياته، قررت أن تعامله بجفاءٍ قليل لتشعره بالضيق والامتعاض، ولجت إلى داخل غرفة النوم، ثم ألقت عليه نظرة باردة قاتمة أزعجته، سألها مستفهمًا سبب عبوسها:
-لسه مضايقة؟
ردت بجديةٍ وهي تنحني لسحب الغطاء ووسادة صغيرة من على الفراش الذي يجمعهما:
-أنا هانام مع “حياة” في أوضتها
انتصب “أوس” في وقفته ليظهر ضيقه أضعافًا مضاعفة، تحجرت ملامحه وبدا وجهه متيبسًا، رمقها بنظرة أقلقتها دون أن يرف له جفن وهو يسألها:
-هتعملي إيه؟
ابتلعت ريقها مجيبة إياه:
-زي ما سمعت، هنام مع بنتي في الأوضة التانية
أظلمت نظراته متسائلاً بخشونة ظهرت في صوته:
-وده عشان إيه؟
حافظت على ثباتها رغم الرجفة التي أصابت بدنها من طريقة تطلعه بها لتقول:
-عاوزة أفضل معاها
قبض “أوس” على ذراعها ضاغطًا عليه بأصابعه لتشعر بألم يجتاحها، هزها بقوة منه ثم حذرها بشراسةٍ وهو يكز على أسنانه:
-“تقى”، بلاش تعاندي وتركبي دماغك معايا!
انتزعت بكل ما أوتيت من قوة ذراعها من بين قبضته القوية لترد متسائلة بتحدٍ:
-هتعمل إيه؟ هتغصبني على حاجة مش عاوزاها؟
سألها بنبرة ذات مغزى وقد بدا المزاح بعيدًا عنه كليًا:
-إنتي عاوزاها توصل لكده؟
أجابته بمرارة ذكرتها بما سلف:
-الظاهر إن ده اللي بتعرف تعمله وبس، تستقوى على اللي أضعف منك
صرخ بها رافضًا محاولاتها للتلميح عن ماضيه:
-“تقــــى”
تجمدت حدقتاها المذعورتان على وجهه المتشنج متابعة بخوفٍ قرأه ردة فعله القادمة، كتم “أوس” أنفاسه ليكبح اندلاع غضبه فيخرج عن شعوره ويفعل ما لا يُحمد عقباه، هتف بنبرة أقرب للحنق عنها للهدوء:
-خليكي في الأوضة و”حياة” هتنام معاكي هنا
اعترضت معاندة:
-لأ، مش هافضل معاك في مكان واحد
أشار بسبابته آمرًا بلهجته الصرامة:
-هي كلمة، هتفضلي هنا يا “تقى”!
وقبل أن تهتز شفتاها لتنطق تركها في مكانها وانصرف إلى خارج الغرفة، تبعته بنظرة مطولة محركة ساقها بعصبية، همست لنفسها بإصرارٍ:
-برضوه هانام مع بنتي!
……………………..……………………..…..
-عاوزة حاجة تانية أعملهالك قبل ما أنزل؟
تساءلت “تهاني” بتلك العبارة موجهة حديثها إلى أختها “فردوس” التي ثنيت ساقها أسفل جسدها لتعتدل على الأريكة، استندت بطرف ذقنها على مرفقها مخرجة زفيرًا مطولاً من صدرها قبل أن ترد عليها بتذمرٍ:
-بردك سيباني لوحدي ورايحة الدار؟
اقتربت منها أختها لتنظر لها بجدية قبل أن تقول لها:
-هنرجع لموال كل يوم يا “فردوس”؟
حاولت أن تبدو أقل حدية مراعاة لظروفها المرضية فتابعت “تهاني” بهدوءٍ:
-إنتي عارفة إني مسئولة عن الدار، وصعب أثق في حد يتابع كل حاجة من غير ما أتأكد بنفسي من ….
قاطعتها “فردوس” بلومٍ:
-ده بدل ما تاخدي بالك مني، أنا أختك الوحيدة العاجزة
ردت عليها بنبرة عقلانية كي لا تدع لها الفرصة للشكوى والتذمر:
-اللي بأقدر عليه باعمله، وأفتكر إن “أوس” كمان مقصرش معاكي رغم اللي عملتيه في مراته وعامل الواجب وزيادة
هتفت محتجة بوجه مليء بتعبيرات متجهمة:
-هو إنتي بتسمي الخدامة اللي بتيجي كل كام يوم دي واجب؟ ده حتى مكلفش خاطره يدفع تمن علاجي!
نظرت لها شزرًا وتمنت لو استطاعت أن ترى استنكارها لا تقول، ثم وبختها بلطفٍ حتى تكف عن تذمرها المستمر:
-والله إنتي اللي ضيعتي نفسك بنفسك، كتر خيره إن سامحك بعد اللي حصل
مصمصت “فردوس” شفتيها معقبة:
-في النهاية أنا خالته، وبعدين ده ماهنش عليه يشوفلنا حتة عدلة بدل المخروبة اللي أعدين فيها دي
انفرجت شفتي “تهاني” بإنكار أكبر من عجرفتها وبرودها الذي لا يتناسب مع ما اقترفته من جريمة شنعاء في حق ابنتها، جاهدت لتبدو هادئة وهي ترد عليها:
-على فكرة هو مش ملزم بينا
زمت ثغرها لتضيف بتأففٍ:
-لأ وإنتي عاجبك حالة الفقر الضنك دي ومتبتة هنا، على إيه مش عارفة!
فقدت “تهاني” أعصابها من أسلوبها المستفز الباعث على استثارة الأعصاب لتصيح بها:
-“فردوس”، إنتي مش بتتعظي أبدًا؟!
لطمت أختها على صدرها باستياء مصطنع قائلة لها:
-هو أنا معرفش أفضفض معاكي بكلمتين، هاتبقي إنتي و”عوض” والزمن عليا، حسي بيا، ده أنا ……
قاطعتها “تهاني” رافضة الإصغاء للمزيد من كلماتها الفجة:
-ربنا يهديكي
أسرعت في خطاها نحو الباب لتصفقه بقوة بعد أن خرجت من المنزل لتغمغم “فردوس” بعدها بامتعاض مستهجن:
-عيلة غاوية فقر!
……………………..……………………..
فرك خصلات شعره بعصبيةٍ وهو يتلقى كلمات أخته الغاضبة على مسامعه لتزيد من حنقه نحو ابن عمه، تعمدت “رغد” أن تسيء إليه لتشعره بتفاهته وعدم إجادته لأي شيء تكلفه به، تحجرت ملامحه وقست نظراته مع استمرارها في تعنيفها الشرس له، فاض بـ “يامن” الكيل وصرخ بها بنفاذ صبر:
-كفاية يا “رغد”، قولتلك هاتصرف
صاح به متسائلة:
-إزاي إن شاء الله؟
صمت للحظة ليفكر فيما سيقوله لها ليقنعها بمقدرته على تنفيذ ما وعدها به، طارت أفكارها قبل أن يستجمعها في عقله حينما أهانته بقسوةٍ:
-ده مسح بيك البلاط وإنت لسه يدوب بتقوله هات مفاتيح الفيلا بتاعتنا!
شعر بوخزة حادة في حلقه من فظاظتها العنيفة ورد مدافعًا عن نفسه
-خدني على خوانة
عقبت عليه مهينة إياه بقلة ذوق متناهية:
-إنت اللي مش نافع في حاجة، طول عمرك فاشل
بدت ملامحه باهتة من شدة ما تردده عليه، صرخت به متوعدة إياه:
-بس أقسم بالله لو ماتصرفت يا “يامن” في أسرع وقت وجبت حقنا لهتتسجن، أنا مدفعتلكش ديونك عشان تتبغدد عندك، ومترجعش تترجاني بعد كده
رد باقتضاب كاظمًا غضبه في صدره:
-حاضر يا “رغد”، هاعمل اللي إنتي عاوزاه!
أنهى معها المكالمة وهو يجوب الغرفة جيئة وذهابًا يفكر في خطوته القادمة، بالطبع ابن عمه ليس بالخصم السهل ليسهل استدراجه أو حتى تهديده، أظلمت نظراته مرددًا لنفسه:
-هو أنا ناقص
استمع لدقات هادئة على باب غرفته الفندقية، صاح بزفيرٍ مزعوج:
-أيوه
أمسك “يامن” بالمقبض ليفتح الباب فتفاجأ بآخر من يتوقع رؤيته في هذا المكان وبعد الذي صار اليوم، تجمدت عيناه على “أوس” محركًا شفتاه ليقول بنبرة مصدومة للغاية:
-إنت ……………………..………… !!
……………………..……………………..……

يتبع >>>>>

error: