رواية الحبُ.. أَوْس
الفصل الخامس
بكت لأنه تركها بمفردها دون التفوه بكلمة لوم واحدة معاتبًا إياها، غلبها إحساس الضيق الممزوج بالندم، فعجزت عن منع نفسها عن البكاء، دفنت “تقى” وجهها بين راحتي يدها كاتمة لشهقاتها، عادت إليها خالتها فتفاجأت بحالتها المنكسرة تلك، أسندت المشروب الذي أعدته لها على الطاولة الصغيرة بجوار فراشها لتهرع إليها متسائلة:
-مالك يا “تقى”؟
انهارت الأخيرة باكية في أحضانها وقد تعالت شهقاتها، توجست “تهاني” خيفة من أن يكون مكروهًا ما قد أصابتها، سألتها مجددًا بقلقٍ أكبر:
-طمنيني يا بنتي في إيه؟
همست من بين بكائها:
-“أوس”
زائغت نظراتها قليلاً معتقدة أنه ربما قد تطاول عليها باليد في لحظة طيش عمياء حينما تركتهما بمفردهما، ابتلعت ريقها متسائلة بخوفٍ:
-عمل إيه؟
حبست أنفاسها مترقبة جوابها الذي ربما لن يكون سارًا، أجابتها “تقى” بنحيبٍ:
-سابني ومشى من غير ما يقول حاجة
تنفست “تهاني” الصعداء لكون بكائها ناجم عن أمر طبيعي وليس عنفًا من أي نوع، ربتت على ظهرها برفقٍ قائلة لها:
-اهدي يا “تقى” واحكيلي بالظبط إيه اللي حصل
حاولت الحديث بصوتها الباكي لتخبرها بإيجاز عما حدث من عناد بينها وبين “أوس” بشأن المجيء إلى هنا، لم تقاطعها خالتها وانتظرت حتى انتهت لتقول لها بعتابٍ لطيف:
-جوزك عنده حق، أنا مجاش في بالي إنه هو اللي بيتخانق تحت، فكرتها خناقة بين مقاطيع الحتة زي كل مرة
سألتها بنحنحة متقطعة:
-يعني أنا غلطانة؟
سكتت “تهاني” للحظات تعد على أصابع اليد قبل أن تجيبها بهدوءٍ:
-بصراحة .. أيوه
نظرت لها “تقى” بضيق من عينيها الباكيتين فتابعت خالتها موضحة بتمهلٍ:
-“أوس” مش هايعمل كده إلا لو كان خايف عليكي من نسمة الهوا الطاير، وبعدين إنتي مراته وجاية مع بنته لمكان إنتي فاهمة طبيعة الناس اللي فيه عاملة إزاي، ماتلوميش عليه لما يشوف بنفسه حاجة مش عجباه وتقريبًا حد شبه بيتعدى عليكي!
ردت معترضة وهي تمسح بظهر كفها عبراتها:
-وأنا كنت هاعرف منين إن كل ده هايحصل؟!
علقت عليها بجديةٍ رغم هدوء صوتها:
-وأديكي عرفتي وشوفتي بنفسك النفوس المريضة
أومأت برأسها متفهمة قبل أن تسألها بحيرةٍ:
-طب أنا هاعمل إيه دلوقتي؟
أجابتها بنظرات ثابتة:
-المفروض تعتذري لجوزك، وأظن هو مقصرش معاكي وبيعمل اللي عليه وزيادة عشان تكوني مبسوطة ومرتاحة
عاد صوتها للاختناق مجددًة متذكرة جفائه الجامد معها لتقول بنشيجٍ:
-ده مكلمنيش و…
قاطعتها مبررة تصرفه الجاف:
-معلش، حقه يضايق ويزعل، حاولي إنتي تكلميه وتجري ناعم معاه وتصالحيه، وكون إنه سكت ومعاتبكيش ده أكبر دليل على إنه بيحبك ومش عاوز يزعلك بكلمة تضايقك
تعلقت نظراتها الدامعة بوجهها الحنون، مسدت “تهاني” على رأسها مكملة حديثها:
-وبعدين يا “تقى” ياما بيحصل بين المتجوزين، أهم حاجة اسمعي كلامه طالما في الصح
هزت رأسها بانصياعٍ:
-حاضر
مدت “تهاني” يدها لتمسك بكوب المشروب ثم ناولته لها قائلة بحنوٍ:
-يالا اشربي العصير وتعالي نقعد مع أمك برا، زمانتها طقت من الأعدة لوحدها
-ماشي
قالتها “تقى” باستسلام وهي ترتشفه في جوفها الذي امتلأ بالعلقم لتفكر بعدها مليًا في طريقة تسترضي بها زوجها وتطلب منه العفو عما بدر منها من خطأ غير مقصود.
……………………………………………..
هدأت من روعها لتعود إلى سكونها قبل أن تخرج للجلوس مع والدتها بالخارج، ففضول “فردوس” لم يمنعها من التلصص خلسة –رغم عجزها- لتعرف سبب الخصام بين ابنتها وزوجها، لم تلتقط أذناها إلا القليل من الكلمات غير المترابطة فلم تتضح الصورة بالنسبة لها، تحركت بحذرٍ متلمسة ما تطاله يدها من أثاث لتعود إلى الأريكة جالسة بجوار حفيدتها، ادعت انشغالها بمداعبتها عندما سألتها “تقى” بنبرة شبه مختنقة:
-عاملة إيه يا ماما؟
زفرت “فردوس” مطولاً قائلة بامتعاضٍ:
-زي ما إنتي شايفة، عاجزة، لا لاقية اللي يخدمني ولا ياخد بإيدي
ردت عليها “تهاني” محتجة على أسلوبها الاستفزازي في استرقاق من حولها:
-بلاش تتبطري على النعمة، هو مش “أوس” باعتلك بنت تشوف طلباتك كل يوم؟
مصمصت شفتيها قائلة بتذمرٍ:
-دي يوم تيجي وعشرة لأ، وبعدين ده بدل ما يشوف دكاترة برا ولا علاج لحالتي ده أنا خالته قبل ما أكون حماته؟!!
علقت عليها أختها بضيق رافضة تلك الطريقة الفظة في طلب المساعدة:
-والله هو مش ملزم بيكي، وكفاية أوي إنه عدى اللي حصل زمان
لم ترغب “تقى” في الحديث عن ذكريات الماضي التي ألمتها وأحدثت شرخًا عميقًا في علاقتها بوالدتها تجاوزته بصعوبة، حملت رضيعتها قائلة بفتورٍ:
-أنا هاقوم أغير لـ “حياة”
ردت عليها “تهاني” مدعية الابتسام:
-وماله يا حبيبتي
انتظرتها حتى اختفت بالداخل لتنظر إلى أختها شزرًا ثم همست لها بغيظ لتوبخها:
-بلاش يا “فردوس” نفتح في الدفاتر القديمة، واحمدي ربنا إن المياه رجعت لمجاريها، مش أحسن ما كانت بنتك قاطعتك؟
ردت عليها بوجهها الممتقع:
-ما هو جوزها على قلبه فلوس أد كده، مستخسر فيا كام ألف أتعالج بيهم، ياختي يعتبرهم طالعين لله
استشاطت نظراتها من تهكمها عليه فحذرتها بجدية بالرغم من خفوت نبرتها:
-ده ابني على فكرة
وكأنها لم تكترث على الإطلاق بتحذيرها فأكملت باستهجانٍ:
-يا ريته كان عمل اعتبار لصلة الدم، وبعدين مش أبوه اللي غواني وضحك عليا
ضربت “تهاني” كفها بالآخر مرددة باستياءٍ مستنكر:
-أنا غلبت معاكي والله، مش عارفة أقولك إيه!
ردت عليها بفمٍ ملتوٍ:
-ولا حاجة، ده حتى معبرش أمه بشقة في حتة نضيفة هيعبرني أنا؟!
فاض بها الكيل من سخطها الدائم على كل شيء، حسمت معها الحديث في تلك المسألة تحديدًا هاتفة بصرامةٍ:
-والله أنا عاوزة أفضل هنا، أنا مش هاكون عبء على ابني
استنكرت عنادها معقبة:
-يعني الكام ملطوش اللي هايدفعهوملك في شقة هيعضلوه، ولا هي عنتظة على الفاضي!
احتقن وجه “تهاني” بحمرة مغتاظة من لغوها المستفز فنهرتها بحدةٍ:
-“فردوس” بطلي
ثم التفتت برأسها للخلف حينما سمعت المفتاح يدار في قفل المنزل، لحظات ورأت “عوض” يلج للداخل قائلاً بصوته المتحشرج:
-سلامو عليكم
ردت عليه بودٍ:
-وعليكم السلام
هبت واقفة لتضيف بابتسامة متسعة:
-مش هاتصدق مين هنا يا “عوض”
أنبأه قلبه بوجودها فهتف بابتسامته الصافية:
-“تقى”
أكدت له صدق إحساسه قائلة:
-أيوه، هتلاقيها في الأوضة مع حفيدتك يا جدو
تهللت أساريره المجعدة مضيفًا بحماسٍ وهو يكافح للإسراع في خطواته المتباطئة:
-ماشاء الله، أما أخش أسلم عليهم
في حين غمغمت “فردوس” بخفوت محدثة نفسها:
-ماخدتش من العيلة دي غير الفقر والمرض وبس!
…………………………………………………….
-كنت مستنيك!
قالها “أوس” بابتسامة صغيرة تعكس انتصارًا واثقًا وهو يتفرس بعينيه الصارمتين وجه “يامن” الذي أتى إليه في مؤسسته صاغرًا ليتحدث معه في أمر جــاد، ادعى الأخير الجمود والثبات وهو يلقي بثقل جسده على المقعد المقابل لمكتب ابن عمه قبل أن يرفع عينيه في وجهه ليقول بزفيرٍ بطيءٍ:
-أنا موافق
سأله “أوس” بمكرٍ ليتحقق مما يريد سماعه:
-على إيه؟
ابتلع “يامن” ريقه في حلقه الجاف مسبقًا مرددًا بصعوبةٍ بدت ملحوظة في نبرته:
-على العرض بتاعك
سأله “أوس” بجمود وهو يعبث بقلمه الحبري ذو اللون الذهبي:
-والتغيير ده كان بعد زيارتك لأبوك ولا قبلها؟
اتسعت حدقتاه اندهاشًا من جملته الأخيرة، فضرب على سطح مكتبه متسائلاً بحنقٍ:
-هو إنت بتراقبني؟
أشار له بالقلم معقبًا:
-اعتبرها بأحميك
تجاوز “يامن” تلك النقطة مضطرًا لينتقل للأمر الهام الذي جاء من أجله، تابع متسائلاً بتبرمٍ لم يخفه:
-وأنا هاشتغل إيه هنا؟
أجابه بجدية تامة دون أن يرف له جفن:
-“عدي” هايبلغك بالمطلوب منك، وهاتكون تحت الاختبار وبإشراف مباشر منه
كان “يامن” بحاجة لنقطة يبدأ منها ليثبت نضوجه وقدرته على تحمل المسئولية، وليس كما يزعم والده بكونه شابًا غرًا لا يعرف إلا الفشل، وأن أخته الكبرى وحدها القادرة على فعل ما يعجز عنه، شردت نظراته وتأمل “أوس” سرحانه الواضح عليه بنظرة ملية متأكدًا من صدق تخمينه بأن طباع عمه لم تتغير وأنه أنقص من شخصه عن قصد ليشعره بخيبة أمله، وربما فيما حدث الفرصة لكسبه وضمه إلى صفه، خاصة إن تطورت المواجهات مستقبلاً وأتت “رغد” من الخارج لتتصارع معه، أراد “أوس” إعلامه بقدرته على استنباط الأمور قائلاً:
-أتمنى إنك تكون أد المسئولية وميكونش كلام عمي أثر فيك
رد عليه بعدم ارتياحٍ:
-لو كنت سمعت كلام بابا مكونتش هتلاقيني هنا
أظهر له ابتسامة باهتة معلقًا عليه:
-كويس إنك حسبتها صح
ضغط على شفتيه قائلاً بيأسٍ مقروء في تعابيره:
-كل واحد في النهاية بيدور على مصلحته
رد عليه “أوس” بنبرة ذات مغزى:
-وطبعًا لاقيت إن مصلحتك معايا
أزعجته كلماته المنتقاة حرفيًا وأصابته في مقتل، فلو لم يكن ذلك غرضه الحقيقي لما خطا إلى هنا بملء إرادته، مد “أوس” ذراعه بمفتاحٍ وضعه أمامه هاتفًا:
-دي مفاتيح شقتك الجديدة، مش معقول هتفضل مقضيها فنادق
أخذها “يامن” مرددًا باقتضابٍ:
-شكرًا
استأنف ابن عمه موضحًا بنبرة عملية صريحة:
-دي مش هدية، أنا هاخصم إيجارها من مرتبك
رد عليه “يامن” بامتعاضٍ:
-طيب
استرخى “أوس” أكثر على مقعده الوثير الذي لا يليق بشخص مهيب إلا هو، ثم فتح ذراعيه في الهواء مرحبًا بعنجهية ابتدعها:
-أهلاً بيك في شركات “الجندي”!
………………………………………………..
ودعت والدها بحرارةٍ بعد أن جالسها لبعض الوقت لتجمع بعدها متعلقات رضيعتها، علقت “تقى” الحقيبة على كتفها وحملت طفلتها بالذراع الآخر ملقية التحية على والدتها قبل أن تخرج من المنزل، هبطت خالتها الدرج معها لتوصلها إلى الأسفل حيث ينتظرها أفراد الحراسة التابعين، أوصتها بجدية قبل أن تخرج من مدخل البناية:
-ماتنسيش اللي قولتلك عليه يا “تقى”، راضي “أوس” وحسييه إنك غلطتي، ده هيفرق معاه
أجابتها مستسلمة:
-أنا هاعمل كده
ربتت عليها برفق متابعة توصياتها الجادة:
-وابقي طمنيني عليكي، وخدي بالك من “حياة”
ردت متصنعة الابتسام:
-حاضر، مع السلامة يا خالتي
انحنت عليها “تهاني” لتحتضنها قائلة بحنوٍ كبير:
-الله يسلمك يا بنتي ويحفظك إنتي وابني من كل سوء!
ثم لوحت للرضيعة بيدها لتنصرف بعدها عائدة إلى الداخل، ســارت “تقى” بحذرٍ في اتجاه السيارة المرابطة على مقربة من البناية، لمحتها “بطة” وهي تخرج بصحبة أختها من البناية المقابلة فهتفت عاليًا لتجذب انتباهها:
-“تقــى”
استدارت الأخيرة برأسها للخلف فوجدتها تمشي في اتجاهها وتشير بيدها مرحبة بها، توقفت عن السير راسمة على ثغرها بسمة صغيرة قائلة لها:
-إزيك يا “بطة”؟
أجابتها “بطة” بتنهيدة مرهقة عبرت عن تعبها الملحوظ على قسمات وجهها:
-الحمدلله
ثم ركزت نظرها على أختها التي كانت تطالعها بنظراتها المشرقة سائلة إياها:
-وإنتي عاملة إيه “هالة”؟
ردت مبتسمة:
-أنا كويسة الحمد لله
سألتهما “تقى” بفضول وقد وقعت نظراتها على الرضيع الذي تحمله “بطة” بين ذراعيها:
-إنتو رايحين فين كده؟
أشارت “بطة” بعينيها نحو رضيعها لتجيبها باهتمامٍ:
-ده ميعاد التطعيم بتاع “إسلام” هنوديه عند الوحدة ياخده هناك
اقترحت عليهما بإصرارٍ وهي تمرر نظراتها بين وجهيهما:
-طب تعالوا أوصلكم بدل ما تمشوا المسافة دي، أنا العربية معايا و…
ردت “بطة” مقاطعة بحرجٍ:
-مافيش داعي، احنا كده هنعطلك
ألحت عليها “تقى” بجدية:
-عطلة إيه بس، دي فرصة كمان اقعد معاكي يا “بطة” واطمن على أحوالك
تشكل على وجهها المرهق ابتسامة رضا لكونها ستتجنب مع رضيعها عناء التنقل في المواصلات العامة وزحامها المستنفذ للقوى، التفتت نحو أختها لتقول لها:
-تعالي يا “هالة”
تبعتها أختها نحو السيارة ليستقر ثلاثتهن بها، رفعت “تقى” عينيها نحو السائق الخاص بها تأمره بلطفٍ:
-اطلع بينا لو سمحت على الوحدة الصحية، وأنا هاديلك على مكانها
رد بامتثالٍ تام:
-تحت أمرك يا هانم
أخفت “هالة” ضحكة عبثية لتميل على أختها هامسة لها:
-حلوة كلمة هانم دي، والله لايقة عليها
نهرتها “بطة” بنظرة صارمة محذرة إياها بصوتٍ خفيض:
-بس، مش عاوزين فضايح
لزمت “هالة” الصمت مستمتعة بالجلوس باسترخاء على المقعد الجلدي المريح الذي لم تكن لتجلس عليه أبدًا لولا اقتراح جارتهما “تقى”، تأملت منطقتها الشعبية من النافذة الملاصقة لها، سريعًا ما تبدلت ملامحها المشرقة للعبوس والقلق حينما التقطت نظراتها عينين خبيثتين أشعرتها أن هناك من يتربص بها، رجفة خفية اعترت جسدها وهي ترى أنظار “منسي” مسلطة عليها، أشاحت بوجهها على الفور لتتجنب تحديقه بها مقاومة ذلك الشعور المزعج الذي أفسد سعادتها المؤقتة.
…………………………………………………………….
انتظرت على أحر من الجمر عودته إلى المنزل لتعتذر له كمحاولة أولية جادة منها للندم والتصالح معه، لكن احترقت أعصابها من كثرة الانتظار، ولأكثر من مرة أمسكت “تقى” بهاتفها المحمول مترددة في مهاتفته لكنها لا تلبث أن تتراجع عن تلك الفكرة مفضلة مجيئه لتعبر له وجهًا لوجه عن ذلك، تأنقت في غرفة نومهما وارتدت قميص نوم حريري الملمس من اللون البترولي يبرز بياض ساقيها، ويكشف عن جمال كتفيها وتناسق جسدها، غطت مفاتنها التي برزت بإغراء ملهب للحواس بالروب الملحق به وأحكمت ربطه على خصرها، وترقبت بشوقٍ لحظة وصوله، كذلك وضعت على بشرتها القليل من مساحيق التجميل لتزداد فتنة وروعة، ومع ذلك لم يأتِ “أوس” إلى المنزل وتغيب عن حضور العشاء، أشعرها ذلك بالمزيد من الضيق والقلق، وملأ رأسها بالمزيد من الأفكار المعاتبة لتسرعها في الإصغاء إليه، وقفت لبرهةٍ خلف النافذة تراقب الطريق من وراء الستارة التي شكلت حاجبًا يمنع من بالخارج من رؤيتها، ملت من الانتظار الممل فجابت الغرفة ذهابًا وإيابًا لعدة مرات ثم مكثت مع رضيعتها لبعض الوقت، عادت بعد ذلك إلى النافذة لتراقب الطريق من جديد وقد تملكها إحساس اليأس.
اختفى ذلك في لحظة حينما رأت سيارته قادمة من على بعدٍ، بدأت عيناها تلمعان من جديد وتورد وجهها بدموية خجلة، هرولت “تقى” نحو الفراش لتتمدد عليه مدعية النوم بعد أن نزعت روبها عنها لتبدو أكثر إغراءً وإثارة، حبست أنفاسها وأتقنت دورها حينما سمعت صوت خطواته بالغرفة، تأهبت بتلهفٍ واستعدت نفسيًا وجسديًا للمسة حنونٍ منه على بشرتها، انتظرت بشوقٍ لكن لم يحدث شيء، فتحت عينها بحذرٍ لتختلس النظرات بنصف عين علها ترى ما الذي يفعله “أوس”، اتسعت حدقتاها في صدمة حينما رأت الغرفة خالية منه، انتفضت من نومتها متلفتة حولها وقد بهتت تعابيرها المتوهجة، أيقنت أنه ما زال غاضبًا منها، كورت أناملها لتضغط عليهم بحيرة وهي تسأل نفسها:
-للدرجادي زعلان مني؟!
أنزلت قدميها عن الفراش لتسير بإحباط إلى خارج الغرفة، سمعت أصوات حركة تأتي من غرفة الأجهزة الرياضية فتوقعت أن يكون بداخلها، اقتربت “تقى” بحذرٍ لتنظر من الفجوة الصغيرة البارزة من الباب الموارب فوجدت “أوس” يمارس تمارين الضغط بعد أن بدل ثيابه بسروال رياضي فقط دون أن يضع أي شيء يغطي صدره العريض، عضت على شفتها السفلى بارتباكٍ حائر وقد ظهر عليها التردد، همست لنفسها بتشجيعٍ مسترجعة حديث خالتها لها:
-لازم أصالحه، مش هاخليه يبات زعلان!
دعمت قرارها وأمسكت بالمقبض لتدفع الباب برفق قائلة له بنظرات تعكس خزيها منه:
-مساء الخير
استقام “أوس” واقفًا رامقًا إياها بنظرة سريعة جافة خالية من الاهتمام وهو يرد بفتورٍ:
-مساء النور
استاءت لكونه لم يطالعها بتمعن فيرى ما الذي ارتدته من أجله، تقدمت نحوه بخطوات بدت مترددة، ثم تنهدت متسائلة:
-هو إنت مش هتنام؟
أجابها بجدية وبوجهٍ متعقد الملامح:
-لأ
سألته بنظرات قلقة وقد تركزت حدقتاها على ملامحه الجامدة:
-إنت لسه زعلان مني؟
رد بتساؤل يحمل التوبيخ في طياته:
-تفتكري إيه؟
طأطأت رأسها خجلاً منه، هو محق في غضبه منها، أغمضت عينيها للحظة لتحفز نفسها من جديد على الاعتذار له متجاهلة بروده المحبط، همست له برقةٍ دون التطلع إلى عينيه:
-أنا أسفة!
انتظرت أن يرد عليها لكنه ظل صامتًا، فتحت “تقى” جفنيها ونظرت في اتجاهه فوجدته جالسًا على المقعد الجلدي يمرن عضلات ذراعيه بأثقالٍ من الحديد، أزعجها عدم اكتراثه بها ولا باعتذارها، ومع ذلك أخفت ضيقها، فهي تستحق المعاتبة والتجاهل منه، سارت نحوه بتؤدة ثم التفت حوله لتقف خلفه، تلمست بأناملها الرقيقة كتفه وهي تكرر اعتذارها بنعومةٍ:
-حقك عليا، أنا فعلاً غلطت!
مالت على ظهره لتلتصق به ثم طوقت بذراعيها عنقه وصدره، لامست بوجنتها صدغه متابعة همسها:
-أنا أسفة، متزعلش مني يا “أوس”
ترك الأخير الثقل الحديدي من يده ليمسك بها من رسغها، حرك وجهه نحوها لينظر لها بغموضٍ قبل أن يقول:
-مش كفاية اعتذارك يا “تقى”
ابتسمت له قائلة برقةٍ:
-أنا هاسمع كلامك ومش هعارضك تاني، عشان خاطري متزعلش مني
ثم طبعت على صدغه قبلة رقيقة شعر فيها بأنفاسها الحارة تضربه، ارتخت تعابيره العابسة وتحفزت خلاياه مع تلك القبلة المؤججة للمشاعر، نظر لها مليًا مستعيدًا في ذاكرته مشهد تأديب الميكانيكي للطفل الصغير، التوى ثغره بابتسامة عابثة أخفاها سريعًا، ثم شدد من قبضته على رسغها قائلاً لها بغموض ألبكها:
-تمام، بس مش قبل ما نخلص حسابنا
قطبت جبينها بحيرة غير قادرة على فهم ما يرمي إليه بجملته تلك، سألته بنظرات حائرة:
-حساب إيه؟
لم يترك لها المجال لتخمن مقصده حيث جذبها من رسغها بقوة لتستلقي على حجره، ووجهها مواجه لقدمه، شهقت عفويًا من حركته المباغتة التي ذكرتها بأسلوب معاقبة والدتها لها حينما كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز الخامسة من عمرها وتشرع في صفعها على عجزيتها عندما تخطئ كنوعٍ من العقاب الصارم لتكف عن ارتكاب المزيد من الأخطاء، لف “أوس” رسغيها خلف ظهرها ليقيدها بقبضته وثبتها جيدًا فشل حركتها بالكامل، سألته وقد توترت على الأخير:
-إنت هاتعمل إيه؟
برزت ابتسامة عبثية على ثغره، رفض الإجابة عليها ليزيد من حماسة الأجواء، تأوهت “تقى” متألمة حينما شعرت بألمٍ مباغت يصيبها، ركلت بساقيها في الهواء تستسمحه:
-أنا أسفة، مش هاعمل كده تاني، كفاية يا “أوس”
همس له بصرامةٍ:
-شششش! ولا كلمة!
رجته بتوترٍ وهي تنتفض بكامل جسدها:
-حقك عليا!
وكأنها تحدث نفسها، تجاهلها “أوس” عن عمد مستمتعًا بذلك التأنيب الخطير، انفرجت شفتاها بذهولٍ وارتفع حاجباها للأعلى في صدمة أكبر، بل وتحول وجهها لكتلة ساخنة من الدماء مع تكرار صفعاته لينقلب الأمر بعد لحظات إلى حالة من الرومانسية الحميمية بينهما حيث اندمجت فيها المشاعر الحسية مع الرغبات الجسدية، تعانقت الأرواح، وامتزج الوجدان، وتناسا كلاهما ما حدث من خصام مؤقت لتصفو الأجواء وتعود الأمور إلى ما كانت عليه؛ من حبٍ وتلهفٍ واشتياق ………………………………. !!
…………………………………………….
يتبع >>>>>>