رواية الحبُ.. أَوْس

 

الفصل الثالث

وعلى غير المتوقع تفاجأ بوقوفه شامخًا أمام باب غرفته الفندقية يطالعه بنظراته الواثقة التي لا تعرف الضعف أو الهزيمة ليشعره بقليل من الرهبة من حضوره الصادم، ازدرد “يامن” ريقه ونظر لابن عمه بتمعنٍ محاولاً التغلب على دهشته الواضحة على قسماته والتي امتزجت برعشة خفيفة أصابت بدنه ليسأله بعدها بحدةٍ ملحوظة:
-عاوز إيه؟
ورغم عدم ترحيبه به ومقابلته الجافة له إلا أن “أوس” بدا واثقًا من نفسه وهو يتقدم نحوه ليدفعه من كتفه حتى يلج إلى الداخل، جاب بأنظاره تصميم الغرفة وأثاثها الفاخر ليتشكل على ثغره بسمة متهكمة، كان مؤمنًا بأن “يامن” لم يكن ليتصرف بمفرده دون وجود من يسمم رأسه، فرك طرف ذقنه مستطردًا بجمودٍ غامض:
-هاعمل معاك اتفاق
تبعه متسائلاً بسخطٍ:
-إنت يا “أوس”؟ مصدقش!
التف ابن عمه الكبير نحوه لينظر له بغموض، في حين تابع “يامن” متسائلاً بنبرة ساخرة:
-إيه ناوي ترجعلي حقي؟
أجابه “أوس” بصوته الأجش:
-ملكش حاجة وكله بالورق والقانون
ثم أخرج من جيبه عدة أوراق مطوية ناولها إياه ليلقي الأخير نظرة شاملة خاطفة عليها قبل أن يهتاج محتجًا:
-ده نصب واحتيال
رد عليه ببرود مستفزٍ له:
-من أبوك .. أه
تحول لون حدقتي ابن عمه لحمرة ملتهبة من هجومه الصريح على والده، كز “يامن” على أسنانه هاتفًا بغيظٍ:
-إنت …
قاطعه آمرًا وبلهجة صارمة:
-اسمع للآخر!
تجمدت نظراته على وجهه فأضاف “أوس” بهدوءٍ ليستدرجه في الحديث ويسبر أغوار عقله:
-أنا عارف إنك مالكش في جو حقي وحقك والحاجات دي، إنت طول عمرك مُرفه، وجيتك هنا باينة وش إن وراها “رغد”
هتف معترضًا:
-أختي مالهاش دعوة
التوى ثغره للجانب معلقًا:
-دي مفهومة
رد عليه “يامن” بحنقٍ:
-وحتى لو كانت واقفة معايا، مش أختس وبنطالب بحقنا اللي إنت سرقته و…
قاطعه مصححًا:
-تاني هاتقول سرقته، يا ابني أبوك حرامي كبير، ده غير إنه كان عاوز يقتلني، افهم بقى
استشاطت نظراته صائحًا:
-مش هاصدقك حتى لو ادتني مليون ورقة تقول ده، ما سهل أوي إنك تزورهم
رد عليه بوجه جامد الملامح ونبرة باردة:
-براحتك، تصدقني، تكدبني، الكلام ده مايهمنيش، وأنا جاي لحاجة محددة، نتفق!
صمت “يامن” للحظات ليفكر في عرضه الغريب والمريب، سأله مستفهمًا عله يستطيع فهم ما يدور في رأسه:
-وأنا هاستفيد إيه؟
اتسعت ابتسامته قائلاً:
-شوف إنت!
استشعر وجود خطب ما من طريقته التي أصابته بالريبة والشك، هتف متسائلاً:
-مش جايز تكون حركة واطية منك عشان تجيب رجلي وتوقعني في مصيبة؟ وأهوو بالمرة تخلص مني زي ما عملت مع عمك، والساحة تفضى ليك!
وقف “أوس” قبالته ليطالعه بنظرات قوية حادة مليئة بالهيبة المخيفة، زفر معقبًا ببطءٍ ومتعمدًا الضغط على كل كلمة يتلفظ بها:
-أنا حقي بأخده وش، وبنفسي، مش محتاج أعمل ده وخصوصًا مع عيل زيك
احتج هاتفًا بعصبيةٍ وهو يلوح بذراعه:
-أنا مش عيل، أنا أعرف أجيب حقي كويس حتى لو كان منك إنت شخصيًا
برزت أسنان “أوس” من خلف ابتسامته المتغطرسة وهو يؤكد له بثقة تامة:
-صدقني مش معايا أنا، حط ده في دماغك، “أوس الجندي” غير أي حد عرفته في حياتك!
أزعجه عنجهيته وتسلطه الواضحين وقبل أن يضيف المزيد تحرك “أوس” نحو باب الغرفة ليقول دون أن يلتفت نحوه:
-هاسيبك تفكر، بس عرضي مش بأكرره مرتين!
تعلقت أنظار “يامن” به وقد أصابته زيارته المفاجئة بالارتباك وقلبت الموازين في رأسه، توقف “أوس” عن السير ليدير رأسه في اتجاهه مضيفًا بوجهٍ متحجر الملامح:
-واحمد ربنا إن في حد رحمك من شري!
رد مدهوشًا وقد ارتفع حاجباه للأعلى:
-نعم!
لم يقل المزيد واندفع إلى خارج الغرفة تاركًا ابن عمه متخبطًا في رغبته الانتقامية منه، هو بالطبع على دراية تامة بطباعه الشرسة والعنيفة، وكونه قد أتى اليوم للتفاوض معه بشكل غير مباشر جعل أفكاره المشحونة ضده تتزعزع، جلس “يامن” على المقعد مستندًا بوجهه على مرفقيه، سأل نفسه بعد تفكير متعمقٍ وحائر:
-يا ترى مين ده اللي رحمني منه؟!
……………………..……………………..………
مشطت خصلات شعرها ونثرتها خلف ظهرها ليبدو ثائرًا ومثيرًا في نفس الآن، تأكدت “ليان” من تناسق ثيابها معًا، كانت تنورتها السوداء إلى حد ما قصيرة، تكاد تلامس ركبتيها، جذبتها على قدر المستطاع للأسفل كي لا تلفت انتباه زوجها، فهي ليست بحاجة للتوبيخ بشأن أمر تافهٍ كهذا، كذلك بدا الوقت متأخرًا للوصول إلى المركز الذي تستذكر فيه محاضراتها ليلاً، بحثت عن أحمر الشفاه الخاص بها فلم تجده، تذكرت أنها وضعته بالحمام، انحنت سريعًا لترتدي حذائها ذو الكعب العالي قبل أن تهرول في اتجاهه، سمعت صوت انهمار الماء بالداخل، دقت الباب متسائلة:
-“عدي” إنت جوا؟
أتاها صوته قائلاً:
-أيوه، باخد شاور
استأذنته بنعومةٍ:
-طب بليز أنا محتاجة أشوف الـ lip stick (أحمر الشفاه) بتاعي عندك
رد عليها:
-اوكي يا “ليوو”
فتحت الباب وهي تشكره مبتسمة:
-ثانكس بيبي
ألقت “ليان” نظرة سريعة عليه، كان يغتسل خلف ستائر الحمام التي حجبته عنها، اتجهت إلى الحوض لتفتش عن أحمر الشفاه خاصتها، وجدته موضوعًا بجوار المعطر الخاص بها، التقطته بيدها ثم انحنت للأمام لتقترب بوجهها من المرآة لتضعه بإتقان على شفتيها، لم تلاحظ نظرات “عدي” المختلسة نحوها والذي حرك الستارة للجانب قليلاً ليتأمل تفاصيل جسدها برغبةٍ مُلحة تتراقص بين ثنايا خلايا رأسه خاصة مع تمايلها غير الحذر، سألها بفضول وقد اعتلى ثغره ابتسامة عابثة:
-هو جايلنا ضيوف ولا حاجة؟
أجابته نافية دون أن تستدير نحوه:
-لأ، أنا عندي كورس
قطب جبينه مرددًا باستغرابٍ:
-كورس
استرسلت موضحة:
-أها، في مادة غبية مش فاهمة فيها حاجة، أصحابي قالولي على سنتر فيه معيد شاطر بيشرح كويس، فأنا رايحة أشوفه
سحب “عدي” المنشفة ليلف خصره ثم اتجه نحوها مسلطًا أنظاره على مفاتن جسدها البارزة من أسفل ثيابها الضيقة ليسألها بنزعة غيرة ذكورية:
-باللبس ده؟
التفتت نحوه واضعة يدها أعلى خصرها لتسأله بعدم فهمٍ:
-ماله لبسي؟
رد عليها متسائلاً بضيقٍ لم يخبئه:
-شيفاه مناسب للكورس؟
زفرت معلقة بامتعاض:
-ده العادي بتاعي يا “عدي”، إنت نسيت ولا إيه
ثم مدت يدها لتداعب طرف أنفه بإصبعها متسائلة بدلالٍ ناعم:
-اوعى تكون بتغير؟
بدت نبرته خشنة نوعًا ما وهو يرد عليها:
-إيه مش من حقي أغير على مراتي؟
أولته ظهرها قائلة بعدم مبالاة:
-خليك كوول يا بيبي
رد مصححًا:
-دي مش كوول يا “ليوو”، دي معناها أكون إريال، وأنا مش كده مع مراتي!
عادت لتحدق في وجهه المزعوج مرددة:
-أفندم؟
تابع “عدي” بجديةٍ:
-وبعدين لو حاجة مش فهماها أنا أشرحهالك!
كانت غير مقتنعة بما يقول، ظنت أنه يفعل ذلك بسبب غيرته المقروءة في قسمات وجهه المشدودة، ضحكت قائلة:
-بطل هزار
رد عليها:
-أنا بأتكلم جد
استدارت لتحملق في وجهها بنظرات معجبة، لوحت له بيدها قائلة بتلهفٍ:
-“عدي” بليز، مافيش وقت، أنا تقريبًا متأخرة، نتكلم بعدين، بــاي
وقبل أن تخرج من الحمام كانت يده الأسبق في الإمساك بها من ذراعها، هتف بها بجديةٍ مستوقفًا إياها:
-استني يا “ليان”
نظرت له متسائلة:
-في إيه تاني؟
وقبل أن تستمع إلى إجابته جذبها نحوه بعد أن شدد من قبضته على رسغها ثم انحنى ليحملها فوق كتفه، صرخت مصدومة وهي تركل بساقيها في الهواء:
-إنت بتعمل إيه يا “عدي”؟ كده هدومي هاتتبل
رد بابتسامة عريضة:
-مافيش كورسات ولا سنتر
صاحت محتجة بتوترٍ:
-طب نزلني، إنت ناوي على إيه؟
لم يجبها لتزداد الأجواء تشويقًا وحماسة، ثم سار بها نحو المغطس، أدار صنبور المياه بيده المتحررة غير مكترثٍ لصراخاتها ولا ركلاتها لتتحرر منه، أنزلها لتقف على قدميها بداخله متعمدًا إحاطتها من خصرها لتبقى تحت حصاره، حاولت الإفلات منه ومع ذلك فشلت، ألصق ظهرها بالحائط المبتل وأغرق جسدها كليًا بالمياه لتفسد كامل ثيابها وهو يقهقه عاليًا، لكزته بقبضتيها في صدره تعنفه بعتابٍ:
-إنت مجنون؟
-أيوه
ظلت تضربه بغيظ وهو يتلقى ضرباتها بضحكات مرحة عابثة، ثم تمكن من تقييد رسغيها وأدارهما خلف ظهرها ليقربها منه، عاتبته بنظرات متنمرة:
-مش ممكن، بجد مجنون، هاعمل أنا إيه دلوقتي؟
قربها منه متأملاً عينيها بنظرات متيمة، أحنى رأسه على شفتيها ببطءٍ ليطبع قبلة عميقة عليهما هامسًا لها:
-بأحبك
تجاوبت مع مشاعره المشتعلة بلهيب العشق لترد محذرة:
-أنا كده هاعيد السنة بسببك
أرخى “عدي” يديه عن معصميها ليطوق خصرها متلمسًا بخبرة حرفية تفاصيلها المشوقة له، ثم همس بتنهيدة حارة:
-وماله، طالما هتفضلي في حضني!
تعلقت “ليان” بعنقه وتبادلت معه لحظات خاصة حميمية جعلتها تنسى ما لديها من مهام استذكار ضرورية لينجح من جديد في استدراجها لبحور الغزل والغرام.
……………………..……………………..…………
عــاد إلى المنزل متأخرًا بعد أن فرغ من أعماله العالقة، ظلت تحذيرات “تقى” الجادة تعصف برأس “أوس” حتى انتهى به المطاف في الفندق ليقابل ابن عمه مرتبًا في رأسه ما سيمكنه من إزالة أفكار أخته المسمومة ليضمن ولائه له، فالأخير غض يسهل استمالته وإقناعه للعزوف عن رغباته الانتقامية، نزع سترته وأرخى رابطة عنقه قليلاً ليتجه إلى غرفة نومه متوقعًا وجود زوجته بالداخل، تحولت تعابيره المرهقة بعد يومٍ شاقٍ ومشحون إلى انزعاج جلي حينما رأي المكان خاليًا منها، والفراش كما هو لم تمسه أي يد، كز على أسنانه هامسًا بغيظٍ مُضاعف:
-برضوه عملتي اللي في دماغك يا “تقى”؟!
ألقى بسترته على الفراش مندفعًا نحو غرفة صغيرته التي تقع على مقربة من غرفتهما، كان الباب مغلقًا، اضطر أن يدير المقبض بحذرٍ تحسبًا لنوم الرضيعة “حياة”، وكما توقع كانت “تقى” ممددة على الأريكة المقابلة لفراشها الصغير مع فارق أنها تغط في سبات عميق والصغيرة في أحضانها تحرك ذراعيها في الهواء وتغمغم ببراءةٍ، ارتخت قسماته قليلاً مع ترديد طفلته:
-با.. با!
رسم ابتسامة صغيرة على ثغره وهو يتجه نحوها، تأمل “أوس” زوجته الغافلة بإرهاقٍ واضح عليها، سحب شهيقًا عميقًا ليكبح به حنقه قبل أن يطفو على السطح ويفسد الأجواء أكثر، انحنى نحو طفلته لينتشلها بحذرٍ من بين قبضتي والدتها، داعب وجنتها بأنفه وظل يهدهدها برفق بين ذراعيه فتثاءبت وثقل جفنيها، وما هي إلا لحظات معدودة وكانت “حياة” قد غفت على كتفه، التفت نحو “تقى” ليحملق فيها مليًا بنظرات امتزجت بالضيق والعتاب، فهو يسعى جاهدًا للتغلب على حدة طباعه وتحجيم شراسته المعتادة، وهي لا تمهله الفرصة لفعل ذلك، تشعره في كثير من الأحيان أنه على وشك نقض العهود والعودة إلى سالف عهده، زفر مطولاً ثم جلس إلى جوارها على الأريكة، مد يده ليتلمس بأنامله بشرتها الرقيقة، ارتعشت قليلاً رغم لمساته الحذرة وتحرك جفناها لا إراديًا، أزاح خصلة شعرها المبعثرة على جانب وجهها للخلف ثم اقترب برأسه منها، تلمست شفتاه وجنتها مقبلاً إياها بنعومة وهو يهمس لها:
-ماتبقيش قاسية عليا يا “تقى”
تنهدت الأخيرة وهي تميل برأسها عفويًا نحوه لتلامس شفتاها شفتيه فحصل منها على قبلة خاطفة حطت من بقايا شرارات غضبه محركة فيه مشاعره المحبة لها، قام “أوس” بإسناد رضيعته في أحضان زوجته من جديد متأكدًا بحرصٍ تام من إحكام ذراعيها عليها، ثم مرر ذراعيه خلف ظهرها وأسفل ركبتيها ليتكمن من حمل الاثنتين معًا وسار بهما نحو غرفة نومهما مستمتعًا بوجودهما في أحضانه رغم نومهما، وبحذرٍ رقيق مددهما على الفراش ساحبًا الغطاء عليهما، تعلقت نظراته بوجهي كلتيهما، كانت سعادته الحقيقية في وجودهما بحياته، استقام واقفًا واضعًا يده أعلى رأسه، مرر أصابعه بين خصلات شعره محدثًا نفسه بسخريةٍ ومستعيدًا في عقله ذكرياته القديمة مع “تقى”:
-هنام على الكنبة، وأهي أحسن من نومة الأرض!
تسلل على أطراف أصابعه كي لا يتسبب في إيقاظ إحداهما، ثم أطفأ الإنارة الخافتة وأغلق الباب عليهما ليعود إلى غرفة طفلته ليقضي ما تبقى من ليلته مسجيًا على الأريكة.
……………………..……………………..
تقلبت على جانبها بعد أن شعرت بألم في عظامها لتبدأ في الإفاقة من غفلتها الطويلة، بدا كل شيء في البداية طبيعيًا حتى أدركت “تقى” أنها بغرفة نومها وليست غرفة الرضيعة “حياة”، تأهبت حواسها بالكامل واستعاد عقلها كامل نشاطه الذهني لتنهض فجأة من رقدتها ووجهها شبه مذعور، تحركت عيناها الزرقاوتان نحو “أوس” الذي كان يقف بشموخٍ أمام المرآة يضبط رابطة عنقه، سألته بصوتها الذي ما زال متحشرجًا:
-أنا جيت هنا إزاي؟
أجابها بنبرة جامدة لكنها جادة دون أن يلتفت نحوها:
-أنا رجعتك أوضتك بالليل
أزاحت الغطاء من عليها لتهب واقفة على قدميها ثم اقترب منه لتصيح فيه باستنكار وقد احتقنت نظراتها:
-إزاي تعمل كده؟ أنا قولتلك هنام هناك مع بنتي و….
قاطعها وهو يدير رأسه في اتجاهه لتتركز عيناه الصارمتين عليها:
-بلاش تعرضيني تاني يا “تقى”
ثم اشتدت نبرته قوة وهو يكمل بتحذيرٍ:
-لأنه لو اتكرر صدقيني هيكون في زعل كبير بينا!
سيطرت حالة من القلق المتوتر على تعبيراتها الناعسة مع ازدياد جفاف حلقها، شهقت عفويًا حينما رأت قبضته تمتد لتمسك بها من ذراعها، وفي أقل من ثانية كان يجذبها إلى أحضانه متابعًا بابتسامة تناقض جدية الموقف:
-وبعدين في صباح الخير
نظرت له ببلاهة غير مصدقة التحول العجيب في شخصيته التي أحيانًا تحيرها بسبب تأرجحها بين الحزم واللين، ضاقت حدقتاها وانزوى ما بين حاجبيها إلى حد ما كتعبير عن اندهاشها منه، تأمل ما يعتري ملامحها من تبدلات مصدومة بابتسامة الواثق المنتصر، مال “أوس” نحو صدغها ليقبلها منه فشعرت بأنفاسه الساخنة تلاطم بشرتها وهو يقول بخفوت:
-تقدري تروحي تشوفي أهلك النهاردة، ومن غير حراسة
انفرج ثغرها بدهشة أكبر ورمشت بعينيها غير مصدقة تلبيته لمطلبها بين عشية وضحاها، رمقها بنظرة حنونة مستأنفًا حديثه الهادئ:
-بس متتأخريش، وخليكي على اتصال معايا
أومأت برأسها دون تعقيب، تخشب جسدها كليًا مع تلك القبلة المفاجئة التي تلقتها شفتاها على غفلة منها، عمق منها لتشعر بحبه الشغوف واللا محدود لها، لم ينتظر تجاوبها معه، فقد كان يريد إشعارها بأنها وحدها القادرة على تطويع غضبه وتحويله إلى شيء آخر أقل شرًا بل وربما رومانسيًا مليئًا بالمشاعر العميقة، تراجع “أوس” عنها ليتأمل تأثير قبلته عليها، اشتعل وجهها بدمويةٍ مشرقة، احتضن عنقها براحتيه هامسًا لها:
-بأحبك
ردت عفويًا وقد تلألأت حدقتاها:
-وأنا كمان
أوصاها بجدية:
-خلي بالك على نفسك
أومأت برأسها هامسة:
-حاضر
ضمها إلى صدره ليحتضنها بذراعيه، شعرت باحتوائه الكامل لها وبدقات قلبه تخترق أذنيها فابتسمت برقةٍ متجاوزة صدام الأمس، تركها بعد لحظات لتبقى بمفردها في الغرفة وقد تملكها إحساسًا منعشًا بالحيوية والنشاط، اتجهت إلى رضيعتها التي استيقظت لتوها لتغدق عليها بحنانها الفائض.
……………………..……………………..…………………….
فرغت علبة سجائره من آخر واحدة استنشق دخانها قبل لحظات، أطفأ “يامن” بقاياها في المنفضة الكرستالية وهو يتأمل المشهد من شرفة غرفته الفندقية، لم تذق عيناه طعم النوم منذ زيارة “أوس” المباغتة له، ظل يقلب عرضه المريب في رأسه عله يكتشف السبب الحقيقي وراء طرحه عليه حتى كاد عقله ينفجر من كثرة التفكير، ومع ذلك لم يصل إلى شيء يريحه، زفر بإحباط قائلاً لنفسه:
-ماهو استحالة يعمل ده لله!
ولج إلى الداخل سائرًا بتمهلٍ نحو الحمام، وقف أمام الحوض مدققًا النظر في علامات الإرهاق الظاهرة أسفل جفنيه، أخفض رأسه بعد أن فتح صنبور المياه جاعلاً القطرات الباردة تنساب بين خصلات شعره، تأوه برجفة خفيفة ضربت جسده، ثم اعتدل في وقفته مرددًا بحيرة:
-ماهو أنا لو وافقت “رغد” مش هاتعدي الحكاية دي على خير، و”أوس” واحد مش سهل يضحك عليه، وأنا في النص واقع بينهم!
تمط بكتفيه نازحًا ذلك التيبس الذي أصاب عضلاته وفقراته ليخرج بعدها من الحمام ليجيب على هاتفه الذي صدح برنين متواصل، انحنى ليلتقطه من على الفراش متأملاً اسم المحامي الذي احتل شاشته بالكامل، وضع “يامن” الهاتف على أذنه قائلاً:
-صباح الخير
سكت للحظة قبل أن يكمل بصوته المتغير نتيجة قلة نومه:
-يعني هاينفع أزور بابت؟ طب التصاريح هتخلص امتى؟
فرك طرف ذقنه مكملاً:
-اوكي، وأنا مستني تليفون منك، سلام!
أنهى الاتصال ليجلس بتعبٍ على الأريكة وقد شرد محدقًا في نقطة بالفراغ أمامه، نفخ بزفير ثقيل وهو يفكر برويةٍ في تبعات زيارته الاستثنائية لوالده بمحبسه، فربما رؤيته له ونصيحته قد تساعده في حسم أمره بشأن تعامله مع “أوس”.
……………………..……………………..…………..
تأكدت من وجود ما قد تحتاج إليه من لوازم الرضيعة خلال ذهابها لرؤية والديها بمنطقتها الشعبية، علقت “تقى” الحقيبة على كتفها وحملت طفلتها “حياة” بذراعها الآخر ثم اتجهت إلى خارج منزلها مكملة طريقها حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي، تعذر عليها الحصول على سيارة أجرة شاغرة لكونها ساعة الذروة، لامت نفسها قليلاً لرفضها بعنادٍ رغبة زوجها بتوفير وسيلة المواصلات لتريحها من ذلك العناء، وقبل أن تيأس كليًا وتهاتف “أوس” لتطلب منه إرسال إحدى سياراته لتقلها إلى هناك لمحت أحدهم وهو يترجل من تلك السيارة القريبة منها، لوحت للسائق بذراعها هاتفة له بنبرة عالية:
-فاضي يا أسطى
اقترب الأخير بسيارته منها متسائلاً بعبوس:
-رايحة فين؟
أجابته بحرجٍ:
-عند ((…..))
امتعض وجه السائق كتعبير عن تردده الصريح في القبول على توصيلها إلى وجهتها، وقبل أن ينطق بذلك علنًا بادرت قائلة كنوعٍ من التحميس:
-وهادفعلك اللي إنت عاوزه
بدا له عرض المال مغريًا، ومع ذلك عَمِد إلى ارتداء قناع العبوس ليقول لها باستسلام بتبرمٍ:
-ماشي، اركبي يا أخت!
تنفست “تقى” الصعداء لحصولها على مبتغاها، ركبت في المقعد الخلفي بعد أن وضعت حقيبة ابنتها إلى جوارها، وتأكدت من جلوس الصغيرة بارتياحٍ في حجرها، انطلق سائق الأجرة بسيارته عبر الشوارع والطرقات المزدحمة، زفر لأكثر من مرة بصوت مسموع ليشعرها بضيقه وتذمره من مشوارها الطويل خاصة أن حركة السير كانت بطيئة بدرجة كبيرة، تجاهلته مضطرة وادعت الانشغال بطفلتها حتى أردف قائلاً بنزقٍ:
-بصي جنبك كده يا ست
التفتت “تقى” للجانب لتحدق من نافذتها الملاصقة لها في تلك السيدة البدينة التي كانت ترتدي ثيابًا أقل قياسًا من حجم جسدها الممتلئ بقياسين على الأقل مما أظهر ترهلاتها وسمنتها بطريقة غير لائقة، أشاحت بوجهها بعيدًا عنها شاعرة بالإحراج من هيئتها، أضاف السائق متهكمًا:
-الولية هتفرقع من جنابها
ردت معترضة بتهذيبٍ على طريقته الساخرة منها حتى وإن كانت تلك المرأة مخطئة في ارتدائها لتلك النوعية من الثياب الضيقة:
-ربنا يهديها، أنا غضيت بصري
سألها بنظرات غير مريحة لمحتها “تقى” من انعكاس عينيه في المرآة الأمامية:
-هو إنتي هتشتهيها ولا إيه؟
انقبض قلبها خوفًا من جملته الأخيرة التي تضمنت تلميحًا مزعجًا ورغم هذا عللت مصححة:
-نعم؟ حضرتك أنا بأقولك مش المفروض نبص عليها أو على غيرها
رد عليها بفظاظة فجة:
-هي اللي عاملة في نفسها كده عشان الرجالة تبحلق في كرشها و…… ، وبرضوه مش هانعبرها بتخنها وجسمها اللي شبه الفيل
غلت دمائها من أسلوبه الوقح في الإساءة لتلك المرأة بكلمات منحطة، لوحت بوجهها قائلة باقتضاب:
-مالناش دعوة
بصق السائق من النافذة المجاورة له ليضيف بعدها بحقارةٍ:
-نسوان عاوزة الحرق مش مريحة نفسها، بيعملوا البدع عشان نبص عليهم، ولو حد قال كلمة تلاقي بكابورت طفح في وشنا
تجاهلته “تقى” كي تقطع عليه أي فرصة للتمادي في الحديث معها، ومع هذا استمر في استرساله المستفز والمسيء للنساء ناعتًا إياهن بالرخيصات والعاهرات، اشتدت قسمات وجهها توترًا من حديثه غير المريح، وتشبثت برضيعتها أكثر، كذلك أخفضت نظراتها لتتأكد من احتشام ثيابها حتى لا تثير بغير قصد فتنة ما في عقل ذلك السائق المريب، ودّت لو قصرت المسافة فتصل إلى وجهتها دون أن تضطر للإصغاء إلى ثرثرته المحرجة لها، وما إن انعطف نحو الشارع الجانبي المؤدي إلى منطقتها الشعبية حتى ……………………..………….. !!!
……………………..……………………..……………

يتبع >>>>>>

error: