رواية الحبُ.. أَوْس

الفصل الثلاثون (الأخير)

منحها نظرات جامدة بوجهٍ غير مقروء التعبيرات ليزداد ارتباكها من صمته المريب الذي يبث القلق والخوف في نفسها المضطربة مسبقًا، ورغم تدربها على ما سوف تقوله لعشرات المرات إلا أن تطبيق ذلك في الواقع أصعب بكثير مما تخيلت في عقلها، ازدردت “هالة” ريقها واستجمعت شجاعتها الفارة لتواصل حديثها قائلة بتلعثمٍ:
-أنا بأشكر حضرتك على كل اللي عملته عشاني
شعرت بتلك المرارة تغزو حلقها لتزيد من مرارة العلقم وهي تكمل بصعوبة محاولة الحفاظ على ثباتها:
-أنا مقدرة ده جدًا وبأعتبره دين عليا، بس مش حابة أشغل سيادتك بهمومي
رفع “أوس” حاجبه للأعلى متسائلاً بكلمة واحدة:
-خلصتي؟
أرجفتها نبرته الواثقة فردت دون تفكير وهي تضغط على أناملها:
-أيوه
استقام أكثر في جلسته ليضيف بعدها بهدوءٍ جاد:
-اسمعي للآخر خلاصة الكلام وبدون ما تعلقي
توقعت موجة عنيفة من الهجوم الضاري على شخصها وربما تعنيفًا حادًا لنكرانها لمعروفه الكبير معها، لكنه بدد مخاوفها حينما نطق بنفس الثقة الجادة:
-اللي بأعمله معاكي مش مساعدة، ده لو إنتي حابة تسميه زي ما بتقولي كده!
تحرجت من رده اللبق وبررت موقفها قائلة بتردد وهي ترمش بعينيها:
-أنا أقصد …..
أشار بسبابته مقاطعًا بلهجة آمرة:
-متقاطعنيش
انتفضت قليلاً من صرامته الشديدة، ثم أطرقت رأسها للأسفل لتبتلع بعدها ريقها وهي ترد بحرجٍ كبير:
-أسفة!
واصل “أوس” حديثه قائلاً:
-تاني حاجة وده الأهم، عقلية زي أمك مش هايفرق معاها تكملي تعليمك ولا لأ، كل اللي يهمها الفلوس وبس
كان محقًا في تفسيره المنطقي، فمنذ اللحظة التي أغدق فيها عليها بالمال وقد تبدلت معاملتها 180 درجة، واختلف أسلوبها معها بدرجة جعلتها تندهش للغاية، فللنقود تأثيرها السحري، ارتفعت عيناها تدريجيًا لتحدق في وجهه الجاد التعبيرات بنظراتٍ شاردة، أدرك “أوس” انه أصاب لب الموضوع بكلماته الواعية، وزاد عليها موضحًا:
-يعني اللي بيجيلها كل شهر مخليها مش شايلة هم ولا سائلة فيكي، بمعنى تاني إيدها اترفعت عنك
تجمدت نظراته عليه وهو يسألها:
-تخيلي ماسورة الفلوس دي اتقفلت، إيه اللي هايحصل؟
لم ينتظر ردها بل أجاب عنها مفسرًا:
-ببساطة شديدة هتلاقي واحد تاني زي الكلب “منسي” بيخبط على باب بيتكم طالبك للجواز
شخصت أبصارها رعبًا لمجرد استعادة صورة ذلك المقيت الوضيع في عقلها وكيف تجرأ عليها وكادت أن تخسر أعز ما تملك في لحظة هوجاء، ارتعدت أكثر وهو يزيد من تعقيد الأمور حينما استأنف:
-وأمك هتوافق عليه على طول، وهتترمي في مستنقع أسوأ بكتير من اللي كنتي فيه
أحست “هالة” بدقات قلبها تتقافز في قلبها خوفًا، تضاعفت حالتها المرتعدة مع تحذيره الخطير:
-مش بس كده، هيتكرر نفس الكلام مع إخواتك!
صرخت عفويًا:
-لأ، مش هايحصل
تقوس فمه للجانب وقد نجح في استمالة رأسها، سحب نفسًا عميقًا زفره على مهلٍ ثم أردف معلقًا:
-وبلاش بقى كلام الإنشاء بتاع كرامتي ونفسي ومش عارف إيه لأنه مايكلش معايا
عادت لتنظر بخجلٍ إلى قدميها متحاشية نظراته المسلطة على وجهها المتورد خجلاً، واظب “أوس” حديثه بنبرة عملية بحتة:
-أنا عامل زي اللي بيستثمر فلوسه في حاجة مفيدة، مع فارق إن شايف ليكي مستقبل أحسن، ده لو فعلاً اشتغلتي على نفسك ونجحتي ودخلتي كلية كويسة
لم تجرؤ على التطلع إليه، ورغم ذلك تنهدت هامسة بارتباكٍ:
-بس أنا مش هارتاح كده
لاحظ الحيرة الواضحة عليها وحالة التخبط التي تعايشها، سألها مستفهمًا:
-إنتي عاوزة إيه؟
أجابته بترددٍ وهي مستمرة في التحديق لحذائها القديم علها بذلك تستطيع السيطرة على تشتتها:
-يعني لو مكانش فيها إساءة أدب، ممكن أعتبر اللي حضرتك بتعمله معايا دين عليا أسدده
راقب خجلها منه باهتمامٍ، في حين تابعت “هالة” بتوترٍ:
-ده.. ده ممكن يخلي ضميري يرتاح و..
قاطعها دون منحها فرصة لإكمال جملتها:
-هاشوف ده بعدين
ورغم يقينها بأنه سيرفض حتى التفكير في طلبها إلا أنها لم تيأس من المحاولة، استغلت الفرصة لتفتح حقيبتها ثم أخرجت منها ورقة مطوية، تجرأت على النظر إليه ثم نهضت من جلستها لتمد بها يدها نحوه وهي تقول في ارتباكٍ:
-أنا عملت لحضرتك ورقة بكل جنية دفعته، اتفضل
قست نظراته نحوها ولم يتحرك قيد أنملة من مكانه مما دفعها لوضع الورقة على الطاولة الخشبية التي تتوسطهما، تراجعت “هالة” سريعًا للخلف لتجلس في مكانها مواصلة استرسالها في الحديث:
-وهادور على شغل و…
حملق فيها “أوس” بنظراتٍ مزعوجة قبل أن يرد مقاطعًا:
-إنتي سامعة نفسك كويس؟
تجمدت الكلمات على طرف لسانها ونظرت له بتوترٍ قلق، تشنجت ملامح وجه “أوس” حينما حرك شفتيه لينطق:
-بطلي تخاريف ومثالية مش موجودة في الزمن ده
للحظة شعرت باستخفافه بمحاولتها الفاشلة لإقناعه بالقبول بعرضها العقيم لتسديد ما أسمته بمديونياتها، ترقرقت العبرات بكثافة في حدقتيها فزاد لمعانهما، وأحست بطعم المرارة في جوفها، رأى “أوس” الحزن العميق يكسو ملامحها فأردف موضحًا علها تقيم الأمور من منظور آخر غير ذاك الذي تحصر نفسها فيه:
-هافهمك أكتر
تخلى عن جلسته المتصلبة ليميل بجسده نحوها، ثبت عيناه على وجهها متسائلاً:
-إنتي عاوزة تقنعيني إنك هتلاقي شغلك بالسهولة دي بدون مؤهل على الأقل متوسط وفي نفس الوقت هتلاحقي على مدرستك وامتحاناتك؟
ثم منحها بعض الوقت لتفكر في إجابة منطقية لسؤاله، واستغلتها بالطبع لتجيبه:
-هو هيبقى صعب في الأول بس…
قاطعها دون تفكيرٍ:
-صدقيني ده مستحيل
شعرت بإحباط كبير يسيطر عليها، فعاد لمنطقيته لتفكر في الأمور بشفافية أدق:
-وبفرض عملتي ده، أنهو شغلانة مرتبها هيكفيكي وفي نفس الوقت يسكت أمك ويبعدها عنك؟
ارتبكت لتعثرها في العثور على حل منطقي يتوافق مع أوضاعها، ورغم ذلك اجتهدت لتقول:
-يعني في حاجات موجودة، هادور وأشوف
أشار بيده متابعًا:
-ماشي، ولو فرضنا إنك اشتغلتي، هايكون ده فين؟ آخرك هاتكوني بياعة في محل هدوم أو واقفة على كاشير في سوبر ماركت، وده أفضل الحلول
انفرجت شفتاها عن دهشة مصدومة من واقعيته البحتة التي جعلت معتقداتها تهتز بصورة كبيرة، باغتها “أوس” متسائلاً:
-مدة الشغل أد إيه؟
أجابته بهمسٍ مترددٍ:
-مش أقل من 6 ساعات
رد معقبًا:
-ده على أقل تقدير، في أماكن الشيفت بتاعها من 8 لـ 10 ساعات، ده لو فترة مسائية كمان
عجزت “هالة” عن التعليق عليه، أعاد “أوس” ظهره للخلف ليقول لها:
-ولو استحملتي يوم، نقول أسبوع، أو حتى شهر، هتواظبي إزاي وقت امتحاناتك؟
يأس مضاعف غطى ما تبقى من تعبيراتها المحبطة لتشعر بتبدد كل شيء وانهيار آمالها، تابع “أوس” مضيفًا:
-وعلى ما اعتقد فاضل حاجة بسيطة على الامتحانات، أنهو صاحب شغل هيوافق على إنك تستأذني أو حتى تغيبي وإنتي لسه مبقالكيش كام يوم عنده؟
نكست رأسها خزيًا وقد انهار كل شيء في عينيها، وسقطت في بوتقة حيرتها تساءلت بين جنبات نفسها:
-والعمل إيه؟ هاتصرف إزاي؟
ساد الصمت في الأجواء بناءً على رغبته هو، فقط ليمنحها الفرصة للتفكير وإعادة حساباتها غير المنطقية وإدراك حقيقة الأمور، لمح دمعاتها التي انسابت رغمًا عنها فحاولت مسحها بأطراف أصابعها، فرك طرف ذقنه مستطردًا فجأة:
-أنا عندي اقتراح أفضل ليكي!
وكأنه قد أعاد لها بارقة الأمل من جديد فهتفت متسائلة بتلهفٍ:
-إيه هو؟
لاحت ابتسامة صغيرة على جانب شفتيه وهو يجيبها:
-تعالي في أجازتك اتدربي هنا
تدلت شفتها للأسفل في دهشة عجيبة من عرضه السخي الذي لم يكن ليطرأ على بالها مطلقًا، وكي لا تشعر بأنه يقدم لها مساعدة خفية فترفض اقتراحه دون تفكير متعقلٍ أوضح مقصده قائلاً:
-كل فترة في مجموعة متدربين بنجيبهم هنا يتعلموا ويكتسبوا خبرة، وبأديهم نص أجر كنوع من التحفيز، والأفضل منهم بيتعين هنا بمرتب حلو، أنا هاحط اسمك معاهم تدربي، وساعتها تقدري تدفعي الديون من مرتبك!
خفق قلبها بقوة من حديثه المفاجئ لها، عادت ملامحها تشرق من جديد، أضاف “أوس” مشددًا:
-بس ده مش هايحصل إلا لما تخلصي امتحانات
سألته بأنفاسٍ متسارعة:
-بجد، يعني حضرتك هاتشغلني هنا؟
أومأ برأسه مؤكدًا:
-أيوه
هبت من مكانها واقفة لتشكره بامتنانٍ كبير:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، حضرتك هونت عليا كتير
أحس “أوس” بالارتياح لكونه قد نجح في حل معضلتها التي اختلقتها لنفسها دون عناءٍ يُذكر، وضع ساقه فوق الأخرى قائلاً لها:
-المهم تركزي دلوقتي في مذاكرتك
هزت رأسها بإيماءة قوية:
-حاضر
ثم ابتسمت له وهي تعلق حقيبتها على ظهرها لتقول بحرجٍ:
-أنا أسفة إني عطلت حضرتك
اكتفى بهز رأسه بحركة بسيطة دون تعقيب، أولته ظهرها لتسير في اتجاه الباب لكنه استوقفها مناديًا:
-“هالة”
التفتت برأسها نحوه بعد أن تسمرت في مكانها:
-أيوه
رفع إصبعيه الممسكين بالورقة المطوية للأعلى ثم بنظرة صارمة أمرها:
-خدي الورقة دي
تلجلجت معترضة بخجلٍ:
-بس..
هتف بلهجة متشددة:
-متعارضيش
لم تجرؤ حتى على التحدث، سارت عائدة إليه في صمت لتلتقط الورقة من بين إصبعيه، طوته في كفها ثم همست قائلة بربكة كبيرة:
-عن إذن حضرتك
ظلت حالة التوتر الممزوجة بالحماسة مسيطرة عليها وهي تسير في اتجاه الباب، لم تنتبه للقادم من الخارج الذي قرر الدخول للغرفة بعد أن دق الباب ليصطدم بها عن قصدٍ، شهقت “هالة” مصدومة وأحضان “يامن” تستقبلها مع ذراعيه ليلتهب وجهها وتتهدج أنفاسها وتزداد حرجًا وخجلاً، رمقها الأخير بنظرات دافئة شقية، أسندها بقبضتيه هامسًا من بين شفتيه:
-حاسبي
انتفضت مع لمسه لها وتراجعت سريعًا للخلف وهي تكاد لا تصدق الموقف المخجل الذي تتعرض له دومًا معه، اتسعت نظراتها في حرجٍ وشعرت بتلك النبضات العنيفة تضرب صدرها حينما تابع همسه العابث:
-أنا حظي حلو كده معاكي
رأت ابتسامة عذبة ترتسم على وجهه لكن ما لبثت أن تجمدت وتحولت للاضطراب وصوتًا صارمًا يناديه:
-“يـــامن”
ارتجفت “هالة” من نبرة “أوس” التي ألبكت بدنها وهربت من المكان قبل أن يزداد الموقف حرجًا بالنسبة لها، فكيف ستفسر لنفسها أو لغيرها ما حدث توًا؟ تبعتها نظرات “يامن” حتى اختفت من أمامه ليعاود التحديق في ابن عمه الذي كان يرمقه بنظرات حادة نارية منذرة بتوبيخٍ لاذع، ورغم إفساده للحظاته المميزة مع تلك الفتاة التي استحوذت على عقله مؤخرًا وشغلته كثيرًا إلا أنه توجس خيفة من ردة فعله الصارمة، تنحنح قائلاً وهو يخطو نحوه محاولاً إدعاء الثبات:
-كان في ملف شركة …
قاطعه “أوس” بتصلب وقد بدت قسماته قاسية للغاية:
-قبل ما تشوفلك حجة فارغة، ملكش دعوة بـ “هالة”، سامع!
بهتت تعابيره مرددًا:
-“هالة”!
وقف ابن عمه الكبير قبالته يرمقه بنظرات غير متسامحة أو حتى متقبلة لأي تبرير واهٍ، ثم تابع محذرًا بلهجة أشد قسوة:
-إنت فاهمني كويس، ابعد عنها وشيلها من حساباتك، اسمك مايتحطش معاها في جملة مفيدة!
تذمر من تشدده فاعترض قائلاً:
-ليه هو أنا هأذيها؟
عند تلك اللحظة قست نظرات “أوس” وتحول وجهه لشيء مخيف أجفل ابن عمه وهو يردد:
-متقدرش طول ما أنا موجود
ابتلع “يامن” ريقه ليرد مدافعًا عن نفسه:
-أنا مش بأتسلى معاها ولا ….
قاطعه بخشونةٍ قبل أن يتكمل تبريره:
-أنا أصلاً مش هاستنى تعمل معاها أي حاجة
بهتت تعابيره للغاية وبدا كالفرخ المبتل وهو يُجاهد لإظهار نواياه الحسنة:
-ومين قال كده؟ أنا حابب ….
رفع كفه مقاطعًا بتشنجٍ:
-متحبش
يئس “يامن” من إفشال ابن عمه لمحاولاته المضنية لإثبات حسن نيته فردد باستياءٍ:
-إديني فرصة أتكلم طيب
لوى ثغره معقبًا عليه:
-أنا فاهمك، وبأجيبلك من الآخر، “هالة” متقربش منها، ودي الناهية!
تحولت ملامح “يامن” للعبوس الشديد ونظراته للامتعاض من تسلطه الحاد معه، بدا ما يلقيه على مسامعه من تعليمات وتعنيفات ضوضاءً مزعجة لم يصغِ لأي منها، اكتفى بالإيماء الصامت برأسه كتعبير عن إذعانه له ثم انصرف بعدها وهو منكس الرأس مشوش الأفكار، ومع ذلك ظلت نظرات “أوس” مثبتة عليه، فهو يعي جيدًا طبيعة تفكيره الطائش الذي ربما سيؤذي فتاة بريئة كـ “هالة” تصادفت أقدارها مع من يذكره بتهوره السابق، دس كفيه في جيبي بنطاله محدثًا نفسه بنبرة حاسمة:
-مش هاسمح إن اللي حصل زمان يتكرر!
……………………..……………………..
-اللهم لك الحمد والشكر، ربنا يكملها على خير ويشفيها يا رب
قالتها ابنة أختها بسعادةٍ متحمسة وهي تتلقى الأخبار السارة من خالتها عن آخر المستجدات الخاصة بتطورات الحالة الصحية لوالدتها، حيث خضعت الأخيرة لفحوصات أخيرة جادة تمهيدًا لتجهيزها لتلك العملية الحرجة والتي إن نجحت وأتت بثمارها ستتمكن “فردوس” من استعادة بصرها، حدقت “تقى” أمامها وهي تضيف برجاءٍ:
-طمنيني لو في جديد يا خالتي، أنا هافضل كده بالي مشغول عليكم
ردت عليها بنبرتها الحانية:
-حاضر يا حبيبتي، متقلقيش، المهم تخدي بالك من صحتك، ومن “أوس” و”حياة”، ماشي؟
ابتسمت قائلة بتنهيدة خافتة وهي تستند بمرفقها على الطاولة الخشبية التي تنتصف المطبخ الواسع والذي ظلت جالسة فيه منذ الصباح الباكر:
-دول في عينيا
-ربنا يباركلك فيهم، أسيبك في رعاية الله يا “تقى”
-مع السلامة يا خالتي
تمتمت بتلك العبارة وهي تعيد وضع الهاتف أمامها، تطلعت بشرود لنقطة في الفراغ تفكر في حال والدتها، اقتربت منها “عفاف” لتسألها بلطفٍ وهي تضع أمامها كوبًا من العصير الطازج:
-تحبي أحضرلك حاجة تانية؟
هزت رأسها بالنفي وهي تحاول الابتسام لها في ودٍ:
-لأ ماليش مزاج، أنا هاشرب العصير ده وخلاص
أشارت المدبرة برأسها وهي تعقب بنبرة عملية بحتة:
-ألف هنا، أنا هاطلع فوق أرتب الفيلا وأطمن على “حياة”، ولو عوزتي حاجة نادي عليا هاكون عندك على طول
ردت بامتنانٍ:
-شكرًا يا “عفاف”، أنا بأتعبك معايا طول اليوم
ربتت الأخيرة على كفها برفقٍ قبل أن تقول بتهذيبٍ:
-الشكر لله، ده واجبي وشغلي قبل أي حاجة
تحرجت من ردها الطبيعي، فهي لا تتعامل معها كخادمة ومخدومتها بل كأم ثانية لها تتولى رعايتها وتهتم بشئونها وأمور صغيرتها، داعب وجهها بسمة لطيفة وهي تثني عليها:
-ربنا يخليكي ليا، أنا مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه
مسحت “عفاف” برفق على كتفها وهي ترد:
-متقوليش كده، ربنا وحده اللي عالم معزتك عندي عاملة إزاي، عن إذنك يا بنتي
ثم تركتها ترتشف ما أعدته لها من مشروب صحي لتواصل عملها اليومي، وضعت “تقى” الكوب في الحوض بعد أن انتهت من تناول ما فيه، لكن زكم أنفها رائحة قوية وليست بالغريبة عليها مما أثار فيها رغبة ما، جابت برأسها المكان وهي تردد بين جنبات نفسها بفضول:
-مش معقول تكون تهيؤات!
زاد فضولها وازدردت ريقها وقد بدت متحمسة لاكتشاف ذلك المثير الذي أجج حواسها فجأة ونبهها بطريقة غير طبيعية، تتبعت حاسة الشم الخاصة بها فأرشدتها إلى الثلاجة حيث تم وضع بضعة برطمانات زجاجية مليئة بالمخللات الجاهزة، اتسعت ابتسامتها وتوهجت نظراتها مع وقوع عينيها على أحدهم، همست بفرحةٍ عارمة وكأنها قد حظت بجائزة ذهبية:
-الله، بتنجان مخلل
التقطته بيدها ثم اعتدلت في وقفتها لتدقق النظر فيه وهي تكمل حديث نفسها المتحمس:
-ده شكله يفتح النفس
سـارت به “تقى” حتى الطاولة الخشبية، سحبت المقعد للخلف وجلست عليه بأريحية منتزعة غطاء البرطمان الزجاجي لتبدأ بعدها في تناول المخللات الشهية، أغمضت عينيها لتزيد من حالة الاستمتاع بما تتذوقه، عادت لتحدق في البقية الموضوعة بداخله متمتمة مع نفسها:
-يا سلام، تحفة أوي
استمرت في تناول المزيد دون أن تعبأ بتبعات الإفراط في أكل الطعام الحادق وتأثيره الضار عليها، انتفضت بفزع في جلستها حتى كاد أن يسقط البرطمان من يدها حينما سمعت صاحب الصوت المألوف يُناديها بخشونةٍ:
-“تقى”، بتعملي إيه؟!
شحب وجهها كمن رأى شبحًا للتو وارتبكت لحضور “أوس” المباغت أمامها، أخفت سريعًا البرطمان خلف ظهرها وحاولت إدعاء الثبات وهي ترد:
-ولا حاجة، إنت أخبارك إيه؟
دنا منها زوجها متفحصًا إياها بنظرات شمولية تشك في تصرفاتها غير المبررة، تركز بصره على ذراعها المخبأ خلف ظهرها، ضاقت عيناه وهو يسألها مستفهمًا:
-ايه اللي ورا ضهرك ده؟
تراجعت مبتعدة عنه مجيبة إياه كذبًا:
-مــ.. مافيش
وقبل أن تختلق المزيد من الأعذار كانت قبضته الأقرب في الإمساك بذراعها، تأوهت بألم خافت من أصابعه الغليظة التي استطاعت أن تكشف ما تخبئه عنه، انتزع من بين أناملها البرطمان ليحدق بعينين حانقتين فيه وهو يعنفها بغلظةٍ:
-تاني يا “تقى؟!!
بررت له تهورها قائلة:
-ده أنا مكلتش إلا واحدة بس، و…
قاطعها بعصبيةٍ:
-إنتي عارفة إن ده غلط عليكي، والدكتورة محذراكي، وبرضوه مش في دماغك، بتعملي اللي عاوزاه وبس
زمت شفتيها قليلاً لترد بامتعاضٍ:
-نفسي راحت عليه، محصلش حاجة يعني!
اغتاظ من عدم اكتراثها فزاد من توبيخه قائلاً:
-أيوه، ولما تورمي والأملاح تزيد ومتبقيش قادرة وتشتكي ساعتها بس هتعرفي إنك غلطانة؟!
زفرت عاليًا من منعه لما تحب مرددة بضيقٍ:
-خلاص يا “أوس”
ثم شبت على قدميها محاولة الوصول إلى البرطمان وهي تتابع حديثها بعبوسٍ:
-هاته بس وأنا هارجعه مكانه
منعها من الاقتراب منه بوضع ذراعه أمام طريقها ليحول بينها وبينه قبل أن يعقب بصرامةٍ:
-مافيش كلام من ده، وأنا بنفسي هتأكد إنه مش هايتكرر تاني!
علقت باحتجاج كبير:
-ده ظلم
دفعها برفق من كتفها للأمام قائلاً بلهجة حادة:
-سميه زي ما تسميه، ويالا من هنا
-يا “أوس” …
-هي كلمة، مفهوم!
بدت نبرته غير قابلة للتفاوض لذا لم تجد بدًا من الاعتراض عليه، اضطرت أن تنصاع لأمره حتى وإن كانت كارهة لذلك، ضربت “تقى” الأرض بقدمها بتشنجٍ، وظلت تبرطم بكلمات متبرمة أثناء خروجها من المطبخ، في حين تلوى فم “أوس” ببسمة ساخرة من أسلوبها المضحك في التذمر على تسلطه عليها، والذي يضفي القليل من المرح في حياته الجادة مما يهون عليه القليل من ضغوطات عمله المستمرة.
……………………..……………………..……………..
انفرجت شفتاها بدهشة عجيبة وهي تستمع إلى ما قامت به أختها الصغرى من مآثر ربما لم تتجرأ هي على فعلها يومًا أو حتى تفكر في تنفيذها مع أشخاصٍ كأمثال ذلك المهيب ذي السلطة، نهضت “بطة” سريعًا من على الفراش لتقترب من باب الغرفة، استرقت السمع بحذرٍ تام ثم أطلت برأسها لتتلصص على والدتها، تنفست الصعداء لكون الأخيرة مشغولة بأعمال المنزل فلم تنتبه لما يُقال بالداخل من ثرثرةٍ خطيرة، أغلقت الباب بهدوءٍ وعادت إلى أختها تسألها بصوتٍ خفيض:
-والباشا قالك إيه؟
أخرجت “هالة” زفيرًا مهمومًا من صدرها قبل أن تجيبها:
-مرضاش طبعًا
شعرت “بطة” بالارتياح لكون “أوس الجندي” أكثر عقلانية وحكمة عن أختها ذات التفكير الأرعن فرددت مدعمة إياه في قراره الصائب:
-كويس إنه عمل كده، راجل بيفهم
اعترضت عليها “هالة” بضيقٍ وقد ارتفعت نبرتها قليلاً::
-بأقولك أنا …
قاطعتها محذرة بنظرات حادة وبلهجةٍ جادة للغاية:
-وطي صوتك، إنتي مجنونة، أمك واقفة برا، إيه عاوزاها تعرف وتقلب الدنيا عليكي؟
احتدت نظرات “هالة” وتجهمت ملامحها بامتعاضٍ مقروء، لم تعقب على تحذيرات أختها القوية التي تابعت بتأفف:
-ده احنا مصدقنا ربنا هداها ووقفلك الباشا ده يساعدك ويمنع أذاها عنك، هو في حد لاقي الراحة اليومين دول ويتأمر عليها؟ إيه عاوزة ترمي نفسك في الانكيس من تاني؟
تجمدت عيناها على وجه أختها وهي تواصل توبيخها المزعوج لها باسترسالٍ لم يتوقف:
-وإنتي عارفاها ماهتصدق، هاتدورلك على حد تاني زي “منسي”، كفاية نصيبة واحدة!
كانت محقة فيما تقول، لكن ذلك الشعور الحانق المزعج الذي لازمها مؤخرًا كان الدافع الأساسي للإقدام على ذلك، خاصة فيما يتعلق بتصرفات “يامن” معها في الأونة الأخيرة، والتي عمدت إلى إخفائها كي لا تثير الفضول حول طبيعة تواجده بالقرب منها أو حتى تُوجد في رأس أختها أفكارًا لا أساس لها من الصحة –وإن كانت تنكرها مؤقتًا- فتظن بها الظنون وتشعرها بمدى خطئها، أسندت “هالة” ظهرها للخلف وردت بإحباطٍ ووجه ذلك الشاب متجسد في خيالها:
-صعبان عليا نفسي!
لكزتها “بطة” في ذراعها وهي تقول ببرود:
-مايصعبش عليكي غالي، ركزي ياختي في مذاكرتك ومصلحتك الأول، وبعد كده ربك هيسهلها
حركت رأسها بإيماءة مستسلمة قبل أن تعلق باقتضابٍ:
-هاشوف
حذرتها “بطة” من جديد لعلمها جيدًا بتفكيرها المُعاند:
-بالله عليكي بلاش أمور الجنان دي تاني، ماشي
-ربنا يسهل
قالتها “هالة” بعدم اقتناعٍ وهي تشرد بنظراتها في الفراغ مستعيدة آخر مشهد جمعها بـ “يامن” حيث تلقتها أحضانه مصادفةً وحاصرتها نظراته المتأملة لها فشعرت بنفس السخونة تجتاح بشرتها من جديد، وبخفقات متلاحقة وترت دقات قلبها، اختلست النظرات نحو أختها التي كانت ملهية عنها بمداعبة رضيعها فلم تلاحظ ذلك الارتباك الذي اعتراها، أدارت جسدها للجانب لتتحاشى نظراتها، ادعت انشغالها بمطالعة أحد الكتب الدراسية كوسيلة إلهاء مؤقتة عن التفكير فيما يخصه.
……………………..……………………..…….
راجعت خطتها الماكرة لأكثر من مرة لتتأكد من عدم وجود ثغرات قد تعيق تنفيذيها بالصورة الكاملة المرسومة في عقلها، هي أرادت ضرب خصمها في مقتل، ولن يتم ذلك إلا باستخدام أسلحة توظف فيها أقصى قدراتها العقلية بشكل غير متوقع لتضاهي قدراته الذكائية العالية، استغلت “رغد” المعلومات التي أمدتها بها “ناريمان” لتقسم خطتها إلى عدة أجزاء كي يتم تنفيذها بالتعاقب دون أن تثير الريبة حولها ولتضمن في نفس الآن تحقيق نتائجها المرجوة بالكامل، أما عن ذلك الجزء المتعلق به، فقد كانت متلهفة للشروع فيه فورًا، حيث بات إفساد يومه وتنغيص حياته مع البلهاء التي تزوجها هوسًا حقيقيًا بالنسبة لها، جلست على طرف الفراش مراقبة هاتف غرفتها الفندقية بنظرات غامضة، أخفضت نظراتها نحو هاتفها المحمول لتقول باقتضابٍ آمر:
-نفذ دلوقتي!
اعتمدت خطتها ببساطة على أن يأتي أحدهم لاستقبال الفندق كمندوب عن “أوس الجندي” الذي يطلب رؤية تلك النزيلة في التو والحال مع إثارته لبعض الجلبة بالمكان ليجبر موظفي الاستقبال على مهاتفتها للقائه تجنبًا للفضائح والإزعاج لرواد الفندق، ثم يأتي دورها بعد ذلك في ادعاء الذهاب إليه والتحجج برغبتها في تناول الطعام بغرفتها لتتأكد من رؤية بعض الشهود لها وهي في أوج جمالها قبل أن تختفي لبعض الوقت لتعود بعدها وهي تهرول مستغيثة بمن ينجدها بعد أن تُمزق ثيابها وتُلطخ مساحيق التجميل بوجهها ليظن المتطلع إليها أنه قد تم الاعتداء عليها بطريقة وحشية، وبالفعل نجحت في ذلك، وأقنعت الجميع بدهائها الشيطاني أنها ضحية لأحدهم، انهارت “رغد” على الأرضية الرخامية صارخةً بهيسترية وهي تحاول تغطية جسدها المتعري بكفها:
-الحقوني، بلغوا البوليس
أسندتها إحدى الموظفات وأجلستها على الأريكة في البهو، وهرعت أخرى لإحضار الماء لها كنوع من إفاقتها، اقترب منها مدير الفندق يسألها بقلق:
-حضرتك كويسة يا فندم؟
صرخت به ببكاءٍ حاد:
-اطلب البوليس، أنا مش هاسكت
حاول تهدئتها قائلاً:
-تمام يا فندم، هنكلمه، بس ممكن نعرف في إيه؟
تقطع صوتها وهي تجيبه:
-كان عاوز .. في ….
بترت عبارتها عمدًا لتنخرط في نوبة بكاء زائفة مصحوبة بصراخ مقلق مما وتر جميع المحاوطين لها، أضاف المدير مرددًا باهتمامٍ وهو يشير بيده:
-اهدي يا فندم عشان أقدر أفهم منك اللي حصل
ثم لوح بذراعه للموظف الواقف على يساره وهو يأمره:
-هات fresh juice للهانم بسرعة
رد عليه بامتثالٍ تام:
-حاضر يا فندم
ركز مدير الفندق أنظاره من جديد على النزيلة التي كانت في حالة يرثى لها وتشير بوضوحٍ لمحاولة اعتداءٍ جسدية صريحة عليها، وبحرجٍ شديد سألها:
-حضرتك تعرفي اللي عمل فيكي كده؟
كفكفت عبراتها المنسابة بظهر كفها ليزداد تلطخ بشرتها بمساحيق التجميل وهي ترد:
-أيوه ..
بات الجميع مهتمًا بمعرفة هوية ذلك الحقير القذر الذي ارتكب فعلة شنيعة كتلك، اهتزت شفتا “رغد” وهي تتمتم:
-ابن عمي ..
نظر لها مدير الفندق بغرابةٍ وقد انزوى ما بين حاجبيه بقوة، شهقت بأنفاس غير منتظمة لتضيف بعدها بخزيٍ مصطنع:
-“أوس الجندي”
……………………..……………………....
كانت في طريق عودتها بصحبة رفيقتها المقربة بعدما انتهت من جولة صغيرة بأحد المولات الشهيرة لتبتاع ما ينقصها، أدارت “ليان” عجلة القيادة لتنحرف بالسيارة نحو الطريق الفرعي الهادئ في حركته المرورية دون أن تلاحظ تلك السيارة التي تتبعها منذ برهةٍ، انشغلت بالعبث بالمحطة الإذاعية باحثة عن أغنية مناسبة تدندن عليها، سألتها “جايدا” بحماسٍ وهي تنظر إلى طلاء أظافرها:
-ناوية تعملي إيه في الـ holiday (العطلة)؟
هزت كتفيها في حيرة وهي تجيبها:
-I don’t know، بس محتاجة أرتاح بعد الفترة دي
وافقتها صديقتها في رأيها:
-فعلاً، احنا كنا مضغوطين أوي
ثم ضحكت مازحة:
-بس إنتي معذورة، هاتبقي مامي كمان
توترت تعبيرات وجه “ليان” وهي ترد عليها:
-متفكريش
غمزت لها “جايدا” برقة:
-واو، مامي كيوت على الآخر
زفرت الأخيرة بضيقٍ:
-اووف، أنا أصلاً مرعوبة من الموضوع ده أوي، حاسة إني مش هاعرف أتعامل مع البيبي اللي جاي، بجد shocked (مصدومة) و…
قاطعتها مؤكدة لتخفف من حدة قلقها الطبيعي المصاحب لتلك الفترة من الحمل:
-كلنا معاكي هنساعدك، don’t worry
ظلت كلتاهما تثرثران على خططتهما المستقبلية فيما يخص الجنين القادم إلى أن قطعت إحدى سيارات النقل الصغيرة المحملة بالنساء الطريق عليهما وكادت أن تجبرهما على الانحراف عن مسارهما، تعالت صرخات النساء لتشتعل الأجواء توترًا وحرجًا، تشبثت “ليان” بالمقود جيدًا وتحكمت في عجلة القيادة بحرفية رغم ارتباكها لتتفادى أي اصطدام وشيك، أبطأت سرعة السيارة وهي تصيح بنرفزةٍ:
-ده غبي ده ولا إيه!
ردت عليها “جايدا” بانزعاجٍ كبير وهي تتطلع إلى السيارة الغريبة:
-مش فاهمة، هو فاكر نفسه سايق في الشارع لوحده؟ عالم متخلفة
ظنت في البداية أنه خطأ غير مقصود منه ليزعجها، لكن ازداد توترها وتضاعف قلقها مع قيامه بتضييق المسافات من جديد بينهما ليجبرها على الضغط على مكابح السيارة، اضطرت أن تتوقف على الجانب قبل أن تصطدم بمؤخرة سيارته فتتسبب في إحداث أضرار جسيمة، اشتعلت الأجواء بالصراخ والعويل من النساء الراكبات في الخلفية، هربت الدماء من عروق “ليان” وشعرت بانفلات أعصابها، في حين هتفت “جايدا” بخوفٍ وقد رأت بعينيها ما يفعله عن عمدٍ:
-حاسبي، ده بيكسر عليكي، ده مجنون!
أوقفت “ليان” السيارة على الجانب لتهدئ من روعها، ثم أخفضت زجاج نافذتها الملاصقة لها لتطل برأسها وهي تصيح به بانفعالٍ:
-في إيه؟ إنت غبي!
ظنت في البداية أن السائق سيعتذر لها، لكن ما لم تضعه في الحسبان هو قيام إحدى السيدات بالتهليل بعصبيةٍ وكأنها تنتوي الاشتباك معها بعد أن نزلت من صندوق السيارة:
-جرى يا بت منك ليها، هو عشان ربنا إداكم شوية فلوس تدوسوا بيها على الغلابة
ترجلت “ليان” من السيارة لتقترب منها وتواجهها بشجاعةٍ، تأملت الهيئة الشعبية لثيابها فأدركت أنها تتعامل مع طبقة اجتماعية تختلف كليًا عنها، نظرت لها بضيقٍ وهي تدافع عن نفسها:
-على فكرة احنا مش غلطانين
لكزتها واحدة أخرى بقسوةٍ في كتفها لتثير انتباهها نحوها:
-ما تراعوا ربنا شوية، هتفتروا علينا ولا إيه
التفتت “ليان” نحوها ثم رمقتها بنظرة محتدة وهي ترد محتجة:
-إنتو اللي جايين علينا مش احنا و…
قاطعتها المرأة صارخة بها بصوتٍ مهددٍ أجفل بدنها ومستخدمة يدها في التلويح:
-إنتي هاتعلي صوتك، لأ بقى ده إنتي متعرفيش احنا ممكن نعمل فيكي إيه
تدخلت “جايدا” على الفور في الحوار لتحول دون تأزم الوضع:
-على فكرة السواق بتاعكم هو اللي كسر علينا، الغلط من الأول منه هو
سخرت منها المرأة بتهكمٍ صارخ حمل سبة قاسية:
-اركني على جمب يا ……..
استشاطت “ليان” غضبًا من إهانتها غير المتوقعة لرفيقتها، ورفعت سبابتها تحذرها بتشنجٍ:
-احترمي نفسك معانا
ردت المرأة بتحدٍ قاصدة استفزازها لاستدراجها نحو مشاجرة نسائية حتمية:
-إنتي بتشتميني؟ والله لأجيبك من شعرك
نظرت لها “ليان” شزرًا وقبل أن ترد كانت الأخيرة الأسبق في الإمساك بكومة من شعرها لتجذبها منه بشراسةٍ قاصدة إيلامها، صرخت بتأوهٍ وهي تحاول تخليص خصلات شعرها من بين أناملها، هرعت “جايدا” لمساعدة رفيقتها ونجدتها صائحة بخوفٍ كبير:
-إنتي بتعملي إيه؟
لكنها رغم ذلك تلقت ضربة عنيفة في كتفها أجبرتها على الانحناء، وفي أقل من ثوانٍ معدودة حاوطت النسوة الاثنتين وانهالت بالضرب المبرح عليهما، تكومت كلتاهما على الأرضية الإسفلتية وتسابقت النساء في إفراغ شحنة غضبهن فيهما، فقدت “ليان” قدرتها على صد الركلات العنيفة المتلاحقة التي نالت من وجهها وبطنها وظهرها، حاولت حماية جنينها من بطشهن المباغت، لكنها فشلت أمام قسوة الضربات وعنفها، خرجت منها صرخة أخيرة حملت ألمًا قويًا جعل بدنها يرتجف بالكامل ويتشنج لتنساب بعدها خيوط الدماء من بين ساقيها وتلطخ ثيابها، صاحت إحدى النساء عاليًا بعد أن تأكدت من تحقيق المطلوب منها:
-كفاية كده يا نسوان
انصاعت البقية لأمرها وابتعدت عن الاثنتين ليقترب من ذلك الرجل الجالس بجوار السائق، التقط بهاتفه المحمول صورًا عديدة ثم قام بإرسالها لأحدهم، أعقب ذلك اتصالاً هاتفيًا أردف قائلاً فيه:
-كله تمام يا فندم
أنهى مكالمته الغامضة مع ذلك المجهول ثم جثا على ركبته أمام “ليان” ليدقق النظر فيها ويتفحصها عن قرب، حانت من الأخيرة نظرة مشوشة تأملت فيها ملامح وجهه وثيابه المنمقة قبل أن تخبو أنفاسها ويغلف الظلام جفنيها لتفقد بعدها وعيها.. وكذلك جنينها ……………………..……………… !!
……………………..……………………..………………….

نهاية الجزء الأول، يتبع >>>>>>>

error: