رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل الثامن

استقلت سيارتها وقادتها بدون وجهة محددة، تشوشت أفكارها وتداخلت معًا فلم تعرف كيفية التصرف حيال تلك المسألة الحرجة، ارتعشت قبضتا “ليان” وهي تدير عجلة المقود فتوقفت عن القيادة لتبكي بصورة هيسترية، لا تدري لماذا أصابتها تلك الحالة المذعورة الممتزجة بالخوف والتوتر من المستقبل، فغيرها كان سيطير فرحًا ويرقص طربًا لمجرد تلقي تلك الأخبار السارة، على عكسها التي شعرت بأن الدنيا أظلمت من حولها وتخبط كل شيء في لحظة، عجزت عن مواصلة القيادة أو حتى معرفة وجهتها، فما كان منها إلا أن أخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها.
نظرت له بشرود من بين عبراتها، مسحتهم بظهر كفها وحدقت في قائمة الأسماء، ترددت في مهاتفة “عدي”، كانت متوترة بشأن ردة فعله، خشيت من أن تكون صادمة فربما يظن بها الظنون، ويربط المسألة باحتمالية خيانتها له، فقد كانت على علم تام بعجزه لكنها لم تدرِ إن كان قد شفي منه أم لا، كذلك لم ترغب في إزعاج والدتها أو إقلاقها في تلك الساعة المتأخرة، لن تسبب لها المشاكل فعزفت عن اللجوء إليها، وبالطبع خيار الاتصال بـ “تقى” لن يكون جيدًا، فالأخيرة ستحول الأمر إلى ما يشبه حالة من الفوضى وتخبر الجميع، خاصة “أوس” لذا عادت إلى الاختيار الأول مضطرة، ألا وهو مهاتفة زوجها، فبالنسبة لها هو الأقرب لها منذ أن اجتهدا لإعادة بناء جسر الثقة بينهما، لن تصارحه حاليًا بما عرفته، لكنها بحاجة إلى وجوده بجواره، وبأنامل مرتجفة ضغطت على زر الاتصال به، ثم وضعت الهاتف على أذنها مترقبة رده، وما إن أتاها صوته المتفائل حتى همست له بنحيبٍ:
-“عدي”
توجس خيفة من صوتها الذي أثار فيه الخوف، وسألها بجدية رغم خفوت نبرته:
-في إيه يا “ليوو”؟ حصل حاجة؟
أجابته بنبرة متقطعة:
-أنا واقفة في الشارع، ومش عارفة أسوق
سألها بتخوفٍ ظهر في صوته:
-إنتي عملتي حادثة؟
تنفست بعمقٍ قبل أن ترد نافية:
-لأ
سألها من جديد باهتمام أكبر:
-أومال في إيه؟
أجابته من بين بكائها غير المفهوم بالنسبة له:
-أنا تعبانة
سألها بجديةٍ:
-إنتي فين دلوقتي؟
تلفتت حولها محاولة تبين وجهتها، شعرت بأن ما يحفظه عقلها من معالم الطرق والأماكن قد تم محوه، ردت بحيرةٍ:
-مش عارفة
تريث “عدي” في التعامل معها بعقلانية كي يتمكن من الوصول إليها فأردف قائلاً:
-طب اهدي وافتحي جوجل maps، وابعتي منه اللوكيشن بتاعك على الواتساب وأنا جايلك على طول
ردت عليه باقتضاب:
-اوكي
تابع محذرًا بلهجة جادة:
-واقفلي اللوك بتاع العربية عليكي، ماشي؟
علقت بانصياعٍ:
-حاضر
أكمل محاولاً بث إحساس الأمان لها:
-وأنا هافضل معاكي على الخط، أوكي يا “ليوو”؟!
هزت رأسها بإيماءة خانعة معقبة عليه:
-أوكي
استمعت إلى صوته وهو يعتذر لأخيها طالبًا الانصراف من الاجتماع الذي يحضره، لم يناقشه “أوس”، وتركه يفعل ما يحلو له، أعادت “ليان” رأسها للوراء لتستند على مؤخرة مقعدها، وأغمضت عينيها لتبكي في صمتٍ بدون أي مبرر منطقي يفسر حالتها تلك.
……………………..……………………..……………….
تبرجت بالثمين من مساحيق التجميل قاصدة أن تكون في أبهى صورها الليلة، فمنذ لقائها الأخير بابن عمها قبل أن تسافر إلى الخارج وتتزوج بـ “أكرم” تعمدت ترك ما حفر في ذاكرته وذاكرتها، وأرادت الليلة أن تتأكد من كونها تحظى بنفس التأثير الخطير عليه، ذاك الذي يعريه أمامها ويجعله مقروء الأفكار، عقدت “رغد” خصلات شعرها معًا ليصير كذيل الحصان بعد أن شدته للخلف ليبدو ثابتًا وصارمًا في نفس الآن، ثم لفت حول عنقها قلادة حملت زمردة لامعة محفوظة على شكل قلب أسود، ارتدت ثوبها البنفسجي وجذبت أطرافه لتلامس مسافة تقارب شبرًا من ركبتيها، تغنجت بجسدها وهي تسير بخيلاء عبر البهو المكسو بالسجاد الفاخر جاذبة أنظار الرجال المتواجدين بالفندق الشهير، تعمدت أن تكون خطواتها متهادية وثابتة، صوت حذائها يفرقع بقوة ليجبر السائر بجوارها على الالتفات نحوها، كانت وجهتها معروفة ومحددة، الالتقاء بـ “أوس” دون إشعار مسبق في لحظة مباغتة تشله عن التفكير الصائب، لم تجد صعوبة في الوصول إليه، فكونها ابنة عمه يسر لها الحصول على عنوان اجتماعه من موظف الاستقبال بمؤسسته، أكملت سيرها المتباهي حتى ولجت إلى داخل المطعم، ألقت نظرة متأنية على كل ركن فيه لتحدد مكانه، التوت شفتاها بابتسامة لئيمة وقد التقطته من على بعد، همست لنفسها قائلة:
-وأخيرًا هنتقابل!
في تلك الأثناء كان “أوس” قد انتهى من الإطلاع على بنود الاتفاقية الجديدة التي هو بصددها، مرر الأوراق لمحاميه المخضرم الذي طمأنه بصحة ما جاء في العقود وعدم وجود شروط ملتوية أو أمور مقلقة غير شرعية تضعه تحت طائلة القانون، أومأ “أوس” برأسه ثم جاب بنظراته الوكلاء الجالسين حول الطاولة قائلاً لهم بجدية تامة:
-كل حاجة واضحة قصادكم
رد عليه أحدهم مبتسمًا بلكنة عربية متكسرة:
-نتمنى أن تكون بداية موفقة لنا، سعداء بالتعامل معك “أوس” بك
رد عليه باقتضاب:
-شكرًا
تولى المحامي تمرير الأوراق على طرفي التعاقد ليوقع كلاهما في الجزئية المخصصة لذلك، وما إن انتهى الاثنان حتى جمع العقود وهنأ الجميع قائلاً:
-ألف مبروك، شراكة ناجحة إن شاء الله
ثم أشار لرئيس طاقم الندل بالمطعم بالقدوم إلى طاولة رب عمله ليأمر الأخير تابعيه بِرص أطباق الطعام المعدة خصيصًا للضيوف في سرعة وخفة دون السماح بوجود أي خطأ قبل أن يتراجع للخلف متمنيًا لهم شهية طيبة، راقب “أوس” ردة فعل من حوله وهم يتناولون الطعام بنظرات عادية فاترة، قطع تحديقه بهم جلوس إحداهن بغتة على طرف المائدة بجواره هو تحديدًا، تجهمت ملامحه على الفور وقست نظراته من ذلك التجاوز غير المسموح به، رفع رأسه للأعلى ليطالع تلك الوقحة بنظرات مغلولة فتفاجأ بكونها “رغد” ذات الابتسامة الماكرة والوجه اللئيم، قل غضبه وامتزج مع دهشته التي كانت واضحة في نظراته نحوها، همست له الأخيرة بدلالٍ وهي تهز ساقها المتدلية من على الطاولة بحركة ثابتة:
-مفاجأة، صح يا “أوس”؟
طالعها بنظرات جمعت بين التهكم والاستخفاف ثم رد عليها بجمود متعمدًا الحفاظ على ثبات تعابيره المتصلبة:
-كنت متوقع ده يحصل، بس مجاش في بالي إنه يكون بالشكل ده
مالت بجسدها نحوه قاصدة إظهار مفاتنها الأنثوية بصورة مغرية لتعبث بمشاعره الذكورية وتُحدث فيه شيء ما، همست قائلة عن ثقة:
-إنت عارفني، دايمًا أحب أفاجئك
وكأنها سلعة رخيصة بالنسبة له، رمقها “أوس” بنظرة مزدرية مستنكرًا أسلوبها الرديء والمستهلك في جذب أنظاره إليها، بالطبع تجاهل نظرات الفضول التي اعترت أوجه المحيطين به ليعلق عليها بسخطٍ:
-متعود منك على كده، بس مش كبرتي على الحركات دي؟!
استشاط وجهها حنقًا من إهانته الصريحة لها، استقامت “رغد” واقفة على قدميها لتحدجه بنظرة مغتاظة منه، ومع ذلك وضعت يدها على كتفه لتداعب أذنه بإصبعيها، نهض “أوس” واقفًا من مكانه ودافعًا مقعده للخلف، سحبت “رغد” يدها ونظرت له بتحدٍ سافر، أدار رأسه نحو محاميه ليأمره محاميه بجدية:
-خليك مع الوكلاء
رد الأخير صاغرًا لأوامره:
-تمام معاليك
قبض “أوس” على رسغ “رغد” وجذبها خلفه ليبعدها عن أعين الجميع رغم يقينه بملاحقتهما بنظراتهم الفضولية المستطلعة، انزوى بها في ركنٍ شبه خالٍ من رواد المطعم ثم أرخى أصابعه عن معصمها، تركزت حدقتاه على وجهها المتوهج، ومع ذلك ادعت البرود لتضيف بنصف ابتسامة وهي تفرك جلدها المتألم:
-لسه زي ما إنت!
رد بلهجة خالية من العطف:
-غلطانة يا “رغد”
كركرت ضاحكة قبل أن تضيف بمكرٍ عابث:
-معقول؟ ده أنا أكتر واحدة فهماك صح يا “أوس”!
تجمدت نظراته على عينيها الشرستين، كان يدرك أن قدومها اليوم مصحوبًا بالكثير من لعنات الماضي، لن يسلم من خبثها، فقد ذاق منها القليل، شرد بعقله لسنوات فاتت وانقضت تضمنت في جعبتها أطماعًا غير محدودة ومقايضات كبيرة عن زلات لسانه في لحظة كان مغيبًا فيها عن وعيه حينما أسرف في الشرب، وكان يهذي بجزءٍ من جموحه الطائش ونزواته الماجنة مع العابثات وفتيات الليل وما أرتكبه في حقهن من أفعال تقترب للسادية والعنف، تصيدت ببراعة تلك الأخطاء وساومته عليها لتصمت، حتى أنها عرض عليه الزواج بوقاحة وجرأة تتنافى مع كونها أنثى كنوع من المقايضة والضغط عليه ليرضخ لها، ومع ذلك لم يبالِ بما يمكن أن تفعله، وقبل أن يمنحها جوابه النهائي بالرفض وربما الانتقام العدواني الشرس رحلت ليعلم لاحقًا بزواجها بالخارج، انتزعته من شروده السريع بتلمسها لكف يده، انخفضت نظراته على أناملها التي تفحصت أصابعه بدقة، قطبت “رغد” جبينها بقوة وهي ترى بوضوح ذلك الخاتم الذي يزين إصبعه، علقت عليه قائلة بسخرية ملحوظة:
-مش معقول تكون اتجوزت؟
انتشل يده من بين أناملها بضيق متراجعًا خطوة عنها ليرد بقسوة تعكس شراسة مهددة:
-شيء ميخصكيش
وكأن في ابتعاده الفرصة للضغط عليه من جديد، اقتربت منه قاصدة تقليص المسافات، مالت عليه برأسها وهي تشب بقدمها قليلاً لتصل إلى أذنه هامسة له:
-ويا ترى المدام كانت عارفة إنت بتعمل إيه زمان؟
دفعها من كتفها بخشونةٍ معلقًا عليها:
-ملكيش فيه!
غمزت له مضيفة بنبرة ذات مغزى وبنظرات موحية:
-يا حرام، شكلك مطلع عينها، ما أنا عارفة مزاجك بيجي على حاجات معينة، مش بالساهل أي واحدة ترضيك!
رمقها بنظرة احتقارية قبل أن يرد بصلابةٍ متجاهلاً ما تحاول عن عمدٍ الإشارة إليه:
-أنا اتغيرت
وضعت “رغد” سبابتها على شفتها تداعبها بحركة عابثة قاصدة جذب حدقتيه نحو فكها ثم استرسلت قائلة بتهديد خفي:
-ماتخافش يا “أوس”، سرك في بير، لو كنت عاوزة أتكلم كنت عملت ده من زمان، بس أنا مش كده!
وبجرأة متجاوزة وضعت يدها على كتفه، ودنت منه أكثر فباتت المسافات شبه معدومة ليشعر بأنفاسها تلاطم وجهه وهي تقول:
-وبعدين قولي هي المدام بتعرف تسد زيهم ولا إنت بتقضيها من حتة تانية؟
تخطت حدودها بكلماتها المستفزة والمسيئة إلى زوجته، ليس لكونها فقط قد عانت معه من فرط جموحه العنيف وشراسته المخيفة، ولكن أيضًا لأنها ذكرته بما عاهد نفسه على نسيانه من انحرافات غير سوية لتذبذب ما وصل إليه في مراحل علاجه المتقدمة، أشعلت بمهارة جذوة غضبه الكامنة بداخله واستثارت ما يحاول التخلص منه من مكنونات اعتاد عليها قديمًا ولفترات طويلة، قبض “أوس” على يدها التي تتلمسه بوقاحةٍ ثم ضغط على أناملها بقسوة قاصدًا إيلامها، نظر مباشرة في حدقتيها هاتفًا من بين أسنانه:
-“رغد”
تأوهت بأنين موجوع من عنفه، ثم ردت عليه بتحدٍ مستفزٍ له:
-مش هاتعرف تلف وتدور، إنت دماغك مريضة
زاد من ضغطه على يدها لتزداد حدة الآلام، عضت على شفتها بقوة وهي تهمس بوجعٍ:
-آآه
هددها بنبرة صارمة وقد أظلمت نظراته وانعكس في مقلتيه وهجًا يُجسد شبح الماضي الملبك للأبدان:
-كلمة زيادة وهامحي كلمة قرايب من قاموسي
حاولت سحب يدها من قبضته التي تعتصرها وهي تتمتم بعدم اكتراث متعمدة فضحه أمام نفسه:
-وإيه الجديد؟ ما طول عمرك عنيف، أو نقول الكلمة المناسبة سادي، تموت في اللي تعدل مزاجك على طريقتك إنت وبس، ومع كده كنت عاجبني بكل اللي فيك!
أيقن أنها تحاول استثارة أعصابه واستنزاف عقلانيته لتعيده لنقطة الصفر حيث يتهاوى كل شيء وتتبقى فقط الأفعال العنيفة المتهورة لتكون لها الكلمة الأخيرة، أضافت متسائلة بلؤمٍ زائد:
-تنكر إنك مش بتحن لليلة من الأيام دي؟ قولي، أنا سمعاك وجاهزة آ……
قطمت باقي جملتها لتترك الفرصة لخياله للعبث بقوة في أفكار ربما يستلذها، ثم تلمست بأناملها جانب عنقه لتصيبه بنفور رهيب منها، قاوم ما اعتراه من غليان يندلع في عروقه المستشاطة هادرًا بها:
-إنتي واعية لكلامك؟ ده حتى عيب على واحدة متجوزة زيك؟
لم يحرك فيها شعرة بإهانته المتعمدة، بل بدت أكثر برودًا، بشخص يناطحه الند بالند وهي ترد مبتسمة:
-“أوس” أنا مش بتاعة حب ومشاعر، والجواز بالنسبالي واجهة اجتماعية بأكمل بيها الصورة، وبعدين للدرجادي نسيت اعترافاتك ليا؟ ده في حاجات حصلت محدش يتخيلها تطلع منك إنت!
أراد أن ينهي معها حديثها المحفز لرواسب الماضي والمهيج لأمور غير محببة بداخله، صاح بها غير مبالٍ بأنظار المحدقين به ومشيرًا بسبابته:
-إنتي عاوزة إيه؟ وماتكرريش كلام أخوكي!
مطت فمها قليلاً قبل أن تجيبه بتنهيدة بطيئة:
-“يامن”، ده مغفل، عرفت تصطاده، أنا غيره يا “أوس”
هتف بها بنفاذ صبر:
-هاتي أخرك
علقت بكلمة واحدة:
-حقي
رد عليها بنظرات قاتمة ولهجة غير مشكوكٍ في قوتها:
-خديه لو كان ليكي عندي حاجة
تحدته بابتسامة واثقة:
-هاخده، وهاتشوف، بس حبيت أحذرك، لأن رجعتي مش بالساهل!
تحرك بؤبؤاه بحركة عصبية عقب جملتها تلك، تبلد شعوره وهي تحني رأسها على وجهه لتقبله في صدغه، اتسعت ابتسامتها المصحوبة بشرٍ علني لتبتعد عنه وهي تتأمل أثر أحمر الشفاه على ملامحه، لوحت له بإصبعيها تودعه:
-باي يا “أوس”!
كور الأخير قبضة يده ضاغطًا بتشنج على أصابعه فلم يشعر بأظافره وهي تخترق جلده وتجرحه، توترت أنفاسه واختنق صدره غضبًا، وتدفقت الدماء بقوة في عروقه المغذية لخلاياه، اختفت التعابير الهادئة المرتخية ليحل بديلاً عنهم الإظلام والقسوة، التفت برأسه للجانب ليحدق في طيف أثرها الذي اختفى بعد أن عاثت فيه الفوضى، أخرج منديله القطني من جيب سترته العلوي ليمسح آثار أحمر الشفاه من على صدغه، طواه وأعاده في جيبه، ثم عاد إلى مقعده وقد اختلف حاله كليًا عما كان عليه منذ بضعة دقائق لينظر بفراغٍ وتبلدٍ إلى من حوله دون أن ينبس بكلمةٍ حتى قارب اجتماعه على الانتهاء، قطع صمته المنذر بشرٍ قائلاً بجدية موجهًا حديثه لمحاميه:
-اتأكد بعد ما يخلصوا إنهم رجعوا الفندق ومافيش حاجة ناقصة
-حاضر يا باشا
هب “أوس” ناهضًا من جلسته غير المريحة مودعًا ضيوفه بكلمات مقتضبة لينصرف بعدها ووجهه يعلن عن قسوة وشيكة.
……………………..……………………..……………………..
لم يجد صعوبة في العثور عليها أو حتى رؤية سيارتها المصفوفة على جانب الطريق، أوقف “عدي” سيارته أمامها ثم ترجل منها مهرولاً ليتجه إلى “ليان” التي كانت شبه غافلة على مقعدها والدمعات تبلل وجنتيها، دق على الزجاج الملاصق لها فانتفضت مذعورة، نظرت له بعينين شاخصتين، طمأنها مرددًا:
-متخافيش يا حبيبتي، ده أنا
تنفست بعمق لتعيد حالة الهدوء الانفعالي إلى نفسها المرهقة، فتحت الباب فنظر لها بإمعان وهو يسألها:
-إنتي كويسة؟
هزت رأسها بالنفي وقد عادت لنوبة بكائها:
-لأ
احتضن وجهها الحزين بين كفيه متابعًا بهدوء حتى يستشف منها ما الذي أصابها:
-طب اهدي، احنا هنرجع البيت
تهدجت أنفاسها وهي تبذل جهدًا للتحكم في بكائها، حاوطها “عدي” من خصرها ليدفعها قائلاً:
-تعالي يا “ليوو”، مافيش حاجة تقلق
أومأت برأسها في خنوع، ثم سألته بنحيبٍ:
-والعربية؟
أجابها بجدية وهو يغلق سيارتها بالقفل الالكتروني:
-متقلقيش، هابعت حد يجيبها، اطلعي عربيتي
-أوكي
فتح لها باب المقعد الأمامي في سيارته ثم أجلسها عليه وانتظر قبالتها للحظات حتى هدأت تمامًا، تابع متسائلاً باهتمامٍ وهو يمرر نظراته على كل تفصيلة من وجهها الباكي:
-عاملة إيه دلوقتي؟
أجابته بنبرة مختنقة:
-يعني!
حاول تصنع الابتسام رغم كون بسمته باهتة ليقول مبررًا:
-أكيد كل ده من ضغط المذاكرة، أنا عارف إنه وقت صعب والامتحانات قربت، هانت يا “ليوو”
نظرت له بعينين تحبسان العبرات فيهما، للحظة كاد لسانها ينفلت وتبوح له بما يوترها هكذا، ضغطت على شفتيها كي تمنع الكلمات من الخروج من جوفها، مــد يده ليتلمس جانب عنقها مضيفًا بنبرة مرحة آملاً أن يخفف ما تمر به:
-الواحد نسى الحاجات دي، بس اطمني أنا معاكي في أي حاجة، شوفي إيه المطلوب وأنا جاهز أذاكرلك على أدي يعني، بس مش مسئول عن النتيجة
تقوست شفتاها عن ابتسامة مجاملة وهي ترد:
-أوكي
……………………..……………………..……..
فركت أحد عيدان الثقاب في علبته الورقية بحركة ثابتة لتشعله ثم أضاءت به الشموع الحمراء التي زينت طرفي طاولة الطعام، نظرت “تقى” إلى ذلك العشاء الرومانسي الذي أعدته بصحبة “عفاف” بانبهارٍ، استأذنت الأخيرة بالانصراف مبكرًا، وكذلك سمحت لـ “ماريا” بالعودة إلى أسرتها لتظل هي مع زوجها وتمضي أمسية لا تنسى وبصحبتهما الرضيعة “حياة”، تأملت الأطباق وطريقة رصها بابتسامة رقيقة، تراقص وهج الشموع في انعكاس حدقتيها الزرقاوتين، حركت بصرها لتحدق في ساعة الحائط، بات الوقت مقاربًا لميعاد عودته مثلما أخبرها قبل أن يذهب إلى اجتماعه.
تنهدت بحرارة والتفتت لتحدق في المرآة العريضة التي تعتلي أحد الجدران، أبدت إعجابًا ملحوظًا بثوبها الحريري الأسود الطويل ذي الأكمام الواسعة وفتحة الصدر المثلثة الذي أظهرها بشكلٍ مغرٍ ومثير، توردت وجنتاها لمجرد التفكير في انطباع “أوس” حينما يرى ذلك، وضعت يدها على قلبها لتتحسس دقاته المتقاذفة، فزعت في وقفتها حينما سمعت صوت الباب يُفتح، ما لبثت أن هدأت حينما رأت زوجها قبالتها، توقعت استقبالاً حارًا وربما حميميًا يعكس شغفه لرؤيتها هكذا، لكن على عكس ما ظنت بدا “أوس” واجمًا، نظراته مختلفة عن ذي قبل، اعتقدت بوجود خطب ما أفسد العمل فسألته بتلهف:
-إيه الأخبار؟ الاجتماع كان كويس و…
قاطعها مرددًا بعد بزفيرٍ طويل ممل:
-تمام، متشغليش بالك
وضعت يدها على ذراعه وقد تعلقت عيناها بوجهه الباهت متسائلة بقلقٍ:
-فيك حاجة؟
أجابها نافيًا وهو يتحرك للأمام:
-لأ
تأبطت “تقى” ذراعه بالإجبار لتسير بتمهلٍ متابعة بنعومة رقيقة:
-طب تعالى معايا، أنا عملالك مفاجأة
رفع “أوس” حاجبه للأعلى مبديًا استغرابه من جملتها الأخيرة، لم يكن ذهنه صافيًا ليخمن طبيعة تلك المفاجأة، قادته إلى حيث الطاولة المجهزة خصيصًا من أجله، راقبت بنظرات مشرقة ووجهٍ متوهج ردة فعله وهي تسأله:
-ها إيه رأيك؟
تركزت أنظاره على الطاولة، صمت لبعض الوقت قبل أن يجيب باقتضابٍ وبنبرة شبه ميتة:
-حلوة
اندهشت من ردته التي خالفت من جديد توقعاتها بشأن ليلة حماسية مليئة بالأجواء الرومانسية، عللت تصرفه البارد قائلة:
-شكل الناس اللي قابلتوهم تعبوك في الاجتماع
لم يعلق عليها واكتفى بسحب مقعده ليجلس عليه، أمسك بالشوكة والسكين وبدأ في تناول الطعام بهدوءٍ مريب، أنبئها حدسها بوجود ما يشغل تفكيره، ما يجعله في عالم آخر بعيدًا عنها حتى بقربه منها، بدت خجلة قليلاً وهي تلمح له بارتباكٍ:
-أنا طلبت من “عفاف” و”ماريا” يمشوا بدري، يعني فرصة يقعدوا مع عيلتهم وتكون احنا كمان على راحتنا
رمشت بعينيها متوقعة تعليقًا إيجابيًا منه، كان وجهه فاترًا، بمعنى أدق جامدًا يخلو من أي تأثر، وكأن ما أشارت إليه لم يثر فيه الرغبة أو حتى الاهتمام، نادته بجديةٍ لتجذب انتباهه:
-“أوس”
التفت نحوها متسائلاً:
-بتقولي حاجة يا “تقى”؟
أجابته بعتابٍ رقيق:
-إنت مش معايا خالص، لو المفاجأة مش عجباك قولي، أنا كان قصدي نـ ……
قاطعها بابتسامة متكلفة وهو يمد يده ليضعها على كفها المسنود على الطاولة:
-لا يا حبيبتي، أنا بس مرهق شوية
هزت رأسها متفهمة قبل أن ترد بابتسامتها الصافية:
-ولا يهمك
انخفضت نظراتها للأسفل لتتجمد على تلك البقعة الحمراء التي برزت في منديله القماشي، أمعنت النظر فيها بدقة لتنتابها هواجسًا مخيفة بشأن ماهيتها، لم يكن حدس المرأة ليخيب أبدًا في تفسيره لتلك الأمور؛ إنها بقايا لطخة حُمرة الشفاه، شحب وجهها فجأة، واختفت بسمتها لتصبح ملامحها مزعوجة متوترة، اتسعت حدقتاها بذهولٍ مصدوم، بل إنها شعرت بألم قوي، بضربة قاصمة تصيب قلبها في مقتل، وقبل أن تدع أفكارها المرعبة تسيطر عليها رفعت عيناها المحتدتين لتنظر إلى وجه “أوس”، تشنجت قبضتها أسفل يده وهي تسأله بنبرة أقرب للاستجواب:
-إيه ده ……………………..……………… ؟!
……………………..……………………..…………

يتبع

error: