رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل السادس والعشرون
للكلمات المحفزة تأثيرًا معنويًا كبيرًا يدفع الشخصية المهتزة لتغير أنماط حياتها وتجربة ما لم تعد عليه بجراءةٍ غير مسبوقة، وهذا ما حدث معها، لم تتخيل “تقى” أن تخرج عن ذلك الحيز الضيق الذي تحجز نفسها فيه وتحيد عن منطقة الأمان الخاص بها لتدافع ببسالة عن كرامتها الأنثوية، بل ولتثبت لنفسها أن بداخلها شخصية قوية تريد الظهور على السطح، ظلت تلك الحماسة معكوسة عليها وظاهرة في تعبيراتها رغم الرجفة المستمرة التي تعتريها، لم يختلف حال “أوس” عنها، فقد ذُهل هو الآخر بما كانت قادرة على فعله، أبهرته شجاعتها في أول المواجهات الشرسة مع خصم لا يُستهان به مما سيسهم لاحقًا بدور كبير في تعزيز شخصيتها الجديدة، شدد من ضمه لها ليمنحها الدعم والقوة قائلاً لها بتفاخرٍ:
-حقيقي أنا مبهور بيكي
ردت عليه بارتباك وبنظرات متوترة:
-أنا لحد دلوقتي مش مصدقة اللي عملته
تقوس فمه للجانب بابتسامة ساخرة متابعًا حديثه لها:
-هي تستاهل ده
وضعت “تقى” يدها على صدرها لتتحس قلبها النابض، استشعرت عنف دقاته وتلاحقها، التفتت برأسها نحو “أوس” لتقول له بنبرة أقرب للهاث:
-قلبي بيدق جامد
مد “أوس” يده ليمسك بكفها، تخللت أصابعه أناملها ثم قرب يدها إلى صدره، ألصقه به لتشعر بنبضاته، ارتعشت من حركته تلك، ورفعت عينيها إليه لتجده يطالعها بنظراتٍ والهة، تحركت شفتاه قائلاً ببسمته التي تسحر العقول وتأسر القلوب:
-وأنا قلبي بيعشقك
لاح على ثغرها ابتسامة رقيقة ناعمة، سحبها “أوس” برفق نحو سيارته ثم فتح لها الباب الأمامي لتجلس بجواره في حركة مهذبة منه، هزت رأسها بامتنانٍ، رمقها بنظرة حانية مطولة أخجلتها، سألته بحياءٍ:
-إنت بتبصلي كده ليه؟
أجابها بتنهيدة رومانسية وهو مركز حدقتاه عليها فقط:
-مش عاوز أشوف غيرك وبس
تحرجت من طريقة تطلعه لها، وازداد وجهها توردًا، همست له بارتباك بعد أن عضت على شفتها السفلى:
-طب اركب، الناس بتبص علينا
كركر ضاحكًا من خوفها ليرد بعدها بثقة وغرورٍ:
-ولا حد يستجرى، إنتي مرات “أوس الجندي”!
توردت أكثر من منحه حبًا عذبًا ينعش قلبها دومًا، رمشت بعينيها وهي تراه يشير بيده نحو تابلوه السيارة، سألته مستفهمة:
-في إيه؟
أجابها بصيغة آمرة:
-افتحيه
لم تجادله ونفذت أمره على الفور لتخرج منه علبة حمراء اللون متوسطة الحجم مصنوعة من القطيفة، التقطتها بيدها لتنظر بفضولٍ إلى ما بداخلها، تحولت تعبيراتها للذهول الفرح بمجرد أن فتحتها وتطلعت إلى محتوياتها الثمينة، عادت لتحدق في وجهه الواثق متسائلة:
-إيه دي؟
ابتسم وهو يجيبها:
-دي عشانك يا حبيبتي!
تأملت بحدقتيها الزرقاوتين تلك السلسلة الذهبية الرقيقة التي يتدلى منها اسمها، تحسستها بأناملها وهي تكاد لا تصدق ما أهداها لها، أخفضت نظراتها لتمعن النظر في ذلك السوار الآخر المثبت بالعلبة، رددت بتنهيدة متحمسة:
-الله، دول حلوين أوي
لم يعلق عليها “أوس” بل انحنى للأمام بعد أن سحب السلسلة من العلبة ليلبسها إياها، اعتدل في وقفته لينظر بإمعان إلى هيئتها بعد أن ارتدتها، بدت لائقة بها ثم هتف مشددًا رغم هدوء صوته:
-متقلعيهاش من رقبتك
أومأت برأسها في خنوع ليتابع بعدها وضع السوار الذهبي في رسغها، تأملت ما نقش عليه بالخط الكوفي باسم ابنتهما واسمه لتزداد سعادة، همس لها وهو يقرب كفها من فمه ليقبله قائلاً:
-وعقبال ما نكتب اسم النونو عليه
أغمضت عينيها مستسلمة لذلك الإحساس المطمئن الذي غمرها، ثم عاودت فتحهما لتتحسس من جديد سوارها البراق، أردفت قائلة بتلعثمٍ وقد توهجت نظراتها:
-أنا مش عارفة أوصفلك اللي جوايا
رد عليها مبتسمًا:
-كفاية إني شايف ده في عينيكي
همست له بنعومةٍ:
-ربنا يخليك ليا
داعب وجنتها قائلاً:
-معنديش أغلى منك يا حبيبتي!
ارتعش بدنها من لمسته الخبيرة وزاد ارتباكها، تلفتت حولها هامسة بخجل وقد شعرت بسخونة أكبر تنبعث من بشرتها:
-الناس يا “أوس”
رد بعدم اكتراثٍ:
-ولا يفرقوا معايا
علقت عليه بنفس النبرة المهتزة:
-عارفة والله، بس كده عيب، خلينا نمشي، ممكن
هز رأسه موافقًا وهو يعتدل في وقفته:
-ماشي
ثم أغلق الباب ليلتف حول مقدمة سيارته، جلس “أوس” خلف المقود لينطلق بعدها عائدًا إلى فيلته حيث تنتظره كارثة خطيرة.
……………………..……………………..……
-اتنيلي اطلعي قصادي
قالتها “أم بطة” بحنقٍ وهي تدفع ابنتها بقسوة خارج سيارة الأجرة لتتأوه الأخيرة بألم موجع، استمرت في لكزها بقبضتها في ظهرها وكتفيها حتى وصلت بها مدخل البناية، أشفق عليها “عبد الحق” وهو يتذكر كيف كانت تُعامل زوجته بنفس المعاملة الجافة القاسية الخالية من العطف والرحمة، فرك طرف ذقنه قائلاً بصوته الأجش علها تكف عن إيذائها بدنيًا:
-بالراحة يا حماتي
ردت عليه بزمجرةٍ دون أن تفلت ذراع ابنتها من بين أصابعها:
-دي بت عاوزة قطع رقبتها، مش كفاية الجُرس والفضايح اللي عملتها
علق عليها بزفيرٍ منزعج:
-محصلش حاجة لكل ده، أهي رجعت معانا و…
قاطعته بتشنجٍ وقد أظلمت نظراتها:
-سيبني أربي بنتي بالطريقة اللي تعجبني
ثم عادت لتدفع “هالة” بعنفٍ فصرخت الأخيرة من شدة الضربات الموجعة التي لازمتها منذ لحظة خروجها من فيلا “الجندي”، بكت بمرارة وحرقة وهي تصعد الدرجات متحملة كمًا قاسيًا من الإهانات والسباب المخجل، على عكسها كان “منسي” منتشيًا للغاية، غمره إحساسًا كبيرًا بالتشفي وهو يتأمل ضحيته تُهان بتلك الصورة لينكسر كبرياؤها، حك طرف ذقنه معلقًا على ما يراه:
-والله الست “أم بطة” عندها حق
نظر له “عبد الحق” بتأفف وهو يرد:
-خليك محضر خير يا “منسي”
عاتبه بصوته الخشن:
-يعني عاوزنا نسكت على الغلط؟
هتف بتذمرٍ:
-لأ، بس الأمور ماتتحلش كده
ربت “منسي” على كتف “عبد الحق” مضيفًا بتهكمٍ وقد صارت نظراته منذرة بشرٍ مستطير:
-إنت اتغيرت أوي يا “عبده”، مكونتش كده أيام الحاجة الله يرحمها، ما تنشف يا راجل
لكز الأخير يده ليبعده عنه هاتفًا بحنق بعد أن استشعر تلميحًا بالإساءة:
-هو لازم أكون مفتري وظالم عشان أعجب؟
رد نافيًا ومؤكدًا:
-لأ، بس اكسر للبت ضلع يطلعلها أربع وعشرين!
زفر متمتمًا:
-استغفر الله العظيم!
تركه ليلحق بـ “أم بطة” ليمنعها من التمادي في أذية ابنتها في غمرة غضبها الأعمى، كان “منسي” هادئًا للغاية، بل الأجدر أن يُقال مستمتعًا بما يدور، همس لنفسه بعبثيةٍ:
-لأ ولسه، أنا هولعها على الآخر!
……………………..……………………..……….
انزوت أختاها الصغيرتان عند الزاوية وهما تتابعان بخوفٍ مرتعد ما يحدث لـ “هالة” من تطاول باليد وباللفظ كنوع من التأديب العنيف لها، لم تجرؤ إحداهما على التدخل أو الدفاع عنها وحمايتها، فوالدتهما لن تتوقف عما تفعل حتى تهدأ ثورتها، صرخت الأخيرة ببكاءٍ وقد انكفأت على وجهها لتحميه من الضربات المتلاحقة عليه والتي أصابته بالتورم، ثم صرخت تتوسلها علها ترفق بها:
-كفاية بقى
ردت والدتها بقسوةٍ شرسة متوعدة إياها بالمزيد:
-هو إنتي لسه شوفتي حاجة؟
هتفت مدافعة عن نفسها:
-حرام عليكي، أنا معملتش جريمة
وكأنها تحدث نفسها فواصلت تأديبها صائحة بانفعالٍ:
-وليكي عين يا فاجرة، الله أعلم مخبية إيه عليا!
-آآآه
صرخت “هالة” بتلك الكلمة من أعماق قلبها ولم تجد لصرخاتها المستغيثة أي صدى، حاول “عبد الحق” التدخل لإيقافها عندما ولج إلى داخل الصالة ليجدها تكيل من الضربات واللكمات ما لا يتحمله بشر، أمسك بها من ذراعيها يدفعها للخلف وهو يرجوها:
-كفاية يا حماتي
شحذت الأخيرة قواها لتتملص من قبضتيه وهي ترد بغيظٍ:
-ملكش دعوة يا “عبده”، سبني عليها
-مش كده بردك!
لكزته بعنف لتتحرر منه قبل أن تدير رأسها نحوه لتحذره:
-محدش يتدخل في اللي بأعمله فيها، هستنى لما تحط شرفنا في الوحل!
ردت عليها “هالة” من بين بكائها المرير:
-وأنا عملت إيه لكل ده؟
وقف “منسي” عند أعتاب باب المنزل يشاهد بتشفٍ ما يدور، كتف ساعديه وهو يتأمل العذاب الذي تقاسيه “هالة”، بل دار في خلده أن يضاعف من آلامها، لذا أرخى ذراعيه ليضع يده على حزامه الجلدي، استله من بنطاله ثم اقترب من “أم بطة” رافعًا إياه أمام وجهها وهو يقول لها بخبثٍ:
-خدي يا حماتي
برقت عينا الأخيرة بوهجٍ شرير، سحبته من يده لتستدير في اتجاه ابنتها ثم انهالت عليها تضربها في مناطق متفرقة من جسدها ليتضاعف عذابها ويزداد صراخها المستغيث:
-آآآه، كفاية!
استعطفتها إحدى الأختين برجاءٍ آملة أن تكف والدتها عن ضرب أختها الأكبر:
-كفاية يا ماما
أشاحت “أم بطة” بيدها تعنفها:
-امشي يا بت إنتي وهي جوا، مش عاوزة أشوف خلقة واحدة فيكم
لم يتحمل “عبد الحق” المزيد من الظلم الواقع على أخت زوجته، لذا انتزع بقوة الحزام الجلدي من يد حماته وهو يهتف بغضبٍ:
-كفاية بقى
ثم انحنى بجذعه قليلاً ليتمكن من الإمساك بـ “هالة” من ذراعها ليساعدها على النهوض قائلاً لها:
-خشي جوا يا “هالة”
منحها بجسده الفرصة لتهرب من حجيم والدتها، فقد شكل عائقًا منع أمها من الوصول إليها لتتمكن من الاختباء في غرفتها بالداخل، تحول وجه “عبد الحق” للعبوس الشديد وهو يلقي بالحزام في وجه “منسي” ليقول بعدها له:
-مالهاش لازمة وقفتك دي، شوف وراك إيه!
انحنى الأخير للأسفل ليتلقط حزامه الواقع عند قدميه، اعتدل في وقفته مرددًا بفتورٍ:
-وماله يا أبو نسب!
ثم لوح له بيده كنوع من التوديع قبل أن يخرج من المنزل صافقًا الباب خلفه، كورت “أم بطة” يدها قائلة بعتابٍ:
-بقى كده يا “عبده”؟ بتحامي لمقصوفة الرقبة، ده بدل ما تكسر عضمها معايا؟
رد عليها بعقلانية بسيطة:
-عاوزين نفهم الأول هي عملت كده ليه، وبعد كده نبقى نشوف هنكسر رقبة مين!
مصمصت شفتيها قائلة بازدراءٍ:
-بلاش طيبة قلبك دي
بدت تعبيراته أكثر جدية وهو يعلق عليها بخشونةٍ استشعرتها في صوته:
-طيبة قلبي دي يا حماتي هي اللي خلتني أسامح مراتي زمان بعد اللي حصل مع أمي الله يرحمها، وهي اللي خلتني أعوضها عن كل أذية شافتها معايا، مش هنعيده تاني، وأكيد إنتي فهماني يا حماتي!
زفرت قائلة بضيقٍ:
-استغفر الله العظيم!
-اهدي كده يا حماتي، وأهي بنتك في حضنك صاغ سليم، مافيش فيها حاجة!
ضغطت على شفتيها مرددة:
-ماشي يا “عبده”، عشان خاطرك بس
تصنع الابتسام قائلاً:
-تُشكري!
جلس “عبد الحق” معها لبعض الوقت ليتأكد من كونها قد هدأت تمامًا ولن تجتر أي مشكلة مع ابنتها، وما إن اطمئن من خبو انفعالاتها حتى استأذن بالانصراف ليعود إلى زوجته التي كانت تحترق لمعرفة ما صار مع أختها.
……………………..……………………..……………………..
كانت نظراته موزعة بين الطريق وتأمل وجهها المفعم بحيوية مشرقة، لم ينكر سعادته التي لا توصف لكونها قد جابهت خصمًا شرسًا، ضغط “أوس” على بوق السيارة لينبه الحرس المتواجد بالداخل لفتح البوابة الرئيسية، صفها عند المدخل ثم ترجل منها لتلحق به “تقى”، وما إن اقتربت منه حتى أحاطها من خصرها، كان على وشك التعبير عن حبه الشغوف لها حينما ألجمت المفاجأة غير المتوقعة لسانه، حيث أبصر “يامن” جالسًا بتحفزٍ في الحديقة، أرخى ذراعه عن زوجته واقترب منه يرمقه بنظراته الجامدة، وقف الأخير قبالته وقد بدا متوترًا للغاية، باغته “أوس” متسائلاً باستغرابٍ رغم قسوة نبرته:
-بتعمل إيه هنا؟
أجابه بصوتٍ مشحون وهو يزدري ريقه:
-في مصيبة حصلت!
زوى “أوس” ما بين حاجبيه متسائلاً باهتمامٍ:
-مصيبة إيه دي؟
رمشت “تقى” بعينيها وهي تتابع بفضولٍ مهتم ما يوشك “يامن” على البوح به، تحولت تعبيراتها الهادئة للتوتر والخوف حينما سرد ابن عم زوجها ما حدث قبل برهةٍ، كتمت شهقة مفزوعة مما يمكن أن يصير لتلك المسكينة البائسة على يد أهلها، أمسك به “أوس” من تلابيه منقضًا عليه صارخًا به:
-إنت غبي!
دافع “يامن” عن موقفه موضحًا:
-ما إنت اتصلت بيك و….
قاطعه بحدةٍ وانفعالٍ:
-ده مش مبرر
ثم التفت برأسه للخلف ليسلط أنظاره المستشاطة على أفراد حراسته متابعًا بصراخٍ متشنجٍ:
-والحراسة كانت فين؟ وأمن الكومبوند؟ الكل هيتحاسب على تقصيره!!
حاول “يامن” انتزاع قبضة ابن عمه الغاضب عنه ليقول:
-هي مش غلطتهم، أنا…
صاح به مقاطعًا بعصبيةٍ أشد:
-ولا كلمة
كز “أوس” على أسنانه متابعًا بغيظٍ مضاعف:
-إنت مش فاهم ممكن الأغبية دول يعملوا فيها إيه؟!
وضعت “تقى” يدها المرتجفة على ذراع زوجها، ضغطت بأصابعها عليه تتوسله بنبرة شبه باكية:
-“أوس” اتصرف، ماتسيبهاش لوحدها
اختنق صوتها أكثر وهي ترجوه وكأنها تستعيد نفس المشهد الذي مرت به بوقت ليس ببعيد عنها:
-أمها مش سهلة، وهي مش هاتسكت بعد اللي حصل، ده.. ده مش بعيد تقتلها
استدار “أوس” ناحيتها واضعًا قبضتيه المتصلبتين على كتفيها مستشعرًا ما تمر به من معاناة كان هو طرفها الرئيسي، زفر قائلاً بثباتٍ:
-اهدي، أنا هاعرف أتعامل معاهم
بكت باختناقٍ:
-ابعدها عن شرهم، ماتسيبهاش
رد بكلمة واحدة دون أن تطرف عيناه:
-متخافيش
تركها في مكانها وهرول ركضًا في اتجاه سيارته، لحق به “يامن” متسائلاً:
-ناوي على إيه؟
تجاهل الإجابة عليه، فسأله مجددًا بإلحاح:
-رد عليا يا “أوس”، هاتعمل إيه؟
أجابه بعبوس مزعوجٍ وهو ينظر له شزرًا:
-مايخصكش!
زم فمه ليرد بامتعاضٍ:
-حقك تعاملني كده، بس أنا جاي معاك
رفع “أوس” كفه عاليًا ليصيح به بلهجةٍ آمرة:
-خليك هنا، مش عاوزك معايا
رد عليه بإصرارٍ وهو يفتح باب السيارة ليستقل المقعد المجاور له:
-لأ، مش هاسيبك، هي غلطتي من الأول
حدجه بنظرة نارية تحمل مقتًا صريحًا وهو يعلق عليه:
-كويس إنك عارف ده
كظم “يامن” ضيقه الشديد في نفسه مضطرًا ومتحملاً أي توبيخ لاذع فقط من أجل المساعدة في إنقاذ تلك الفتاة من مأساتها.
……………………..……………………..……………..
ألقت بجسدها المستنزف على الفراش وضمتها أختاها الصغيرتان كنوع من المواساة والدعم المعنوي لها، بكت “هالة” بقهرٍ لعجزها عن منع أمثال أشباه ذلك الحقير “منسي” من استغلال رغبة والدتها المُلحة في الحصول على زوج مناسب لابنتها ليطوع الأمور لصالحه بمكرٍ لئيم، وفي نفس الوقت لم يسمح لها بالبوح بتجاوزه الدنيء معها ليرجح كفة الميزان لصالحه، انتفضت من تفكيرها المحتقن على فتح باب الغرفة فجأة لتجد وجه والدتها العابس مسلطًا عليها بنظراتٍ لا تبشر بخير، انكمشت على نفسها وشعرت بارتجافة أختيها أيضًا، طالعتها بنظرات خائفة متوترة مما هو قادم، وضعت “أم بطة” يدها على منتصف خاصرتها لتقول بوعيدٍ غير قابل للشك:
-فكرك أنا هاعدي اللي عملتيه بالساهل، تبقي غلطانة يا عين أمك!
اغرورقت عيناها بالعبرات حتى بدت الرؤية مشوشة، تأهب عقلها حينما هدرت صائحة:
-مش دي الكتب بتاعتك؟
انقبض قلبها بقوة وشعرت به يكاد يُقتلع من ضلوعه خاصة وهي تراها مندفعة نحو مكتبها القديم لتمسك بكتبها الدراسية، انفلتت منها شهقة مذعورة وهي تراها تمزق أول كتاب طالته يدها، أبعدت “هالة” أختيها عنها لتنهض عن الفراش لتتجه نحوها، حاولت منعها من تمزيق أوراق استذكارها وهي تتوسلها ببكاءٍ أشد حرقة عن ذي قبل:
-سيبيهم يا ماما، بلاش دول، عشان خاطري …..
ضربتها “أم بطة” بقسوة في جانبها واستمرت في تمزيق الكتب بغلٍ مفرغة طاقتها الغاضبة فيهم، عجزت أختاها عن الوقوف بجوارها، شاهدتا الموقف في صمت مقهور، انهمرت عبرات “هالة” بغزارة على ضياع آخر بارقة أمل كانت متمسكة بها، انهارت على ركبتيها تلطم صدغيها وهي تمسك بالبقايا الممزقة للأوراق:
-لأ، ليه كده؟
بصقت والدتها عليها مرددة بابتسامة متشفية:
-وريني بقى هتذاكري إزاي
حاولت “هالة” لملمة تلك البقايا لكن انتزعتها والدتها من يدها لتلقي بها من نافذة غرفتها وهي تصيح:
-يالا في داهية
تعالت صرخات ابنتها المتحسرة وزاد عويلها، في حين أضافت أمها بنبرة صارمة وهي تشير بسبابتها نحوها حاسمة أمرها:
-واعملي حسابك يا بنت بطني رجلك مش هاتخطي من هنا إلا على بيت جوزك .. “منسي”!
……………………..……………………..…………….
قــاد بعصبيةٍ ملحوظة سيارته في اتجاه المنطقة التي يحفظها جيدًا عن ظهر قلب متذكرًا وبقوةٍ صراعًا خاضه مع زوجته لإذلالها وتشويه سمعتها قبل أن يُوصم بحبها الأبدي ويتغير جذريًا على يدها، وها هي الكُرة تعاد من جديد مع فتاة كانت تقاربها في العمر، تعاني من نفس الظروف الأسرية والعقليات المتحجرة، راقبه “يامن” بنظراتٍ حذرة دون أن يجرؤ على سؤاله، تأمل الطرق التي لم يعتدها بنظرات جمعت بين الاشمئزاز والحيرة متسائلاً مع نفسه وكأن صوتًا داخليًا انبعث من مكنونات عقله ليقول:
-من أين لابن عمه أن يعرف تلك المناطق النائية؟
استجمع شجاعته ليستدير برأسه نحوه متسائلاً:
-هنعمل إيه؟
ران الصمت ولم يقطعه سوى صوت أبواق السيارات، فهم ببديهيته أنه يرفض الإجابة عليه، التفت ناحيته من جديد حينما سمعه يُحدث أحدهم في هاتفه المحمول ليأمره:
-خليكوا جاهزين لإشارتي!
أدرك “يامن” أنه يملي أوامره على أفراد حراسته ليكونوا على أهبة الاستعداد لاشتباك حتمي، اندفع الأدرينالين المتحفز في عروقه هو الآخر، وجلس بعدم أريحية على مقعده متابعًا حركة السير، أوقف “أوس” السيارة على مدخل المنطقة الشعبية، ترجل منها صافقًا الباب بعنف خلفه، بالطبع أثار حضوره المريب والمصحوب بتلك القوة الظاهرة فضول سكان المنطقة، ومع هذا لم يحاول أحدهم اعتراض طريقه، بل تجمعوا في تكتلات بشرية صغيرة عند الزوايا ليشهدوا ما سيحدث، تبعه “يامن” في فضول حذر وهو يجوب بنظراته تفاصيل ذلك المكان المتدني في كل شيء، تلاشى استغرابه السابق من زواجه بـ “تقى” المختلفة عنه كليًا في أغلب الصفات، ناهيك عن الفوارق الطبقية والاجتماعية، مع حدسه الداخلي بأنها من أهالي ذلك المكان المتواضع بالإضافة لصلة القرابة بينهما وجذوره التي ربما تعود إلى هذا المكان أيضًا بطريقة ما يجهلها، أفاق من شروده السريع على صوته الجهوري المنادي:
-“منـــسي”!
حالة من البلبلة المصحوبة بالهرج والمرج انتشرت في الأجواء مع هتافه باسم ابن منطقتهم، ردد “أوس” هادرًا:
-إنت فين يا ابن الـ …… !!
سبة علنية مسيئة تعمد التلفظ بها ليهز رجولته الزائفة أمام أهله وأصدقائه فيستفز حميته الذكورية ليهب مدافعًا عن كرامته المُهانة ويستردها، وبالفعل حدث ما توقعه، لمحه “أوس” يقف عند ذلك المقهى ووجه مشتعلاً بحمرة نارية، أدرك “منسي” أن المواجهة ليست في صالحه، ومع ذلك سيفتعل الكثير ويختلق الأكاذيب ليشوه الحقائق ويرتدي قناع البراءة، لوح بذراعه في الهواء مرددًا بوقاحة جريئة:
-شاهدين يا أهل الحتة، جوز الست جاي يفرد عضلاته هنا عليا، ملقاش إلا “منسي” الغلبان عشان يعمل عليه نمرة قصادكم ويكسب بونط قصادكم
رد عليه “أوس” بقوة بعد أن استثارت أعصابه من كلماته المتطاولة:
-إنت لسه مشوفتش مني حاجة يا ……!
هدر به الأخير بتشنجٍ وهو يسحب مقعدًا خشبيًا ليقذفه في وجهه:
-عندك، مش “منسي” اللي يتشتم زي النسوان، ويسكت عن حقه
تفادى “أوس” المقعد بإمالة رأسه للجانب ليندلع بذلك التلاحم الجسدي بينهما، افترشت حراسته المكان لتمنع أهالي المنطقة من التدخل، بينما وقف “يامن” حائرًا يتابع هو الآخر اشتباكهما بترددٍ مزعوج، فقد كان يود المشاركة لكن حال دون حدوث ذلك هيمنة ابن عمه الواضحة والتي يعجز أب فرد عادي على مجابهتها، أفسح رواد المقهي الطريق لـ “منسي” ليندفع في اتجاه غريمه، سدد لكمة مشحونة بغضبٍ كبير في وجه “أوس” الذي أحنى رأسه للجهة المعاكسة لتقابل قبضته الهواء، ثم بمهارة احترافية لكزه بقبضة أشد عنفًا أسفل فكه ليطرحه أرضًا، ولكون “منسي” على دراية واسعة بقدراتٍ خصمه فلجأ للادعاء كذبًا:
-اضربني عشان تداري على الفضيحة، بس أنا مش هاسكت، وخلي الكل يعرف وساختك
وكأنه انتزع فتيل قنبلة غضبته الهوجاء فانفجر فيه “أوس” مسددًا اللكمات والضربات القاسية والفتاكة وسط ذهول وصدمة الجميع، جثا فوقه ليشل حركته تمامًا مستغلاً قوته الجسمانية في إفراغ ما استثير بداخله من مشاعر مهتاجة ثائرة متمتمًا بتوعدٍ من بين أسنانه المضغوطة بشراسةٍ:
-هادفنك هنا
صرخ “منسي” بأقصى ما يستطيع متعمدًا جذب الأعين كلها إليه رغم الألم المبرح الذي عصف به:
-اشهدوا يا ناس، ابن الأكابر جاي يعيد تاني اللي عمله زمان مع بنت “فردوس”، بس المرادي مع البت “هالة” اللي خطبتها من أمها
صاح “يامن” بغتة من الخلف:
-إنت كداب، ده محصلش!
علق عليه “منسي” بسخريةٍ:
-دافع عنه ياخويا، ما هو واخد بنات الحتة ونسوانها مقاولة، واللي يعترض يتهجم عليه!
أخرسه “أوس” بضربة مؤلمة أطاحت بفكه وجعلت الدماء تتدفق من فتحات وجهه، ثم هدر بعدها:
-هتدفع تمن ده!
……………………..……………………...
على الجانب الآخر، لطمت “أم بطة” على وجنتيها بقوة وهي تولول، فتلك الفضيحة القاصمة للأظهر قضت بلا شك على سمعة ابنتها وأعادت على مسامع الجميع نفس الذكرى المشؤومة التي لحقت بـ “تقى” وعائلتها، انسحبت سريعًا من الشرفة لتهرول إلى غرفة “هالة”، اقتحمتها دون انتظارٍ لتصرخ بها:
-عاجبك الفضايح دي يا بنت …….!
هبت واقفة من على الفراش لتنظر لها بخوفٍ وهي تكابد لإثبات براءتها:
-والله ما عملت حاجة
لطمت والدتها على صدرها وهي تضيف بحسرةٍ:
-ومين هيصدق دلوقتي؟
تشجعت “هالة” لتقف قبالتها، وضعت يدها على ذراع أمها قائلة بصوتٍ مختنق:
-اقسملك يا ماما إني مظلومة والجبان ده بيفتري عليا!
بدت “أم بطة” شاردة في عالم آخر، زاغت نظراتها وتوترت ملامحها للغاية، هتفت بحيرةٍ واضحة:
-هاعمل إيه بس؟ أل وأنا اللي كنت بأتريق على “فردوس” وبنتها، معدش حد أحسن من حد
أدركت “هالة” أن والدتها لم تصغِ إلى كلمة واحدة مما قالته، فضغطت بأصابعها على ذراعها وهي تهزها قائلة بتأكيد:
-والله أنا زي الفل ومافيش حاجة تعيبني!
هنا تجمدت نظرات أمها عليها لتقول بصرامة وقد بدت مبهوتة التعابير:
-احنا مالناش قعاد هنا بعد اللي حصل
-بتقولي إيه؟
انفجرت فيها لتمسك بكومة من شعرها المبعثر تجذبها منه بشراسة وهي تلومها بقسوةٍ:
-منك لله يا شيخة، هاجوزك إنتي ولا إخواتك إزاي بعد الجُرس دي؟
لم تنجح “هالة” في الإفلات من قبضتها المحكمة على شعرها، بل وما زاد الطين بلة صفعاتها المتتالية على وجهها لتضاعف من ألمها وهي لم تشفَ بعد من تورمات وجهها السابقة، صرخت “أم بطة” بجنونٍ:
-إنتي السبب في البهدلة اللي هتجرلنا هنا في الحتة، ده بقليله إن ما طردونا الناس وكسروا ورانا قلل!
شهقت ابنتها تتوسلها:
-آآآه، شعري، كفاية بقى، أنا ماليش ذنب
أرخت والدتها قبضتها عن خصلاتها لتنهال بالضرب على ظهرها حتى أسقطتها أرضًا عند قدميها، ركلتها في أسفل معدتها ثم تركتها متكومة على نفسها لتخرج من الغرفة وهي تنوح بقلة حيلة:
-هاعمل إيه يا ربي في النصايب اللي نازلة على راسي دي ……………………..…. ؟!
……………………..……………………..……………..
يتبع

 

error: