رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل السابع عشر
بإشارة صامتة من عينيه امتثلت مدبرته الوفية لأمره غير المنطوق وحملت الرضيعة من مهدها لتعيدها إلى غرفتها تاركة الزوجين معًا، مرر “أوس” ذراعه أسفل جسد “تقى” ليتمكن من احتضانها بعد أن خبت نوبتها البكائية المتكررة، لم يعتد دومًا على انفلات زمام الأمور من بين أصابعه، لكن في تلك الليلة كان الوضع مختلفًا، أُعيد النبش في دفاتر الماضي بما احتوته من ذكريات مؤسفة جاهد للتغلب عليها ونسيانها، ذكريات كانت لعنته حتى وقت قريب، مسد بيده الأخرى برفق على خصلات شعرها مستشعرًا قربها الدافئ من صدره، كان يقاتل بضراوة ظهور بقايا بذور الخبث بحضور ابنة عمه البغيضة التي أوقظت رغباته الانتقامية نحو أشباح ماضيه التي نبذها، رأى في حدقتيها الشرستين تجسيدًا لنظرات “ممدوح” اللئيمة وابتسامته المستفزة التي أشعلت حنقًا لم ولن ينضب أبدًا نحو ما يتعلق به، ثقتها التامة ذكرته بغفلته في لحظة واحدة استسلم فيها لتأثير الخمر وباح لـ “رغد” بما اعتاد ممارسته مع العابثات بطرق عنيفة ليشبع تلك النزعة المريضة بداخله، تلك اللحظة التي استغلتها ببراعة لتجعلها سببًا في مساومته وربما ابتزازه إن لزم الأمر.
تصلب جسده مع تلك الأنة الخافتة التي التقطتها أذناه وحملت وجعًا محسوسًا من “تقى”، أخفض “أوس” رأسه عليها ليتأملها، كانت ما زالت نائمة، زفر بإرهاق ثم قبلها أعلى جبينها هامسًا لها:
-أنا معاكي ومش هاسيبك
تأمل بنظراتٍ عكست حزنًا خفيًا وجهها الساكن مرددًا لنفسه بحزمٍ:
-محدش هيقدر يأذيكي طول ما أنا موجود!
تململت في أحضانه فزاد من ضمه لها وكأنه يؤكد لنفسه إصراره على تمسكه الشديد بها، فإن كان يمتلك الجسد القوي والمهابة الطاغية، فهي تمتلك الروح النقية التي داوت جراحه العميقة، فمن المحال أن يتخلى عنها أو يترك الساحة لمن يتجرأ على زعزعة تلك العلاقة دون حساب، استلقى إلى جوارها مقتربًا أكثر منها فاحتوى جسدها في أحضانه، لحظاتٍ واستسلم لذلك الخدر العصبي الذي أنهكه ليغفو بعدها.
……………………..……………………..……
لم تكن بالمسافة الهينة لتعود إلى منزلها بالمنطقة الشعبية، اضطرت أن تبدل بين أكثر من وسيلة مواصلات حتى تتمكن من الرجوع إلى هناك، احتلت تعابير الإرهاق أغلب ملامحها، بالإضافة إلى كون حالتها الذهنية متعبة للغاية، فعقلها لم يتوقف للحظة عن الشرود والتفكير في ذلك الشاب الذي أنجدها من لحظات عصيبة رغم كونه نفس الشخص الذي انهال على مسامعها بما سم بدنها من كلمات أشعرتها بالدونية، جمدت “هالة” أصابعها على الداربزين مكملة صعودها البطيء على الدرج حتى توقفت أمام باب منزلها، أزاحت حقيبتها عن كتفها لتتمكن من البحث عن المفتاح، دسته في القفل الخاص به ثم ولجت إلى الداخل لتتيبس قدماها في المكان عاجزة عن التقدم خطوة أخرى، شخصت أبصارها على وجه لا تحبذ أبدًا رؤيته أو التطلع إليه ولو مصادفة، استمعت إلى صوت والدتها المهلل يقول:
-تعالي يا “هالة”، مافيش حد غريب!
تدلى فكها للأسفل في صدمة كبيرة، وشخصت عيناها في فزع مرتعد خاصة أن ابتسامته اللئيمة برزت بوضوحٍ لتعلن ضمنيًا عن قرب ضياعها، أضافت “أم بطة” قائلة:
-ده سي “منسي” جاي ….
بدت الكلمات بعيدة عن أذنيها، لم تصغِ إلى باقي حديثها، فمجرد رؤيته بشحمه ولحمه أمامها جعل حضوره مطبقًا على الأنفاس، خانقًا للصدور، لم يكن يومها لينتهي بطريقة أسوأ من ذلك دون إضافة تعاسة جديدة لها، نفذت قدرتها على تحمل المزيد، فشعرت بأنها على وشك فقدان وعيها، ترنح جسدها بقوة مما أثار خوف والدتها التي صرخت بهلعٍ:
-“هــالة”
هب “منسي” وافقًا من جلسته مسرعًا نحوها، لم ينتظر أي دعوة صريحة للإمساك به، بل منح نفسه الحق كاملاً للتعامل معها كما لو كانت ملكيته الخاصة، أحست “هالة” بقبضة خشنة تحاوطها رغمًا عنها من ظهرها، التفتت برأسها للجانب لتجد وجهه قريبًا منها، تكاد نظراته تلتهمها، جاهدت لتتملص منه، لكن قوتها لم تكن كافية لمنعه، أجبرها على التحرك في اتجاه الأريكة، أصابتها أنفاسه العطنة التي زكمت أنفها بالغثيان، فتضاعف إحساسها بالوهن والاشمئزاز، استسلمت لدفعه لها حتى تراخى جسدها وتمددت على الأريكة، لم يتركها “منسي” بل استمر في إمساكه بها مستغلاً كل ثانية ليتمتع بملاصقتها له.
كانت “هالة” في حالة ما بين الوعي واللا وعي، وظل صراخ والدتها يؤلم رأسها، هتف “منسي” بجدية:
-هاتي فحل بصل أفوقها بيه!
هرولت “أم بطة” راكضة نحو المطبخ، تبعتها أنظار ذلك اللئيم الذي التوى ثغره بابتسامة خبيثة، أخفض نظراته على جسد “هالة” ممتعًا عيناه بما لم يحظَ به من قبل، أغراه شيطان رأسه بعدم إضاعة تلك الفرصة سدى، اختلس النظرات نحو باب المطبخ ليتأكد من خلو المكان، وبجراءة اعتادها مرر يده أسفل كنزتها متلمسًا بشرتها الناعمة، اشتعلت خلاياه الذكورية بلهبٍ مهلك، وطمع في المزيد، للحظة شعرت “هالة” في حالة الضلال المسيطرة عليها بقشعريرة مريبة تسري في بدنها، لا تعلم سببها لكن هناك لمسات غير مريحة تستكشف مناطق معينة من جسدها فأصابتها بتلك الرجفة المرعبة، وبعينين زائغتين استدارت نحو وجه “منسي” الذي بدا كالأشباح، رأت أطياف غير واضحة المعالم ليده وهي تستمر في تلمس ما هو مُحرم عليه، شعرت بعجزها الكلي، بأنها تحت تأثير خدرٍ قوي يجبرها على الاستسلام رغم نفورها، تلاحقت أنفاسها وتعالت خفقان قلبها، ثم همست بصوتٍ غير مفهوم وقد تحرك ذراعاها بصورة تلقائية لتدفعه بعيدًا عنها:
-إنت ..!
كانت مقاومتها ليده معدومة بمعنى أدق، بل إنها لم تمتلك الإرادة الكافية لإيقافه ومنعه من التلذذ بها، ميزت “هالة” صوته المقيت في هلوستها حينما قال لها بهمس اخترق أعماقها ليضاعف من فزعها:
-قريب أوي هانكون لبعض!
أنقذها من عبثه المقزز وجود والدتها التي كانت تولول خوفًا عليها، حركت رأسها نحوها وطالعتها بنظرات مشوشة مستغيثة، لم يستوعب عقل “أم بطة” ما تحاول قوله، حطت آخر ذرة من يقظتها لتغمض عينيها بعدها سارحة في بحورٍ من ظلماتٍ لا تنتهي.
……………………..……………………..….
انحنت نحو المغطس تتلمس بأطراف أصابعها الماء الذي ملأه، كانت درجة حرارته مناسبة لها ومغرية في نفس الآن، خاصة أنها بحاجة للاسترخاء بعد التجربة المحرجة التي تعرضت لها، لم تقف عند تلك الجزئية كثيرًا، فقد توقعت الأسوأ، وما حدث لم يكن إلا ردة فعل شبه عنيفة من ابن عمها لردعها، لكن هيهات، تلك البداية فقط، استرخت “رغد” بجسدها بداخل المغطس تاركة للمياه الدافئة الدور في إزاحة التوترات التي أرهقت عضلاتها، رفعت ساقها للأعلى متأملة آثار الخدوش السطحية التي اعتلت ركبتها، أخفضتها في المياه، ثم مدت ذراعها للجهة اليمنى لتمسك بكأس المشروب الذي طلبته مسبقًا، قربته من شفتيها لترتشف رشفة مستمتعة بتلك اللذة المريرة فيه، أغمضت عينيها لثوانٍ قبل أن يرن هاتفها المحمول ليقطع لحظات استجمامها المميزة، أسندت الكأس والتقطت هاتفها مجيبة على اتصال زوجها بوجهٍ فاتر، نفخت قائلة ببرود:
-لسه يا “أكرم”، في إيه، مستعجل إني أرجع ليه
تشنجت ملامحها وبدت أكثر قسوة من حديثه الذي لم يكن مريحًا لها، صاحت به ببرود لا يليق بأمٍ من المفترض أنها تشتاق لفلذات أكبادها:
-اتصرف، هات ناني بالساعة ونتقاسم فلوسها، عادي يعني
صمتت للحظاتٍ معدودة قبل أن تقاطع حديثه بنبرة حادة:
-مش معقول يعني هاسيب اللي ورايا هنا عشان إنت مش قادر تستحمل الولاد كام يوم؟!
قست لمحاتها الباهتة لترد بنفاذِ صبرٍ مُنهية معه المكالمة:
-“أكرم” بليز أنا تعبانة وعاوزة أرتاح، باي
ألقت هاتفها بإهمال على الأرضية وهي تتمتم بضيقٍ:
-مش ممكن!
عــادت لحالة الاسترخاء التي كانت عليها نافضة عن عقلها كلمات “أكرم” المزعجة بشأن عودتها إليه ليتبقى في رأسها فقط طيفًا مجسمًا لشخصٍ لم تستطع نسيانه، بات هوسها بالرغم من مرور السنوات، شردت بعقلها عند تلك الليلة تحديدًا مستعيدة ما حدث بها دون أن تغفل عن تفصيلة منها وكأنها تجبر عقلها يوميًا على تذكرها كي لا تنساها أبدًا، كانت ليلة كغيرها، مدعوة لحضور حفل عائلي في قصر عائلة الجندي، حيث اعتادت زوجة عمها “ناريمان” على دعوة صفوة المجتمع المخملي للتباهي بما تمتلكه وبكونها سيدة تنتمي للطبقة الراقية التي يحسدها الجميع عليها، ملت من الثرثرة الفارغة وقررت الخروج للتمشية بالحديقة، توقفت عن السير وقد رأت “أوس” في مواجهة الطبيب المرموق آنذاك “ممدوح” والذي كان ملازمًا للعائلة، تابعتهما عن قرب بفضولٍ، زوت ما بين حاجبيها متأملة ردة فعليهما، فنظرات الاثنان أشارت للكثير من الكراهية الصريحة، ناهيك عن صدامهما العنيف والذي هدد بمشاجرة حامية إن لم تتدخل فورًا وتحول دون حدوثها منعًا للفضائح، بلا تردد اندفعت نحوهما وهي تقول بتوترٍ:
-تعالى معايا يا “أوس”
تعلقت بذراع ابن عمها بيديها لتجبره على السير معها بعيدًا عن “ممدوح” الذي اتسعت ابتسامته قائلاً بسماجةٍ:
-هنروح من بعض فين، ده أنا اللي عملتلك
نفض “أوس” قبضتيها بقسوة ليقترب أكثر من عدوه اللدود، استشاطت نظراته مهددًا:
-أحسنلك ما تستفزنيش، لأني ماضمنش ممكن أعمل إيه فيك!
قهقه “ممدوح” ضاحكًا ليزيد من استفزازه ثم ربت على كتفه قائلاً بتحدٍ مستثيرًا إياه:
-ده إنت تربيتي
رد عليه من بين أسنانه المضغوطة بإهانة لاذعة:
-تربية “……”!
شعرت “رغد” بأن ابن عمها على وشك الإقدام على فعل خطير أهوج، توسلته باستعطافٍ:
-“أوس” بليز تعالى، ماينفعش كده، الناس هتتفرج عليكم
دفعها من جديد بعيدًا عنه وهو ينهرها بقوة لتكف عن الالتصاق به:
-حاسبي يا “رغد”
لم يزدها رفضه إلا إصرارًا على عدم تركه، انسحب مندفعًا بعيدًا عن “ممدوح” وهو بالكاد يسيطر على أعصابه المتأججة، هرولت “رغد” خلفه محاولة اللحاق به، أعاقها عن الوصول إليه كعبها العالي، تحملت الآلام حتى وصلت إليه، ثم سألته بأنفاسٍ لاهثة:
-استنى رايح فين؟
نظر لها شزرًا من عينيه المظلمتين قبل أن يرد بعنف وهو يفتح باب سيارته المصفوفة في الجراج:
-ملكيش فيه
تقبلت معاملته الخشنة معها مبررة تصرفه العدائي نحوها بصدامها مع صديق العائلة، راقبته بنظراتٍ فضولية ورغبة بداخلها تحثها على عدم تركه، استقل “أوس” سيارته معيدًا ظهره للخلف وقد أصبحت كل خلية فيه تهدد بالانفجار غضبًا، وبدون أي مقدمات فتحت “رغد” الباب الأمامي لتجلس بجواره على المقعد وكلها عزيمة على البقاء معه، ردت بثقةٍ وهي تنظر له بحدقتين جادتين:
-وأنا مش هاسيبك في الحالة دي يا “أوس”
مجرد صوتها المزعج ضاعف من حنقه، ضرب بقبضتيه على المقود زافرًا بصوتٍ مسموع آمرًا إياها بغلظة دون أن ينظر نحوها:
-انزلي يا “رغد”
هزت رأسها بالنفي وقد شبكت ساعديها أمام صدرها:
-لأ
ثم أضافت بثقةٍ متحدية أمره:
-ولو طردتني برا العربية همشي وراك بعربيتي، فخليني معاك أحسن
أدرك “أوس” أنه لن يتخلص منها بسهولة، فهي كالعلقة إن التصقت بالظهر ستحتاج إلى جهد مضاعف لإزالتها، وهو لم يكن في حالة مزاجية تسمح بالجدال معها، كل ما أراده فقط هو الابتعاد عن ذلك المكان الذي يخنقه ويطبق على أنفاسه، تجاهل مضطرًا وجودها، صم ضغط على دواسة البنزين منطلقًا بسيارته بسرعة عالية، شهقت “رغد” بخوفٍ وقد رأت بعينيها المجردتين إقدامه على المخاطر دون إظهار ذرة ضعف أو خوف، لم تتجرأ على التفوه بكلمة، ليس خشية منه ولكن لربما أضاعت فرصة ذهبية استفردت بها معه لتعرف عالمه الغامض الذي أخفاه عن الجميع، تشبثت جيدًا بمقبض الباب، ثم اختلست النظرات نحوه، كان وجهه كصفحة من الجليد، فقط عينان تشعان غضبًا عظيمًا، توترت أنظارها مع اتجاهه لتلك المناطق التي لم تعتد على رؤيتها، بالطبع لم تكن بحاجة لتخمين هويتها، هي أقرب للملاهي الليلية مع فارق المستوى المتدني الذي ظهر بوضوح على الواجهات الإعلانية.
أوقف “أوس” السيارة بالقرب من ذاك الملهى المضيء بالإضاءات الحمراء، ثم ترجل منها، لم يكترث بدعوتها للذهاب معه، كانت نكرة بالنسبة له، وكأن وجودها والعدم سواء، تبعته “رغد” في صمت وهي تلقى نظرات شاملة على تفاصيل ذلك المكان الوضيع، انعكس اشمئزازها وتأففها على لمحات وجهها، أبدت نفورها من هيئة السكارى والفتيات المائعات اللاتي يتمايلن بخلاعة لجذب أعين الرجال نحو أجسادهن الممتلئة والعارية، انكمشت على نفسها وأسرعت في خطواتها لتقترب منه، جلست إلى جواره عند البار الرئيسي، رأته يتجرع بضعة كؤوس واحدًا تلو الآخر، حذرته بقلقٍ وهي تتأمل تعابيره الواجمة:
-مش كفاية شرب
لم يصغِ لها فشعرت بالضيق، ومع ذلك لم تنبس بكلمة اعتراضٍ، تأملت جسده الرياضي بنظرات مطولة مراقبة كل حركة عصبية أو متشنجة تصدر عنه، استغربت نفسها من ميلها نحوه بتلك الصورة المريبة، لكنها كانت تشعر بالانجذاب نحوه، لم تدرِ متى نما ذلك الإحساس بداخلها، لكنها تزايد مع الوقت، تخيلت وجودها بجوار رجل مثله قادرًا على الفتك بمن يتجرأ عليه دون إظهار لمحة خوف أو ندم، عضت “رغد” على شفتها السفلى مخرجة تنهيدة بطيئة من صدرها، كانت نظراتها نحوه تحمل رغبة فيه، رأته يسند يده على السطح الزجاجي للبار، لم تتردد في وضع كفها على ظهر يده لتستشعر ملمس بشرته عليها، أجفلها ذلك الشعور المثير الذي حفز أحلامها بالظفر به، نظر لها “أوس” بطرف عينه بجمود رغم الثمالة التي بدأت تظهر عليه، بينما طالعته بنظرة مطولة عكست شيئًا أرادت الإفصاح عنه، مالت نحوه ملصقة وجنتها بكتفه وهامسة له بأنفاسٍ شبه حارة لفحت صدغه:
-عشان خاطري كفاية
أزعجه محاولتها للتحكم به وفرض رغباتها عليه أكثر من محاولتها الصريحة للتودد إليه، أزاح يده من أسفل كفها ثم أبعدها عنه بقسوة محدجًا إياها بنظرات قوية مشتعلة، ألقى بالكأس الزجاجي فجأة ليتهشم إلى أجزاء متناثرة صارخًا بها بانفعالٍ:
-محدش يقولي كفاية!
انتفضت من فعلته المباغتة وحملقت فيه بتوترٍ، تراجعت للخلف متوقعة فعلة متهورة لكنه عاد إلى سكونه مثلما انفجر فجأة، ابتلعت ريقها متوجسة خيفة من ردة فعله وهي ترد بنعومة آملة في إذابة الحاجز الجليدي الصلب بينهما:
-سوري، أنا مش قصدي، إنت غالي عندي يا “أوس”
وبحذرٍ تام وضعت يدها على كتفه فشعرت بتصلب عضلاته القوية، انتشت من ذلك الإحساس الرجولي القوي الذي يتمتع به والممتزج بالسلطة والسيطرة، رغبت في مشاركته ما يملك بشدة، حاذرت في التمادي معه كي لا تثير غضبته فيعاملها بجفاءٍ وربما يطردها، لذا أردفت قائلة بنبرة رقيقة عله ينتبه لها:
-بس أنا خايفة عليك أوي، فوق ما تتخيل
لم يُبدِ “أوس” تأثرًا بما تقول، وكأنه في عالم خاص به، شردت عيناه القاتمتان في نقطة بالفارغ مرددًا بكلمات غير مفهومة:
-فكره إنه بكلامه ده هيسيطر عليا
انتبهت لكلماته الغامضة، راقبته بفضول مضاعف حينما تابع بلا إدراكٍ:
-أنا أكتر واحد فاهمه كويس، وفي لحظة ممكن أمحيه
سألته مستفهمة وقد تعقدت تعبيراتها:
-إنت بتكلم عن د. “ممدوح”؟
كز على أسنانه لاعنًا:
-الكلب الـ ……..!
شعرت بعروقه تشتد في عنقه، بتشنجه بجوارها، انتابها إحساسًا عميقًا بأن الأمر يتعدى ما تفكر فيه، أبعدت أنظارها عنه لتركز بصرها على وجه ذلك المتطفل الذي ظهر فجأة ليقول بترحيب مبالغ فيه:
-باشا، منور المكان كله، طلباتك إيه؟ احنا كلنا خدامينك!
لم ينظر نحوه “أوس”، ورد عليه بفتورٍ:
-مش طالبة معايا حاجة
كان ذلك المتطفل المزعج -ذو بدلة زهيدة الثمن- يعلم جيدًا الحالة التي عليها سيده، انسحب معلنًا بانصياع خانع:
-اللي يريحك يا باشا، أي أوامر شاور بس بصوباعك، وهتلاقي كل اللي هنا تحت رجليك
أنفت “رغد” من هيئته الرخيصة التي أوحت لها بأي نوع من أشباه الرجال هو، سألت “أوس” فور أن ابتعد عنهما:
-هو إنت تعرف الأشكال دي؟
حذرها من استجوابه هادرًا:
-“رغد”
بررت قائلة:
-سوري، بس المكان بيئة أوي والناس اللي فيه شكلهم كده .. يعني مش من مستواك!
زفر هاتفًا بنفاذ صبر:
-أنا حر، ومن الأول قولتلك ماتجيش معايا
-مش قـ…
قاطعها بحدةٍ:
-ولا كلمة
ثم نهض عن مقعده ليسير بترنحٍ، حاولت إسناده لكنه دفعها رافضًا أي محاولة منها للتقرب إليه، زادها رفضه عزيمة على التمسك به، لحقت به حتى وصل إلى سيارته، سدت بجسدها الطريق عليه لتقول بجديةٍ:
-أنا اللي هاسوق، من فضلك هات المفاتيح
رد محتجًا بغلظةٍ:
-ابعدي يا “رغد”
أصرت على موقفها مرددة:
-مش هاسيبك تسوق وإنت في الحالة دي يا “أوس”
صاح بعصبيةٍ:
-“رغد” ابعدني عني، أنا محدش يتحكم فيا
رفضت هاتفة بإلحاحٍ أشد عِندًا منه:
-لأ يا “أوس”، دي مش تحكمات، بس لمصلحتك، بليز، ده طلبي الوحيد، وهترتاح مني بعدها
لم يكن أمامه إلا الموافقة ليتخلص من ملاصقتها له، شعرت بالارتياح لكونه قد استجاب لطلبها بعد ضغط متواصل منها، ظنت في ذلك أن السبيل لإجباره على فعل ما تريد هو اللعب معه بذكاءٍ واحترافية دون تعصبٍ أو إظهار، جلست خلف موقد السيارة وقبل أن تدير المحرك أمرها بنبرة شبه ثقيلة:
-اطلعي على شقتي
بدت عبارته الآمرة غريبة للغاية ومثيرة للفضول في نفس الوقت، رفعت حاجبها للأعلى مرددة بصدمةٍ:
-شقتك؟
أجابها باقتضابٍ:
-أيوه
رددت مع نفسها باستغراب حائر:
-أول مرة أعرف إن عندك بيت تاني يا “أوس”
ادعت الابتسام لتقول له بنعومةٍ مصطنعة:
-قولي العنوان فين بالظبط!
بعد برهةٍ، وصلت إلى العنوان الذي أخبرها به، ساعدته على الصعود إلى منزله بعد أن صفت السيارة أمام المدخل، تناولت منه مفتاح المنزل ودسته في القفل الخاص به بالباب لتتمكن من فتحه، لفت ذراعه حول كتفيها ليتمكن من إسناد جسده عليها، سارت به ببطءٍ متمهل للداخل، بحثت عن مفتاح الإنارة لتضيء الصالة، تفاجأت بكون المكان أنيقًا للغاية رغم كونه غير مرتب، التهت عن “أوس” للحظات لتتبع حدسها الأنثوي بمعرفة ما يخبئه عنها، استطاعت أن تفسر ما تراه عيناها وتربطه بنوعية الملذات التي ينغمس فيها ابن عمها في مكانٍ منعزل عمن حوله، استدارت بجسدها للجانب فلم تجده، بحثت عنه في أرجاء المنزل فوجدته مستلقيًا على الفراش، سألته بهدوءٍ كاظمة في نفسها ما يعتريها من غضب أنثوي عارم لكونه يعاشر اللاهيات من النساء:
-إنت بتعمل هنا إيه يا “أوس”؟
أجابها بنبرة ثقيلة وبغموضٍ باعث على الفضول الشديد وقد أغمض جفنيه:
-هنا مملكتي، مفكر باللي عمله قضى عليا ودمرني، ومش عارف إني نسخة منهم، ويمكن أسوأ بكتير، مافيش واحدة قالتلي لأ، كلهم بيركعوا تحت رجلي!
استرعت كلماته رغبتها في معرفة المزيد عما يخفيه عنها، جلست إلى جواره على الفراش تسأله بتمهلٍ هامس:
-ازاي، مش فاهمة!
بلا وعيٍ منه استرسل في الإفصاح عن جزء بسيط من أفعاله الماجنة فيما يختص بإخضاع العابثات من النساء لتلبين نزواته المريضة باحثًا بينهن عن ضالته المنشودة التي تشبع حاجته للشعور بالقوة والسيطرة، تفاجأت بما باح به وصُدمت بالحقائق التي أذهلتها، ارتجفت من فداحة الأمر ومع ذلك بدا مثيرًا لها، فشخص مثل “أوس” يتمتع بكل الصفات المثالية من وجهة نظرها لرجل قادرٍ على فرض هيمنته على من يشاء، وبالتالي بقليل من إظهار ذلك لن تُستعصي عليه امرأة مهما كانت، تأملته وهو مُسجى على الفراش بنظرات طويلة تداعبها أفكار متهورة، أغرتها معايشة التجربة معه، أن تكون الأخيرة في حياته، فكرت في استدراجه بطريقتها الأنثوية لتدفعه نحو التودد لها، خاصة أنه في حالة غير واعية، سيكون من السهل إيقاعه، ومع ذلك حينما شرعت في خطتها العابثة نبذها بقسوة رافضًا ما قد يقبل به أي رجل في لحظة ضعف لتشعر آنذاك بالحقارة والدنو، انتفض واقفًا صائحًا بها:
-بـــــرا!
نظرت له “رغد” برعبٍ، وقبل أن تُحرك شفتاها لتنطق كانت يده قابضة على ذراعها، شعرت بأصابعه تغرز في لحمها تكاد تمزقه من قسوة قبضته، جذبها “أوس” بشراسة إلى الخارج لاعنًا نفسه لغفوته في لحظة، لم تتوقع ذلك منه، أن يعاملها كوضيعة نكرة، ألقاها خارج منزله وهو يهدر بها:
-انسي إنك جيتي هنا
صفق الباب بقوة أمام وجهها ليتركها في حالة صدمة وهي لا تستوعب ما فعله حقًا، تأججت بداخلها رغبة انتقامية لرد اعتبارها، لذا قررت حينذاك أن تستغل زلات لسانه لتساومه، ومع هذا لم يخضع لها، بدا صعب المنال، تحديًا من نوع مختلف استفزها وأوهمها أنه من المحال أن يكون لقمة سائغها تلوكها مهما بذلت من جهد لإيقاعه، ومع الوقت بات هوسها كلما أصر على معاملتها بجفاءٍ وبدون اكتراث لتهديداته، تداعت مخططاتها مع لقائها بـ “أكرم” الذي زكاه والدها ليكون خطيبًا مناسبًا، وافقت عليه معتقدة أنها بذلك ستدفع “أوس” للغيرة، لكنها كانت واهمة، لم يعرف الحب مُطلقًا، فعلى ما يبدو كان أحد قراراتها المتعجلة التي ندمت عليها فيما بعد، عند تلك الجزئية أفاقت “رغد” من شرودها وعيناها تلمعان بشرر مخيف، خاصة وهي تتذكر وجه “تقى” تلك الغبية الساذجة التي أوقعته فتزوج بها لتصير إلى جواره بدلاً منها، كزت على أسنانها هامسة بوعيدٍ:
-إنت من الأول كنت ليا يا “أوس”، وهاترجعلي ……………………..… !!
……………………..……………………..…………
يتبع >>>>>>

 

error: