رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل الثامن عشر
أسندت كأسها بجوارها بعد تفكير عميق لا تعرف إلى متى استمر، لكن هدوء الأجواء من حولها ساعدها كثيرًا على التفكير بذهنٍ صافٍ وترتيب أفكارها، تقوس فمها ببسمة مخيفة تُنبئ عن شر لاحق، خاصة أن ما يردها من معلومات جراء مراقبتها الحثيثة لـ “أوس” قد أتت بثمارها، مدت يدها لتلتقط هاتفها المحمول الذي تركته بإهمالٍ على الأرضية الصلبة، عبثت “رغد” بالأرقام المسجلة عليه حتى وصلت إلى الرقم الخاص بمحامي والدها، هاتفته لتبلغه بما هداها إليه تفكيرها الشيطاني، كذلك أضاء عقلها بفكرة متهورة ستحول حياة فرد آخر من عائلة “الجندي” لجحيم مستعر، حركت شفتيها لتنطق بكلمة مقتضبة:
-“ليــان”
صمتت بعدها وقد أظلمت عيناها على الأخير لتضيف بتمهلٍ مُرعب:
-عاوزة حد يراقبها ويتأكد من معلومة إنها حامل، ده هيخدمنا في اللي جاي!
لم تكن تستشري المحامي بل كانت تخبره بكلمات ملتوية بما ترغب في تنفيذه مستقبلاً، اتسعت ابتسامتها الشيطانية قبل أن تكمل بجدية:
-وعاوزة رقم مرات “أوس” يكون عندي النهاردة!
أملت عليه أوامرها بدقة ثم أنهت معه المكالمة شاعرة بانتشاء عجيب، لفت هاتفها بين أصابعها محدثة نفسها بثقة تامة:
-كده اللعب بقى على المكشوف، وهانشوف مين هايكسب في الآخر
أطلقت ضحكة شيطانية جلجل صداها في أركان الحمام، ألقت بهاتفها من جديد ثم سحبت نفسًا عميقًا حبسته في صدرها لتنخفض بعدها بجسدها للأسفل ليغمره الماء بالكامل مستكملة استجمامها بداخل المغطس.
……………………..……………………..
تمنت لو كان وهمًا أو حتى كابوسًا مزعجًا سينتهي بإفاقتها، لكن مع عودتها لوعيها على إثر تلك الرائحة النفاذة التي أزعجت أنفها تأكدت أنها لم تكن تتوهم رؤيته أو حتى ما شعرت به، هو متواجدٌ بجوارها يرمقها بابتسامته التي تبغضها، ونظراته اللئيمة تؤكد لها أنه تجرأ على اقتحام خصوصيتها باستباحة ما ليس له حتى وإن كانت في ضلالاتها إلا أن ذلك الشعور المقيت نحوه لم يفارقها، حاولت “هالة” الاعتدال من رقدتها على الأريكة وهي توزع نظراتها بينه وبين والدتها التي تنفست الصعداء لإفاقتها، هتفت الأخيرة بامتنان غير مبرر:
-والله ما كنت هاعرف حاجة من غيرك يا سي “منسي”
رد عليها بتفاخرٍ لم يخفه:
-أنا قولتلك من الأول، أنا بأفهم في الحاجات دي
ربتت على كتفه تشجعه:
-تعيش يا سيد الناس
بدا صوته كالضجيج الذي يزيد من ألم رأسها، وضعت “هالة” يدها على طرف جبينها تفركه بحركة خفيفة لكنها ثابتة، مالت عليها والدتها تسألها:
-عاملة إيه دلوقتي؟
أجابتها بوهنٍ:
-كويسة
تساءل “منسي” بفضولٍ ونظراته المريبة مُسلطة على وجه “هالة”:
-هي كانت فين للسعادي برا البيت؟
تخشب جسدها من سؤاله الفظ، فهو لا شأن له بالتدخل في أمورها الشخصية بتلك الطريقة السافرة، رمقته بنظرة حانقة من عينيها المجهدتين، وقبل أن ترد بقسوةٍ كانت والدتها الأسبق في إجابته بعفويةٍ:
-كانت مع أختها
اغتاظت “هالة” من استرســال أمها في الحديث معه ومنحه الحق دون داعٍ، عبست ملامحها وهي تقول بجمودٍ:
-أنا عاوزة أخش الأوضة
مررت “أم بطة” ذراعها خلف ظهر ابنتها قائلة لها:
-تعالي اتسندي عليا
بادر “منسي” قائلاً بوقاحةٍ وقد اقترب منها مسافة خطيرة:
-أنا ممكن أشيلك!
صرخت به بنفورٍ أقلق والدتها:
-متقربش مني!
استاءت “أم بطة” من فظاظتها غير اللبقة مع ضيفهما، ضمت شفتيها هامسة لها بعتابٍ:
-يا بت اتلمي، خلي لسانك حلو، الراجل في بيتنا، يقول عننا إيه؟
ردت بجفاءٍ:
-ماليش دعوة بيه
كان “منسي” سمجًا بطريقة لا تحتمل، لم يهتم بمعاملة “هالة” الجافة له، بل ظن أنها وسيلة أنثوية منها لتدلل عليه، التوى ثغره ببسمة سخيفة معلقًا ببرودٍ:
-خلي العروسة تدلع علينا!
حدجته “هالة” بنظرة نارية كارهة له، تحاملت على نفسها لتسير بتعجلٍ غير عابئة بالصداع الرهيب الذي عصف برأسها، المهم أن تنجو بنفسها من حضوره غير المرغوب فيه، همست لوالدتها بإصرارٍ رغم تعبها الواضح:
-أنا هاعرف أمشي لوحدي، خليكي إنتي
انسلت من ذراعها مكملة سيرها نحو الداخل وهي تشعر بغليان يجتاحها من كل ما له صلة به، في حين التفتت “أم بطة” نحوه لتقول بابتسامة متسعة:
-تسلم يا سي “منسي” من كل شر
رد ببساطةٍ وهو يفرك طرف ذقنه:
-هو أنا عملت حاجة، أشوفكم على خير
ثم لوح بذراعه واستدار متجهًا نحو باب المنزل، تبعته مودعة إياه:
-في رعاية الله يا خويا، ربنا يحفظك!
……………………..……………………..……………….
على مدار عدة أيــام عانت من حالة أقرب إلى الشعور بانعدام الثقة في نفسها، وقفت أمام المرآة تتطلع بحزنٍ إلى ملامحها الباهتة رغم جمالها الطبيعي الذي يحسدها عليه الكثيرون، خبت تلك الإشراقة النضرة التي كانت تعكس وهجًا بالحب من تعابيرها الرقيقة ليحل الوجوم والشرود المختلط بالخوف من المجهول، ما ضاعف من إحساسها بالنقص هي تلك الرسائل الغامضة التي كانت تصل إليها لتشعرها بأنها لن ترقى أبدًا إلى تطلعاته، هي مجرد وعاء لإفراغ رغبات مكبوتة كنوع من الترضية لها، خطئها الوحيد أنها أخفت عن زوجها أمرهم لتعاني بمفردها من قسوة الكلمات التي تنهش من علاقتها معه وتهدد بإنهائها، كان رنين رسائل الهاتف يعني عذابًا جديدًا، وإحساسها بالخذلان دفعها للتكتم على الأمر، مسحت “تقى” بيدها عبراتها المنسابة على وجنتيها معتقدة بذلك أنها ستبدو طبيعية أمامه.
راقبها “أوس” بنظرات مزعوجة دارسة لأدنى تغيير يطرأ على تعابيرها الذابلة، زفر باستياء وهو يسير ببطءٍ في اتجاهها، فمنذ ليلة الصدام مع “رغد” وأحوالها لا تبشر بخير، أغلب الأوقات هي شاردة، نظراتها منكسرة حزينة، تنفر منه بصورة مقلقة، حتى حضورها كان بالجسد فقط وليس بالروح والعقل والمشاركة، لم يغفل عن تجنبها للمساته وحتى محاولاته للتودد إليها بحميمية عشقتها منه، تغلغل بداخله شعورًا قويًا بأنها بعيدة عنه رغم قربها منه، وقف خلفها ليطالعها عن قرب، بدت وكأنها لم تشعر بوجوده من الأساس، استمرت في سرحانها المثير للشكوك مما ضاعف من ريبته، رفع يديه ليضعهما على كتفها فانتفضت مرتعشة من حضوره المباغت، تأمل انعكاس وجهها الباهت بالمرآة متسائلاً بجدية:
-هتفضلي كده لحد امتى يا “تقى”؟
ضغطت على شفتيها رافضة الإجابة عليه ليزداد ضيقًا من صمتها الطويل، شدد من ضغطه على كتفيها متابعًا بنفاذ صبر:
-أنا مابقتش عارف أعمل إيه
ازدردت “تقى” ريقها بخوفٍ لم تنجح في إخفائه، شعرت بدقات قلبها تتلاحق بداخلها، إحساسها بالنفور منه ازداد مع تخيل ما يمكن أن يفعله مع العابثات ليكرر الأمر معها دون ذرة ندم، أخفض “أوس” كفيه ليديرها ناحيته لتصير في مواجهته دون أن يزيح قبضتيه عن ذراعيها، رأى ذلك الحزن الكاسح في حدقتيها، سألها بحدةٍ:
-قوليلي إيه اللي يريحك وأنا أعمله؟
هزها بقوة طفيفة هادرًا بعصبية لم يستطع السيطرة عليها:
-ما تفضليش ساكتة كده، ده بيخنقني!
ابتلعت ريقها وهي محدقة فيه بنظرات حائرة، خائفة، مترددة، نطقت أخيرًا بعد أن يئس من ردها عليه:
-أنا محتاجة أعيد حساباتي من الأول
سألها على الفور:
-ليه؟
نكست رأسها لتتجنب نظراته التي تحاصرها وتكاد تكشف تهربها منه، أجابته بغموضٍ ضايقه:
-عندي أسبابي
صاح بها وقد زاد من هزه العنيف لجسدها:
-صارحيني بيها
شهقت مذعورة من عصبيته الواضحة، كانت مدركة أنها أحد أسباب انفعاله، ومع ذلك لم تستطع البوح بما يقلقها وبما يحدث معها مؤخرًا، وكأن ذلك الدخيل الغامض قد نجح في إحداث فجوة في علاقتهما، وبناء حاجز بينهما، تنفس “أوس” بعمق ليسيطر على غضبته قبل أن تندلع من جديد، فالتهور والاندفاع والجنون ليسوا بالخيارات المحمودة في ذلك الموقف الحرج، أخرج زفيرًا ثقيلاً من صدره قاصدًا به تهدئة نفسه قبل أن يطلب منها باستعطافٍ:
-جربي يا “تقى”، اتكلمي وقولي إيه اللي مضايقك ومخليكي متغيرة الفترة اللي فاتت
لجأ إلى عتابها برفق ربما تتخلى عن عنادها غير المفهوم:
-إنتي مش حاسة إنك بقيتي بعيدة عني؟
كان محقًا في ذلك، فقلما تحدثت إليه أو أبدت اهتمامها على ما يخبرها به، هي التهت عنه كثيرًا وكذلك عن رضيعتها، أهملتهما بلا أسباب مقنعة متخذة السكوت رفيقًا جديدًا لها، وتلك الحالة المستجدة عليه أخافته كثيرًا، بل إنها ذكرته بفترة لم تكن بعيدة عليه، حينما اعتزلته مجبرة لتضاعف من إحساسه بالذنب نحوها، أرخى “أوس” قبضته عن ذراعها ليحاوط جانب عنقها، اقشعر بدنها من لمساته الحنون، تلمس بشرتها برفق ليستشعر دفئها على جلده، ركز عينيه على وجهها الناعم مكملاً حديثه بنبرته المعاتبة:
-أه بتنامي جمبي، بس في عالم تاني خالص، مابقيتش زي الأول
رأى ترقرق العبرات في مقلتيها مما ألمه بدرجة كبيرة، حاوط وجهها بكفيه ماسحًا ما انساب من دموعها بأصابعه، شعور جثم على صدره بالضيق لكونه عاجزًا عن فهمها، تنهد مضيفًا باستسلام:
-أنا مش هاضغط عليكي دلوقتي، هاسيبك على راحتك لحد ما أرجع بالليل، ونتكلم!
بدت كلمته الأخيرة جادة للغاية خاصة حينما تابع موضحًا بحزمٍ:
-لأني مش ناوي أسيب الوضع معلق بالشكل ده بينا
ثم مال نحو أذنها لتشعر بأنفاسه تداعبها، انخفضت نبرته ليهمس:
-بأحبك!
تراجع برأسه نحو وجنتها ليطبع قبلة مطولة عليه، توقع أن تستجيب لتأثيرها العميق الصادق، لكن لم يشعر بتجاوبها مطلقًا، وكأنه يتحدث إلى روحٍ خالية من المشاعر، فتورها المريب أصابه بالضيق والخوف، تجاوز عن ذلك لينظر لها من جديد بعينين حائرتين، كانت مشاعرها متجمدة، ووجهها غير مقروء، أدرك أنه لن يصل معها حاليًا إلى شيء، ولن يجدي الضغط النفسي سوى المزيد من التعاسة والشقاء، تركها مدعيًا الابتسام لتشيعه “تقى” بنظراتها الحزينة.
شعرت بالخواء والعجز بعد انصرافه، تملكها ذلك الإحساس الذي عرفته مسبقًا بقلة الحيلة وهي تستعيد في ذاكرتها فحوى الرسائل النصية التي أشارت وبطريقة ملتوية إلى كونها نزوة مؤقتة سيمل منها عما قريب لتنتهي حياتهما الواهية بتأسيس أسرة سعيدة، فالفوارق التعليمية والطبقية والاجتماعية جلية للعيان حتى وإن كان يربطهما ميثاق الزواج وصلة الدم، ناهيك عن إشارة صريحة لكونه لم يتخلَ بعد عن أسوأ عاداته المريضة، ممارسة الفحش مع أكثر الفتيات مجونًا لأن زوجته لا تستطيع إشباع رغباته الذكورية، قراءة مثل تلك الكلمات في رسائل منفصلة أنعش ذكرياتها المأساوية معه، لم تستطع قدماها حملها لمجرد استعادة مشاهد اختبرت فيها قسوته اللا محدودة وعنفه المفرط، تراجعت بقدمين متخاذلتين وبذهن مشتت للوراء لتجلس على الفراش وهي تبكي بأنينٍ، دفنت وجهها بين كفيها وقد ارتفع نحيبها، نعم تزعزع بداخلها كل ما سعت لبنائه معه من جديد ليحل الشك والخوف من مستقبل مخيف ستكشف عن بوادره الأيام القادمة.
……………………..……………………..
لم تكن لتفوت تلك الفرصة دون التطفل عليه وإفساد ليلته، فما تنفقه من أموال تلقاء مراقبته كان كفيلاً بإشعارها بأن ما تفعله من تخطيط انتقامي مدروس لن يذهب سدى، تأنقت “رغد” وارتدت ثوبها الأسود القصير الكاشف عن مفاتنها لتبدو أكثر إغراءً وأنوثة وهي تسير بخيلاءٍ نحو طاولة الطعام المحجوزة باسمها في نفس المكان المتواجد به “أوس”، انزوت عن الأنظار حتى ظهر برفقة بعض الأشخاص، ارتسم على ثغرها بسمة وضيعة، فلتكتمل أركان خطتها أعادت تفحص هاتفها المحمول لتبحث عن تلك الصور الفوتوغرافية القديمة التي مازالت محتفظة بها، كان الوقت مناسبًا لإرسالها لزوجته، فإن كان حديثها بلا دليل ستؤكده قطعًا تلك الصور، ضغطت على زر الإرسال متوقعة بشغفٍ ردة فعلها، أعادت وضع الهاتف في حقيبتها ثم نهضت متجهة إليه بغرورٍ وكبرياء، وقفت “رغد” قبالته واضعة يدها أعلى منتصف خصرها، ابتسمت قائلة ببرود:
-هاي، مش معقول الصدف دي!
رمقته بنظرة مطولة متحدية إياه بجراءة وشجاعة، تحولت تعابير “أوس” للقسوة ونظراته للكراهية حينما أبصرها أمامه، لم ينقصه إلا حضورها ليتكدر يومه، تجاهلها عن عمدٍ وكأنها نكرة لا وجود لها ليقول لضيوفه بنبرة رسمية:
-العقود معاكو، والشرط الجزائي واضح!
توترت نظراتها من ازدرائه الوقح لها أمام هؤلاء الغرباء، تصنعت الابتسام رغم ملامحها الممتعضة معلقة بلطافةٍ متكلفة:
-شكلك مشغول، نتكلم بعدين يا “أوس”
لم يرفع الأخير عينيه نحوها فتابعت مؤكدة بنبرة غامضة أثارت فيه نفسه الريبة:
-وصدقني ده هايحصل قريب
تحركت من أمامه لتقف بعد خطوتين، التفتت صائحة بنبرة عالية متعمدة أن يصل صوتها لكل من يجلس حوله بالمطعم:
-آه ماتنساش تسلملي على المدام يا “أوس”
استشاطت نظراته وتحول وجهه نحوها لينذر بغضب محتدم، رفعت حاجبها للأعلى متسائلة بمكرٍ:
-مش هي بنت خالتك برضوه ولا أنا غلطانة؟!
أرادت “رغد” بجملتها تلك أن تشير له بأنها على معرفة تــامة بكل ما يخصه من أمور عامة أو شئون عائلية حتى وإن كان بينهما مصانع الحداد، لوحت له بأصابعها تودعه قائلة بسماجةٍ مستفزة:
-أوه، ماتقولش حاجة، باي!
بذل جهدًا كبيرًا ليبدو كالصخر أمامها وكأن ما تلقيه على مسامعه لم يهز فيه شعرة واحدة، منحها نظرة احتقارية قبل أن يعاود الحديث مع ضيوفه، ومع هذا كان يحترق بداخله، فتدخُلها السافر في شئونه الحياتية أقلقه بشكل كبير، أكمل بصعوبة ما تبقى من المناقشات لينهي بعدها اجتماعه تاركًا المسائل القانونية للمختصين، انصرف “أوس” من المطعم ملقيًا نظرة عابرة على رواد المكان، لم يجدها بينهم، فتأكد من هاجسه أن حضورها إليه اليوم لإرباكه وزرع الشكوك بداخله، وهذا ما لن يقبله على الإطلاق.
……………………..……………………..……….
استندت براحتيها على حافة الشرفة وهي تتطلع بنظرات فارغة للفضاء أمامها، أخفضت نظراتها للأسفل حينما رأت سيارته تخترق البوابة الأمامية للفيلا تتبعه سيارة الحراسة الخاصة، أخرجت “تقى” زفيرًا مشحونًا من جوفها وقد اشتدت قبضتاها على السور الحديدي، بدت آثار غضبها معكوسة على لمحاتها المتصلبة، احتدت نظراتها نحو “أوس” وهو يترجل من السيارة معلقًا سترته على ذراعه، مقتت ذلك الشعور الحانق الذي سيطر عليها وتضاعف أكثر مع عودته، فمنذ أن رأت صورته مع إحدى العابثات وهي تتطوق عنقه وقد باتت واحدة أخرى، أعمتها غيرتها ووضعت غشاوة على عقلها فلم تتحقق من صحة ما رأت، وأنها صورة تعود لزمن قد مضى، ظلت متيبسة في مكانها، كاظمة ما يعتريها من مشاعر متأججة في صدرها، غمغمت متسائلة مع نفسها:
-ليه عملت فيا كده؟
شعرت “تقى” بوجوده في الغرفة، وما ذلك لم تتحرك قيد أنملة، لكنها كانت أكثر تحفزًا عن ذي قبل، تعجب “أوس” من بقائها في الشرفة بمفردها بعد أن ولج إلى الغرفة، ألقى سترته على الفراش ورمقها بنظرات مطولة، لكن لم يمنع استغرابه من تأمله للقميص الحريري ذي اللون الأزرق الذي ارتدته، تشكل على شفتيه بسمة ساحرة، اعتقد أنها تنتظره بشغفٍ لتعوضه عن فترة الجفاء بينهما، وأن حديثه في الباكر معها قد احدث تأثيره عليه، دار بعينين تواقتين ببطءٍ متمهلٍ على تفاصيلها المخبأة من أسفله، زادت رغبته فيها، تمنى قضاء ليلة حالمة في أحضانها يتذوق من أَنهُرِ الغرام ويروي ظمأ اشتياقه لها، اقترب بخطوات حذرة منها حتى وقف خلفها، امتلأ صدره بعبق رائحة عطرها الناعم الذي أشعل جذوة مشاعر الحب، مرر نظراته على شعرها المنساب على ظهرها، احتضنها من الخلف بذراعيه، وأخفض رأسه على كتفها ليقبلها من جانب عنقها هامسًا لها بعذوبة:
-وحشتيني!
تصلبت مع شعورها بقبضتيه تلامسان جسدها وتطوقاها، وتأففت من ملمس شفتيه على بشرتها، أصابها إحساس قوي بالنفور والاشمئزاز من وجودها في أحضانه، خاصة وأن فحوى الرسالة الأخيرة لا يزال حاضرًا في ذهنها لتتدفق الذكريات المؤلمة بسرعة متواترة إلى عقلها فتشحنها أكثر ضده، قاومت بقوة استجمعتها من مشاعرها الناقمة على أفعاله الماجنة ما حاول منحه لها من مشاعر دافئة، كانت على أهُبة الاستعداد للاشتباك معه، حاولت أن تضبط إيقاع تنفسها وهي ترد متسائلة بجمود:
-كنت فين يا “أوس”؟
استغرب من سؤالها المريب، ومع ذلك أجابها ببساطة دون أن يحررها من حصار ذراعيه:
-ما أنا قايلك، كان عندي اجتماع و…
دفعته بغتة بقوة بقبضتها في صدره بعيدًا عنها قبل أن تقاطعه بشكلٍ غير متوقع:
-إنت كداب
ثم تراجعت خطوتين للخلف لتبقي على مسافة آمنة بينهما، اندهش “أوس” من ردها الصادم المستفز له، ما أشعل جذوة غضبه من جديد هو اتهامها المتكرر والصريح له بالكذب ليعود الصدام بينهما مثلما حدث في المرة السابقة قبل أن يتحول الأمر إلى مأساة، رد مدافعًا عن نفسه ومحذرًا في نفس الوقت وهو يشير بسبابته:
-أنا مش محتاج أكدب عليكي يا “تقى”، وخدي بالك من كلامك معايا!
ردت بتهكمٍ وهي ترمقه بنظراتٍ تزدريه:
-طبعًا لازم أخد بالي من كل حاجة، لكن إنت زي ما إنت عمرك ما هتتغير
كاد أن يفقد أعصابه من تطاولها عليه، صاح بها متسائلاً:
-في إيه مالك؟
اقترب منها ليمسك بها من معصمه لكنها جذبت يدها بشراسة من بين أصابعه صارخة به:
-ماتلمسنيش!
تجمد في مكانه مدهوشًا من ردة فعلها، وما زاد الطين بلة صياحها المحدث للفوضى:
-أنا بأقرف منك!
شخصت نظراته وقست تعابيره على الأخير من هول وصفها، كور قبضة يده ضاغطًا على أصابعه، كز على أسنانه متسائلاً:
-إنتي بتقولي إيه؟
بدت باردة للغاية وهي تواصل إلقاء تهمها جزافًا عليه:
-إيه وجعتك الكلمة؟ ما هي دي الحقيقة، كل لمسة منك بتخليني مش طيقاك، بتكرهني في جسمي بزيادة!
نزلت كلماتها كالصاعقة على رأسه، أصابته في مقتل وأوقظت فيه ما حاول كبحه بشراسة، استمرت “تقى” في الضغط على الوتر الحساس هادرة دون اكتراث بتبعات تهورها الأهوج:
-عمرك ما هتنضف أبدًا
رمقته بنظرة ساخطة وهي تكمل بإهانة أشد قسوة:
-هتفضل تجري ورايا أي واحدة تقولك لأ طالما حطيتها في دماغك!
بلغت الأمور ذروتها في ثوانٍ معدودة، تحطم ما سعى لبنائه برعونة عباراتها، هتف بها بنبرة متعصبة وقد برزت عروقه النابضة بقوة لتشير إلى انفجاره الوشيك:
-“تقى”، إنتي اتجننتي!
وقفت قبالته تحدجه بنظرات خلت من العطف والحب، نظرات بدت خاوية من أي لمحة إنسانية، اندفعت الكلمات من حلقها لتهاجمه مكتسحة ما تبقى من ذرات عقلانية:
-ده طبع ومش هايتغير فيك، إنت زي ما إنت.. حيوان ……………………..… !!
……………………..……………………....

يتبع >>>>>

error: